عبد المجيد حمدان- كاتب وباحث واحد قادة اليسار الفلسطيني- في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: الإسلام السياسي : معارك الدفاع الأخيرة وفلسطين.


عبد المجيد حمدان
الحوار المتمدن - العدد: 4111 - 2013 / 6 / 2 - 10:46
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -105- سيكون مع الأستاذ عبد المجيد حمدان- كاتب وباحث واحد قادة اليسار الفلسطيني- حول: الإسلام السياسي : معارك الدفاع الأخيرة وفلسطين.

 

نجح الإخوان المسلمون في الصعود إلى مواقع السلطة ، في بلدان عربية ، أطاحت ثوراتها برؤوس النظم الحاكمة . ورغم أن العملية الثورية ما زالت جارية في هذه البلدان ، إلا أن نجاح الإخوان أيقظ شهية تيارات إسلامية للانقضاض على نظم أخرى ، يقول واقعها أن فرص الإطاحة بها باتت سانحة . والناظر الآن لساحات ما يوصف بالعالم الإسلامي ، وبضمنه العربي ، يرى هجمات إسلامية ممتدة من غربه – مالي ونيجيريا - إلى شرقه – أفغانستان - ، ومن شماله – الشيشان - إلى جنوبه – الصومال - . ولأن هذه الهجمات تجري تحت عنوان الصحوة الإسلامية ، فقد نبهت مخاوف قطاعات واسعة من المثقفين ، ومن المواطنين ، لما يتربص بمستقبلها . فأصحاب هذه الصحوة وهم لا يحددون مم كانت صحوتهم ، من أي وضع ، ومن أي مقام ، وإلى أين ، إلى أي وضع وأي مقام ، يذهبون بها ، لتنبيه كل تلك المخاوف . ولأن تيارات الإسلام السياسي هذه تعلن ، وبدون مواربة ، عداءها للحضارة ، وتطرح برامج العودة بالشعوب ، التي تعتلي سدة الحكم فيها ، إلى الماضي البعيد ، غدا الخوف على المستقبل ، ومن المستقبل ، هاجسا يقض مضاجع الكثيرين . لكن ما حقيقة ذلك الماضي البعيد الذي ينوون إجبارنا على العودة إليه ، فيوقظ فينا كل هذا الخوف على المستقبل ، والهلع من هذا المستقبل ؟ يقينا أن هذه التيارات لا تعني بالعودة إلى الماضي استبدال وسائل الحياة الحديثة بتلك التي كانت قائمة في ذلك الماضي البعيد ، السيارة والطائرة بالجمل مثلا . فنحن نرى أن البلدان ،ذات النظم الإسلامية ، شديدة النهم لوسائل الحياة الحديثة ، وقد وصلت إلى حالة طلاق بائن مع تلك الوسائل والأساليب القديمة . ماذا إذن ؟ هل العودة إلى الماضي تعني استعادة الخلافة التي تتحول فيها الأقطار الإسلامية إلى مجرد أمصار أو ولايات ؟ هل تعني تطبيق الشريعة بديلا للنظم القانونية القائمة ، والشورى بديلا للديموقراطية ؟ ولماذا إذن لم يبدأ الإخوان وحلفاؤهم في مصر ، تونس وليبيا بخطوات تطبيق الشريعة ؟ ولماذا يتمحكون بشرعية الصناديق وبالدستور تأكيدا لشرعية نظمهم ؟ ولماذا لم يعلنوا أية إشارات ، ولا أقول خطوات ، بين هذه النظم الثلاث ، إضافة للسودان ، وهي متصلة إقليميا ، في اتجاه مشروع الخلافة ؟ وقد يقال ، جوابا على كل ذلك ، أن هذه النظم لم يتحقق لها الاستقرار بعد ، وهي تعمل بدأب ، وبحرص وعناية ، على برامج التمكين . وإذا ما تحقق لها ذلك سيكون الانتقال باتجاه هدفها الاستراتيجي سهلا وميسورا . ولكن ألا يكون إعلان الهدف ، وإقناع الجماهير به ، وتعبئتها لتحقيقه ، هو طريق التمكين الأكثر ضمانا وفاعلية ؟ ألا يخلق مشروع وحدة الأقطار الأربعة ، بالإضافة لقطاع غزة ، تحت مظلة الخلافة ، قوة دفع للجماهير ، تُصعِّب على أي طرف مجرد التفكير في معارضتها أو قطع الطريق عليها ؟ ولأن ذلك كله لا يحدث ، ولأن التيار الذي وصل إلى الحكم – الإخوان المسلمون - ما زال يفضل العتمة والعمل في الظلام ، يعود السؤال مجددا : ما طبيعة هذا الماضي الذي تحلم تيارات الإسلام السياسي بالعودة إليه ؟ والأهم ما هي حقيقة وجوهر الصحوة الإسلامية التي تجري هذه الهجمات في طول العالم الإسلامي وعرضه ، تحت رايتها ؟


صراع العقل والنقل :

