ستالين في مواجهة البرجوازية الصغرى والبيروقراطيتين القديمة والجديدة


عبد السلام أديب
الحوار المتمدن - العدد: 4012 - 2013 / 2 / 23 - 18:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

بعد وفاة لينين، اتخذ الصراع ضد البيروقراطية، تحت ضغط الأحداث، أشكالا أكثر حدة. فمنذ 1922، تم انتخاب ستالين كاتبا عاما للحزب الشيوعي للاتحاد السوفياتي . حيث تابع ستالين بوفاء عمل لينين.

ومنذ البداية تطور نوعان من البيروقراطية. فهناك من جهة بيروقراطية ادارية قديمة ولدت في رحم المقاولات الرأسمالية القديمة والمثقفون البيروقراطيون في مؤسسات التعليم القديمة – وعموما، المثقفون والاختصاصيون البرجوازيون. وباعتبارهم شريحة برجوازية صغرى مهيمنة، ظلوا مرتبطين بالنظام الرأسمالي، وقد استطاعت هذه البرجوازية أن تتلاءم بشكل أو بآخر، بعد ثورة أكتوبر، مع الشروط الجديدة، في ظل سلطة السوفييت. وبهدف استخدام معارفها المهنية في خدمة بناء الاشتراكية، وفي محاولة لربحها من أجل ضمان تعاون صادق من قبلها، ثم منحهم على الخصوص أجورا ممتازة، كما لمسنا ذلك خلال عهد لينين. فقد لاحظ لينين الموقف المتردد لهذه الشريحة البرجوازية الصغرى بالإضافة إلى الخطر الذي يشكله جزء منها على ارجاع الرأسمالية، وقد حاول الاعتراض على ذلك الخطر، بتكثيف رقابة الجماهير من الأسفل.

وتدخل ضمن هذه الشريحة البرجوازية الصغرى، القوى النشيطة للمناشفة والاجتماعيين الثوريين، الذين كانوا مرتبطين إيديولوجيا وسياسيا بالرأسمالية. وقد التحق جزء كبير من هذه العناصر، التي لا مبادئ لها، بالحزب البولشفي بهدف زعزعته وهدمه. وخلال عملية التطهير الكبير للحزب، خلال سنة 1921، تم عزلهم. لكنهم واصلوا ربط علاقات وثيقة مع العناصر الرأسمالية داخل وخارج البلاد، خصوصا مع المثقفين البرجوازيون الصغار. وبمساعدة منظماتهم السرية، أصبح هؤلاء المناشفة والاجتماعيون الثوريون يشكلون وسطاء بين العناصر الرأسمالية التي تعمل على تفكيك السلطة البروليتارية.

من جهة أخرى، هناك نوع آخر من البيروقراطية التي بدأت تتشكل في قلب جهاز الدولة، وفي الاقتصاد، وحتى داخل الحزب. يتعلق الأمر بالبيروقراطية الحاملة لبطاقة الحزب. وقد رأينا كيف اندهش لينين عند اكتشافه للبيروقراطية داخل النقابات وداخل المنظمات العمالية. فالسلطة أصبحت تعشعش في ذهن أكثر من شيوعي واحد داخل جهاز الدولة والحزب. ثم تفسخوا الى بيروقراطيين.

وتبقى البيروقراطية عبارة عن ظاهرة برجوازية صغرى. فالبيروقراطي يتطلع إلى نمط حياة البرجوازية الصغرى. ويجدون راحتهم في الوسط البرجوازي الصغير. وحالما يتمكنون من ذلك، يصبحون من كبار الشخصيات، فالعديد من الموظفين الذين سبق لهم أن عاشوا في حرمان كامل، أصبحوا يتعاطون في حياتهم الخاصة وفي وسط أسرهم، إلى نمط حياة برجوازية صغرى. وهكذا تطورت شيئا فشيئا الى جانب البيروقراطية القديمة، والتي كان من الضروري اللجوء الى خدماتها، بيروقراطية جديدة.

وخلال المؤتمر الخامس عشر للحزب في دجنبر 1927، أكد ستالين على ما يلي:

" ... سنتوقف عن أن نصبح ثوريين بروليتاريين وأن سنصبح معرضين لتدهور أكيد، إذا لم نتمكن من أن نقصي من صفوفنا هذه الذهنية الضيقة، هذه الزبونية، في لحظة نقرر فيها في القضايا المهمة لبنائنا"1 .

في بداية 1928، تم اكتشاف منظمة سرية واسعة، تتكون من خبراء برجوازيين، تدعى برايون شاخطي Rayon Chakhti في حوض دونباص Donbass، وهي المنطقة الصناعية الأكثر أهمية في الاتحاد السوفياتي. وخلال خمس سنوات، عملت هذه العناصر على محاولة تخريب البناء الصناعي، وذلك بتعاون وثيق مع الملاكين القدماء والرأسماليين الأجانب. وخلال تنظيم محاكمة شاخطي، كان المتآمرين الإجابة عن أفعالهم.

