سعيد الكحل - باحث في قضايا الإرهاب والإسلام السياسي- في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: تداعيات الربيع العربي - المرأة، الإسلام السياسي والسلطة، والتطرف والإرهاب -.


سعيد الكحل
الحوار المتمدن - العدد: 4069 - 2013 / 4 / 21 - 00:01
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -102 سيكون مع الأستاذ سعيد الكحل - باحث في قضايا الإرهاب والإسلام السياسي- حول : تداعيات الربيع العربي - المرأة، الإسلام السياسي والسلطة، والتطرف والإرهاب -.


اعتبارا لحالة الصدمة التي أحدثتها تداعيات ما بات يعرف "بالربيع العربي"على مستقبل الشعوب العربية وأوطانها واستقرارها وحقوق مواطنيها ، يكون ضروريا فتح نقاش موضوعي وهادئ لتلمس أسباب الرّدة السياسية والحقوقية والتدهور الأمني التي جرفت آمال الشعوب العربية في التحرر من الاستبداد والديكتاتورية ودخول نادي الدول الديمقراطية التي تملك شعوبها السيادة والسلطة . حين انطلقت شرارة ثورة الياسمين في تونس ثم بعدها مصر استبشرت بقية الشعوب العربية بانفتاح آفاق الحربية والقطع مع عهود الاستبداد . وازداد حماس هذه الشعوب إثر سقوط أنظمة سياسية ظلت متحصنة بكل مؤسسات القمع ومطمئنة إلى توريث السلطة دون هزات سياسية تفسد الانتقال "السلمي" للحكم من الرئيس /الأب إلى الخليفة /الابن . وتعاظمت مشاعر الأمل في حماية الثورة من كل انحراف أو سطو أو سرقة بوجود شباب ميادين التحرير ولجانه التنسيقية على أهبة للتدخل كلما دعت الضرورة . لكن مجريات الأحداث أثبتت أن شباب الثورة يفتقر إلى الخبرة وبعد النظر ، بل يفتقر إلى الوعي بأساليب المكر والخديعة لدى التيار الديني الذي التحق بالثورة وركبها لما تأكد من انتصارها . إن سذاجة الثوار وقلة الخبرة لديهم جعلتهم ينخدعون بوعود الإسلاميين ويبوئونهم صدارة الحديث عن الثورة وتحديد مسارها ، في الوقت الذي انشغل الشباب بإسقاط النظام ومحاكمة رموزه . بينما كفّ استشرافهم لما بعد سقوط النظام ولم ينخرطوا في تدبير مرحلة الما ــ بعد ، بل تركوا تدبيرها "بليل" للإخوان . فكانت النتيجة ما تعيشه بلدان "الربيع العربي" من تفكك وصراع وعودة الاستبداد بشكل أخطر . ومن أجل إغناء النقاش ، اعتبارا للمدة الزمنية المخصصة للحوار ، يمكن حصر محاوره في التالي :

أ ـ محور المرأة باعتبارها الخاسر الأكبر من هذا الربيع الذي عصف بحقوقها والمكتسبات التي حققت من قبل سقوط الأنظمة .
ب ـ محو ر وصول الإسلام السياسي إلى السلطة والتخطيط لامتلاكها واحتكراها .
ج ـ محور الإرهاب والتطرف الذي انتعش مع الثورة وغزا بلدانها حيث غدت هذه البلدان مجالا خصبا لأنشطة التنظيمات الجهادية .


1 ـ محور المرأة .

