السيرورات الثورية للانتفاضات العربية وتأثيرها على القضية الفلسطينية


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 4090 - 2013 / 5 / 12 - 13:54
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     


منذ اندلاع الانتفاضات الشعبية وسقوط أنظمة التبعية والاستبداد في تونس ومصر واشتعالها في اليمن وليبيا والمغرب وسوريا والأردن والبحرين، توجهت أنظار وعقول وقلوب الشعب الفلسطيني صوب ثورة الجماهير الشعبية العربية تعبيرا عن فرحته وتأييده للمشهد العربي "الجديد" الذي تساقطت فيه رؤوس بعض أنظمة التبعية والفساد والاستبداد عموماً ونظام كامب ديفيد في مصر خصوصاً .
لكن سيرورة الحالة الثورية الانتفاضية ونتائجها المباشرة في تونس ومصر واليمن وغيرها من البلدان، كشفت بوضوح ، الطابع الاجتماعي والسياسي الديمقراطي للانتفاضة وأهدافها وشعاراتها التي تمحورت بسبب عفويتها ، وتأثير قوى الإسلام السياسي والقوى الليبرالية فيها ضمن إطار هذا القطر العربي أو ذاك ، دون أي ترابط قوي وواضح بين البعدين الوطني الداخلي والقومي العربي سواء فيما يتعلق بالموقف من "إسرائيل" والصراع العربي الصهيوني أو الموقف من الامبريالية وإنهاء سيطرتها على مقدرات شعوبنا .
ففي ظل ضعف وتراجع القوى والحركات اليسارية في كافة البلدان العربية، استطاعت حركات الإسلام السياسي أن تقطف ثمار الانتفاضات الشعبية العفوية ، وتحقق فوزاً -لأول مرة في تاريخها- في الانتخابات البرلمانية ، والوصول إلى قمة السلطة الحاكمة في مصر وتونس ، عبر شعارات وبرامج سياسية واقتصادية واجتماعية لم تحمل في طياتها أي شكل من أشكال التناقض مع السياسات الامبريالية والنظام الرأسمالي واقتصاد السوق الحر من ناحية ، ولم تحمل أي موقف واضح ضد دولة العدو الصهيوني أو رفض وإلغاء الاتفاقات المعقودة معها من ناحية ثانية ، خاصة وأن حركات الإسلام السياسي (الإخوان والنهضة وبقية الفروع في الوطن العربي والعالم الإسلامي) تعمل على التكيف مع السياسات الأمريكية وتكريسها ، وهو أمر غير مستغرب بالنسبة لي، عبر قراءتنا لدور هذه الجماعة منذ نشأتها حتى اللحظة الراهنة والمستقبل ، وهو دور مرتبط بوظيفتها الخاصة، وموقفها المناهض لمجمل الحركات التحررية الوطنية والديمقراطية عموماً ، والحركات القومية واليسارية على وجه الخصوص ، ومن ثم إسهامها في تعميق هدف الولايات المتحدة وإسرائيل، الذي ألخصه في تكريس احتجاز تطور الشعوب العربية ، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً ، وإبقاء حالة التخلف والتبعية للغرب الرأسمالي، حفاظاً على مصالحه في بلادنا ، إذ أن هذه الجماعات السياسية الدينية، كانت وستظل حريصة على إعاقة الثورة وتعطيل أو تبهيت الصراع الطبقي بشعارات طوباوية غيبية ، انطلاقاً من ارتباطاتها التاريخية بالإقطاع والأنظمة الملكية والبورجوازية الرثة بكل أنواعها ، ما يؤكد استعداداها لمهادنة الامبريالية والتعاطي معها .
كما رفضت هذه الجماعات - ومازالت - فكرة الوطنية والقومية والوحدة العربية ، لحساب فكرة ما يسمى بـ"الأمة الإسلامية" و "الخلافة" وترويجها في أوساط الجماهير العفوية التي تعاني من شدة الفقر والبطالة والتخلف ، بحيث وجدت في ما تقدمه حركات الإسلام السياسي من خدمات أو مساعدات مالية واجتماعية واقتصادية ، ملاذاً لجأت إليه الجماهير الفقيرة دون وعي منها لدور أنظمة النفط وغيرها في تقديم الدعم والتمويل لهذه الحركات من ناحية، وفي ظل غياب دور أحزاب وقوى اليسار وانقطاعها عن التواصل والاندماج بالجماهير من ناحية ثانية.