وقد أكد ستالين خلال الجلسة العامة لشهر أبريل على ما يلي:

"لقد عشنا في الماضي تدخلا سياسيا عسكريا، والذي نجحنا في تصفيته من خلال انتصارنا في الحرب الأهلية. ها نحن الآن، نواجه محاولة للتدخل الاقتصادي؛ فمن أجل تصفية هذا التدخل لسنا في حاجة الى حرب أهلية، ولكن علينا في كافة الأحوال العمل على تصفيتها"2 .


لقد أبانت محاكمة شاخطي Chakhti من جهة عن الضعف الكبير لتطور المراقبة من الأسفل، ومن جهة أخرى، عن تصاعد الصراع الطبقي، وهو التصاعد، الذي لم يظهر في الصناعة فقط.

ففي البادية، قام الحزب بهجوم على الكولاك. وقد كان الاقتصاد الجماعي يسير بالموازاة مع هذا الهجوم. وفي معرض "الجواب على الرفاق الكلوخوزيين"، فسر ستالين مبادئ الجماعية في الاقتصاد الفلاحي:

"اللينينية تعلمنا أنه لا يمكننا إقناع الفلاحين بمزايا الاقتصاد الجماعي، الا إذا بينا لهم وأكدنا في الواقع، بالتجربة، أن الكلخوز أفضل من الاستغلال الفردي، وأنه يقدم مزايا أكبر، وأن الكلخوز يتيح للمزارع، وللفلاح الفقير والفلاح المتوسط، كيف يتخلص من الحاجة والبؤس. اللينينية تعلمنا أن هذه الشروط غير سليمة، حيث لا يمكن للكلوخوزات أن تكون صلبة. اللينينية تعلمنا أن كل محاولة لفرض الاقتصاد الجماعي بالقوة، وكل محاولة لاستزراع الكلوخوزات بالإكراه، لا يمكنها أن تقدم سوى نتائج سلبية، لا يمكنها سوى أن تدفع المزارعين بعيدا عن حركة جماعية الفلاحة"3 .

لكن هذه المبادئ لم يتم احترامها دائما. ففي سنة 1930، اتخذت الجماعية أشكالا دفعت ستالين الى نشر مقال أثار ضجة سماه ب "دوخة النجاح". أدان فيها محاولات فرض الاقتصاد الاشتراكي بالقوة، عبر خرق قانون الموافقة الحرة،:

" ... عن طريق التهديد بتدخل القوات العسكرية، عن طريق التهديد بالحرمان من مياه الري والمواد المصنعة للفلاحين، الذين لا يرغبون حاليا الدخول الى الكلوخوزات ...
فمن يكون المستفيد من هذه التشويهات، هذا النداء بقوة المراسيم البيروقراطية لحركة الكلوخوزيين، هذه التهديدات الدنيئة ضد الفلاحين؟ لا أحد، إذا لم يكونوا غير أعدائنا !"4 .


يمكننا أن نلاحظ هنا أن البيروقراطية تتغلغل في جميع مجالات الحياة الاجتماعية وتستهدف هدم الأسس المادية للاشتراكية.

فمحاكمة شاخطي وجهت بطبيعة الحال ضربة الى البيروقراطية القديمة، لكن عناصر خبيثة من البيروقراطية الجديدة بدأت تتشكل. حيث أصبح عدد من المثقفين التقنيين مترددين. وقد تم تشجيعهم من قبل المعاضة التروتسكية-المانشيفية، التي عملت على نشر اشاعات تقول "بأن الاتحاد السوفيتي لن يصمد طويلا". ومنذ سنة 1930، تم تفكيك منظمة سرية تسمى بحزب "الصناعة". وقد كانت تتشكل من عناصر مضادة للثورة من الشرائح العليا للمثقفين التقنيين القدماء، والمرتبطون برأس المال الأجنبي وهيئة الأركان الفرنسية. ثم ان المحاكمة التي تمت في نهاية 1930، كسرت العمود الفقري للمقاومة المنظمة للبيروقراطيين القدماء. وفي المقابل، فإن البيروقراطية الجديدة أخدت تتقدم أكثر فأكثر. وفي خطابه في المؤتمر الثامن للشباب الشيوعي في مايو 1928، قرع ستالين جرس الإنذار. حيث أوضح ما يلي:

"قضيتنا الثانية تتعلق بمهمة الصراع ضد البيروقراطية، مهمة تنظيم النقد الجماهيري لنقائصنا، مهمة تنظيم مراقبة جماهيرية من الأسفل.
البيروقراطية هي احدى أشرس الأعداء لمسيرتنا الى الأمام. إنها موجودة في جميع منظماتنا سواء في منظمات الحزب أو في منظمات الشباب الشيوعي، سواء داخل النقابات أو داخل المنظمات الاقتصادية. وعندما نتحدث عن البيروقراطية، نقصد عادة قدماء الموظفين بدون حزب، المقدمون كاريكاتوريا كأناس يلبسون نظارات ... ان ذلك ليس صحيحا، أيها الرفاق. إذا كان الأمر يتعلق فقط بقدماء الموظفين، فان الصراع ضد البيروقراطية سيكون الشيء الأسهل في العالم. ان ما هو خطير هو أن الأمر لا يتعلق بقدماء البيروقراطيين. أيها الرفاق، الأمر يتعلق ببيروقراطيين جدد متناغمون مع السلطة السوفييتية. يتعلق الأمر في آخر الأمر ببيروقراطيين قادمين من بين صفوف الشيوعيين. البيروقراطي الشيوعي هو الأخطر من بين كافة البيروقراطيين. لماذا؟ لأنه يضع قناعا على بيروقراطيته من خلال انتمائه للحزب. فمثل هؤلاء البيروقراطيين الشيوعيين ليسوا نادرين لدينا"5. .

ان تطور البيروقراطية الجديدة تم تعزيزها من خلال النقاشات داخل الحزب. وبغاية تجاوز الصعوبات الاقتصادية، أدخل لينين سنة 1921 "السياسة الاقتصادية الجديدة". وقد لاقت هذه الأخيرة مقاومة من طرف عناصر من المعارضة في قلب الحزب الشيوعي للاتحاد السوفييتي، تحت ادارة تروتسكي وزينوفييف. وبعد موت لينين، حرك الانتهازيون الصراع ضد الخط الصحيح للحزب. فقد واجهت المعارضة تسريع التصنيع بالموازاة مع معارضة الجماعية المنهجية للاقتصاد الفلاحي. انهم لم يفهمون أيضا خط اللجنة المركزية ، بمعنى الارتكاز على الفلاحين الفقراء، والارتباط بالفلاحين المتوسطين ومحاربة الفلاحين الأغنياء. العمل التخريبي للتروتسكيين وباقي المعارضين تسبب في صعوبات كبيرة للحزب. وعلى الخصوص بعد سنة 1928، عندما استعد الحزب للهجوم على الكولاك ، وحين انضافت اليهم مجموعة بوخارين وريكوف، فإن هذا الصراع الموسع والمتزايد للمعارضة ارغم اللجنة المركزية على تعزيز جهاز الحزب، الشيء الذي أثار بدوره رد فعل قوي، خاصة من طرف التروتسكيين.

"قبل كل شيء، فإن التروتسكيين هاجمو الجهاز الحزبي. فهم يفهمون أن هذا الأخير لا يمكنه أن يعيش أو يعمل بدون جهاز صلب التنظيم. المعارضة اجتهدت من أجل زعزعة وتدمير هذا الجهاز، ومواجهة أعضاء الحزب بجهازه ومواجهة الشباب بالأطر القديمة للحزب"6 .

وقد نجحت البيروقراطية في ممارسة السلطة بالموازاة مع ضرورة تعزيز جهاز الحزب. فتغلغلت بذلك في جميع أجهزت المجتمع الاشتراكي، وجهاز الدولة، والحزب والاقتصاد، والنقابات، ومنظمات الشباب وحتى الجهاز العسكري. وخلال المؤتمر السادس عشر للحزب، أكد ستالين في محضره الى خطر البيروقراطية وحدد وسائل محاربتها:

"إن خطر البيروقراطية يكمن على الخصوص في ما يتم تركه بدون استغلال المخزونات الهائلة التي تنام في ضرع نظامنا الاجتماعي، وما يعرقل استغلالها، ويصيب بالجمود المبادرات الابداعية للجماهير، ويخنقها في الأوراق ويبحث عن تحويل كل مبادرة للحزب الى نوع من الحذلقة مسطحة غير ضرورية. من جهة أخرى، فإن البيروقراطية خطيرة لكونها لا تسمح بأية مراقبة على الإنجاز وتحاول أن تجعل من التعميمات الأساسية للمنظمات المسيرة عبارة عن خرق بالية من الأوراق بدون مضمون، والتي لا علاقة لها بالحياة النشيطة. الخطر لا يأتي بالكامل من البيروقراطيين القدماء الغارقين في مؤسساتنا، لكن على الخصوص من البيروقراطيين الجدد، البيروقراطيون السوفيات، والذين نجد من بينهم البيروقراطيون "الشيوعيون" البعيدون كل البعد عن لعب الدور الأخير. أفكر في هؤلاء "الشيوعيين" الذين يبحثون عن استبدال المبادرة والنشاط الابداعي لجماهير الملايين من العمال والفلاحين بأوامر من الخربشات والمراسيم، والتي يؤمنون بها كالأصنام.

