التصنيع السوفييتي والتصنيع الياباني بين الوهم والواقع


أنور نجم الدين
الحوار المتمدن - العدد: 4044 - 2013 / 3 / 27 - 11:04
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

التصنيع السوفييتي والتصنيع الياباني بين الوهم والواقع

هناك من يقول ان الانقلاب اللينيني قد حول اقتصاد شبه اقطاعي متخلف إلى دولة صناعية متقدمة، وقد نجح البلاشفة في الانتقال بالمجتمع الروسي المتخلف إلى مجتمع صناعي متطور في فترة قياسية محددة.
أما ما نستنتجه من التاريخ الفعلي، فهو بالضبط عكس ما يتخيلونه هؤلاء المثاليين البعيدين عن تقديم أي تصورات مادية عن التاريخ العالمي على العموم والتاريخ الروسي على الأخص.

لقد غيرت الثورة الصناعية البريطانية في الفترة ما بين 1750 – 1850 وجه العالم كله، فالتطور في الصناعة والزراعة ووسائل النقل بالذات، قد غير الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية التي لديها اليوم أكبر اقتصاد وأكثره متطورًا من الناحية التكنولوجية على مستوى المعمورة كلها، وانتقل خلال قرن إلى بقية العالم. وإن هذه العملية قد انتهت في خطوطها العريضة بعد استعمار الهند وأمريكا وأستراليا وفتح أبواب الصين واليابان أمام العالم كله. والثورة الصناعية تمثل أول تحول كبير في التاريخ، فبفضلها نشأ التاريخ العالمي في سوق عالمية تمثلها أرض كروية وراءها الأسلوب البرجوازي في الإنتاج. وبعد الثورة الصناعية، فأصبح تطور المقبل للأمم الصناعية المقبلة، يتوقف على سرعة سيطرة الصناعة البريطانية على العالم. وهذا التطور قد جرى وجر وراءه كافة المعمورة إلى مدار رأس المال الصناعي وكل مميزاته التاريخية، ابتداءً من النمط الجديد للحياة ومرورًا بالعلاقات المكثفة بين البشر وانتهاءً بالأزمات الاقتصادية. أما التطور هذا فقد حدث بصورة طبيعية ومن خلال تقدم الصناعة والزراعة والتجارة لا أفكار رجال الدولة ومشاريعهم الخيالية أمثال لينين وستالين، ودون الحاجة إلى تكرار ثورات صناعية هنا وهناك. فلقد حققت اليابان مثلاً معجزات في الصناعات الثقيلة والإلكترونيات، وأصبحت تحتل مرتبة عُليَا في العالم الصناعي رغم ندرة مواردها الطبيعية؛ نظرًا لأثر الصناعة الأوروبية على مجرى التطور العام للأمم مرتبطة بالسوق العالمية، فتساهم اليابان في الوقت الحاضر بـ 40% من الإنتاج العالمي لصناعات السفن، وأول منتج للحديد والصلب والسيارات في العالم، وثالث قوة عالمية في تكرير البترول وإنتاج الكهرباء، رغم أنها كانت لا تزال بلدًا متخلفًا نسبيًا بالمقارنة مع أوروبا الصناعية وروسيا القيصرية حتى قبل الحرب العالمية الأولى. وحين كانت اليابان في بداية تطورها قبل الحرب العالمية الأولى، فكانت روسيا تعتبر قوة اقتصادية ثالثة في العالم.
لقد تواجدت روسيا القيصرية منذ سنة 1721 حتى استيلاء البلاشفة على السلطة عام 1917. وفي عام 1866 كانت الامبراطورية الروسية، تمتد من أوروبا الشرقية عبر آسيا وصولاً إلى أمريكا الشمالية. وبحلول عام 1914، كان الاقتصاد الروسي، خامس أكبر اقتصاد صناعي وتجاري في العالم بحيث إنه لم يكن أقل من الاقتصاد الفرنسي في تطوره. ويعود تاريخ الحركة الصناعية الروسية إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ففي عام 1891 شرعت روسيا ببناء السكك الحديدية ليصل إلى سيبريا بلغت عام 1892 نحو 31.202 كم. وفي عام 1895 وصلت إلى 61.000 كم. وفي بداية الحرب العالمية الأولى، قد كانت الشبكة هذه 70.000 كم، ثالث شبكة في العالم بعد بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. ووراء هذا التطور السريع لوسائل النقل والمواصلات، حركة صناعية وتجارية، تصل بموجبها صادرات الحديد الخام لروسيا إلى 1.1 مليون طن في عام 1892، أي ما يعادل سدس صادرات بريطانيا العظمى. وفي عام 1905 ارتفعت إلى 2.7 مليون طن، أي أكثر من ربع صادرات البريطانية. وواصلت روسيا تقدمها في إنتاج الفحم، والصلب، والأسلحة، ومصانع المنسوجات، والزراعة وعلى الإخص إنتاج القمح. ونتيجة التصنيع السريع، شهدت روسيا شكلاً حضاريًا سريعًا (*).
وهكذا، فقاعدة الصناعات الروسية الحديثة، تعود تاريخها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولم تكن صدفةً حين انطلقت ثورة بروليتارية في بداية القرن العشرين في عام 1905 وأعلنت ثورة مجالسية في روسيا أعادها التاريخ في عام 1917 أيضًا نظرًا لتمركز الصناعات الروسية وتمركز العمال فيها، فبضل التطور الاقتصادي في روسيا منذ اعلان الثورة البرجوازية عام 1825، لم يكن ممكنًا أن تظهر البروليتاريا الروسية إلى المسرح، إلا في يدها راية ثورة الكومونة. وكان الصراع الدائر بين البروليتاريين المجالسيين والبلاشفة، هو الصراع الدائر نفسه بين الكومونة والجمهورية رغم كل الادعاءات (انظر ايضا: الثورة المجالسية: ما عوامل انطلاقها من روسيا؟) المنشور في الحوار المتمدن.

