التآلف الطائفي: لمحة عن خطاب منافق


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 4100 - 2013 / 5 / 22 - 14:33
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


قبل شهر أو نحوه، كنت في القاهرة القي محاضرة عن كتاب صدر لي أشرت فيها إلى أن مجتمعات ما قبل الحداثة تقسّم الوظائف وفقا لإنتماءات البشر القبلية. قصدت القول أن تلك المجتمعات تعيّن مواقع في السلّم الإجتماعي والسياسي للمسلم والمسيحي واليهودي، للسنّي والشيعي، للكاثوليكي والبروتستانتي أو من يعيش من أقوام وملل فيها. وزعمت بعد دراستي للأمر، أن هذا النوع من الإقصاء والإدماج يسري على كل مجتمع قبل حداثي وهو ينظّم العلاقة بين مكوناته.
انبرى لي من بين الحضور واحد من أهم فقهاء القانون ممن أحمل لهم إجلالا كبيرا ليقول أن الشعب المصري لم ولايعرف تقسيما كهذا "فنحن لحمة واحدة نعيش انسجاما كاملا ولانفرّق بين المواطنين أيا يكن دينهم".
لم يكن هذا موضوع حديثي ولم أكن أخوض، في تلك المحاضرة، في شؤون السياسة اليومية. إنما دفعني غضبه إلى التفكير في جدوى إحالة الحوادث المتكررة بين الأقباط والمسلمين في مصر إلى حالات فردية لا أساس مجتمعيا لها وفي جدوى المضي في إنكار لا التنوع القومي/ الديني/ المذهبي في مجتمعاتنا بل في إنكار تشكّك أفراد كل من هذه الأقوام بأبناء القوم الذي يتحكّم بسلطة بلدهم سواء شكّل هؤلاء أغلبية سكانية أم لا، تشكّك سهُل تحوله إلى احتكاك أو نزاع أو احتراب تتفاوت حدته بين بلد وآخر.
ثار كثيرون عليّ حين كتبت مساهمة في الحياة قلت فيها أن الإعتراف بوجود نزوع طائفي – قومي يحرّك قوى متعاظمة منخرطة في الثورة السورية، نزوع يغذّيه النهج الطائفي المتعمد من جانب السلطة السورية لايقلل من عظمة الثورة وبطولات الثوار أو من حماسي دفاعا عنها وتبنيا لأهدافها. وتعمّدت تسمية الأمر "نزوعا" لأشير إلى أنه ليس سمة شاملة ولا خطّة مقصودة سلفا. وهو نزوع لأن ثمة فرقا هائلا بين أشكال تمظهر الصراعات وبين محتوياتها. ولابأس من تكرار واقعة أن كتلة كبيرة من السنّة تجد مصلحتها وأمنها مترادفة مع بقاء نظام الأسد وأن ثمة قطاعات علوية واسعة كانت سبّاقة لمحاربته وكانت من أولى ضحاياه، قطّاعات لم تبن هويّتها في الأساس على الطائفة: جماعة صلاح جديد ممن كانوا يسَمّون البعث اليساري، ورابطة العمل الشيوعي وأعداد كبيرة من خيرة مبدعي سوريا. ومع هذا لايجدي، بل يضرّ، إغماض العين عن مآسي الذبح على الهوية التي لم تعد ظواهر فردية أو شاذة.
ولأن العراق دخل مبكّرا في مغطس الصراع الذي اتخذ وجها شديد العنف منذ الإنتفاضة الشعبية التي تلت حرب الخليج الأولى عام 1991، صار خطاب "المجتمع المتجانس" قصيدة مبتذلة لكثرة ما يتداولها الطائفيون والسياسيون الذين يريدون إضفاء طابع وطني عابر للطوائف والقوميات على ممارساتهم وصار خطابا لبسطاء يرون أن زواج قريب لهم من إبنة طائفة أخرى أو مجاورة منزل عائلة كردية لأخرى عربية وعائلة سنيّة لأخرى شيعية دليل على أننا "لم نعرف التفرقة لولا..." وخطابا لمثقفين يريدون استبدال الواقع المزري بتوصيف ما يتمنون.
يتصاعد هذا الخطاب مع تصاعد حدة الأزمات. تسمعه على كل لسان منذ تجدد المواجهات بين الحكومة المركزية وبين أبناء المحافظات السنية في الأنبار والموصل وصلاح الدين والمواطنين السنّة في المحافظات المختلطة: ديالى وكركوك. مواجهات تنذر بانزلاق العراق مجددا إلى حافة حرب أهلية (اقتتال طائفي وفق من يريدون تلطيف التسمية) خبر العراقيون ويلاتها عام 2006 مع فوارق كبيرة إن حدثت الكارثة هذه المرّة، فوارق لاتقصر على حتمية اتساع جبهة الحرب السورية التي ستتحول من ثورة إلى حرب طائفية (رغما عن إرادة الشعب السوري)، بل ثمة فارق آخر يتمثل في أن لاقوات أمريكية تنشئ حركة صحوات سنّية مساندة للحكومة تساهم في اخماد الإحتجاجات من جهة وفي ثلم حدة الطابع الطائفي للصراع من جهة أخرى.
ومع هذا لازلنا نسمع اليوم خطابا رسميا يتحدث عن مجتمعنا المتآلف "بكل مكوناته" لولا التدخّلات الأجنبية، وخطابا يتحدث عن تآلف مجتمعنا قبل سقوط نظام البعث قبل مجئ حكام طائفيين واحتلال أمريكي للعراق، وخطابا ثالثا يتحدث عن تآلف مجتمعنا قبل مجئ صدام حسين إلى الحكم الذي أوجد الطائفية. استثناء واحد هنا هو الخطاب الطائفي الصريح الذي يلخص تاريخ العراق الحديث إذ يمحوره حول مظلومية الشيعة يقابله خطاب يلّون طائفيته قوميا يقول أن المشكلة كلها تكمن في تبعية الشيعة لإيران.