المهمة إذن تكمن في تكسير البيروقراطية في مؤسساتنا ومنظماتنا وتصفية "الممارسات والتقاليد" البيروقراطية وأن نفتح الطريق نحو استغلال المخزونات من نظامنا الاجتماعي، من أجل تجسيد المبادرة والنشاط الابداعي للجماهير.

إنها ليست مهمة سهلة. فلن يتم انجازها بلمسة يد. لكنها يجب أن تتحقق مع ذلك بأي ثمن إذا ما أردنا حقيقة أن نحول بلادنا على أساس مبادئ الاشتراكية.

الحزب يقود النضال ضد البيروقراطية على أربع خطوط: على خط تطوير النقد الذاتي، وعلى خط تنظيم المراقبة في الإنجاز، وعلى خط تطهير الجهاز، وأخيرا على خط الارتقاء داخل الجهاز بقوى مخلصة من الأسفل، قادمة من وسط الطبقة العاملة"7 .

في سنة 1937-1938، أصبحت البيروقراطية تتخذ أشكالا مهددة. وعلينا أن نأخذ هذا التطور بعين الاعتبار في سياق تدهور الوضعية الدولية. فاليابانيون يحتلون شمال شرق الصين، والايطاليون كانوا قد غزوا الحبشة، والفاشيون الألمان والايطاليون تدخلوا في الحرب الأهلية الإسبانية – وخطر الحرب أصبح وشيكا بالنسبة للاتحاد السوفياتي. ففي هذه الوضعية قام المعارضون المتحلقون حول بوخارين وبعض القادة العسكريين البيروقراطيين بتوحيد قوتهم، بهدف قلب حكومة ستالين بواسطة السلاح. وقد دفعت المحاكمة المنظمة لهؤلاء التحريفيون بعد ذلك الى الحديث عن انتشار "الاضطهاد"، بهدف التغطية على خياناتهم الشخصية. لكن علينا أن نعاين ذلك من وجهة نظر طبقية وأن نطرح السؤال على أنفسنا لمعرفة أية طبقة أو شريحة اجتماعية تم اضطهادها؟ فهي لم تكن لا الطبقة العاملة ولا شريحة الفلاحين، وانما العناصر البيروقراطية الأكثر خطورة التي كانت تعمل على قلب جهاز الحزب والدولة بالإضافة الى العناصر الكامنة من الطبقة المستغلة والانتلجانسية البرجوازية.

وقد سبق أن أشرنا أعلاه إلى أن البيروقراطية الجديدة كانت ترى مثالها في نمط عيش البرجوازية الصغرى والتي استطاعت البيروقراطية القديمة أن تعيشها بفضل المداخيل المرتفعة والامتيازات الكثيرة مثل الفيلات والسيارات والمشتريات الامتيازية ... الخ. إن هذه المثالية في نمط عيش البرجوازية الصغرى انعكس أيضا في بعض الأدبيات وبعض الأفلام. فأين اختفت الأدبيات الثورية للعقود السابقة؟ فقد اختفت وراء أدب برجوازي صغير، فالمؤلفون لم تعد لهم أية صلة بالعمال والفلاحين. فحتى مؤلف مثل شولوكوف Cholokhov والذي ركز أكثر في مؤلفه الرئيسي "الهبة الهادئة" « Le Don paisible » على الحرس الأبيض بدلا من الحرس الأحمر، ولاحظ خلال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي للاتحاد السوفياتي، مع الاستناد الى رفاق مؤلفين بورجوازيين صغار:

"كم من الكتاب باعتبارهم أصدقاء ومحل ثقة، قاموا بزيارة أسرة عامل أو مهندس أو مبدع انتاج أو اطار في الحزب يعمل في مصنع؟ يمكننا احصائهم على عدد أصابع اليد الواحدة ... وقد يحدث مع ذلك أن كتابا يستقبلون من طرف مقاولات، أو بدلا من ذلك يقومون بجولة، فلا نتضايق، -ولنعترف بذلك يا للعار- من أن نطالب في بعض الأحيان الطبقة العاملة بأداء رسوم من أجل أخذ الكلمة أمام المستخدمين ... لماذا يعيش 1200 كاتب في موسكو؟ لماذا لا نفرغهم بجرارات من مساكنهم الدافئة؟ لكن، أطلب منكم، من يستطيع كتابتها؟

رجال يجهلون كل شيء عن الفلاح في الحقل الاشتراكي وكذلك العامل؟ رجال يختبيئون ويستريحون؟"8

وفي روايته "الباحثون"، وصف الروائي السوفياتي كرانين D. Granine بشكل حي موقف ونمط عيش البرجوازية الصغرى للبيروقراطية الجديدة:

"كل شيء يسير نحو الأفضل. العمل في الادارة أفرح فكتور. فهو يحب توجيه الناس، ويرغمهم، وينظمهم؛ والآن وقد تذوق لذة السلطة، فإن الطموح الذي طالما وجد في طبيعته دفعه الى بدل كامل جهده من أجل أن يصبح رئيسا للمصلحة. "نظرا لأنني اخترت المسار الإداري، يعلق فكتور، علي أن أتسلق بسرعة حتى لا أتعفن في مكاني". وقد حقق هدفه وتمت تسميته رئيسا للمصلحة. فأخذ يتلقى المديح، وبدأ الجميع ينظر اليه كمسير كفأ. وأخذ الجميع يتخذونه كمثال في احاديثهم في الاجتماعات، وتتم الاشارة اليه في التعميمات الوزارية. وبدأ اسمه يلمع في مقالات الجرائد. التعويضات التي يدرها عليه عمله جد مريحة. ثم استقدم الى بيته خادمة. كما بدأ العديد من الأصدقاء الجدد يترددون على بيته. وبغرور سادج، بدأت ليز تستمع الى تمجيد كفاءات زوجها التنظيمية الشيء الذي نفخ طموحها، وقد ظهر لها أن هناك ريحا مواتية تهب على سفينة العائلة. فقد بدأت تشارك بصدق آراء فكتور: فله نزوع داخلي للإدارة. تجربة المهندس لا تنقصه، المعارف أيضا؛ بالنسبة للباقي، كما يقول، يكفي معرفة التسيير. اشاعات تردد أن فكتور لا يقبل بأناس ذوي كفاءات في مصلحته ويحيط نفسه فقط بلاعقي الأحذية، ولا يسمح في محيطه الا بأشخاص ساخطين.
هو نفسه يعتبرها كشهادة على مؤامرات أعدائه، محضرا لتفاصيل علاقاته مع رؤسائه، انها لم تعد تشعر بكونها غريبة وغير مفيدة في عالمها.
إنها تتواجد في الغالب في البيت، تبحث عن ملجأ بعيدا عن الاجتماعات التي لا تنتهي وعن الأوراق.
ومع ظهور السعادة المادية تبخرت في نفس الوقت أسباب العديد من لحظات النزاع.
ربط فكتور عدد من العلاقات: "فنحن نعيش في قرن الكهرباء"، مفسرا ذلك بلهجة ساخرة. كان يكفيه مكالمة هاتفية لكي تقتني ليز من غير الوقوف في الطابور الطويل، الغبرديني أو الفواكه في زمن يكون فيها نادرا. وعند الذهاب الى المسرح يحتلان لوج المدراء.
في يوم الاحد يزورون محلات الأثاث الرفيعة القديمة. لقد كانت فرحة، ليس فقط بمشترياتها، وانما أيضا بمتعة شعور زوجها أنه يحقق لها رغباتها.
ومن أجل الاحتفاء بعيد ميلاد فكتور، يذهبان الى المطعم برفقة عدد من المرافقين. حيث يشكل ذلك مهرجانا حقيقيا. يرفعان فيه كأسيهما، ويقرقعان الشامبانيا، يشرب فكتور نخب زوجته، وينظران الى أعينيهما، ثم ينفجران فجأة ضاحكين:
- ماذا أرى، لم ألاحظ أبدا أن عيناك حمراوان.
ثم تخبئ خديها بين يديها.
- وأين توجد خالتي الجميلة؟
ثم يرفع حاجباه السوداوان ساخرا، كما لو كان يتذكر.
ينزلق الراقصون برفق بين الطاولات، وعلى ايقاع هادئ للاركسترا. تشعر ليز بسرعة بنفسها أصبحت رمادية وتبتسم بدون سبب. لقد كانت سعيدة بفستانها الجميل آخر موضة وثعلبها الفضي، الغبطة التي يشعرها فكتور، ورؤية أن الجميع يحبون فكتور ويحبونها أيضا.
- قبل ثلاث سنوات ، فكتور كريكوريفتش، ستصبح رئيس الدائرة في الوزارة، ، يهمس اليه نائب المدير افين، مخمورا شيئا ما. عليك أن تثق في حاستي السادسة. فماذا نفعل من أجل النجاح؟ بفضل الاصدقاء الجيدين. انهم يعبدون لك الطريق، وأنت تمتطيها ...
التفت فكتور الى نفسه وبدأ يفكر، رأسه فوق كفيه.
- تعبيد الطريق ... امتطاء ... هامسا بصوت خافت"9 .

هذا المقطع من الرواية يرسم بشكل تقريبي مختلف سمات البيروقراطية الجديدة الحاملة لبطاقة الحزب البلشفي:

1 – الطموح ونشوة السلطة يتحالفان مع الوصولية؛
2 – الولوج الى منصب أعلى يؤدي الى ارتفاع مستوى المعيشة ونمط عيش برجوازية صغرى؛
3 – الدفاع عن هذا الموقع الامتيازي ضد التابعين الأكفاء والبحث عن محيط تبعي بهدف الدفاع عن الذات؛
4 – استغلال المنصب السامي والنفوذ المتزايد من أجل ارضاء حاجياته الأنانية (حيث يتم تشجيع الرشوةا)؛
5 – وحسب شعار: "يد تغسل اليد الأخرى"، يستولي البيروقراطيون على المناصب الأكثر أهمية.