وفي هذا المشهد ومتغيراته، لا أستطيع أن أطلق على ما جرى ويجري في بلدان العرب ، ثورة، بل اسميها مجازاً انتفاضة أو حالة ثورية، لا أنكر دورها في كسر حالة الخوف والتردد لدى الجماهير الشعبية ، والتمهيد لخلق واشتقاق عملية تغييريه في النظام العربي، إلا أنها حتى اللحظة ، لم تحقق سوى تغيير طربوش النظام (مبارك ، قذافي ، زين العابدين ، علي صالح ، وغيرهم على الجدول) ومهدت الطريق لوصول حركات الإسلام السياسي إلى الحكم ، دون أن تنجح في تحقيق الحد الأدنى من الأهداف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي انطلقت الانتفاضات من أجلها.
والأدهى أن القوى السياسية والاجتماعية الرئيسية المؤثرة -حتى اللحظة- في هذه البلدان (وأقصد بذلك الجيش ورجال الأعمال والإخوان المسلميـن والتيارات السلفية ورموز القبائل –التي أعيد إحياءها من جديد-) تسعى إلى إعادة تكريس وإنتاج صور من التخلف والتبعية ، بأشكال أكثر بشاعة وانحطاطاً مما كان عليه الأمر في الأنظمة المخلوعة ، وذلك ارتباطاً بمصالحها الطبقية الأنانية ورؤيتها الأيديولوجية الغيبية الرجعية ، يشجعها على ذلك طبيعة التطور الاجتماعي المشوه في مجتمعاتنا العربية ، إلى جانب ضعف وضحالة انتشار وتوسع القوى الثورية اليسارية في أوساط الجماهير .
لكنني على ثقة بأن سيرورة الحالة الثورية لن تنطفئ ، وها هي تشتعل من جديد في مصر وتونس، بعد أن تكشفت الجماهير زيف شعارات وبرامج الإخوان المسلمين وحزب النهضة ، وبالتالي كان لابد من خروج هذه الجماهير ، وانتفاضها الثوري من جديد ضد حكومتي الإسلام السياسي ، من اجل تحقيق الأهداف التي انطلقت وضَحّت من اجلها.
لذلك ، فإن الحديث عن الانتفاضات الشعبية العربية ، وسيروراتها الثورية، يفرض النظر إليها وتحليل متغيراتها وأهدافها عبر مشهدين.
المشهد الأول : مشهد إسقاط الرؤساء وبداية تطبيق الإجراءات الديمقراطية السياسية ذات الطابع الليبرالي، ومن ثم الانتخابات التي حققت فيها حركات الإسلام السياسي فوزاً غير مسبوق في كل تاريخها .
المشهد الثاني : مشهد ما بعد وصول الإخوان المسلمين والنهضة إلى السلطة والحكم في مصر وتونس ، أو ما أسميه قطف ثمار الانتفاضة.
ففي المشهد الأول، توحدت كل الجماهير الشعبية في معظم البلدان العربية عموماً، وفي تونس ومصر خصوصاً ، تحت شعارات الحرية والكرامة والخبز والديمقراطية وإسقاط النظام وأجهزته الفاسدة، الاستبدادية والقمعية ، وبالتالي فقد نجحت الانتفاضات في كسر حاجز الخوف ، وتحطيم استبداد الأنظمة، والانطلاق في سيرورتها الثورية التي امتد تأثيرها في معظم البلدان العربية ، وفي أوساط الشعب والشباب الفلسطيني في الوطن والمنافي ، الذي رفع شعار "الشعب يريد إنهاء الانقسام" وإنهاء كل أشكال الاستبداد والفساد، إلى جانب الدعوة إلى رفض المفاوضات العبثية والعودة إلى النضال السياسي والكفاحي المسلح والشعبي ، عبر الوحدة الوطنية، الكفيلة بالتمسك بالثوابت الوطنية وتوفير عوامل الصمود الوطني ، لكن هذا الحراك الشباب الفلسطيني ظل أسيراً لأطره النخبوية بعيداً عن التواصل والتأثير في أوساط الجماهير الشعبية .
