كشف الحقيقة في أعماق الظلام


حميد كشكولي
الحوار المتمدن - العدد: 4093 - 2013 / 5 / 15 - 00:55
المحور: الادب والفن     

يرى كثيرون في " قلب الظلام" لجوزيف كونراد أعظم رواية قصيرة كتبت في القرن العشرين ، فاطلقوا عليها تسميات من قبيل " وثيقة إدانة النهج الاستعماري البلجيكي في كونغو، أو رحلة ليلية في عالم اللاوعي، أو صورة للإمبريالية المسيحية، وغيرها من مسمّيات" .
ثمت من يشبّهها بأسطورة الكأس المقدسة بفارق أن الشخصية الروائية تكشف الظلام بدل النور ، وأن هذه الشخصية تسمو إلى حالة الرؤية أيضا كما هي في الأسطورة . و يرى فيها البعض لمحات من الملاحم الغربية وخاصة " الأنياذة " لفرجيل الشاعر الروماني الكبير، ويستنتجون بالتالي أن "قلب الظلام" مثلها مثل الأنياذة تروي مغامرات الإنسان، و تُلقي الضوء على الاضطهاد السياسي والاجتماعي ، وهي كذلك استكشافات الإنسان في عالم ملئ بأسرار القلب والذهن ، و إنني لأشعر من قراءتها بنفحات من " جحيم " " دانته" .
تبدو رواية "قلب الظلام " للقارئ في بداية قراءته لها كأنها قصة عادية لبحار عاد ٍ يدعى " مارلو" ؛ الراوية و الشخصية الرئيسية. يروي مارلو لأصدقائه الذين يجالسهم على متن سفينة نقل بضائع في نهر "التايمز" أن بعد عودته من رحلة بحرية دامت سنوات، كان يبحث خلالها عن عمل إذ يصل إلى علمه أن شركة كبيرة تتاجر بالعاج بحاجة إلى بحارة ماهرين في السفن البخارية التي تعمل في الأنهار، و بعد مساعدة وتوسط عمته يحصل على عمل عند هذه الشركة متولّيا قيادة سفينة بخارية ، فيذهب إلى " بروكسل" لتوقيع عقد العمل و ليباشر مهامه . وبعد صعوبات جمة والمرور بمقرين فرعيين يصل إلى المقر الرئيسي ويلتقي القائم الخاص بإدارة شؤون بلجيكا في الكونغو و الذي يدعى "كورتز" و هو طريح الفراش وفي حالة وخيمة ، لذا يتولى " مار لو" نفسه جل مهام الأخير ، و حين يموت "كورتز" يرجع " مار لو" إلى "بروكسل" حاملا مذكرات "كورتز" فيقدمها إلى صحفي و يسلّم رسائله إلى خطيبته . هكذا ، فبعد هذه البدايات يدرك القارئ انه ليس بصدد قصة عادية لرحلة عادية وان مارلو ليس ببحار عاد ٍ . و أنّه شاحب الوجه بهيئة زاهد ؛ يشبه إلى حد كبير" بوذا " و يمكن مقارنة رحلته بالحجّ .HORRIBEL! HORRIBEL! يصرخ وهو يحتضر ،انه يرى بعينيه الجحيم الذي خلقوه للبشرية ..