هنا تبدأ جذور السرقة اللاحقة لسلطة ديكتاتورية البروليتارية من قبل البيروقراطيين الجدد.

البيروقراطية الجديدة ستمارس تحكما متزايدا وسريعا للهيمنة على جهاز الحزب والدولة والاقتصاد، نفس الشيء بالنسبة للنقابات ومنظمات الشباب. وستتحول تدريجيا الى عرقلة رئيسية أمام العمل الوحدوي للمركز وللجماهير الثورية العمالية والفلاحية. بطبعة الحال، قاد ستالين من فوق، من قمة جهاز الحزب، صراعا دون هوادة ضد البيروقراطية، لكن بمساعدة نفس هذا الجهاز الذي يحارب الاساءات. وحيث تغلغلت البيروقراطية حتى داخل جهاز أمن الدولة.

اليوم، ونحن على بعد تاريخي مهم لا يسعنا سوى الاعتراف بأن هذا الاسلوب من التصرف شكل خطأ من قبل ستالين. ففي مايو من سنة 1928، اقترب ستالين من الحل الصحيح للمشكلة، عندما أعلن في خطابه في المؤتمر الثامن للشباب الشيوعي:

"كيف يمكننا القضاء على البيروقراطية في جميع هذه المنظمات؟

ليس هناك سوى طريق وحيدة – وهي تنظيم المراقبة من الأسفل، تنظيم النقد من طرف جماهير الملايين من الطبقة العاملة ضد البيروقراطية في مؤسساتنا، ضد أوجه القصور، ضد أخطائهم.

أعلم، أنه إذا ما أثرنا غضب جماهير العمال ضد الأورام البيروقراطية في منظماتنا، سنكون مدعوين الى مواجهة حتى بعض رفاقنا الذين كان لهم الفضل في الماضي، لكنهم يعانون اليوم من مرض البيروقراطية. هل هذا سيوقفنا عن تنظيم المراقبة من أسفل؟ أعتقد أن ذلك لا يمكنه ولا يجب القيام به"10 .

يمكننا أن نعتبر اليوم بأن الثورة الثقافية البروليتارية، كما قادها ماوتسي تونغ بشكل مثالي في الصين، تشكل أحد الحلول لهذه المشكلة. فستالين لم يكن بعد قادرا على معالجة المشكلة بهذه الطريقة – خطأه إذن، كان مكيفا بحدود تاريخية. فقد دفع المثال السلبي للانحطاط الكامل للبيروقراطية المسيرة تحت قيادة خروتشوف، وتحريف الماركسية اللينينية، والغاء ديكتاتورية البروليتارية وارجاع الرأسمالية الى روسيا، بشكل بديهي الضرورة المادية والحاجة التي لا مفر منها لبلورة الثورة الثقافية البروليتارية، بهدف التوقع السريع لمثل هذا التطور. لقد شكل ذلك الاضافة الايجابية لماو تسيتونغ الذي بلور هذه الفكرة الثورية وعمل على تطبيقها.

لقد كان واضحا أنه خلال الحرب العالمية الثانية، اضطر الحزب وسلطة الدولة الى تجميع كافة القوى بهدف مواجهة الهجوم الفاشي. ولم يكن ذلك ممكنا بدون تقديم تنازلات الى بعض المجموعات من الشعب كما هو الشأن بالنسبة للمتدينين مثلا. حيث تم ابرام اتفاقيات مع الكنيسة الأرثودوكسية الروسية. كما تم اعادة تأهيل الجنرالات وأشخاص آخرين كانوا لا يزالون في الاعتقال في معسكرات الأشغال، ثم تم ارسالهم الى الجبهة برتبهم القديمة. لقد كان الشعب مندفعا بإرادة التضحية بكل شيء من أجل الانتصار. ومع ذلك كان حذرا في مواجهة الخونة والمخربين. البيروقراطية نفسها تم نزعها من حياتها البطيئة اليومية المعتادة. كما أن عملية نقل المقاولات الحيوية والتسليح من المنطقة الصناعية الرئيسية في غرب الفولغا نحو منطقة توجد في ما وراء الأورال، نزع عن البيروقراطية الروابط التي كانت تتعهدها الى ذلك الحين. البيئة الجديدة والمقاولات التي تم افراغها، أعيد تركيبها بفرق جديدة والذين، بفضل اخلاصهم البطولي في العمل، أعادوا تحريك عجلة الانتاج في زمن قصير جدا، هذا الوضع لم يشكل أرضية مادية صالحة لتطور البيروقراطية.