لم لانجرؤ على الإعتراف بأن الطائفة فضاء اجتماعي قبل أن يكون سياسيا. فضاء يتشكّل من التقاء ابناء الطائفة (المتدينين على الأقل) في مناسبات دينية تخصهم، يستذكرون فيها (أو يخترعون) تاريخا خاصا بهم ويحتفلون بمناسبات خاصة بهم. وهو فضاء لايعزل ابناء الطائفة عن غيرهم لكنه في الحالة الشيعية – السنّية قابل لإكتساب شحنة سياسية عدوانية إذ استذكار التاريخ يعني استذكار خلافة اغتصبها هذا من ذاك ومعركة واجه أبناء طائفتنا فيها أبناء الطائفة الأخرى.
من حقنا الفخر بانتفاضة 1991 في وجه نظام أكثر وحشية من نظام الأسد. ومن حقنا أن نفخر بأن الإنتفاضة حررت خلال شهر أربع عشرة محافظة من محافظات العراق الثماني عشرة. ولكن، أليس من واجبنا التساؤل عن تركيبة المحافظات الأربع التي ظلت بعيدة عن الإنتفاضة؟ سؤال لم يثره أحد من قبل، في حدود علمي، لأنه يخلخل أسس خطاب التآلف الإجتماعي. فتلك المحافظات كانت الأنبار وصلاح الدين والموصل السنّية، فضلا عن ديالى السنية – الشيعية. أما بغداد الشاسعة، التي ظلت قبضة النظام تمسك بخناقها وتقطعت وسائل نقلها وتواصلها إثر حرب 1991، فقد ظلت مشلولة ولكن حتى هنا اندلعت حركات تمرد في مدينة الثورة (الصدر حاليا) الشيعية لافي غيرها من المناطق.
بقيت المحافظات السنية ساكنة قبل أن تتعالى الشعارات الطائفية على الجانب الآخر: ماكو ولي إلا علي/ نريد حاكم جعفري، شعارات لابد من القول بأن معظم المنتفضين لم يتبنوها وفقا لشهود عيان ولكثير من قادة الإنتفاضة نفسها.
إن كان السؤال السابق لم تتم إثارته، فثمة حقيقة أثارها معارضو نظام صدام حسين وهم محقون في ذلك هي أن القوات التي أرسلها النظام لترتكب مجزرة اخماد الإنتفاضة التي ذهب ضحيتها مايوازي ضحايا الثورة السورية خلال عام كامل، تحركت وآلياتها تحمل شعار "لاشيعة بعد اليوم" وإن صحيفة رسمية عراقية نشرت سلسلة مقالات تحرّض على الشيعة كطائفة لا على حركات سياسية شيعية. ومع هذا، فثمة سؤال تهرّبنا من إثارته حتى في هذا السياق: إن كان النظام تعمّد إسباغ طابع طائفي في مواجهته لغالبية ابناء الشعب، ألا يفترض هذا وجود غرائز قابلة للتحريض الطائفي والإستجابة له. وإذا كان لشعار "لا ولي إلا علي" وظيفة سياسية، ألا يفترض هذا وجود غرائز مماثلة على الطرف الآخر؟
لم يعد الواقع العراقي الجديد، وقد تم تدويله، يسمح بممارسة مجازر وحشية واسعة النطاق، لكنه لايزال يسمح بأن توجّه السلطة الشيعية لكمات موجعة للمناطق السنّية ويسمح لقوى سنية بتوجيه لكمات لاتقل إيلاما للشيعة: عشرات القتلى والجرحى من المعتصمين السنّة ضد الحكومة، ومثلهم أو أكثر من التفجيرات في مناطقهم يقابلهم عدد لايقل من ضحايا تفجير الحسينيات والأسواق الشعبية في المناطق الشيعية.
يبقى الفضاء الطائفي حقلا اجتماعيا بالدرجة الأولى، وسيبقى هذا الفضاء معنا زمنا طويلا. لاتخلق السياسة هذا الحقل ولاتستطيع القضاء عليه إن أرادت، لكنها تستطيع تأجيج مستواه السياسي أو إخماده. هو فضاء لايختلف كثيرا عن فضاءات مماثلة يُحتفى بها في الغرب. وما كان للإحتفاء أن يكون ممكنا لو لم تُثلم الشحنة السياسية من الهوية الطائفية أو الدينية أو القومية، أو على الأقل لو لم يُثلم الجانب العنفي في الممارسة السياسية لمتبنّي تلك الهويات. وما كان للإحتفاء أن يكون ممكنا لو بقي الجانب الأبرز في تحديد الهوية سياسيا. وما كان لإندثار أو تراجع البعد السياسي للهوية المذهبية أن يكون ممكنا لو لم يشعر حملتها بأن مواقعهم السياسية والإقتصادية وفرصهم لم تعد تتحدد بها ولو لم يشعروا بتكافؤهم مع حملة الهويات الأخرى. ويجمل هذا القول كله: لو لم تسر المجتمعات نحو علمانية تزيح قبح تسييس الدين والطائفة.
أما خطاب التآلف الإجتماعي فهو ضرب من الرومانسية الساذجة التي تخفي القبح وراء ساتر في أحسن الأحوال وطمس مقصود لواقع قبيح بهدف الإمعان في تمزيق ماتبقى من هذا التآلف في اسوأها.