عواقب النمو المتفاوت للرأسمالية!


توما حميد
الحوار المتمدن - العدد: 4100 - 2013 / 5 / 22 - 18:46
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر     

لقد كان انهيار مبنى رنا بلازا في ضاحية "سافار" قرب العاصمة البنغلاديشية-دكا في 24 نيسان والذي ادى الى مقتل 1127 شخصا احد عواقب النمو المتفاوت للرأسمالية. كان هذا المبنى يضم الكثير من معامل النسيج التي تصٌدر الملابس الجاهزة الى كبرى شركات الالبسة في اوربا الغربية وامريكا الشمالية. رغم ان خبر هذه الكارثة التي تعتبر واحدة من اكبر الكوارث الصناعية في التاريخ كان في بداية النشرات الاخبارية وفي الصفحات الاولى للجرائد والنشريات العالمية لمدة اسبوع، الا ان التغطية الاعلامية كانت كالعادة محاولة لحرف الانظار عن الاسباب الحيقيقة وراء الحادث والامور التي يجب على الجماهير معرفتها عن طبيعة مثل هذه الحوادث وطبيعة النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يتسبب في مثل هذه الكوارث.
مع وقوع الحادث وانفضاح امر الاجور الضئيلة وظروف العمل الوحشية وغياب السلامة في موقع العمل وبعلم الشركات والماركات العالمية العملاقة للالبسة للرأي العام العالمي، بدأت كل من الحكومة البنغالية والشركات العالمية و اصحاب شركات الالبسة المحلية وصاحب المبنى الذي اتضح انه شيد بطريقة غير شرعية والمسؤولين عن الانتاج الذين اجبروا العمال على العودة الى مواقع العمل رغم تحذيرات بظهور تشققات في البناية والمهندسيين الذين اشرفوا على بناء المبنى يوجهون اصابع الاتهام لبعضهم البعض.
في البداية حاولت الحكومة البنغلاديشية وكالعادة اهمال الموضوع، الا ان حجم الكارثة والضجة العالمية اجبرتها على ان تعلن بانها ستعاقب المسؤلين عن الحادث كما انها افصحت عن اجرائين " قاسيين"، اذ ستسمح للعمال في قطاع النسيج في اقامة نقابات بدون الحصول على اذن مسبق من صاحب العمل كما هو معمول به لحد الان وبانها ستعين هيئة تصدر توصياتها في غضون ثلاثة اشهر حول زيادة الحد الادنى للاجور. لقد وعدت الشركات العالمية من جانبها بانها ستقوم بمجموعة اجراءات مثل الكشف على البنايات التي يتم انتاج ملابسها فيها بشكل دوري لكي تضمن انها امنة ومراجعة معاير السلامة!