وبعد الحرب العالمية الثانية، عاد الخطر البيروقراطي الى الظهور من جديد بعدما تم تقويم الاقتصاد في الجهات التي دمرتها الحرب، وعودة التدبير العادي. وخلال المؤتمر التاسع عشر في أكتوبر 1952، عرض مالنكوف الذي كان في ذلك الحين سكرتير اللجنة المركزية، في تقريره المقدم للجنة الحزب الشيوعي السوفيتي معنى وضرورة الصراع ضد البيروقراطية التي اجتاحت الميدان من جديد:

"ان الوضعية التي خلقتها الحرب ساهمت في تكييف بعض المناهج الخاصة في ادارة الحزب وتضاعفت النقائص في عمل هذه المنظمات والتنظيمات. وقد وجد ذلك تعبيره في واقعة أن منظمات الحزب اهتمت أقل بالعمل الايديولوجي والتنظيمي؛ ونتج عن ذلك تجاهل هذا العمل في العديد من منظمات الحزب. ثم ظهر الخطر: لاحظنا منظمات الحزب تنفصل عن الجماهير وتفقد دورها كأعضاء في الادارة السياسية، وتنظيم المعركة والمبادرة، من أجل أن تصبح مؤسسات التسوية الادارية، غير قادرة على الصمود في مواجهة تعبيرات ضيق الأفق، وميولات أخرى مضادة لمصالح الدولة، مؤسسات عمياء تشوه بشكل مباشر سياسة الحزب في التربية الاقتصادية، الى التدمير الذي تم التسبب فيه للدولة.

وبهدف مواجهة هذا الخطر ومعالجة ناجحة للمشكل المتعلق بدعم المنظمات المحلية وتعزيز عمل هذه المنظمات، كان من الضروري تجاوز التجاهل في العمل الايديولوجي والتنظيمي، والانتهاء بادخال مناهج ادارية في التدبير الى منظمات الحزب، تقود إلى تصفية برقرطة العمل واضعاف النشاط ومبادرة الجماهير المنخرطة"11 .

فهل تم استخلاص الخلاصات الضرورية؟ هل تم تعبئة أعضاء الحزب للدخول في صراع قوي ضد البيروقراطية؟ في مواجهة المناهج المستعملة من طرف البيروقراطية، إن خوض مثل هذا الصراع ظهر بأنه ضروري جدا. وفي محضره، عرض مالنكوف هذه المناهج بشكل ملموس:

"في بعض منظمات الحزب فاننا نبخس أيضا دور النقد والنقد الذاتي في حياة الحزب والدولة؛ النقد يصبح موضوعا للبلطجة والمتابعة. ونصادف في الغالب مناضلين يتبنون بدون حدود اخلاصهم للحزب، لكن في الواقع لا يتحمل النقد القادم من أسفل، فيتم خنقه ثم الانتقام من أولئك الذين ينتقدون. ونعرف العديد من الحالات حيث المواقف البيروقراطية اتجاه النقد والنقد الذاتي تسبتب في مساس خطير بالحزب، وتم قتل المبادرة في هذه أو تلك من المقاولات، متنازلة عن هيبة الادارة وسط جماهير المنخرطين، غارسة في بعض المنظمات نزعة مضادة لحزب البيروقراطيين، العدو الاساسي للحزب.

الحزب لا يمكنه أن يأخذ بعين الاعتبار تراجع النقد والنقد الذاتي الى الوراء، أو أن مراقبة الجماهير على انشطة المنظمات والمؤسسات قد ضعفت، هنا تبرز بشكل حتمي تشوهات البيروقراطية، والانحلال وحتى تفكك بعض مستويات جهازنا. بطبيعة الحال أن هذه الأمثلة ليست كثيرة"12 .

الجملة الأخيرة لمالينكوف تظهر نوع من سوء التقدير لخطر البيروقراطية التي تم تسجيلها من أعلى مستوى. وبدلا من أن يرن جرس الخطر،وتتم تعبئة أعضاء الحزب والنقابات ويتم الشروع في الصراع بكل حزم، تم السماح بجو من التقصير الذي أصبح قاتلا. مالنكوف لم يثر خطر البيروقراطية فقط ولكنه أشار أيضا إلى ضرورة محاربتها بدون هوادة. وفي ما يلي مقتطف من خطابه:

"اننا نعرف عدد كبير من المسؤولين الذين يتناسوا أن المقاولات التي كلفناهم بتدبيرها هي في ملكية الدولة؛ وقد اجتهدوا في تحويلها الى اقطاعية لهم ....

مديرين من هذا النوع يتصورون بأنه من المسموح لهم بأن يفعلوا ما يشاؤون، وأنه بامكانهم عدم الأخذ بعين الاعتبار لتدابير الحزب والدولة، وخرق قوانين الدولة السوفياتية، والتعاطي لأفعال تعسفية لمجرد ارضاء أنفسهم ...