وفي هذا المشهد ، نلاحظ طغيان الشعارات الوطنية ، المحلية / القطرية، ذات الطابع المطلبي المعيشي، والديمقراطي، كشعارات رئيسية للانتفاضات العربية، في مقابل خفوت الشعارات السياسية الوطنية والقومية المناهضة للامبريالية والصهيونية، إلى جانب تراجع الشعارات المؤيدة للقضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني ، الأمر الذي يدفعني إلى القول بأن المتغيرات العربية الراهنة ، في ظل الانتفاضة ، أسهمت في تراجع القضية الفلسطينية في الذهنية الشعبية العربية ، والسبب في ذلك لا يعود أبداً إلى رغبة الجماهير الشعبية العفوية الثائرة ، بقدر ما يعود إلى طبيعة سياسات الأنظمة المخلوعة ، وطبيعتها الطبقية الكومبرادورية البيروقراطية الطفيلية ، واستبدادها وقهرها لجماهير العمال والفلاحين الفقراء ، إلى جانب خضوعها وتكيفها مع السياسات الامبريالية والصهيونية، وتكيفها مع شروط الصندوق والبنك الدوليين التي أدت إلى المزيد من إفقار وإملاق ومعاناة الجماهير الشعبية الفقيرة بصورة غير مسبوقة ، إلى جانب تراجع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ومعظم فصائل وحركات المقاومة الفلسطينية عن ثوابتها وأهدافها ورؤاها الوطنية الثورية، لحساب القبول باتفاق أسلو وبقرارات ما يسمى بالشرعية الدولية، خاصة قراري 242 و 338 وصولاً إلى التراجع عن التمسك بحق العودة كما جرى في لقاء ياسر عبد ربه - بيلين- في جينيف، وصولاً إلى الصراع الدموي بين حركتي فتح وحماس على المصالح الفئوية وعلى اقتسام السلطة، ومن ثم تكريس الانقسام وانفصال حركة حماس وتمترسها في قطاع غزة بتاريخ 14/حزيران/2007، وكل هذه العوامل أسهمت بالتأكيد في تراجع وهج القضية الفلسطينية ووهج النضال القومي في أذهان الجماهير العربية .
أما المشهد الثاني من سيرورة الانتفاضة ، فهو مشهد الإسلام السياسي الذي بدأ على أثر فوز الإخوان المسلمين والنهضة في مصر وتونس في الانتخابات التشريعية والرئاسية ، وحرص حكومتيهما على إشاعة مظاهر الاستقرار وامتصاص وإنهاء الحالة الثورية الشعبية من خلال الفضائيات ووسائل الإعلام التابعة لها، إلى جانب الفضائيات العربية والأجنبية المساندة (الجزيرة / العربية/ الـBBC ... وغيرها) حيث سادت حالة أقرب إلى الهدوء والترقب في أوساط الجماهير، في انتظار مبادرة الحكومتين إلى تطبيق وتلبية المطالب الشعبية، عبر إصدار القوانين والقرارات الكفيلة بالتطهير الشامل لكل مؤسسات وأجهزة النظامين المخلوعين، وعدم الاكتفاء بالمحاكمات الشكلية، وكذلك إصدار القوانين التي تتضمن صراحة مصادرة كل الثروات غير المشروعة في جميع المجالات ، وإعادة إحياء مؤسسات القطاع العام الإنتاجية وتجديدها ، وتحديد الحد الأدنى والحد الأعلى للأجور، والتطبيق الصارم لمبدأ تكافؤ الفرص، وتقديم الدعم للسلع الغذائية والأساسية للشرائح الفقيرة، وإصدار القوانين التي تجسد التزام حكومتي الإخوان والنهضة، بالقضايا المطلبية ، في الاقتصاد والتنمية المستقلة والتأمين الصحي والتعليم والثقافة، وأن يخطط النظام الجديد إلى إعادة بناء الذات الوطنية الديمقراطية الموحدة بعيداً عن كافة أشكال التعصب الديني والطائفي والاثني في إطار الالتزام بالأسس الدستورية الديمقراطية للدولة المدنية الحديثة ، وضد كل مظاهر وأدوات الاستبداد في شتى صوره .
ولكن، بعد أقل من ستة شهور على وصول الإخوان المسلمين والنهضة إلى سدة الحكم، اكتشفت الجماهير الشعبية زيف شعارات حكومتيهما وبهتان مصداقيتهما ، وعدم التزامهما بالحد الأدنى من مطالب الجماهير ، بل على العكس من ذلك، زادت الأوضاع الاقتصادية سوءاً على ما كانت عليه في عهد النظامين المخلوعين، فارتفعت أسعار المواد الغذائية والأساسية، وتزايدت نسبة البطالة إلى أكثر من 20%، وارتفعت نسبة الفقر والفقر المدقع المحدد بدولارين في اليوم إلى أكثر من 20%، وتراجعت القطاعات الإنتاجية والسياحة ، وتزايدت الفجوة في الميزان التجاري بعد ان تراجعت الصادرات، وبقيت أجور العمال وصغار الموظفين والجنود والفلاحين الفقراء كما كانت عليه قبل الانتفاضة لا تلبي 30% من احتياجات الأسر الفقيرة في مصر خصوصاً .