. " فهذه الرحلة كانت تشبه حجّا مملّا مليئا بالكوابيس " ، و يشير مرات عديدة إلى استكشاف النفس ، يشرح لأصدقائه انه قبل القيام بتلك الرحلة ، لم يكن يعرف نفسه . و في مكان آخر يقول إن المقر الرئيسي " كانت ابعد نقطة بحرية و لحظات أولى للاختبار" ؛ و حين ينتهي من الرحلة يشعر انه إنسان آخر وقد كشف الحقيقة في أعماق الظلام.
ليس ثمة ما يشير إلى أن رحلة " مار لو" الروحية تبدأ مع بداية القصة. و إن الصورة التي يصف بها " بر وكسل" إنما هي صورة لمدينة موتى حيث يمر " مار لو" حين قدومه إليها في شارع ضيق مهجور داكن يخيّم عليه سكوت قاتل ، و قد نمت أعشاب على حواف الصخور و الأحجار المنتثرة فيه. ويشاهد في مكتب الشركة امرأتين تغزلان الصوف الأسود ، إحداهما عجوز غطت رأسها بشال أبيض ذي شقوق ، وعلى خدها شامة و في حضنها تنام قطة ، فيضطرب "مار لو" للهدوء و اللامبالاة الذين يسودان في نظرتها.
ثم يواصل "مار لو" حديثه: " في تلك الأصقاع البعيدة كنت أفكر بهاتين المرأتين التين كانتا تحرسان بوابة الظلام ، و كأن الصوف الأسود غطاء دافئ للنعوش، كانت مهمة إحداهما تقديم الغرباء و التعرف عليهم ، بينما الأخرى تتأمل الوجوه البشوشة والبلهاء بعينيها اللامباليتين".
فقبل أن يروي " مارلو" قصته , يخلق لنا " كونراد" فضاء داكنا يسود العالم ، فكلمة " داكن" تتكرر بصور مختلفة: " داكن حزين" في المقطع الثالث ، " دكنة مخيمة" في المقطع الرابع ، " دكنة متوجهة نحو الغرب" في المقطع الخامس ، وثم دكنة مخيمة" في المقطعين السادس و الثامن.
وكأن" مارلو" قد أتى بفضاء ليعيد به إبداع عالم ، و هو ساجد أمام وثن مع معشر الأصدقاء.
تشبه قصة "مارلو" فرجالا يرسم به دائرة كبيرة مركزها حلقة أصدقائه في السفينة الساحلية على نهر" التايمز". و حين يشبه هذا النهر ب" بداية المسيل اللانهائي" ، إنما يربطه بكل مياه العالم جغرافيا و بالعوالم السفلية أسطوريا.
الأجواء الداكنة في بداية الرواية تشبه الأجواء التي خلقها" فرجيل" في الكتاب السادس ل"أنياذة" ، فقبل وصول" آنياس" ، بطل "الأنياذة" ، إلى العالم السفلي أو "هاديس" Hades يجري حديث عن الغابة المظلمة، وفي مسرحة وصول" آنياس" إلى "حاديس" ، يتم استخدام عبارة " خلال الظلام" أكثر من مرة. وكذلك يمكن وصف المرأتين اللتين تغزلان الصوف كحراس الظلام. "بيسيبل" التي هي بوابة " هاديس" و دليله " آنياس " . كما تتداعى في الأذهان العلاقة بين رحلتي "مارلو" و" آنياس" في نشيد الشاعر اللاتيني الكبير، حين يودع "مارلو" باللغة اللاتينية خارجا من الوكالة. و بالتالي ، و عندما يتهيأ للرحلة ، يقول: " إن أفضل ما يمكنني وصفه لكم أني شعرت للحظات ، كأني أغادر إلى مركز الأرض ، بدل السفر إلى وسط إحدى القارات"..
تذكّر المشاهدات الأولى لمارلو في الكونغو بصورة الجحيم ، ففي المقر الأول يشاهد طناجر بخارية بين النباتات ، وفي دربه لتفقد المحركات العاطلة و المعطوبة يلتقي بستة زنوج وكل واحد طوق في عنقه. إنه ليأس قاتل يتلمسه في هؤلاء العبيد. و بعد أن يمر في ظلال الأشجار ، يقول: " كأن قدميّ وطئتا دائرة الجحيم المظلمة". وقد سميت كونجو بهذا الاسم لأنها كانت مستعمرة بلجيكية ، وملكا مباحا لملك بلجيكا . و كونجو رمز لبشاعة الاستعمار وجشعه و الاستغلال ، واضطهاد الشعوب المغلوبة على أمرها.


حميد كشكولي