وهكذا، ففي حقل المقارنة بين الصناعات الروسية والصناعات اليابانية، نصل فورًا إلى أن تاريخ الصناعات الروسية أكثر عراقةً مقارنة بالصناعات اليابانية. فهذا التطور الصناعي، ليس له العلاقة بعهد البلاشفة في روسيا، وعكس ذلك، فعهد البلاشفة هو عهد تدمير الصناعات الثقيلة، حيث إن البلاشفة قام بالتركيز على الصناعات الحربية بالذات وهدم القاعدة التي رسختها روسيا القيصرية للصناعة، وكان الهدف من تطوير الصناعات الحربية -من ضمنها الفضاء وكان جزءًا من هذه الصناعة- هو سيطرة النفوذ العسكري في العالم.
أما الصناعة اليابانية، فتبدأ بالتطور بعد تدميرها في الحرب العالمية الثانية. ورغم ذلك؛ فاليوم تعتبر اليابان أول منتج للألكترونيات-الروبوتات، الحاسبات، أجهزة الاتصالات- في العالم المعاصر. وانها لديها الحصة الأكبر من التكنولوجيا في السوق العالمية. كما وتنفق اليابان أكبر ميزانية للبحوث العلمية في هذه المجالات وهي تصل إلى 130 مليار دولار. واليابان تمتلك صناعة مثل صناعات باناسونيك، وشارب، وهيتاشي، وتوشيبا، وتويوتا، ونيسان، وهوندا، ومازدا، وميتسوبيشي، وسوبارو أكثرها معروفة حتى في كل قرية من قرى العالم، وثم الصناعات الإنشائية والكيميائية، وأسرع القطارات وأكثرها تقدمًا في العالم .. إلخ، إلخ. كما ومساهمة اليابان ليست قليلة في تطوير تكنولوجيا الفضاء، وهي في الوقت الحاضر ثالث أكبر قوة في الطاقة النووية في العالم توفر اليابان من خلالها 35% من الطاقة الكهربائية. ولا يمكن المقارنة بأي شكل من الأشكال بين هذا التصنيع الياباني السريع، والتصنيع السوفييتي الذي دمر في الواقع أساس الصناعة والزراعة الروسية على حد سواء؛ دون ان يتأذى بقنبلة ذرية مثل القنبلة الأمريكية التي كانت تستهدف تدمير أساس الاقتصاد الياباني. ولكن عكس الأوهام التي كانت تنشر من قبل أنبياء السوفييتيين، فلم يتطور اليابان من خلال مشاريع رجال الدولة السياسيين أمثال لينين وستالين؛ يوهموننا بأن كهربة البلاد = الشيوعية، أو التصنيع = الاشتراكية.