تحكي لنا كتب التاريخ أن الصراعات الاجتماعية السياسية في دولة الإسلام ، انفجرت مبكرا . الانفصال عن الدولة المركزية ، فيما عرف تاريخيا بالردة ، وحروب الحفاظ على وحدة الدولة – انفصال الأسود العنسي في اليمن ، أواخر عهد النبي ، الردة بعد إعلان خلافة أبي بكر - دشنت تلك البدايات . وفي ظل سيادة الفكر الديني ، كان طبيعيا أن ترتدي هذه الصراعات عباءة دينية ، كما تمثلت في ادعاء قادة الانفصال للنبوة ، من جانب ، وإعادتهم وقبائلهم إلى حظيرة الإسلام من الجانب الآخر . وشهدت أحداث الفتنة التي انتهت بمقتل الخليفة الثالث ، عثمان بن عفان ، والحرب الأهلية التي غطت كامل خلافة الخليفة الرابع ، علي بن أبي طالب ، تبلورا أعمق في مظاهرها ومضامينها . وتمخض هذا الصراع عن ولادة أول حزب سياسي ، في التاريخ الإسلامي ، وربما القديم ، فيما عرف بحركة الخوارج . ومرة أخرى ، وفي ظل سيادة الفكر الديني – الإسلامي – وانعدام وجود أي فكر آخر ، ظلت هذه الصراعات ترتدي العباءة الدينية ، وترتوي من ذلك النبع الديني . بمعنى أن تأويل النص شكل القاعدة الفكرية لحركات أطراف الصراع ، وظهر ذلك أكثر وضوحا لدى حزب الخوارج . بهذا تقدم خطوة واسعة على طريق تعميق حدة الصراع الفكري ، الجانب الأكثر عمقا وشمولا في الصراع السياسي . فإذا كان ادعاء النبوة ، بمعنى محاولة إدخال تعديلات شكلية على الدين من خارجه ، كان المضمون الأساس للردة والحرب عليها ، فقد جاء استخدام النص وتأويله ، ومن ثم فتح الباب للنظر في هذا النص ، في التطورات اللاحقة ، وظهور حزب الخوارج ، فاتحة نشوء ، بدء وتعميق الحراك ، فالصراع الفكري في الإسلام . ولما كانت الحقبة الأموية قد شهدت نوعا من الثبات في حالة الصراع هذه ، بمعنى أن تأويل النص ظل يشكل الغطاء الفكري للحركات والصراعات السياسية ، بعد استثناء مهم تمثل في ظهور حزب سياسي آخر ، هو شيعة بيت علي ، فقد شهدت في نهايتها – الحقبة الأموية – تطورا شديد الأهمية في التعامل مع النص . وهنا لابد من الإشارة إلى أن الخلافة الأموية ، التي كانت عروبية بامتياز ، ورغم اتساع الفتوحات ، واحتواء شعوب وثقافات أخرى ، واتخاذ الخلفاء لأطباء وكتبة ومستشارين من السريان ، أن هذه الخلافة حافظت على حالة الانغلاق على الثقافات الأخرى ، ومن ثم على حوائط الصد ضد تأثيراتها . كما ورغم أن الكلمة الفصل ، في حل هذه الصراعات ، ظلت للسيف ، وحيث سيول الدماء الغزيرة تواصلت في كل سنوات العهد الأموي ، إلا أن السجال بين مؤولي النص ، وبين ما وصفوا أنفسهم ، بالمدافعين عن قدسيته ، والقائلين بضرورة الالتزام ، والتقيد التام ، بمنهج الصحابة ، ونقاء هذا المنهج وطهارته وبما في ذلك سيرهم ذاتها ، تواصل واستمر ، تشعب وتعمق ، هو الآخر . كان ذلك صورة من صور شحذ العقل . وكان بديهيا أن يتطور هذا السجال ، ليأخذ شكل المدارس الفكرية . كما كان بديهيا أن يرتقي تأويل النص ، المساند والداعم ، والمؤدلج للصراعات السياسية ، إلى مستوى إخضاع النص لنظر وحكم العقل .
وإذن فقد شهدت نهاية العهد الأموي إرهاصات ظهور وتمكن سلطان العقل ذاك . ومن جديد ورغم أن النظام ، ممثلا في الخليفة والولاة ، واجه هذه الإرهاصات ، بأقصى درجات العنف ،والقسوة في تطبيقها ، حتى وصل الأمر إلى ذبح أحد رموزها في صحن مسجد ، عقب صلاة عيد الأضحى ، كإيذان ببدء ذبح الأضحيات ، إلا أن هذا النهج ما كان ممكنا له أن يتوقف .


عهد جديد وعصر جديد :