وإلى جانب ذلك كله ، اكتشفت الجماهير أيضاً حرص حكومتي الإخوان والنهضة على تجديد علاقات التبعية الاقتصادية والسياسية مع الامبريالية الأمريكية، واستجداء القروض من الصندوق والبنك الدوليين والموافقة على شروطها الخاصة بإلغاء الدعم عن المواد الأساسية للفقراء.
أما فيما يتعلق بالموقف السياسي لحكومتي تونس ومصر، فقد تماهى مع مواقف الدول الرجعية في الخليج والسعودية ، ومع موقف حكومة الإسلام السياسي في تركيا بقيادة أردوغان ، التي تقوم بدورها المرسوم باعتبارها عضواً في حلف الناتو ، في تشجيع الاعتراف والتطبيع مع دولة العدو الصهيوني ، ولم يكن تأييدها لحكومة حركة حماس غير الشرعية في غزّة ، إلا بهدف تمرير سياسات الاعتدال والمهادنة، ومن ثم المصالحة مع فتح وفق الرؤية السياسية الهابطة للسلطة وحكومتها غير الشرعية في رام الله، وهنا بالضبط نلحظ الدور السياسي المباشر لحكومة مصر الإخوانية ، صوب هذه الوجهة السياسية الهابطة المنسجمة مع السياسات الأمريكية الإسرائيلية، كما نلحظ أيضاً الدور السياسي غير المباشر لحزب النهضة وحكومته في تونس في نفس الوجهة.
وبالتالي فإننا أمام مشهد ما بعد سقوط بن علي وحسني مبارك وعلي صالح وغيرهم على الجدول ، يحمل في طياته إمكانيات - تملك العديد من المقومات- لإعادة تشكيل بلدان النظام العربي في إطار أوضاع جديدة من التبعية للسياسات الأمريكية والنظام الرأسمالي العالمي ، بما في ذلك استمرار الاعتراف والتطبيع مع دولة العدو الصهيوني أو الدعوة لمهادنتها لآماد طويلة قادمة ، باسم الاعتدال السياسي وفي إطار الديمقراطية السياسية الشكلية أو الليبرالية الرثة ، بما يحقق مصالح القوى الطبقية الكومبرادورية والطفيلية والبيروقراطية العسكرية والمدنية، التي لم تتغير أحوالها ومصالحها على الرغم من سقوط رأس النظام في هذا البلد أو ذاك.
ما يعني بوضوح أن الجوهر الطبقي لحركات الإسلامي السياسي، لا يختلف أبداً عن الجوهر الطبقي للنظام المخلوع ، بل أن حركات الإسلام السياسي- في حال استقرار حكمها - ستعمل وفق منظورها الأيديولوجي والسياسي والاجتماعي ، على رفض وإلغاء الشكل الليبرالي للديمقراطية السياسية وحرية الأفراد وحرية الرأي، لكي تكرّس أوضاعاً سياسية ومجتمعية ، عبر أنظمة أو قوانين مستحدثة، تستهدف وأد الحريات الديمقراطية وإعادة إنتاج وتجديد التخلف الاجتماعي، وإيجاد السبل الكفيلة بصياغة أشكال جديدة من التبعية للسياسات الأمريكية وخضوعها لشروط الصندوق والبنك الدوليين، كما هو حال نظام الإسلام السياسي في مصر حالياً وفي تونس واليمن وليبيا وغيرها، الأمر الذي يثير كل دواعي القلق بالمعني الموضوعي من سيرورة مشهد الإسلام السياسي في علاقاته السياسية الراهنة والمستقبلية مع التحالف الإمبريالي الصهيوني، وما سيؤدي إليه من تنازلات سياسية خطيرة على راهن ومستقبل النضال التحرري الوطني والديمقراطي الفلسطيني ، التي قد تكون أشد مرارة وقسوة من أي مرحلة سابقة.