لا شك أن المرأة العربية كانت تتطلع من مشاركتها المكثفة والفاعلة في الثورة ضد الأنظمة السياسية المستبدة، إلى تحقيق مكاسب سياسية وحقوقية أوسع، لكنها فوجئت بالردة الحقوقية والحضارية التي رافقت الربيع العربي. وإذا كانت جائزة نوبل للسلام التي حصلت عليها توكل كرمان تقديرا واعترافا بالمشاركة الفعالة للنساء في الربيع العربي، فإن الواقع السياسي الذي أفرزته الثورة تنكر لها، ذلك أن العقبات التي تحجز التطور الطبيعي لحقوق النساء مازالت منتصبة، بل زادها الربيع العربي شدة وقوة بفعل حالة الانفتاح والحرية التي ضمنها لكل التيارات الدينية التي ظلت تنشط على هامش الحقل السياسي. ومن هذه المؤشرات السلبية، استغلال هامش الحرية الذي فتحته الثورة من طرف التيار الديني عموما.
ومعلوم أن التيارات الدينية تجعل موضوع المرأة أولى الأولويات، ليس من أجل تمكينها من حقوقها ورفع الظلم والتمييز عنها، بل من أجل مصادرة ما سبق، وتحقق من مكتسبات.
ففي مصر مثلا، حيث كانت المرأة في طليعة الثورة، صدر تقرير حقوقي عن مركز أولاد الأرض لحقوق الإنسان، كشف عن وجود ارتفاع حاد في العنف ضد المرأة بمصر بعد الثورة.
ويشكل العنف الأسري النسبة الأكبر، إذ بلغت نسبة حوادث القتل بسبب شبهة سوء سلوك المرأة 59.4 في المائة من إجمالي حوادث العنف في ستة أشهر، ويأتي الاغتصاب في المرتبة الثانية بنسبة 20 في المائة بسبب الانفلات الأمني. ويعمق من مخاوف النساء عن أوضاعهن الاجتماعية والحقوقية التصرفات والتصريحات الصادرة عن التيار الديني، ففي تظاهرة نظمتها النساء في 8 مارس 2011 لمناسبة اليوم العالمي للمرأة، أحاط بالمتظاهرات رجال غاضبون وقذفوهن بالحجارة بعد أن طالبوهن بالرجوع إلى المنازل والكف عن مطالبهن بحقوق المرأة بدعوى أنها تتنافى مع الشريعة الإسلامية. ولم تسلم كرامة المرأة من الانتهاك حتى من طرف الجيش الذي حمى الثورة، فقد ألقى الجيش المصري القبض على العشرات من المتظاهرات تم إخضاعهن لكشوف العذرية.
أما على الصعيد السياسي، فتم إقصاء المرأة من هيآت صناعة القرار الرئيسية، إذ لم يصل منهن إلى قبة البرلمان في الانتخابات البرلمانية سوى عدد لا يتجاوز أصابع اليدين، وما عقّد من الوضعية السياسية للنساء في مصر، وشطب فرصهن في الفوز بعضوية البرلمان، عاملان اثنان: أولهما قرار الجيش بإلغاء “الكوطة” المخصصة للنساء والتي كانت تضمن لهن 64 مقعدا في عهد مبارك، الأمر الذي شكل تراجعا على مستوى مشاركة المرأة في الحياة السياسية.
ثانيهما تشكيك الجماعات السلفية، التي فاجأت الجميع بتقدمها اللافت في الانتخابات، في الدور الذي يجب أن تلعبه المرأة في المجتمع. ومن الأساليب التي لجأ إليها حزب النور تعمده إخفاء صور النساء المرشحات ووضع صورا للورود بدلا منها، فضلا عن هذا كان وضع الحزب أسماء النساء المرشحات في مؤخرة القوائم بهدف تقليص فرصهن للفوز بمقاعد في البرلمان، بل حتى الأحزاب الليبرالية لم تخصص نسبة محترمة للنساء على رأس القوائم الانتخابية أو على الأقل ضمن المرشحين الثلاثة الأوائل وهذا ما دفع بالسيدة جميلة إسماعيل، الناشطة والسياسية المصرية، إلى الخروج من السباق البرلماني، بعدما علمت أنها لن يتم وضعها في المركز الثالث في قائمة دائرتها الانتخابية. فقد اشتكت في حوار تلفزيوني قائلة: «لقد كان لدينا دور مهم قبل وخلال وأثناء الثورة وليس ممكنا أن نقبل بهذا الوضع»، لكن الأخطر في هذه الردة الحقوقية والحضارية هو ما تناولته الصحافة بخصوص دعاوى قضائية رفعها محامون للمطالبة برجم الممثلة سمية الخشاب التي يتهمونها بترويج الفاحشة والإساءة إلى الدين. أما الدستور المصري الجديد فقد تجاهل التنصيص على حقوق المرأة ووضعها السياسي والأسري بأن حذفت اللجنة التأسيسية كل البنود التي كان حولها خلاف وتتعلق بالمرأة .
وفي تونس، وأمام فوز الإسلاميين بالانتخابات، شكلت النساء الناشطات جبهة 24 أكتوبر للدفاع عن حقوق المرأة التي ظلت تتمتع بها خاصة في مجال الزواج والطلاق وتنظيم النسل والحق في الإجهاض. ورغم فوز النساء في انتخابات المجلس التأسيسي بنسبة 23 في المائة من المقاعد في البرلمان، إلا أن التخوفات تساورهن خاصة بعد ما صدر عن التيار السلفي من ممارسات وفتاوى تستهدف حقوق النساء وكرامتهن.
وكان أخطر هذه الفتاوى ما روجه الداعية السلفي المصري وجدي غنيم في موضوع زواج القاصرات وختان الفتيات ؛ فالمجتمع التونسي لم يعرف ظاهرة ختان الإناث، وها هو التيار السلفي يستغل المساجد لنشر هذه الآفة التي هي انتهاك مقيت لحقوق الإناث.
وفي ليبيا، ما بعد القذافي، أثار تصريح مصطفى عبد الجليل، زعيم المجلس الانتقالي الوطني الليبي، بإلغاء القوانين التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وأن تعدد الزوجات، سيصبح قانونيا، وذلك في الاحتفال الرسمي بتحرير ليبيا في أكتوبر 2011، أثار جدالا وتخوفات كبيرة وسط النساء لما قد تعرفه ليبيا من تراجع عن الحقوق التي كن يتمتعن بها، علما أن تعدد الزوجات كان مشروعا من الناحية القانونية أيام حكم القذافي، إلا أنه لم يكن محببا، ولا تتم ممارسته على نطاق واسع في ليبيا.
أما في المغرب، فقد اعتبرت الحركة النسائية تعيين وزيرة واحدة في الحكومة التي يقودها حزب العـدالة والتنمية بعــدما كــانت المشاركة النسائية بلغت سبع وزيرات في آخر حكــومة، اعتبرته تراجعا خطيــرا يمس المكتسبات التي تحققت للمرأة، سواء في مدونــة الأسرة أو في الدستور الجـديد الذي ينص على مبدأ المناصفة.
ومن أجل الضغط على الحكومة لتفعيل بنود الدستور الجديد، نظمت الحركة النسائية وقفات احتجاجية أمام البرلمان، لكن الجدير بالذكر، في حالة المغرب، هو وجود ضمانات دستورية تحمى حقوق النساء، وتلزم أي جهة حكومية باحترام هذه الحقوق ؛ فضلا عن القوانين التي تنظم الأحوال الشخصية والمبنية على مبدأ المساواة والتكافؤ، إلا أن التعويل على القوانين وحدها لا يكفي لضمان تطبيقها ولحماية كرامة المرأة، ذلك أن المرأة في العالم العربي تعاني استلابا ثقافيا خطيرا تحتاج إلى أن تحرر نفسها منه كشرط لضمان انخراط فعال لها في الحياة السياسية والاجتماعية، فالمرأة، في الغالب الأعم، مازالت ضحية ثقافة ذكورية متسلطة تجردها من إنسانيتها، وتكرس دونيتها، بل المرأة نفسها تمارس القهر والدونية في حق نفسها وغيرها من الإناث على مستويات عديدة، بما فيها المستويات السياسية، خاصة في مجال الترشيح والتصويت. فالمرأة تمثل نصف الكتلة الناخبة، لكنها لم تتحرر بعد من تبعيتها للرجل، كما لم تستقل بعد بقرارها السياسي لتختار بحرية الجهة التي تصوت لصالحها، ويكون تصويتها نابعا من قناعتها بأهمية البرنامج الانتخابي وما يعد بتحقيقه للنساء من حقوق وكرامة ومساواة. ولا يمكن للمرأة أن تكون لها مشاركة فعالة وإيجابية في الحياة السياسية، إلا إذا تحررت من نفسها التي تعيد إنتاج ثقافة البداوة والدونية والشيطنة.