وبدأ العصر العباسي بثورة أطاحت بالعهد الأموي ، وقامت على أكتاف حركة سياسية ، استندت في فكرها ودعايتها إلى تأويل في النص ، قال باستعادة الحق الذي كان الأمويون قد اغتصبوه ، إلى أصحابه الشرعيين ، آل البيت . وكان للدور الحاسم ، الذي لعبه العنصر الفارسي في نجاح الثورة ، انعكاساته على صورة العهد الجديد ، وعلى طبيعة العلاقات بين الحكم وشعوب دولة الخلافة . ويمكن تلخيص أبرز الانعكاسات هذه في التالي : 1) انتهاء السمة العروبية للدولة ، من خلال مشاركة العنصر الفارسي خصوصا ، وغير العربي عموما ، في الحكم . 2) إعادة الاعتبار للثقافات غير العربية ، بدءا بإعادة الاعتبار للثقافة الفارسية . ولأن الفرس أهل حضارة ، شكلت إعادة الاعتبار لثقافتهم وعلومهم إضافة نوعية لفكر وثقافة الدولة . 3 ) ولأن تأويل النص شكل العمود الأساسي لفكر الثورة ، فقد أعطى انحياز خلفاء العهد الجديد له ، دفعات قوية في السجال الدائر مع المدافعين عن قدسية النص ، والداعين للالتزام بسيرة السلف الصالح . 4 ) ولأن نجاح الثورة تبعه التخلص من تركة العهد البائد ، كان منطقيا أن ينعكس ذلك على الصحابة ، من ناصر ، ومن شايع ، ومن رضي ، ومن استكان ..الخ ، وأن يخدش ، على الأقل ، ذلك النقاء ، وتلك الطهارة ، التي قال بها معارضو تأويل النص . 5) وبسقوط الخلافة الأموية فقد منظرو هذا التيار ن والذي صار يعرف بتيار النقل ، السند الحامي والحاسم – الخليفة والحكم - في السجال الدائر مع تيار تأويل النص . 6 ) والانفتاح على الحضارة ، فالثقافة والعلوم الفارسية ، أدى بالضرورة ، إلى انفتاح على الحضارات والثقافات الأخرى ، الهندية والسريانية في المقدمة 7 ) انعكس كل ذلك في غنى هائل للثقافة الإسلامية الجديدة ، استلزم بالضرورة حركة حرة للعقل ، وكسرا لكل القيود والمعوقات التي قد تحول دون اطلاع حر ، نهل حر ، واستيعاب حر لهذه الثقافات . 8 ) ولأن الثقافة الهندية تميزت آنذاك بتقدم علم الفلسفة ، إلى جانب الفلك ، فقد فتح الاطلاع عليها ، المجال أمام البحث فالاطلاع على فلسفات أخرى ، وجاءت اليونانية في المقدمة . الأمر الذي وفر للعقل المسلم ،إن صح هذا التعبير ، المزيد من حرية الحركة ، في الاطلاع ، الاستيعاب والإنتاج . 9 ) مع مضي الوقت تبلور طرفا السجال في تيارين عريضين : تيار ينحني أمام سلطان العقل ، يعمل على إعلاء شأنه ، وجعله المرجعية في كل شيء ، بما في ذلك محاكمة النص ، إن تطلب الأمر ، وتيار يقدس النص ، يركع ، ويسجد بين يدي هذا النص ، ويضع الصحابة والتابعين الأولين في مرتبة تعلو على مستوى البشر ، وبذلك يرى في العقل مجرد تابع ، شارح ، خادم لقدسية النص . 10 ) تم تقديم أصحاب هذين التيارين العريضين بتعريف بسيط : تيار العقل وتيار النقل .


العصر العباسي الذهبي :