هذه هي وقائع التصنيع البريطاني، والأمريكي، والسوفييتي، والياباني، فنحن لا نبحث سر هذا التطور في أدمغة رجال السياسيين الديماغوجيين أمثال لينين وستالين، بل في واقع يسير أمامنا ويتقدم من جراء تطوره الخاص ويحكمه الحياة التنافسية للمجتمع الرأسمالي. أما التطور هذا، حسب تفكير المثاليين، يرجع لإرادة هذا الفرد المحدد أو ذاك، لينين أو ستالين مثلا، فهذا الفرد ليس عمرا أو زيدا، أو ليس كائنًا من كان، بل لينين أو ستالين، ذو علامات نبوية فارقة، لا يخضع حتى للشروط المادية للتاريخ، لا لتقسيم العمل ولا للمنافسة في السوق العالمية. وبهذا المعنى، فهؤلاء المثاليون لا يرون أية شروط فعلية للتطور، فهذه الشروط لدى هؤلاء المثاليين، يمكن خلقها من العدم من قبل أناس ذات علامات مميزة، وكأن حركة القوى المنتجة العالمية مستقلة كل الاستقلال عن مشاريع هؤلاء الأنبياء، وهم لا يعرفون بأنه في ظل الصناعة الكبرى والتجارة العالمية والمزاحمة العالمية، تذوب جميع شروط أخرى لحياة الفرد، فكل فرد مثل كل دولة، ستكون في تبعية لبعضهم بعضًا، وهذه هي الرأسمالية، فالرأسمالية جعلت من الملكية الخاصة ظاهرة شمولية ومن استملاك الخاص للقوى المنتجة ظاهرة عالمية، بحيث إن أمر تحويلها إلى استملاك جماعي، يجب أن يكون أيضًا ظاهرة عالمية؛ تخضع تنظيمها لكل فرد، فعلاقات الإنتاج الجديدة، لا تخضع للأفراد إلا في حال إخضاعها لجميع أفراد المجتمع. وهذا هو سبب الاختلال الاقتصادي البريطاني مثل الأمريكي، الياباني مثل السوفييتي، فمع كل تقدم صناعي، شهدت اليابان أيضًا وكسائر الدول الصناعية المتقدمة، أزمات اقتصادية في تاريخ تطورها. وبعد انتهاء أطول فترة للازدهار الاقتصادي، دخلت اليابان دائرة الركود الاقتصادي العالمي بدأ التراجع الطلب على السيارات اليابانية ثم التراجع في الصادرات والازدياد في البطالة .. إلخ. وسيبقى الإنتاج الرأسمالي في كل شكل من أشكاله -الأمريكية كالسوفيتية واليابانية- إنتاجًا مختلًّا دون إخضاعه لاشراف الجميع، أي دون تنظيم المجتمع في الجماعيات الإنتاجية، أي الكومونات.
___________________________________________________________________
(*) المصدر: World History at KMLA, Russian Economy 1890 – 1905
http://www.zum.de/whkmla