الثورة والاتجار الجنسي بالمرأة
تشكل المرأة المجال الخصب للفتاوى الفقهية على امتداد التاريخ الإسلامي . وما كتبه الفقهاء في المواضيع المرتبطة بالنساء ( الزواج ، الطلاق ، الحيض والنفاس ) لم يكتبوا نظيره في مجال السياسة أو الاقتصاد . فظلت المرأة تغري الفقهاء بالاجتهاد ليس لتحريرها من الظلم الاجتماعي والقهر القانوني اللذين تعاني منهما في كل المجتمعات الإسلامية ، بل لتكبيلها والتشديد في قهرها . فكلما تقدمت المجتمعات العربية /الإسلامية وانفتحت على قيم الحرية والعدل والمساواة وثقافة حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا ،كلما تفتقت عبقرية فقهاء البداوة وصاغوا اجتهادات هدفها الأوحد هو شرعنة الاستغلال الجنسي للمرأة باسم الدين الحنيف وتعاليمه السمحة التي ساوت بين الذكور والإناث في الكرامة والإنسانية والتكاليف الشرعية (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) . هكذا ظهرت فتاوى فقهية لم تعهدها المجتمعات العربية من قبل ، تكرس النظرة الجنسية للمرأة وتشجع على استغلالها الجنسي تحت مسميات غريبة أبرزها : زواج المسيار الذي تمنح فيه المرأة جسدها للرجل لتحقيق المتعة في مدة محددة مقابل مبلغ مالي ودون تبعات النفقة والمسكن والحضانة إن خالفت الاتفاق وأنجبت؛ ثم زواج المصْياف حيث يتخذ الرجل من المرأة مرافِقَة له لتلبية حاجاته الجنسية خلال عطلة صيفية يقضيها بعيدا عن أسرته . وكذلك زواج القعْدة (الجلسة) ويكون على هامش الاحتفالات العائلية كالأعراس ، حيث يعقد الرجل على أي امرأة أعجبته من بين المدعوات وتراضيا ، لمدة ليلة واحدة أو ساعة واحدة . فالغرض من هذه الزيجات هو شرعنة المتعة الجنسية للرجل . وهذا مخالف للشرع الذي جعل الزواج رباطا مقدسا مبنيا على المودة والسكينة . لكن الأخطر في كل الفتاوى التي تشرعن الاستغلال الجنسي للمرأة هي الفتوى التي تتداولها المواقع الجهادية وتنشرها على نطاق واسع بين النساء والفتيات في كل البلدان العربية . وتتعلق هذه الفتوى بالتحريض على نوع جديد وغريب من "الجهاد" ، لا هو جهاد بالنفس ولا جهاد بالمال ؛ إنه جهاد بالفرْج أو كما سماه الشيوخ "جهاد المناكحة" . وتنص هذه الفتوى على إجازة أن تمنح الفتاة نفسها للمقاتلين في سوريا وتمكنهم من حقهم الشرعي في المعاشرة الجنسية للرفع من معنوياتهم القتالية. ولا يخضع "جهاد المناكحة" لشروط العدة بعد الطلاق أو الولاية في الزواج أو الإشهار أو التوثيق وشهادة العدول ، بل يقوم المقاتلون من غير المتزوجين، أو من الذين لا يمكنهم ملاقاة زوجاتهم بإبرام عقود نكاح اعتبرتها الفتوى إياها "شرعية "مع بنات او مطلقات لمدة قصيرة لا تتجاوز الساعة يتم على إثرها الطلاق وذلك لإعطاء الفرصة لمقاتل آخر . بمعنى يمكن أن تتزوج الفتاة في اليوم عشرين مرة . وهذه مخالفة صريحة لقوله تعالى في سورة البقرة (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن )228 . طبعا لا يَهم منتجي هذه الفتاوى مدى مطابقة الفتوى لحكم الله ، بقدر ما يهمهم الاستغلال البشع لجسد المرأة وكيانها النفسي والروحي . وقد أضيفت إلى فتوى جهاد المناكحة فتوى أخطر منها تحت مسمى"فتوى المصاحبة" وتقضي أن يصاحب الجهاديون نساءهم إلى سوريا ليضعوهن رهن إشارة الجهاديين للاستمتاع بهن نظرا لقلة أعداد مجاهدات المناكحة وكثرة الجهاديين مما يؤدي إلى نشوب نزاع بينهم على النساء . كما صدرت فتاوى أخرى تجيز للجهاديين سبي النساء السوريات واغتصابهن بعد تحويلهن إلى جواري وملك اليمين .
وهذه الاجتهادات المُتَخَلفة تضع أصحابها في تناقض صارخ بين ما يعلنونه من تكريم الإسلام للمرأة وصيانة عِرضها وحمايتها من المتاجرة بجسدها ، وبين ما يشرعنونه من استغلال بشع لجسد المرأة وتجريدها من كل أبعادها الإنسانية والوجدانية والفكرية . فلم يَكْفِ الشيوخ إجازة تزويج الطفلات في سن صغيرة بدعوى أن الإسلام لم يحدد السن الأدنى للزواج ، حتى إنهم أباحوا الزواج من بنت الثلاث سنين أو أقل منها ؛ ولم يسألوا أنفسهم ولا ضمائرهم كيف يتحقق تكريم الفتاة باغتصاب طفولتها وافتراس جسدها وتعريض حياتها لكل أشكال المخاطر ؟ إن التعامل مع المرأة كموضوع جنسي هو ما يميز فقه البداوة الذي تنشره الحركات الدينية على اختلاف أطيافها . وقد أشرعت عواصف "الربيع العربي" كل المنافذ لمثل هذه التنظيمات لتعيث فسادا في الدين والأوطان والإنسان . وصارت تونس إحدى ضحايا شيوخ الفتن ، فمن محرض على ختان الإناث وهي العادة التي لم تعهدها تونس عبر تاريخها ، ومن داع إلى وضع تشريع يسمح بامتلاك الجواري والزواج من ملك اليمن .
لقد اثبتت المرأة العربية أنها لا تقل وطنية وإصرارا على محاربة الاستبداد من الرجل . فكان حقا لها أن تظفر بمكاسب حقوقية وسياسية وثقافية تخرجها من وضعية التبعية وتحررها من مثالب الظلم الاجتماعي . لكن الذي حدث من افرارزات تشريعية وممارسات اجتماعية جعل الدكتورة نائلة السيليني التونسية تعلن ــ في ورقة عمل قدمتها بالمنتدى النسوي الإقليمي الثاني الذي عقد بعمان في فاتح فبراير 2013 ــ أن «ربيعنا لم يزهر ولم يخضر ولم ينور» . ولعل السيدة السيليني لا تنطق عن هوى أو جهل وهي التي خبرت الواقع التونسي ورصدت تحولاته في ظل ثورة عمياء تثير النقع وتردم المكتسبات . ثورة هدمت استبدادا وفسحت المجال للتيار الديني لإقامة ما هو أسوأ منه . وطبيعي أن تكون المرأة أولى ضحايا التيار الديني الذي حملته الثورة إلى الحكم وقدمت له السلطة على طبق من ذهب . فمواقف التيار الديني من المسألة النسائية ومطالبها معروفة وثابتة لأنها من صميم عقائده لا تبديل فيها ولا تغيير . وما قدمه الإسلاميون من وعود باحترام المكتسبات وتوسيع حقوق النساء لست سوى "وعود عرقوب" ، سرعان ما انكشف الخداع وظهر التلبيس . فتونس التي كانت فيها المرأة أوفر حظا في الحقوق والمكتسبات منذ العهد البورقيبي وتأصيلات ابن عاشور لمبدأ المساواة والمناصفة ، باتت عاجزة حتى عن فرض الإقرار دستوريا بمبدأ المساواة بين المرأة والرجل لصالح مبدأ التكامل بين الجنسين . لم تعد المرأة مساوية للرجل بل مكمّلة له . الأمر الذي يضعها موضع التبعية وينزلها درك الدونية وهي التي مثلت النموذج الأرقى على مدى عقود خلت . فتونس الثورة تعيش ردة حقوقية بعد أن فتحت مساجدها لفقه البداوة الذي يروج له شيوخ التشدد ويحرضون على زواج القاصرات وختان الإناث الذي لم تعهده البيئة التونسية أبدا . ورغم الحضور العددي للنساء الإسلاميات في المجلس التأسيس إلا أنه حضور سلبي وغير فاعل لأنه ، كما قالت السيدة نائلة السيليني «لا جدوى من التمثيل النسائي مع حزب ديني لا يخرج صوت المرأة عن صوت الجماعة ». وكل ما نظّر له الشيخ الغنوشي في مجال حقوق المرأة وأهليتها السياسية لم تكن له امتدادات في مسودة الدستور ولا في الخطاب الديني الذي يروج له داخل المساجد . ذلك أن أصواتا عدة تعالت بالترخيص لزواج القاصرات وملك ذات اليمين ، ومنها صوت البحيري الجلاصي رئيس حزب الانفتاح والوفاء الذي طالب المجلس التأسيسي بالتنصيص دستوريا على "حق كل تونسي في اتخاذ جارية إلى جانب زوجته ، والتمتع بما ملكت يمينه" . وهذا مسعى للانقلاب على كل المكتسبات بدعوى "إعادة التوازن الاجتماعي والأخلاقي للمجتمع التونسي الذي تضرر بعلمانية مجلة الأحوال الشخصية ، وعانى على مدى خمسة عقود من الزمن من تجريم تعدد الزوجات " . لكن الفظيع هو اقتناع عدد من الفتيات بـ"جهاد المناكحة" فشددن الرحال إلى أرض سوريا . كل هذه التراجعات حملت لقاحها عواصف الثورة وأذرتها على امتداد أزهار"الربيع العربي" فتفتقت تشريعات ألغت "قانون سوزان" في مصر وأشاعت ختان الإناث قبل وبعد الطعن الذي تقدم به محامون إسلاميون أمام المحكمة الدستورية العليا لإلغاء قرار وزير الصحة 271 لسنة 2007 القاضي بتجريم ختان الإناث ، ومنع الأطباء من القيام بأي عمليات جراحية تخص الجهاز التناسلي للإناث . في حين أن الفصول المتعلقة بالمرأة وحقوقها ووضعها الأسري فتم شطبها من الدستور . أما في ليبيا فقد أفرزت قانونا يشيع التعدد دون شروط أو قيود ؛ وهذا أول الغيث في انتظار استقرار الأوضاع الأمنية . ولا يشذ اليمن عن بقية مُرُوج الربيع الرعبي في شرعنة زواج القاصرات وإشاعته على أوسع نطاق رغم تكاليفه البشرية والاجتماعية والنفسية . إذ وفقا لتقارير رسمية توجد 8 حالات وفاة يوميا بسبب زواج الصغيرات والحمل المبكر والولادة في ظل غياب المتطلبات الصحية اللازمة. وكأن الثورة جاءت لتكرس وضعا مأساويا في اليمن وتزيد في تعقيده لدرجة أن هذا البلد بات يحتل ــ وفق تقرير أصدره المركز الدولي للدراسات لسنة 2012 ــ المرتبة الـ 13 من بين 20 دولة صُنفت على أنها الأسوأ في زواج القاصرات، حيث تصل نسبة الفتيات اللواتي يتزوجن دون سن الثامنة عشرة إلى 48,4 بالمائة. وتسعى الثورة إلى تعميم المأساة على بقية "المروج" . ولعل جرائم التحرش الجنسي والاغتصاب الممنهجة والمنظمة ، التي طفحت بها الميادين هي من فظاعات الثورة ، لدرجة أن "فوكس نيوز" العالمية لم تتردد في اتهام جماعة الإخوان المسلمين بتأجير العصابات لتنفيذ جرائم الاغتصاب الجماعي كأسلوب لترهيب الفتيات ومنعهن من المشاركة في الاحتجاجات ، وذلك بمباركة مجلس الشورى الذي حمل النساء وحدهن مسئولية الاغتصاب الذي يتعرضن له بسبب خروجهن في المظاهرات . وكانت لهذه المباركة ترجمتها في إصدار مسودة قانون حماية التظاهر السلمي الذي تعده وزارة العدل المصرية بدل إصدار قانون مستقل لتجريم التحرش بكل أشكاله ، على اعتبار ألا علاقة بين منع التحرش وقانون التظاهر . وفي الربط بينهما إحالة على موقف مجلس الشورى الذي جعل التحرش والاغتصاب نتيجة لتظاهر النساء .