وكما هو معروف أطلق المؤرخون على صدر العصر العباسي – قرابة القرن - وصف العصر الذهبي . ولكن لأن العصر العباسي كله لم يشهد تلك الفتوحات الواسعة ، كما كان الحال في الخلافتين الراشدية والأموية ، فإنه استحق هذا الاسم لأسباب أخرى ، تسمو على الفتوحات . وإذن فهل كان ذلك الاستحقاق – التسمية بالعصر الذهبي - بسبب حالة الاستقرار وحالة الرخاء والازدهار اللتين عمتا أرجاء هذه الامبراطورية الواسعة ؟ بديهي أن ذلك كان سببا . لكن ذلك الاستحقاق استند إلى النهضة الحضارية التي دشنتها ، أرست قواعدها ، وثبتت أركانها تلك الفترة . تلك الحضارة التي صارت ، حتى بعد وأدها ، توصف بالحضارة العربية الإسلامية ، موضع فخرنا في يومنا هذا .
لقد كان لانحياز خلفاء ذلك العصر إلى تيار العقل ، أثره الواضح في ميل كفة الصراع ، الذي اتسم عموما بالسلمية ، واعتمد السجال ، مع تيار النقل ولصالح تيار العقل . وبديهي أن تلعب الترجمة لعلوم الأمم الأخرى ، وللفلسفة اليونانية بشكل خاص ، دورها المهم والملهم في تغذية تيار العقل هذا . وجاءت النتيجة ، كما سبق وأسلفنا ، في نشوء وتطور وتقدم الحضارة العربية الإسلامية . هذه الحضارة التي شهدت ، وأغناها ، نبوغ عدد كبير من العلماء والأدباء والموسيقيين الأفذاذ ، وفي مختلف فروع العلم كما في الأدب والفن . وجدير بالذكر أنها شهدت في ذات الوقت تدوينا واسعا ، ونشوء وتطوير كبير لعلوم الدين واللغة ، التي شكلت مصادر القوة التي استند إليها واعتمدها تيار النقل ، في صراعه المتصل ، المستمر والمثابر مع تيار العقل . ولأن تيار العقل يحتاج لبيئة حاضنة ، يستطيع فيها العالم أن ينقطع لعلمه ، لبحوثه وتطويرها ، ولأنه يحتاج إلى حركة تواصل بين الأجيال ، ولأن الدولة قبل ذلك لم تلتفت إلى إنشاء نظام تعليمي ، وشبكة مدارس تستقبل النشء الجديد ، فقد كان لهذا العصر شرف تنفيذ هذه المهمة العظيمة . وكان أن تطورت إلى ما عرف في التاريخ بالمدارس النظامية ، نسبة إلى الوزير السلجوقي نظام الملك ، الذي أنشأها ورعاها .
وككل نظام حكم كان لا بد أن يعقب ذلك العصر الذهبي عصر انحطاط . وهذا العصر ومنذ بدايته ، شهد انقلابا في موقع الخلفاء من الصراع بين تياري العقل والنقل . انتقل هؤلاء الخلفاء من موقع الانحياز ونصرة تيار العقل ، إلى موقع الانحياز فنصرة تيار النقل ، بإعلاء قدسية النص فوق سلطان العقل . ومع هذه البداية انتقل الصراع تدريجيا من سلمية السجال ، إلى عنفية الصدام . واستمر هذا الحال قرابة أربعة قرون أخرى ، ولينتهي بالانتصار الكامل لتيار النقل القائم على قدسية النص وناقليه .
وإذا كان التراث يخلو من تحديد دقيق لتأريخ ساعة الانتصار الكامل لتيار النقل ، فإنه نقل لنا أن ممثلي هذا التيار ، وهم من يوصفون بالأئمة والفقهاء وكبار العلماء ، حملوا أتباعهم ومؤيديهم ، على اجتياح ، بيوت نوابغ العلم والأدب والفن ، وإلقاء كل ما وجدوه من إنتاجهم طعاما للنار . وهكذا استقر هؤلاء المنتصرون على عرش نصرهم ثمانية قرون كاملة ، وصلت على عشرة في بعض الولايات ، ظلت القرون الأكثر ظلمة في تاريخ البشرية كلها .
والآن وقبل أن نشير إلى الإجراءات التي أتاحت لهذا التيار الاستمرار وثبات الجلوس على عرش تغييب العقل ، نحتاج لوقفة مع العوامل التي ساهمت في تحقيق ذلك النصر . لقد أشرنا إلى انقلاب موقف الخلفاء ، وانحيازهم لهذا التيار ، وإطلاق يده في الانتقال من سماحة وسلمية الحوار ، إلى اتخاذ العنف وسيلة للحسم . وقلنا أن هذا العامل كان شديد الأهمية . لكن تتوجب الإشارة إلى عامل آخر لا يقل أهمية . فالصراع هنا ، وهو صراع حضاري ، ظل صراعا داخليا . بمعنى أنه جرى داخل الامبراطورية الإسلامية ، التي كانت تشكل قطب العالم آنذاك . وبقي هذا الصراع بمنأى عن التأثيرات الخارجية ، أو التدويل ، إن صحت العبارة . فالهند التي أمدتنا بعلوم الفلك والفلسفة ، كانت قد خرجت من معادلة التأثير منذ زمن . والأمر ذاته حدث مع اليونان والسريان . وباختصار كان العالم من حولنا غارقا في الظلام . ورواد العقل ، وفي مقدمتهم نوابغ العلماء ، وهم حديثو عهد ، يتكئون إلى تراث وعلوم غاب أصحابها . كانوا يحاربون معركة تبديد الظلمة ، في مواجهة عالم واسع تسوده الظلمة ، ورأس حربته تيار النقل ، المتسلح بقدسية النص ، وبقدسية ناقليه من الصحابة والتابعين ، وبالإرث التراثي القديم كله . وفي ظروف اختلال الموازين ذاك ، ظل انتصار تيار النقل مسألة وقت .
ونعود إلى السؤال : ماذا عمل هؤلاء حتى دانت لهم الأمور طوال هذه القرون الثمانية ، وفي بعض المواقع وصلت إلى العشرة ؟ والجواب أنهم قاموا بخطوتين . تمثلت الأولى في إعادة التعليم إلى نظام الكُتاب القائم على التلقين ، ومن ثم محاصرة العقل وتغييبه ، ومنذ مرحلة الطفولة الأولى . وتقول التجربة العملية أن منهج التعليم التلقيني هو أفضل أدوات الصراع ضد منهج العقل ، وأكثرها فاعلية ، وأشدها نجاعة . أما الثانية فتمثلت في حظر ، إن لم يكن تحريم ، مطالعة وتداول العلوم غير الدينية ، والفلسفة في المقدمة ، وحيث وصل الأمر حد حظر علم الكلام ، النسخة الإسلامية من علوم الفلسفة ، ورفض اعتباره علما من العلوم الإسلامية .
معنى هاتين الخطوتين أنه تم التخلص من نظام التعليم الذي مثلته المدارس النظامية من جانب ، ووقف الترجمة والاطلاع على علوم الآخرين من جانب آخر ، وليتم بذلك إحكام الإغلاق على العالم الإسلامي وعزله تماما عن التأثر والتأثير ، في الآخرين ومنهم .