في ضوء ما تقدم ، فإن مجمل المستجدات والمتغيرات السلبية المتلاحقة ، الناجمة عن ممارسات أنظمة وحكومات الإسلام السياسي - رغم قصر مدتها - تؤكد على مصداقية تحليلنا بالنسبة للجوهر الطبقي المشترك بين أنظمة حركات الإسلام السياسي والأنظمة المخلوعة، من حيث طابعها الكومبرادوري والرأسمالي الطفيلي بكل تلاوينه، وتبعيتها وخضوعها للسياسات الأمريكية ، علاوة على المخاطر الناجمة عن تطبيق الرؤية الأيديولوجية الدينية على الصعيد الاجتماعي، وما تعنيه من إعادة إنتاج للتخلف، وممارسته على صعيد القضايا الاجتماعية المتعلقة بأوضاع العمال والفلاحين والشباب وحرية المرأة والإبداع الثقافي وكافة قضايا العدالة الاجتماعية والاقتصادية بمختلف تحليلاتها .
وفي مثل هذه الأوضاع ، لم يكن مُستغرباً ، اشتعال الانتفاضات الثورية من جديد ضد أنظمة وحركات الإسلام السياسي بعد أن تَكَشَّفَتْ الجماهير زيف شعاراتها .
وها هي الجماهير الشعبية في تونس ومصر تجدد انتفاضتها ونضالها الديمقراطي ضد استبداد أنظمة الإسلام السياسي ، من أجل استبدالها بقيادة تحكمها معايير ومرجعية الوطن والوطنية والمواطنة والحرية والعدالة الاجتماعية للفرد والجماعة ضمن عقد اجتماعي مدني وديمقراطي يفصل الدين عن السياسة ويفصل السياسة عن الدين، ويكون المصدر الوحيد لشرعية أي رئيس قادم.
تلك هي طموحات الجماهير في تونس ومصر والمغرب واليمن وليبيا والعراق وبقية الأقطار العربية، ليس ضد جماعة النهضة أو الإخوان المسلمين فحسب ، بل أيضاً ضد كل مظهر من مظاهر إعادة الظلم والاستغلال الطبقي والاستفراد والتحكم في المجتمع والدولة ومستقبلها .
ولذلك، أقول -بكل حزن وألم- أن الوضع الفلسطيني في هذه اللحظة، يبدو في أفق مسدود ، ليس بسبب اللاءات الإسرائيلية فحسب (لا للقدس عاصمة، لا لعودة اللاجئين ، لا لوقف الاستيطان، لا للانسحاب الكامل من الأراضي الفلسطينية المحتلة، لا للدولة المستقلة كاملة السيادة) بل أيضاً بسبب تردي الأوضاع السياسية الفلسطينية الداخلية وهبوطها وانقسامها بين حكومتين غير شرعيتين، ومن ثم فإن محاولات مصر وتونس وتركيا باتجاه المصالحة وإنهاء الانقسام ، لا تعدو كونها محاولات لتكريس الهبوط السياسي في خدمة ما يسمى بعملية السلام ، بما يتوافق مع الرؤية الأمريكية التي عبر عنها الرئيس أوباما عند زيارته للدولة الصهيونية ولقاءه برئيس السلطة الفلسطينية في رام الله بتاريخ 22/3/2013 ، وبالتالي استطيع القول، إن كل من حركتي فتح وحماس تقدم للشعب الفلسطيني ، أسوأ صورة ممكنة عن حاضر ومستقبل المجتمع الفلسطيني المحكوم، بصوره إكراهية، بأدوات ومفاهيم اليمين الليبرالي الرث في رام الله وأدوات ومفاهيم اليمين الديني أو الإسلام السياسي في غزة، في إطار من الاستبداد والقمع، وهي مفاهيم لن تحقق تقدماً في سياق الحركة التحررية ، بل على النقيض ستعزز عوامل انهيارها والانفضاض الجماهيري عنها، ذلك هو الوجه البشع لسلبيات نظامي حكم الإسلام السياسي في مصر وتونس، التي توافقت إلى درجة التطابق مع سياسات المعسكر الرجعي العربي في السعودية والخليج والمغرب والأردن .. الخ .
في ضوء معطيات هذا المشهد ونتائجه وآثاره ، فإنني لا أُعوِّل أبداً على متغيرات ايجابية على القضية الفلسطينية، بل على العكس، ستتراكم العوامل السلبية باتجاه المزيد من تكييف حركة حماس لكي تتوافق وتستجيب لسياسات الإخوان المسلمين في مصر وحركة النهضة في تونس ، إلى جانب استجابتها لحكومات قطر والسعودية والخليج والأردن ... الخ ، في إطار ارتباط النظام العربي الراهن و"جامعته العربية" بالسياسات الأمريكية ، وهي أنظمة باتت اليوم تَعتَبِر القضية الفلسطينية عبئاً ثقيلاً على كاهلها ، ترغب وتسعى للخلاص منه بأي ثمن.