 

2 ـ محور وصول الإسلام السياسي إلى السلطة والتخطيط لامتلاكها واحتكراها .


تعيش مصر وتونس لحظات عصيبة لا يمكن التكهن بالمآل الذي ستنتهي إليه التجربة الحالية في بلاد "الثورة" التي كسرت أغلال الاستبداد وحررت الرقاب من قبضة أنظمة تجاهلت تطلع مواطنيها إلى الحرية والعدالة والديمقراطية . "ثورة" أشاعت الآمال في المستقبل وحرضت على امتلاكه . حين اندفعت جموع الشباب إلى الشوارع والساحات العمومية كانت تعرف "العدو" الذي وحّد أطيافها على إزاحة نظامه وإسقاط حكمه . وكمعظم الثورات ، لم تنج الثورة في مصر وتونس من مكر التاريخ ، حتى وهي في مهدها . وكان أمرا طبيعيا ، بله حتميا بالنسبة لكل ثورة تفتقد القيادة المتبصرة أن تعيش لحظة التيه بعد إسقاط النظام . فالثورة العمياء تحسن التدمير لكن تفشل في البناء . فهي تعرف النظام المقصود بالتدمير شكلا وصورة ، لكنها متنافرة حول معالم النظام البديل . جميع الثوار وحدوا جهودهم ضد نظام مبارك ورموزه ، فتخلوا عن قناعاتهم الإيديولوجية ومشاربهم الفكرية. وتلك كانت خطيئة الثوار الذين جعلوا كل همّهم إسقاط النظام ومحاكمة رموزه ،دون الانتباه إلى أن من سلموه القياد التحق بالثورة ورَكِبها ؛كما غاب عن وعيهم أن من لم يفجّر الثورة سيسهل عليه تحريفها ، ومن ثم سرقتها . لهذا كانت غلبة العاطفة على الثوار ونشوتهم بإسقاط النظام مصدر اطمئنان إلى أن الحليف الإسلامي الذي نال حظه من بطش النظام وعانى من الإقصاء ، سيكون خير سند لبناء نظام بديل يضمن للجميع كرامتهم ويفتح أمامهم آفاق الحرية والديمقراطية . وقد غذى هذا الاطمئنان حسن الظن بالمحيط الإقليمي وإعلان بعض دوله عن الدعم اللامشروط للتجربة الوليدة . كما أن الشعارات التي رفعها الإخوان في مصر وحتى تونس ، كانت تغري بالمشاركة بدل المغالبة ، وبالتوافق بدل الصراع بين كل القوى السياسية باستثناء بقايا النظام المنهار المصنفون بـ "الفلول" . وهاهي مجريات الأحداث تثبت أن حسن النية لا يكفي لإنجاح الثورة ، وأن من الحزم سوء الظن . ذلك أن نجاح الثورة لا يقاس بإسقاط النظام ، وإنما بمدى التزام النظام البديل بأهداف الثورة وشعارات الثوار ومطالبهم . وفي التجربة المصرية والتونسية معا لا خلاف بين الشعارات والمطالب الموحدة حول الديمقراطية والحرية والكرامة . ولو أن الثوار أصاغوا السمع لخلفيات النقاش حول الطبيعة الدينية أو المدنية للدولة ما بعد سقوط النظام ، لأدركوا أن الحليف الإسلامي له مشروعه وخططه وتكتيكاته تختلف جذريا مع مشروع القوى الثائرة وبقية الأطراف السياسية والمدنية . فالثورة قامت ضد الأنظمة الشمولية لإسقاطها وليس لإقامة أنظمة أشد استبدادا وتغولا منها . ومن إيجابيات التجربة الحالية في مصر وتونس أنها كشفت عن التالي :

1 ـ زيف شعارات الإخوان حول الديمقراطية والمشاركة والحرية . وقد اتضح هذا لما أخلف الإخوان وعودهم بعدم الترشح للرئاسة في مصر فرشحوا ، ولما أصدر الرئيس مرسي إعلانه الدستوري يحصنه من كل مساءلة أو متابعة . ثم نكثوا وعدهم بالمشاركة لما فرضوا المغالبة على بقية المنافسين : في انتخاب اللجنة التأسيسية ، وفي صياغة الدستور وتمريره ، وفي تحديد موعد الانتخابات التشريعية ووضع القوانين المنظمة لها الخ.