مزيد من الانحطاط :


وكان أن وقعت ، في أعقاب هذا الحسم للصراع بين تياري العقل والنقل ، والانتصار الحاسم والناجز لتيار النقل ، وقعت أحداث تاريخية ذات دلالات فارقة ، وإن لم تحظ من الدارسين بالاهتمام الكافي . إذ كان من المفروض أن ينقل هذا الانتصار دولتي الخلافة – العباسية والفاطمية - من حالة الانحطاط ، التي أخذتا تترديان فيها ، وبعد أن تخلصتا من كل الشرور التي ألقيت مسؤولية وقوعها على تيار العقل ، إلى حالة من الازدهار والقوة والنمو . لكن ما حدث أن حالة التردي تفاقمت . وتعرضت أرض الامبراطورية إلى غزو خارجي ، هو الغزو الصليبي . ولم تفشل الخلافتان العباسية والفاطمية ، والتي كانت عاصمتاهما ، بغداد والقاهرة ، على مرمى حجر ، من صد هذا الغزو فقط ، بل ونجح هذا الغزو في إقامة ممالك ثابتة ، على أرض الخلافة ، بعد مذابح مروعة بحق رعايا الخلافتين ، أسفرت عن محو للسكان ، شبه كامل في بعض المناطق ، ومنها فلسطين ، وإبدالهم بمستوطنين أوروبيين جدد ، شكلوا الرعايا لهذه الممالك الجديدة . ففي فلسطين يرجع نسب أهلها الحاليين ، إلى قبائل عربية قدمت ، لملء الفراغ ، من الجزيرة العربية ، بعد تحرير صلاح الدين الأيوبي لنصف فلسطين . وغني عن القول أن أحدا لم يعتبر هذا الفشل الساحق في التصدي للغزو الأجنبي ، ولا هذه المذابح المروعة لرعايا الخلافة ، والإذلال لمن بقي من الأحياء ، مؤشرا على فشل فكر أو عقيدة تيار النقل ذاك . وبعد قرن ونصف من هذا الغزو ، جاء الغزو المغولي ليجتاح الأجزاء التي يصلها الغزو الصليبي ، وليتكرر فشل الحكم المرتكز إلى فكر تيار النقل هذا . والمدهش أن الغزو الصليبي دام لقرابة القرن في جزء من فلسطين ، المحيط بالقدس ، ولقرابة ثلاثة قرون ، في الأجزاء الأخرى ، وللاتصال وديمومة حالة الذل هذه ، مع نهب الأرض والموارد ، طوال هذه المدة كلها ، أي لأكثر من ضعف المدة ، لأطول استعمار شهدته البلاد العربية في العصر الحديث . والأمر ذاته وقع للأجزاء الشرقية من الامبراطورية الإسلامية .


بداية الضوء :


وإذن وقد نجح انتصار تيار النقل في إطفاء أنوار الحضارة ، وساد الظلام شرقنا ، سابقا عصر الظلام الذي حل على أوروبا ، فقد ظل الظلام الذي سقطت فيه بلدان الخلافات الإسلامية ، ومنذ بداية القرن الحادي عشر الميلادي ، يزداد حلكة ، قرنا إثر قرن . حدث ذلك رغم بعض الصحوات العسكرية ، وبروز دول قوية ، كالأيوبية والمماليك ، ثم السلطنة العثمانية ، التي تحولت إلى خلافة بعد أكثر من قرنين على نشأتها . لكن بقعة ضوء مفاجئة ، سقطت على مصر ، التي كانت كغيرها من البلدان العربية ، جزءا من الخلافة العثمانية . فالقرن الثامن عشر ، وهو يغلق آخر نوافذه ، شهد غزوة نابليون لمصر ، العام 1998 ، والتي دامت ثلاث سنوات ونيف . وهذه الغزوة لم تكن شاهدا فقط على عجز الخلافة ، التي كانت ما زالت تظلل جنوب شرق أوروبا – بلغاريا ، يوغوسلافيا واليونان - وكل ما صار يعرف الآن بالعالم العربي ، عن حماية ممتلكاتها ، بل وكشفت حالة التخلف المريع ، الذي فرضه نجاح تيار النقل ، ببسطه الظلام الحضاري على المنطقة . فلقد حمل الفرنسيون معهم علماء وعلوما ، أوضحت للمصريين حالة التردي التي كانوا يعيشونها ، وسعة شقة التخلف عن مواكبة علوم وتقنيات الحضارة الحديثة . ورغم كره المصريين لهذا المحتل ، ورغم معاناتهم من فظائعه ، إلا أن انكشاف تخلفهم ، زرع فيهم توقا للخلاص الذي يبدأ طريقه من امتلاك ناصية العلوم الحديثة . وكان الجزء الأهم أن اطلع المصريون على الأفكار ، وبديهي على معرفة المفكرين ، التي ألهمت الثورة الفرنسية ، وشعاراتها في الحرية والإخاء والمساواة ، رغم السلوك المعاكس تماما لهذه الأفكار ، من قبل قوة الاحتلال . ومن جديد وقعت مفارقة تاريخية لافتة ، كأنما في تكرار لتلك المفارقة أيام الخلافتين العباسية والفاطمية . المفارقة أن أحدا لم يُحمل الفكر الذي يقود الخلافة ، وهو فكر النقل ، مسؤولية فشل الخلافة في الدفاع عن ولاية من ولاياتها .
وبعد ثلاث سنوات فقط ، من رحيل المحتل الفرنسي ، اعتلى محمد علي سدة حكم مصر ، واليا للخليفة العثماني . والتقط محمد علي ، وتابع ذلك خلفه ، وربما بسبب أصله الأوروبي ، فهو ألباني ، شعاع الضوء الذي جاءت به الغزوة الفرنسية ، وعمل على أن يحوله إلى نهضة شاملة لمصر ، ولتتحول الأخيرة إلى مركز إشعاع ، يبدد الظلام الحالك ، الذي كان ما زال يجثم على كامل المنطقة . بدأ محمد علي ببناء منظومة تعليم موازية لمنظومة الكُتاب القائمة . ثم بانفتاح على الثقافة والعلوم الأوروبية بتنشيط حركة الترجمة ، بعد دخول المطبعة مع حملة نابليون ، في خطوات قريبة الشبه بما وقع في صدر العصر العباسي الذهبي . وزاد عليه تلك البعثات التعليمية إلى أوروبا ، وفي تحرك معاكس لما كان فعله الأوربيون من نهل للحضارة الإسلامية في الأندلس . ومن نافل القول الإشارة إلى أن تلك كانت بدايات ، والقواعد الأساس ، التي قام عليها ما صار يعرف اصطلاحا بعصر النهضة . ثم وقع الاحتلال الاستعماري لولايات الخلافة العثمانية . ومرة أخرى برز عجز الخلافة ، وتجنب إلقاء تبعة ذلك على الفكر الموجه لفعل الخلافة . ومن جديد ورغم بشاعة الاستعمار ، ووحشية قمعه ، وجشعه في نهب ثروات شعوبنا العربية ، إلا أنه حمل معه ، ليس فقط نماذج الحياة والحريات في بلاده الأصلية ، بل وكشف للشعوب المقهورة ، سعة الهوة التي تفصلها عن الحضارة . كما أفرز ، وتكرارا لما وقع في مصر ، تطلعا لعبور هذا الفاصل وردم هذه الهوة ، أملا في اللحاق بركب الحضارة . وظلت الوسيلة هي ذاتها : بناء نظام تعليمي جديد ، يعاد فيه تدريس العلوم الحديثة ، والاطلاع على علوم الآخرين ، والفلسفة في المقدمة ، وهضمها عبر تنشيط عمليات الترجمة والنشر من جانب ، والنهل من المصادر الأصلية ، عبر البعثات التعليمية ، من جانب آخر .