وفي هذا السياق يبدو أن هناك توافقاً على مزيد من التطبيع والاعتراف بالدولة الصهيونية وإنهاء قضية اللاجئين في هذه المرحلة ، عبر ما يسمى بـ"المبادرة العربية/السعودية"، المطروحة منذ عام 2002 ، ولكن ضمن الرؤية والشروط الأمريكية الإسرائيلية ، وبموافقة الإخوان المسلمين والنهضة، في ظل استعداد وقبول اليمين الليبرالي الرث في حركة فتح واليمين الديني في حركة حماس، بعد ان باتت مصالحهما الطبقية والفئوية المحدد الرئيسي على حساب القضية الوطنية ومستقبلها.
أخيراً ، لا بد لي من التأكيد على أن حديثي عن قتامة وسوداوية المشهد العربي الراهن في إطار سيرورات الانتفاضات العربية ، لا يعني تشاؤماً في الإرادة بالنسبة لمستقبل حركة الجماهير وانتصارها، بقدر ما هو نوعاً من تشاؤم العقل الذي يحفز على المجابهة ومواصلة النضال بكل أشكاله في خضم الصراع الطبقي والسياسي ضد أنظمة التبعية والعمالة والاستبداد والتخلف ، وضد الوجود الإمبريالي الصهيوني في بلادنا، وبالتالي فإنني على قناعة -بالمعنى الموضوعي- بأن المشهد العربي الراهن على قتامته ، سيعزز من جديد ، ويراكم كل عوامل السيرورة الثورية الوطنية والديمقراطية داخل كل قطر عربي ، والتي لن تنفصل عن السيرورة الثورية للنضال القومي النهضوي التقدمي الوحدوي والديمقراطي، إذ ليس أمام الجماهير الشعبية الفقيرة وقياداتها الثورية -في فلسطين وبلدان الوطن العربي- أي خيار سوى الاستمرار بالثورة حتى تحقيق الأهداف التي انطلقت الجماهير وضحت من أجلها .

وفي هذا السياق ، فإن من واجب جميع قوى اليسار الماركسي العربي، أن يبادروا إلى التفاعل والحوار وصولاً إلى رؤية توحيدية مشتركة ، تنطلق من حرص الجميع على تواصل السيرورة الثورية للجماهير العربية في كل قطر، عبر علاقة جدلية بين الأهداف الوطنية / القطرية الداخلية، وبين الأهداف القومية التقدمية الديمقراطية التوحيدية، لكي يتواصل نضال الانتفاضات بما يضمن بلورة وتحقيق أهداف الثورة الوطنية الشعبية الديمقراطية وتفاعلها واندماجها مع مهمات الثورة القومية التحررية والديمقراطية العربية، وعند ذلك تتجلى الآثار الايجابية للسيرورة الثورية العربية على مجمل الحركات الثورية الفلسطينية بعيداً عن رؤى وبرامج الليبرالية الرثة وهبوطها من ناحية وبعيداً عن رؤى وبرامج اليمين الديني/ الإسلام السياسي من ناحية ثانية .

لهذا لابد من تفعيل القوى الديمقراطية واليسارية من أجل أن تتحمل مسئوليتها في التقاط اللحظة التاريخية الراهنة والصعود بها وفق رؤية وبرامج واضحة تقوم على النضال من أجل استكمال مهام الثورة الوطنية الديمقراطية على طريق صياغة البديل الاشتراكي الديمقراطي الشعبي الذي يحمل مشروع الطبقات الشعبية، ويعمل على تحقيق مصالحها، ومن واجب هذه القوى ، أو الأحزاب والقوى اليسارية القديمة والجديدة التي نشأت اليوم وستنشأ غداً ، أن تمارس عمليا عبر نضالات طليعية حقاً في أوساط الجماهير الشعبية لزيادة وعيها وتنظيمها وتأطيرها السياسي والنقابي والاقتصادي تحت شعارات توحيدية وطنية وقومية تقدمية وديمقراطية واضحة ومحددة، تجسد مصالح هذه الجماهير وتدفعها مجدداً للنضال الكفاحي والديمقراطي الثوري في إطار الصراع الطبقي، ما يفرض على قوى اليسار أن تعي ذلك وأن تسارع إلى الخروج من أزماتها ونهج بعضها الإصلاحي واليميني قبل أن يسدل عليها الستار.