2 ـ هيمنة الإخوان على السلطة والدولة بشكل أفظع وأخطر مما فعل النظام المنهار . فبعد فرض دستور "مسلوق" وسحل المواطنين في الشارع ، وتعذيب الثوار وقتلهم في الشارع مثلما فعل مبارك وأفظع . كل همهم أخونة الدولة والمحافظة على السلطة . وهذا يذكرنا بالحوار بين ونستون وأوبراين في رواية 1984 حين قال أوبراين لونستون الذي تحت التعذيب ( إننا ندرك أنه ما من أحد يمسك بزمام السلطة وهو ينوي التخلي عنها . إن السلطة ليست وسيلة بل غاية . المرء لا يقيم حكما استبداديا لحماية الثورة ، وإنما يشعل الثورة لإقامة الحكم الاستبدادي ) . وكذلك هو حال الإخوان في مصر وتونس ، التحقوا بالثورة لإقامة الحكم الاستبدادي . ففي ظرف ثمانية شهور عين مرسي ما لا يقل عن 3000 عضو إخواني في أجهزة الدولة ضمن مخطط الأخونة .


3 ـ افتقار الإخوان إلى برنامج حكومي متكامل يقدم الحلول للمشاكل التي تتخبط فيها الدولة .فالشعارات لا تحل المشاكل ولا تطعم الجياع . وبدل أن يوحد الإخوان الشعب ويحافظوا على لحمة نسيجه المجتمعي مزقوه طوائف حتى باتت وحدة مصر الترابية مهددة فعليا بالتقسيم كما هي وحدتها المجتمعية . فضلا عن حالة الانهيار الاقتصادي التي تكاد تجبر الحكومة إما على تأجير أهراماتها لقطر مقابل 200 مليار دولار لمدة خمس سنوات لتدارك الأزمة وتوفير الرغيف ، أو الرضوخ لإملاءات الدوائر المالية الدولية ، وفي الحالتين معا مس بالسيادة المصرية على تراثها وقرارها .


4 ـ إن مشاكل مصر وتونس هي من التعقيد والصعوبة ما تشفق منها وتنوء بها قوة سياسية أو حزبية واحدة . وقد أدركت حكومة تونس بقيادة النهضة هذه الحقيقة متأخرة إثر اغتيال شكري بلعيد ، وبعد أن وصلت تونس حافة الانهيار، فاضطرت إلى الاستعانة بالتقنوقراط ؛ بينما حكومة الإخوان في مصر لازالت تكابر وتعاند ولن تدرك الحقيقة إلا بعد أن يتجزأ الوطن إلى دويلات أو تفقد الدولة سيادتها على التاريخ والتراث والقرار والقناة . وصدق حس سائق الطاكسي المصري لما أخبر الصديق والشاعر صلاح الوديع بأن مصر "بازت" . لقد سقطت الأقنعة عن الإخوان بعد سقوط الأنظمة التي كانت تضفي باستبدادها مشروعية على شعاراتهم حتى جعلت منهم الأمل الوحيد لإنقاذ الشعوب من الاستبداد والفقر . فهاهم الإخوان يرهنون مصر لجهات خارجية .
لقد صادر الإخوان حلم المصريين في الحرية والكرامة والديمقراطية ، بل هم بصدد فرض نظام سياسي اشد استبدادا وبطشا من النظام السابق . وما تشهده ميادين التحرير من سحل وقتل وتعذيب داخل المساجد وفي الشوارع ينبئ بأن الآتي أسوأ . الاقتصاد منهار ، البطالة في تفشي خطير ، الأمن منعدم ، والميليشيات تتصدى للمتظاهرين في كل مكان .


وإذا كانت الحكومات العربية التي حملها الحراك الشعبي ، أو ما بات يعرف "بالربيع العربي" إلى السلطة ، تشتغل في ظروف سياسية غاية في التعقيد ، على اعتبار أنها تخوض معركة التأسيس في بعده الدستوري (وضع دستور جديد ) كما في بعده السياسي ( تحديد طبيعة النظام السياسي )؛ فإن الحكومة المغربية تشتغل في إطار مغاير تماما ، بحيث لا تحمل أعباء وضع الدستور ولا تبعات تحديد النظام . فكل مسئوليتها منحصرة في التطبيق الديمقراطي والسليم للدستور الجديد الذي يمنحها صلاحيات لم تكن لسابقاتها . وهي معركة يسيرة إذا قورنت بالمعارك التي تواجهها وتخوضها حكومتا تونس ومصر . ومن حسن حظ الحكومة المغربية التي يقودها حزب العدالة والتنمية الإسلامي أنها لا تعمل في فراغ سياسي أو دستوري ولا تنطلق منه ؛ بل تشتغل في إطار الاستمرارية (استمرارية النظام ، الدولة ، القوانين ، الدستور ) . وهذا الوضع جعلها في أحسن حال ، لأن انتظارات المواطنين في المغرب من الحكومة هي أكثر تواضعا من مثيلاتها في مصر وتونس حيث نسبة البطالة والغلاء والجريمة والانفلات الأمني والفقر والتضخم وعجز الخزينة فاقت حدود المعقول والممكن . الأمر الذي يجرد الحكومة المغربية من أي عذر تعلق عليه قصورها أو فشلها . فأي مسار تنهجه الحكومة إذن؟ مما لا شك فيه أن المائة يوم من عمر الحكومة لا تسمح بتقييم أدائها بشكل موضوعي ودقيق ، لكنها تسمح بتكوين انطباع عام عن المنحى الذي تسير فيه . وكلما كانت المقدمات والبدايات سليمة كانت النتائج والخواتم أيقن وآمن . فما المقدمات والعناصر التي تحكمت في الانطلاقة الأولى للحكومة ؟ يمكن التركيز على العناصر التالية :

1 ـ إن رئاسة الحكومة (حزب العدالة والتنمية ) لم تتخلص من إرث الماضي وثقله ، فظل هاجسها التطهر منه وإثبات حسن السلوك والطوية للنظام الملكي الذي نازعته الحكم والشرعية وهددت استقراره عند النشأة الأولى التي جسدتها حركة الشبيبة الإسلامية . لهذا حرصت قيادة الحكومة على التنازل على جزء من صلاحياتها الدستورية لفائدة الملك ، مما يكرس "الملكية التنفيذية" . ونزعة "الاستبراء" هذه ستؤثر مباشرة على "التنزيل" الديمقراطي للدستور ( حزب العدالة والتنمية يستعمل مفهوم التنزيل فيما القوى السياسية والحقوقية تستعمل مفهوم التطبيق ) ، مما سيعقد مهمة الحكومات القادمة بسبب القوانين التنظيمية التي ستضعها الحكومة الحالية لملء الفراغات التي تركها الدستور في مجال تحديد اختصاصات الملك واختصاصات رئيس الحكومة (رفعت عدد القطاعات الاستراتيجية التي هي يشرف عليها الملك من 17 كما ينص الدستور إلى 36 قطاعا ). من هنا تكون معركة الحكومة ليس وضع الدستور ولكن تطبيقه .