الخطر والصحوة :


وهكذا وبعد استقرار تيار النقل على عرشه ، وبعد أن دانت له الأمور ، لأكثر من ثمانية قرون ، سادت الظلمة فيها ربوع شرقنا ، عاد خطر الصراع مع تيار العقل يطل برأسه من جديد . وبدا في فترة سابقة وكأن ممثلي تيار النقل – رجال الدين على اتساع وتنوع درجاتهم – قد أخذتهم الغفلة عما يجري . وكان حين صحوا وذهبت الغفلة ، أن وجدوا أن العديد من أقطار الخلافة السابقة ، تحكمها نظم تتمثل بالنظم الغربية من جانب ، وتضع برامج للنهضة ، تتكئ على القطيعة مع الماضي ، وتستند إلى عودة وتفعيل وتقوية وتطوير سلطان العقل من جانب آخر . بلدان وصف ممثلو تيار النقل نظمها بالنظم العلمانية الملحدة . وتمثلت الصحوة الإسلامية في تشمير السواعد لصد كل هذا الجديد ، ودحر هذه النظم التي وصفت بالجاهلية ، فالعودة بالبلدان العربية والإسلامية ، إلى الحال الذي كانت عليه في ظل سيادة فكر تيارهم ، أي إلى عهد الظلمة الحالكة الذي امتد لأكثر من ثمانية قرون . إذن هي معركة الصراع مع تيار العقل مرة أخرى ، ومحاولة صده قبل أن يستقر ، ومحاولة اجتثاث ما زرع ، وهدم ما بني ، قبل أن يقيد له الثبات والاستقرار .

فبدءا بمنتصف القرن التاسع عشر ، هزت حفنة من مفكري ما وصف بعصر النهضة تارة ، وعصر التنوير تارة أخرى ، ورواد التجديد تارة ثالثة ، هزت هذه الحفنة عرش تيار النقل ، الذي استقر ما بين ثمانية وعشر قرون ، كما أشرنا . ورغم اقتصار حركة حفنة المفكرين هؤلاء – في مقدمتهم المشايخ جمال الدين الأفغاني ، محمد عبده ، عبد الرحمن الكواكبي وآخرون - على قطر واحد هو مصر ، فقد استنفر تيار النقل لمواجهتهم ، قواه في كافة الأقطار ، وليبلغوا الآلاف ، بينهم المئات من أساتذة الأزهر . وبدا أنهم كسبوا الجولة ، بعزل تلك الحفنة ، فكرا وشخوصا .
لكن حدث أن الأقطار الإسلامية أخذت تسقط ، واحدا تلو آخر ، تحت أقدام الاستعمار . ولم ينته القرن التاسع عشر ، إلا وكان كل الشمال الإفريقي مستعمرا . ثم لحقته بلاد الشام والعراق ، في بداية القرن العشرين . ورغم أن الحكام ، المنتمين لفكر تيار النقل ، هم من فشل في صد الاستعمار ، إلا أن فكر تيار النقل خرج سليما معافى من مسؤولية الكارثة التي وقعت . ولم تنجح الثورات التي قادها رجال يحملون فكر هذا التيار ، في زحزحة هذا الاستعمار قيد أنملة . أكثر من ذلك نجحت الحركة الصهيونية ، بدعم مباشر من الاستعمار البريطاني ، في زرع جسم غريب في قلب الوطن العربي ، بعد إنزال كارثة ، هي الأقسى في التاريخ المعاصر ، على رأس الشعب الفلسطيني . ويحاول أنصار تيار النقل هذا إنكار حقيقة ساطعة ، تقول بأن الخليفة العثماني ، الذي عملت الحركة الصهيونية تحت عباءته أكثر من ثلاثين سنة ، والقيادة الدينية للشعب الفلسطيني – قيادة المفتي الحاج أمين الحسيني – والقادة الدينية العربية – قيادة شريف مكة الحسين بن علي ، وأولاده من بعده – هي معا من يتحمل المسؤولية الكاملة عن وقوع هذه الكارثة ، واستقرار إسرائيل عضوا غريبا في الجسد العربي .
لكن ومن ناحية أخرى ، حمل الاستعمار معه فكر التنوير ، الذي كان قد استقر في بلاده . كما أنشأ نظاما للتعليم ، لم يأت معه النصف الثاني من القرن العشرين ، إلا وقد حلت مدارسه محل الكتاتيب تقريبا . لكن المستعمر ، مستهدفا الحفاظ على بقائه واستمراريته ، كما صرح بذلك لورد كرومر حاكم مصر ، حافظ على منهج نظام الكتاتيب ، في هذا النظام الجديد . بمعنى أن المدرسة ، بفخامتها ، وتعدد مدرسيها ، وعدد صفوفها ، لم تكن أكثر من كُتاب كبير، باعتمادها نهج التلقين . وكان أيضا أن هذه اللعنة حلت على الجامعات فيما بعد ، وما زالت مستقرة فيها إلى يومنا هذا .