لقد تركز النقاش في الاعلام البرجوازي في اغلب الاحيان حول مسائل سطحية وجانبية رغم حجم الكارثة مثل الرشوة التي تعم في كل مفاصل الدولة في بنغلادش و ضعف الاجراءات القانونية وجشع هذا الشخص او ذاك وفيما اذا كان من الافضل القبول بالوضع المفروض على العامل من اجور قليلة وظروف عمل خطرة ام ان تغادر الشركات العالمية بنغلاديش وتدفع بمئات الالاف الى البطالة. وقد وصلت القذارة الى تحميل الزبائن في الدول الغربية مسؤولية مثل هذه الحوادث من خلال تفضيل والاقبال على الملابس الرخيصة!
من المؤكد بعد هكذا نقاش ومواقف واجراءات وبدون تدخل جدي من الطبقة العاملة ستعود الامور الى ماكانت عليها بعد ان يغيب هذ الخبر عن النشرات الاخبارية وسيعود الجميع الى اعمالهم كالمعتاد ربما بعد اصلاحات شكلية للغاية و بعد تحميل شخص او عدة اشخاص مسؤولية الحادث وتقديمهم ككبش فداء من اجل ادامة تراكم الرأسمال.
قبل كل شيئ يجب التاكيد بان هذا النوع من الحوادث ليس بالنادر، ففي ضاحية سافار نفسها قتل 112 عامل في حريق نشب في معمل اخر من معامل الالبسة في شهر تشرين الثاني من عام 2012. وقتل اكثر من 700 عامل في هذه الضاحية الصغيرة بسبب الحرائق وانهيار المباني في اخر عشر سنوات. كما قتل 1800 عامل في معامل النسيج بسبب الحرائق وانهيار المباني في انحاء بنغلاديش منذ 2005.
ان السبب الحقيقي لكل هذه الكوارث هو النظام الذي يدفع هذا او ذاك من المهندسين والمسؤولين و الراسماليين الى التصرف بالطريقة التي يتصرفوا بها. ان قوانين النظام التي تدفع باتجاة تراكم غير محدود للرأسمال يضع الافراد في علاقات معينة ويدفعهم الى ان يتصرفوا بالشكل الذي نجده امامنا.
وما يزيد الطين بله هو النمو المتفاوت للرأسمالية. ففي فترة زمنية قصيرة شيدت المئات من الابنية في ضاحية سافار والكثير من المناطق الاخرى في بنغلادش و الدول الاخرى التي تسود فيها علاقات الانتاج الامبريالية من دون اي قوانين تنظم البناء وتضمن السلامة من اجل تلبية الطلب على الملابس الرخيصة من الماركات العالمية. ففي فترة قصيرة نسبيا اصبحث بنغلاديش الدولة الثالثة في العالم في تصدير الملابس بعد الصين وايطاليا. صناعة النسيج تمثل 80% من صادرات بنغلاديش التي تبلغ 24 مليار دولار حيث يعمل فيها اكثر من 40% من القوة العاملة في هذا البلد اي مايعادل 4 ملايين عامل.
ان تحول بنغلادش الى ثالث دولة في مجال الالبسة وفي فترة عقدين الى ثلاثة عقود يعني تدمير صناعة الالبسة في الكثير من الدول الاخرى. ان صناعة الالبسة هي ثاني اهم صناعة للبشرية بعد الاكل. فهناك مغزى كبير عندما تنتقل هذه الصناعة من الغرب الى دولة مثل بنغلاديش. لقد كانت امريكا تنتج افضل انواع القطن في العالم وان كان من خلال عمل العبيد واليوم هذه الصناعة شبه معدومة في امريكا. ان بناء الاف البنايات وبسرعة في بنغلادش وكمبوديا والفيتنام وغيرها وتوظيف الملايين يعني غلق عدد مماثل من البنايات وتسريح الملايين من العمال في الدول المتقدمة وبنفس السرعة. الذي يحدث لصناعة النسيج يحدث للكثير من الصناعات الاخرى. هذا النمو المتفاوت هو احد التناقضات الجوهرية للرأسمالية التي لايمكن حله.
لمدة 150 سنة اي للفترة بين 1820 الى 1970 ارتفعت الاجور باستمرار في اوربا الغربية وامريكا واليابان نتيجة ظروف تاريخية معينة وبحكم عدة عوامل منها نضال مرير من قبل الطبقة العاملة في تلك الدول. ولكن مشكلة الرأسمالية هي ان بدرجة نجاح الطبقة العاملة في تحقيق مستوى معيشي افضل وظروف عمل افضل بنفس الدرجة تخلق خافز للطبقة الرأسمالية لسلب الوظيفة من العامل واعطائها لعامل اخر يقبل بمستوى معيشي اقل وظروف عمل اسوأ. بكلام اخر كلما يفوز العامل بمكسب يجعل وظيفته اقل ضمانا وخاصة في ظل العولمة الرأسمالية. منذ السبعينات توقفت الاجور بشكل عام عن الزيادة في امريكا واوربا واليابان رغم زيادة الانتاجية بمعدل 2% في السنة ولكن رغم هذا فان الرأسمالي يجد حافزا على نقل الانتاج الى دولة مثل بنغلاديش. بالرغم من تكاليف النقل يبقى انتاج البضاعة في دولة مثل بنغلاديش ومن ثم شحنها الى الدول الغنية التي تستهلكها اكثر ربحية من انتاجها في الدول الغنية نفسها. وينتظر الدول الغربية مستقبل مظلم لان ميل الرأسمال للانتقال الى الدول التي تشهد نمو وفيها فرص للاستثمار سيستمر لوقت طويل مع ان موقع الدول المختلفة في هذا المجال سيتغير مع الوقت.
ان معدل الاجر الشهري في معامل الانسجة في بنغلاديش التي يعمل فيها العامل لستة ايام وبمعدل عشر ساعات في اليوم هو 38 دولار امريكي. اي ان اجر العامل البنغلاديشي في الساعة هو 16 سنتا امريكيا.
ومع هذا فان مصير هذه الصناعة غير معروف لان بورما مثلا التي فتحت حدودها للرأسمال العالمي مؤخرا مستعدة على تقديم ايدي عاملة ارخص من هذا. فالدول التي تسود فيها علاقات الانتاج الامبريالية قد دخلت في منافسة شرسة و سباق نحو القاع في مجال ضمان ايدي عاملة رخيصة للرأسمال العالمي والقيام بكل الاجراءات التي تحد من تكاليف الانتاج. هذه المنافسة يعني فرض الفقر المدقع وظروف عمل وحشية على الملايين وغض النظر عن الكثير من التجاوزات واجراءات السلامة بما فيها بناء بنايات غير امنة وعدم تصليح المكائن المتضررة وغيرها. كما ان هذا السباق يعني تدهور وضع الطبقة العاملة في اوربا وامريكا واليابان. من جهة اخرى لقد دخلت شركات الالبسة و الماركات العالمية في سباق نحو القاع فيما يتعلق بتقديم ملابس رخيصة يتمكن الانسان في اوربا وامريكا الشمالية التي تشهد اسوا اجراءات التقشف واعنف هجمة على مكاسب الطبقة العاملة من شراءها وهذا يعني غلق معاملها في اوربا الغربية وامريكا الشمالية واليابان ونقلها الى دولة مثل بنغلاديش وفرض اجر شهري مقداره 38 دولارا وشروط عمل قاسية للغاية على الطبقة العاملة في تلك الدول. وفي وضع مثل هذا هناك فصل بين الزبون في الدول الغربية والعامل في دولة مثل بنغلاديش. يصعب على الزبون ان يهتم بظروف عامل في الجهة المقابلة من العالم في وقت فيه الملابس الرخيصة هو شيئ مرغوب به بالنسبة للملايين الذين يعيشون على خط الفقر او تحت خط الفقر. من جهة اخرى ان فرص العمل مهمة بالنسبة للملايين في بنغلادش وان كان على حساب الملايين في الغرب.
ان العولمة الرأسمالية وحرية حركة الرأسمال تخلق منافسة شرسة بين الدول التي تحكمها ظروف الانتاج الامبريالية لتامين طبقة عاملة رخيصة وخانعة بل يؤدي ايضا الى فرض ظروف الانتاج الامبريالية والتي تعني عدم زيادة الاجور بالتناسب من زيادة القوة الانتاجية على الطبقة العاملة في الدول الغنية ايضا والى زيادة وتيرة النمو المتفاوت للرأسمالية الذي يعني استمرار تدمير حياة الملايين من العمال في بقع مختلفة من العالم.