2 ـ التراجع في مستويات عديدة : سياسية ، حقوقية ، أمنية اجتماعية الخ . وتكفي هنا الإشارة إلى التالي :
أ ـ تعيين امرأة واحدة ضمن التشكيلة الحكومية بعد أن كن ثمانية في آخر حكومة . الأمر الذي اعتبرته الحركة النسائية تراجعا خطيرا يمس بالمكتسبات التي ناضلت من أجلها ، كما يتعارض مع بنود الدستور الذي ينص على مبدأ المناصفة . إنها أول خطوة تقدم عليها الحكومة تأتي مناقضة لنص الدستور وروحه. وهذا ما جعل التيار ألديمقراطي/ الحداثي يتحرك عبر تشكيل سلسة من الهيئات والجمعيات غايتها هيكلة هذا التيار وتجميعه في إطارات ضاغطة لا تترك للحكومة فرصة التراجع عن المكاسب الحقوقية والسياسية . وفي هذا الإطار انعقد بمدينة الدار البيضاء يومي الجمعة 16 والسبت 17 مارس 2012 لقاء دولي نظمته «مجموعة الديمقراطية والحداثة» ، حيث أوصى المشاركون بالإجماع « بتشكيل لوبي حداثي ضاغط على البرلمان والحكومة من أجل إقرار حرية المعتقد دستوريا». كما خرج اللقاء بعدد من التوصيات حاولت رسم علاقة حقوق المرأة بالدين ، والدعوة إلى إعادة النظر في كل الترسانة القانونية الوطنية على أساس بنائها وفق مبدأ المواطنة وليس على قاعدة العقيدة ، خصوصا فيما يتعلق ببنود مدونة الأسرة الخاصة بالزواج وضرورة التأكيد على أن المرأة المسلمة من حقها الزواج من غير المسلم.
و إقرار حق المرأة في الإجهاض. و فيما يخص فصل السلط السياسية والدينية، طالب المشاركون بحيادية الدولة اتجاه كل الأديان، مع فصل نهائي للدائرة السياسية عن الدائرة الدينية. وأوصى المشاركون في هذا السياق، بإعادة النظر في كل القوانين و إدخال تعديلات جوهرية في المقررات الدراسية في اتجاه إدخال نصوصا «تنويرية» .
ب ـ اقتطاع أيام الإضراب حيث قررت الحكومة اتخاذ إجراءات قانونية أشد صرامة من خلال تقنين الإضراب الذي سيجعل اللجوء إليه أكثر تكلفة ، ليس فقط فيما يتعلق بالاقتطاع من الأجور ، ولكن بتعريض المضربين إلى الطرد والتشرد ، لأن القوانين المنظمة للإضراب التي ستضعها الحكومة سيكون من أهدافها تعقيد المساطر الإدارية أمام النقابات إذا ما اضطرت إلى خوض الإضراب . وفي حالة خرق هذه المساطر سيكون الإضراب غير قانوني ، ومن ثم للجهات المشغلة الحق في طرد المضربين . ولا شك أن إعلان الحكومة عن قرار الاقتطاع من أجور المضربين هو مقدمة لما سيأتي من بعد عند وضع القانون التنظيمي للإضراب . والتلويح بالاقتطاع أو تطبيقه كما يحدث في بعض القطاعات ، لن يحل المشكلة بل سيزيدها تعقيدا ،لأن النقابات لا تلجأ إلى الإضراب إلا بعد أن تستنفذ كل الوسائل. فالإضراب ليس هدفا في حد ذاته وإنما هو وسيلة لممارسة مزيدا من الضغط على الباطرونا أو الجهة المشغلة .وكان أولى بالحكومة أن تنكب على دراسة المشاكل في إطار جو من الثقة والتعاون عوض كهربة الأجواء وتوتيرها . فالعمال ليس لهم ما يخسرونه وقد اعتادوا على شظف العيش .
ولا شك أن التهديدات التي تلوح بها الحكومة من شأنها أن تشحن النفوس وتوتر الأجواء ؛ الأمر الذي سيعصف بكل الجهود والوعود التي أعطيت من أجل تحقيق السلم الاجتماعي . وهذا يضع الحكومة في حالة تناقض مع التوجهات الاجتماعية التي تضمنها البرنامج الحكومي . فكيف لها أن تخدم الجانب الاجتماعي وهي بصدد اتخاذ إجراءات زجرية تضييقية في حق الشغيلة ؟ كيف ستتصرف الحكومة في حالة قررت معظم النقابات الدخول في مسلسل تصعيدي يهدد الاقتصاد الوطني بالسكتة القلبية كما يهدد الوضع الاجتماعي بالانفجار ؟
ج ـ الإفراط في استعمال القوة لمواجهة الاحتجاجات الاجتماعية ، علما أن حزب العدالة والتنمية تغذى تنظيميا على هذه الاحتجاجات في السنوات المنصرمة التي مارس خلالها معارضته لسياسة الحكومات المتعاقبة . وكان من المفروض في الحكومة أن تقدم تجربة نوعية في التعامل مع الاحتجاجات بعيدا عن أسلوب القمع ، على اعتبار أن الاحتجاجات لا تخرج عن طابعها السلمي وتظل ملتزمة بمطالبها الاجتماعية . وبسبب الإفراط في استعمال القوة انفجرت الأوضاع الأمنية في عدد من المدن الهامشية والمهمشة ( تازة ، بني ملال ، بني بوعياش ) لدرجة أن الانتقادات صدرت حتى من داخل الحزب الذي يقود الحكومة . فقد قال خالد الرحموني عضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية وعضو لجنته السياسية ، في تصريح لـ"هسبريس" إن العنف الموجه ضد المعطلين تحول من إجراء معزول جاء في إطار شعار "استعادة هيبة الدولة" الذي رفعته الحكومة بشكل "غريب"، إلى إجراء ممنهج على الحكومة أن توضح ماذا تريد به، وإلا كان سببا في اشتعال النار في وجهها). وتثير طريقة الدولة في التعامل مع الاحتجاجات الشعبية انتقادات واسعة في صفوف تنسقيات المعطلين وتنسيقيات الأحياء والمدن المهمشة ، كما حملت هيئات حقوقية وسياسية مغربية على التفكير في إيجاد إطار مدني يحمل اسم "جبهة الدفاع عن الحقوق والحريات" للضغط على الدولة ووقف الخيار الذي تسير فيه الحكومة والمتسم بـ" التراجعات الخطيرة التي يعرفها المشهد المغربي، والمتمثلة أساسا في عودة الدولة إلى موجة الاعتقالات السياسية بسبب الرأي، التعذيب في مخافر الشرطة، وتعنيف وترهيب نشطاء الحراك الشعبي، وضرب علنية المحاكمات، والتضييق على معتقلي الرأي بالسجون"، حسب نص البيان الذي اصدرته الجبهة .