معركة الدفاع الأخيرة :


وإذا كان لافتا للنظر حرص ممثلي التيارات الإسلامية ، المتحالفة مع السلطة ، في أكثر من قطر عربي ، على حيازة وزارة التربية والتعليم ، فقد ظل ملفتا للنظر أيضا ، ذلك الدفاع الضاري عن مناهج التعليم ، وذلك الرفض الصاخب لتحديث المناهج ، وذلك الوقوف الحازم في وجه محاولات الخروج على نهج التلقين . ولا أطن أن أحدا الآن لا يعرف أن حفاظ النظم التي قالت بالتحديث على نهج التلقين في التعليم ، وقع على رأس قائمة خطاياها . ذلك أنها سلمت لتيارات الإسلام السياسي ، وبيديها ، معول هدمها . كما يمكننا أن نلاحظ كيف أن تنامي قوة تيارات الإسلام السياسي ، في العقود الثلاثة الأخيرة ، واكبت طرديا تردي التعليم ، رغم الظاهرة الفطرية لنشوء الجامعات . كما رافقت حالات الفشل المتكرر من الأنظمة المدنية في التصدي لمخططات الاستعمار الجديد ، ومواصلة نهبه للثورات . وقبل هذا وذاك النكسات العسكرية المتتالية في المواجهة مع إسرائيل . ومع أن كل ذلك ظل يوضع في خانة المكاسب لتيارات الإسلام السياسي ، والخسائر لتيارات النظام المدني ، وبما يوحي بتحقيق الأولى لنصر مؤزر كامل ونهائي ، إلا أن مؤشر الصراع يقول غير ذلك . فتيارات الإسلام السياسي تشن هجمة دموية ،شديدة الوحشية على جبهات متعددة ، كما أشرنا في البداية ، ينظر لها على أنها استعجال لحسم معركة ، تقول المؤشرات بإمكانية كسبها وحسمها بالوسائل السلمية ، وفي المقدمة صناديق الاقتراع . لكن التدقيق في المسألة يوضح أن المسألة ليست هكذا . فالثورات الأخيرة أبرزت ، أكثر من أي شيء آخر ، تطلعا ، يصل حد الطوفان ، من قبل الشعوب العربية ، لتجاوز حالة التخلف والعجز التي تعيشها . وحددت ، وبدون أدنى لبس ، الطريق لبلوغ ذلك ، وهو اعتماد نظام إدارة الدولة الحديثة ، فالعلم وتطبيقاته ، وبما يعني الاحتكام إلى سلطان العقل . وإذا كانت حفنة من المشايخ ، انضمت إليها أعداد محدودة من المثقفين ، عرفت بطليعة عصر التنوير ، قد هزت عرش سلطان النقل ، فإنها لم تعد حفنة الآن . لقد غدت تيارا كبيرا ، وسيلا دافقا وجارفا ، مزودا بأسلحة كثيرة ، تعجز قدرات تيار النقل عن التعامل معها . وهي قبل ذلك وبعده مغايرة تماما لما جرى في عصر الانحطاط العباسي . هي معركة على اتساع العالم . القوة الفاعلة فيها ، منتجة العلم وتطبيقاته ، مطورته والمدافعة عنه ، موجودة في الخارج ، وتملك وسائل شديدة الفعالية في نقله والدفاع عنه . وسلطان العقل على اتساع العالم يكسب كل يوم أرضا جديدة ، ووسائل عبوره إلى الآخرين لا يمكن صدها أو غلقها . وتيارات الإسلام السياسي التي وصلت إلى الحكم تقدم عجزا فاضحا ، في محاولات حلها لأبسط المشكلات التي تعاني منها الشعوب العربية . وهكذا نرى حقيقة ساطعة ، وهي أن هجمات الإسلاميين ، على الجبهات المتعددة ، والفظائع التي يرتكبونها باسم الدين ، تعبر عن ، وتعكس حالة من اليأس ، أكثر من كونها حالة تفاؤل بالنصر ، كما يبدو الأمر على السطح . هذه الهجمات ، والدعوات إلى الجهاد ، والاستعجال في التمكين ، تقول بصورة واضحة ، ليس فيها أدنى لبس ، بأنها معركة تيار النقل الدفاعية الأخيرة قبل سقوط آخر قلاعها .