3 ـ التردد وغياب الجرأة السياسية في التصدي لاقتصاد الريع ومواجهة المنتفعين منه . فقد بادرت رئاسة الحكومة ممثلة في عبد الإله بنكيران الذي أعطى الضوء الأخضر لوزير التجهيز بنشر لائحة المستفيدين من رخص النقل الخاصة بالحافلات . وقد استبشر المواطنون خيرا من هذه الخطوة واعتبروها "الخطوة" الأولى في مسافة الألف ميل التي ستليها خطوات أكثر أهمية لا تنتهي عند الكشف عن لائحة "صغار" المنتفعين ، وإنما تكشف للرأي العام الوطني أسماء المستفيدين من رخص : الصيد في أعالي البحار ، المقالع ، المناجم الخ . إلا أن عددا من وزراء الحكومة خاصة المنتمين لحزب العدالة والتنمية ، اكتفوا بنشر لائحة صغار المستفيدين من رخص النقل ، ولائحة الجمعيات التي تستفيد من الدعم الخارجي أو دعم الدولة ، وانتهاء بلائحة الصحف والجرائد الوطنية التي تستفيد من دعم الدولة . فغابت الجرأة كما ساد التردد بين أعضاء الحكومة فيما يتعلق بنشر لوائح كبار المنتفعين من اقتصاد الريع الذي رفع حزب العدالة والتنمية شعار محاربته ، بل أسس برنامجه الانتخابي والحكومي على مواجهته لتوفير موارد مالية هامة لخزينة الدولة ستمكن الحكومة من الوفاء بالتزاماتها الاجتماعية ( التشغيل ، الصحة ، التعليم ومحاربة الهشاشة ) ؛ خصوصا وأن الوعود التي قدمها حزب العدالة والتنمية خلال حملته الانتخابية كانت جد مغرية ، بحيث ترجمت فئة واسعة من الناخبين رضاها إلى أصوات لصالح مرشحي الحزب إياه فحصل على 107 مقعد من أصل 395 . فالمواطن المغربي لا تهمه لائحة المستفيدين من اقتصاد الريع بقدر ما تهمه الإجراءات اللازمة التي ستتخذها الدولة لمحاربة هذا النوع من الاقتصاد الذي سبق لملك المغرب أن حرض على بذل كل الجهود للقضاء عليه ، كما هو وارد في خطاب 20/8/2008 (لذا يتعين على الجميع، التحلي باليقظة والحزم، للضرب بقوة القانون، وسلطة القضاء المستقل، وآليات المراقبة والمحاسبة، على أيدي المتلاعبين والمفسدين، لاسيما عندما يتعلق الأمر بقوت الشعب، والمضاربات في الأسعار، واستغلال اقتصاد الريع، والامتيازات الزبونية، أو نهب المال العام، بالاختلاس والارتشاء، واستغلال النفوذ والغش الضريبي.). فالحكومة ملزَمة بنص الدستور وتوجيهات الملك ومطالب الشعب بالتصدي الحازم لكل مصادر استنزاف المال العام ، وفي مقدمتها اقتصاد الريع . فماذا استفاد المواطن وماذا استرجعت خزينة الدولة بعد إعلان الوزراء إياهم عن لائحة المستفيدين من الدعم المالي ومن رخص النقل ؟ لماذا لا تعتمد الحكومة إستراتيجية واضحة وصارمة للتعامل مع كل المنتفعين أيا كانت مراكزهم الاجتماعية أو السياسية أو العسكرية ؟ إن الحكومة مطالبة بنهج الوضوح وامتلاك الجرأة السياسية لمحاربة اقتصاد الريع ، وإلا ستدخل مبادرة وزير التجهيز ضمن "الشعبوية" التي يراهن عليها حزب العدالة والتنمية للفوز بالانتخابات المحلية والجهوية المقبلة .
د ـ الحفاظ على الامتيازات والتعويضات الخيالية لفائدة الموظفين السامين . فالحكومة أعلنت على لسان رئيسها أنه لن يخفض من هذه الرواتب والتعويضات ؛ علما أن خزينة الدولة لا تتحملها بسبب العجز التجاري الذي تعاني منه ، والذي يهدد المغرب بالانفجار الاجتماعي لأنه ينعكس سلبا على القطاعات الاجتماعية . إذ بلغ العجز التجاري لسنة 2011 ما مبلغه 186 مليار درهم . فهل يعقل أن تظل خزينة الدولة تتحمل الامتيازات والتعويضات لفائدة الموظفين السامين (مثال : نشرت بعض الصحف أن وزير المالية يتلقى تعويضا بمبلغ 600 مليون سنتيم دون احتساب راتبه )؟ وكان أولى بالحكومة أن تتصدى للرواتب والتعويضات الخيالية التي تثقل الخزينة العامة ، كما كان على وزراء حزب العدالة والتنمية أن يقرروا التنازل عن جزء من رواتبهم وكذلك نوابهم البرلمانيين ليكونوا قدوة في مجال الحفاظ على المال العام . ذلك أن العضوية في البرلمان أو الحكومة هي خدمة تطوعية وليست وظيفة تتحول إلى ريع سياسي . وكما أرجع الحزب الأموال التي فضُلت عن مصاريف الحملة الانتخابية إلى خزينة الدولة ، وهي خطوة محمودة ، ورفضت وزيرته الوحيدة السفر على نفقة الدولة في الدرجة الأولى بالطائرة اقتصادا في النفقات ، وقبلها رفض نوابه البرلمانيون أداء مناسك الحج على نفقة الدولة ، كان عليه أن يخفض من أجور وتعويضات أعضائه في الحكومة والبرلمان ليكونوا مثالا يحتذى .

هـ افتعال معارك هامشية لا تخدم الاستقرار السياسي من قبيل محاربة المهرجانات الفنية والثقافية والمطالبة بمنعها . في حين أن المعركة الحقيقية التي ينبغي للحكومة خوضها بشجاعة هي المعركة ضد اقتصاد الريع والتهرب الضريبي والرشوة واستغلال النفوذ . وهذه الآفات تضيع على خزينة الدولة مبالغ مالية كبيرة ( الرشوة تحرم الخزينة من نسبة 2 بالمائة من الناتج الوطني الخام) من شأن استرجاعها أن يوفر للدولة الاعتمادات الضرورية لتنفيذ البرامج الاجتماعية ومحاربة الفقر والهشاشة .
د ـ السعي إلى أسلمة الدولة عبر التحكم في وسائل الإعلام السمعية والبصرية ، حيث عمدت وزارة الاتصال إلى وضع دفتر للتحملات يلزم القناة الثانية 2M بإذاعة الأذان وصلاة الجمعة ، فضلا عن وضع برامج دينية وحذف إشهار اليانصيب والمسلسلات المدبلجة باللهجة العامية . وما ينبغي أن تستحضره الحكومة هو أن التشدد من شأنه أن يدفع جمهور القناتين إلى مزيد من هجرتهما نحو الفضائيات الأجنبية بحثا عن التسلية والفائدة . فالمشاهد بحاجة إلى قنوات وطنية تعكس همومه وتعبر عن طموحاته ، كما تتصدى لأوضاعه الاجتماعية والسياسية بالتحليل والنقد ، وتزوده بالمعلومة الدقيقة التي تخص الحياة الوطنية حتى تغنيه عن طلبها من مصادر إعلامية خارجية/أجنبية . فالمواطن ليس بحاجة إلى إذاعة الأذان بقدر ما هو بحاجة إلى برامج حوارية وندوات تحليلية تتصدى لمختلف القضايا التي تهم الرأي العام الوطني .
لقد حافظ المغرب ، إلى الآن ، على تميزه باختيار التغيير ضمن الاستمرارية . ومن أجل ضمان إنجاح هذا الخيار ، يتعين على الحكومة أن تستجيب لتطلعات وانتظارات المواطنين حتى تقنعهم بأن التغيير لا يقتضي بالضرورة تقديم شهداء أو قلب الأنظمة . فالمواطنون المغاربة يتطلعون إلى المساواة والكرامة ومحاربة الفساد واقتصاد الريع وعدم الإفلات من العقاب . وهذه الانتظارات تتطلب من الحكومة إرادة سياسية وشجاعة أدبية . فالمواطن يصبر على الجوع لكنه لن يصبر على الظلم و"الحُكْرة" . فهو يعرف أن إمكانات المغرب وموارده محدودة ، إلا أنه لن يقتنع بأن الظلم الاجتماعي قضاء وقدر . لهذا على الحكومة ألا تدفع المواطنين إلى الاقتناع بأن الخيار الثالث الذي سلكه المغرب هو خيار خاطئ ؛ وبالتالي يبقى خيار الثورة هو الأنسب ، خصوصا إذا قدمت التجربة التونسية نموذجا أكثر عدالة وديمقراطية . من هنا يمكن الجزم بأن استقرار المغرب هو مسئولية الحكومة التي عليها أن تُنجِح التجربة وتطمئن المواطنين على مستقبلهم .


3 / محور الإرهاب والتطرف .


قبل الحراك السياسي الذي عرفه العالم العربي تحت مسمى "الربيع العربي" ، كانت أنشطة التنظيمات الإرهابية محصورة في المناطق التقليدية التي ارتبطت بمواجهة الغزو الأمريكي ( أفغانستان ، العراق ، الصومال واليمن ) . وحين اندلعت الاحتجاجات الشبابية وسقطت أنظمة الاستبداد في تونس ومصر ثم ليبيا واليمن ، اعتقد كثير من المهتمين بالتنظيمات المتطرفة ، أن مصيرها ومصير تنظيم القاعدة إلى زوال بعد أن أدركت الشعوب العربية أن إسقاط الأنظمة لا يتطلب ممارسة العنف وحمل السلاح مثلما تدعو التنظيمات المتطرفة ، بل ثورة سلمية كافية لإسقاط النظام . فشا هذا الاعتقاد فشوا بين معظم الباحثين والمهتمين ، وسرعان من تبين للجميع أن "الربيع العربي" أعطى دفعة قوية لهذه التنظيمات وفتح لها المجال لتمارس أنشطتها الحركية أو الجهادية بكل حرية بعد أن مكّنها من السلاح بمختلف أنواعه التي كانت تضيق بها مخازن القذافي . وبفضل هذه الأسلحة سيطر تنظيم القاعدة على شمال مالي وأقام قواعد له على أرض تونس .
فمنذ اندلاع ثورة الياسمين في تونس والتي انتهت بسقوط نظام الرئيس بنعلي، والتيار الجهادي ، يسعى للعب أدوار داخل المجتمع والدولة التونسيين . وقد استفاد هذا التيار من أجواء الحرية التي فتحتها الاحتجاجات الشعبية ، وحاول المتشددون منه فرض تصورهم وقناعتهم على الدولة والمجتمع معا . فكانت البداية بالهجوم على عميد كلية منوبة الذي رفض تسجيل طالبات منقبات ، ثم منعوا الدراسة بها على مدى ثلاثة شهور توّجوها بإنزال العلم التونسي ووضعوا مكانه علم تنظيم القاعدة ، في إشارة إلى الولاء والتبعية له .
هكذا بدأ تغول التيار الجهادي ، خصوصا بعد أن بات يتحكم في بعض مساجد تونس ، حيث طرد الأئمة الرسميين ونصب مكانهم أئمة ينشرون عقائده ويدعون إلى ما يدعو إليه ، فازداد سطوة وعنفا عطلا كل قرارات وبلاغات وزارة الشؤون الدينية .
ولم يتوقف عنف هذا التيار عند هذا الحد ،بل ازداد شراسة حيث أقدم عناصر التيار يوم 25 مايو 2012 على حرق مقر للشرطة في منطقة جندوبة الواقعة شمالي العاصمة تونس.كما هاجمت مجموعات من الشبان المحسوبين على نفس التيار مركزا أمنيا وفندقا سياحيا بنفس المدينة ، وأقدموا أيضا على أحراق عددا من المحلات التجارية والحانات والمطاعم التي تقدم مشروبات كحولية.
وكان الأجدر بالحكومة التونسية أن تئد الفتنة في مهدها ولا تتغاضى الطرف عنها إلى أن ازداد تغول التيار المتشدد وبات له زعيم يعرف بـ"أبو أيوب" الذي لم يتورع عن تكفير الرئيس المرزوقي نفسه حين وصفه بأنه "مرتد" .
كما سبق أن أصدر هذا التيار المتشدد بيانا توعد فيه الدولة وفئات من المجتمع عقب عرض لوحات فنية اعتبرها مسيئة للدين الإسلامي ، حيث جاء في البيان ( أن الحادثة هذه المرة لن تمر دون إعمال أحكام الشرع في المذنبين كما نذكرهم أننا لم ننس ولن ننسى كل الذين أساؤوا لمقدساتنا وعلى رأسهم قناة الفتنة، والذين اعتدوا على إخواننا و آخرهم الشهيد كما نحسبه فهمي عوني رحمه الله . إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) .
وفي 21 غشت /آب أصدرت وزارة الثقافة بيانا تدين فيه إقدام عناصر متشددة محسوبة على التيار الجهادي ٬ بالاعتداءات المتكررة على التظاهرات الثقافية في مناطق مختلفة من تونس٬ كان آخرها "مهرجان الأقصى" بمدينة بنزرت (شمال).
ووصفت الوزارة "الاعتداءات المتواترة" بـ"المنزلق الخطير والغريب" عن تونس٬ معتبرة أن ما حدث "ليس اعتداء على حرية التعبير والإبداع فحسب٬ وإنما ينذر باحتقان مذهبي غريب عن المجتمع التونسي المعروف بوسطيته وتسامحه واعتداله".
ورغم التهديدات التي صدرت عن الحكومة التونسية ، ظلت التنظيمات المتطرفة تزاول نشاطها بسبب تواطؤ الحكومة وعجزها في نفس الوقت . وكان من نتائج هذا العجز والتواطؤ اغتيال الشهيد شكري بلعيد دون أن تتمكن الأجهزة الأمنية من اعتقال القاتل الرئيسي ؛ بل ظهر عجزها المفضوح حين فشلها في القبض على زعيم الجهاديين أبو عياض الذي وجه في الأخير تهديدا صريحا لرئيس الحكومة علي العريض بإسقاط حكومته ورميه في مزبلة التاريخ .
أما في مصر فالوضع لا يقل خطورة وكارثية من بقية دول "الربيع العربي" ،حيث باتت سيناء تحت سيطرة التنظيمات المتطرفة التي نفذت عمليات إرهابية ضد القوات العسكرية والأمنية . وأمام ضعف الدولة المصرية ، لم يكتف المتطرفون بتوجيه تهديد للرئيس مرسي إن هو تجرأ على محاربتهم ، بل نظموا استعراضا عسكريا بداية أفريل/ نيسان 2013 بمختلف الأسلحة الآلية المحمولة على السيارات نصف نقل ذات الدفع الرباعي . أما في ليبيا فيزداد خطر التطرف والإرهاب يوما بعد آخر وباتت أجزاء كبيرة من جنوب ليبيا تحت سيطرة التنظيمات المتطرفة التي تستهدف مؤسسات الدولة ( البرلمان ، وزارة العدل ، الثكنات العسكرية ) وقبلها الهجوم على القنصلية الأمريكية وقتل السفير وثلاثة من مساعديه .
كان من المفروض في القوى الديمقراطية على اختلاف مشاربها ، أن تشكل تكتلات سياسية تتوافق على برامج محددة تروم تأسيس دولة مدنية ديمقراطية ودستور يضمن الفصل بين السلط ويحمي مكتسبات الثورة ويؤسس لحياد الدولة ومؤسساتها وسيادة الشعب وسمو المواثيق الدولية التي تنص على احترام حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا . لكن تشرذم القوى الديمقراطية أعطى الفرصة للأصولية الدينية لتسيطر "ديمقراطيا" على السلطة وتتحول الديمقراطية إلى مجرد إجراءات تقنية تفرز متصدر النتائج وتمنحه "الشرعية" ليتصرف في رقاب الشعب دون إرادة الشعب .