وماذا عن فلسطين :


والآن ، وبعد هذا الاستعراض المطول لطبيعة المعركة مع تيارات النقل الإسلامية ، وبالانتقال لانعكاس ذلك على القضية الفلسطينية ، يتطلب الأمر وقوفا عند بعض الحقائق ومنها : 1) أن التدمير الذي حدث ، والذي يحدث ، لجيوش دول ما عرف بالطوق العربي ، أبعد ، ولمدى غير معروف ، أي احتمالية لإعادة تهديد إسرائيل بالصراع المسلح . إسرائيل باتت مطمئنة تماما تجاه خطر التهديد . واطمئنانها هذا يُفَعِّل شهيتها لمصادرات الأرض وللتوسع الاستيطاني ، ومن ثم يمنحها فرصا للمناورة والالتفاف على أية محاولات لطرح حلول ، فيها شيء من العدل للقضية الفلسطينية . 2 ) أن القضية الفلسطينية لا تحتل أولوية في برامج الإخوان الذين وصلوا للحكم في بلدان الثورات الجديدة . وأن التمكين ، الذي ستطول معركته ، يسبقها بكثير على جدول هذه الأولويات . 3 ) وأن التجربة مع الإخوان في فلسطين ، وغيرهم من الأحزاب الإسلامية ، تؤكد أن حل القضية الفلسطينية ، يأتي في ذيل قائمة أولويات تيارات إسلام النقل السياسية ، رغم الشعارات النارية عن التحرير وفلسطين . فالإخوان ، الذين قلبوا اسمهم لحماس ، لم يرفعوا أصبعا في وجه الاحتلال ، منذ حزيران 67 وحتى ديسمبر ، كانون أول ، 87 . وأكثر تعاونوا مع الاحتلال ضد فصائل منظمة التحرير ، ومباحثاتهم مع رابين ، وزير دفاع إسرائيل آنذاك ، والجنرال إيرز ، مسؤول إدارة قطاع غزة ، تشهد على ذلك . والآن فإن حزب التحرير الإسلامي ، ما زال وفيا للعهد ، ولم يرفع أصبعا في وجه الاحتلال ، ول46 سنة حتى الآن . وحجة الجميع أن رفع اسم الله له الأولوية على كل ذلك . 4) أن نظام الإخوان ، لو استقر، ولو تحقق حلم الخلافة ، بداية بالأقطار المتصلة جغرافيا ، فإن بناء قوة عسكرية ، قادرة على مجرد التلويح بتهديد إسرائيل ، يحتاج لفترة زمنية طويلة ، هذا إذا وصل سلم الأولويات إلى فلسطين . 5) ولأن الوسيلة الناجعة للضغط على إسرائيل ، وإجبارها على التسليم بالحدود الدنيا من حقوق الشعب الفلسطيني ، معروفة منذ أمد طويل ، وهي الضغط على المصالح الأمريكية في المنطقة ، ولأن مصالح النظم التي سقطت عند أمريكا ، كانت أكبر من القضية الفلسطينية ، ولأن قيام نظم عربية ديموقراطية حقا وحقيقة ، هو الطريق لإجبار أمريكا على إعادة النظر في مواقفها من الصراع ، ومن الانحياز المطلق لإسرائيل ، فإن إعاقة قيام هذه النظم الديموقراطية ، وهو ما تعمل له تيارات إسلام النقل السياسية ، يصب وبالتمام والكمال في صالح إسرائيل . 6 ) وفي وقت سابق كتبت ، وفي هذا المكان ، بأن ثورات الشباب العربي ، أنقذت فلسطين من حل جائر ، كانت محاولات فرضه جارية . وبعد نجاح مرشح الإخوان رئيسا لمصر ، ودوره في توقيع إخوان فلسطين – حماس – لهدنة مع إسرائيل ، ما زالت بنودها سرية ، حذرت من خطر مقايضة الإخوان ، والأحزاب الإسلامية الحليفة ، القضية الفلسطينية بدعم أميركي ، يسهل لهم التمكين من حكم مصر . وختاما نقول أن ما تبديه تيارات النقل الإسلامية من تشدد ، ومن عصبية ووحشية ، ومن إصرار على العودة بالمجتمعات إلى ظلام عصور الانحطاط ، لا يبشر بأي خير للقضية الفلسطينية . ويزيد الطين بللا أن طائفة من أبنائها يشاركون في كل ذلك . ورغم أن الحقيقة الساطعة تقول بأن هذه هي معركة الدفاع الأخيرة لهذه التيارات ، يدلل على ذلك وحشية أفعالها في ساحات المواجهات ، وأن هزيمتها قادمة ، وقريبة ، لا لبس فيها ، فإنها وبلا أدنى شك أخرت حصول الشعب الفلسطيني على بعض حقوقه سنوات طويلة .