إن كل تغليط بخصوص الحزب والدولة، كيفما كان شأنها، وكل محاولة للخداع عن طريق اخفاء أو تزوير الحقيقة ليست شيئا آخر سوى جريمة من أكبر الجرائم أمام الحزب ...
ولا يمكننا أن نأخذ بعين الاعتبار وضعية المهام الممارسة من طرف المسؤولين الذين أصبحوا متهمين بعدم النزاهة في تنفيذ قرارات الحزب والحكومة والذين تعاطوا لممارسات تعسفية ...

اننا مدعوين الى الدخول في صراع عنيف ضد الزبونية وممارسات الوصاية، والقضاء على الموقف البيروقراطي في الدراسة واختيار الأطر ...

علينا دائما أن نتذكر أن كل اضعاف للتأثير الايديولوجي الاشتراكي يقوم على تعزيز التأثير الايديولوجي البرجوازي. ليس هناك ولن يكون هناك في مجتمعنا السوفياتي قاعدة طبقية من أجل هيمنة الايديولوجية البورجوازية. فلدينا تسود الايديولوجية الاشتراكية، حيث تشكل الماركسية اللينينية قاعدتها الصلبة. لكن لا زال لدينا استمرار للإيديولوجية البرجوازية، ونمط فكر وأخلاق التملك. فهذه الاستمرارية لا تموت من تلقاء ذاتها، فهي جد مقاومة، ويمكنها أن تتزايد، وتتطور لذلك يجب محاربتها بقوة"13 .

لم يكن مفهوما أنه رغم هذا التقييم الصحيح للخطر الذي تمثله البيروقراطية وعملها المخرب للإيديولوجية الاشتراكية، تم الاستمرار في سوء تقدير خطير للوضعية. ولم يكن مدهشا أن يلاحظ مالنكوف نفسه ما يلي:

"إن تدخل اللجنة المركزية للحزب في العديد من المجالات العلمية اتاح لها اكتشاف عادات وتقاليد غريبة لدى رجال السوفييت، واستخلاص أمثلة عن ممارسات طبقية وعدم التسامح مع النقد. تعبيرات ايديولوجية بورجوازية وتشويهات منتشرة من كل نوع تم فضحها ومحاربتها"15 .

هذا التناقض وانعدام المسؤولية كان لهما مضاعفات كارثية خلال سنة بعد ذلك، عقب وفاة ستالين. فمالينكوف وهو الشيوعي الصادق، اضافة الى مولوتوف ورفاق آخرين والذين ظلوا أوفياء للاشتراكية، تم ابعادهم من طرف مجموعة خروتشوف.

صراع ستالين ضد تجاوزات البيروقراطية كانت كصراع هيراكليس ضد هيدرا، التعبان الوحشي ذو تسعة رؤوس في اساطير اليونان. وحيث كان ينبث مكان كل رأس مقطوع رأسين جديدين. أغلبية البيروقراطيين يخفون افكارهم ونواياهم الحقيقية، آخرون أبانوا عن حماس زائد في مجال تطهير جهاز الدولة والحزب. ومن بينهم، خروتشوف، الذي كان "ينظف" الحزب الأوكراني والذي يكشف عن ذلك في صفحات جريدة ال « VISTI VTs VK » التي وصفته ب "الوفي لخط ستالين" (23-05-1938)، و"بالصديق ورفيق السلاح لجوزيف ستالين" (18-11-1940).

وفاة ستالين ستخلق ظروفا تسهل صعود البيروقراطية التي استغلت الحدث لكي تفلت من المراقبة القاعدية، للجماهير. نفس الشيء، فعلته للافلات من المراقبة من الأعلى، الممارسة من طرف أولائك الذين، من قلب ادارة الحزب والدولة، ظلوا أوفياء للمبادئ ويدافعون عن ديكتاتورية البروليتارية. هذه العناصر المبقرطة لا تتراجع أمام أي وسيلة ديماغوجية وأي تشنيع ومؤامرة وخسة في محاولاتهم للحلول شيئا فشيئا مكان العمال والفلاحين في ممارسة السلطة.

وانطلاقا من تحررها من أية رقابة، لم يعد بإمكان هذه البيروقراطية مع ذلك التأكيد بشكل مفتوح على رغبتها في السلطة. لقد استمرت القاعدة الاقتصادية والاجتماعية للبيروقراطية تتمثل في البرجوازية الصغرى. لقد أصبح كل ارضاء للتطلعات الى السلطة البيروقراطية يؤكد انتصار الثورة المضادة البرجوازية الصغرى. وقد سبق للينين ان قدم التعليق التالي في المؤتمر العاشر:

"اننا نمر من مرحلة يتهددنا فيها خطر جدي؛ وكما سبق لي القول، فإن الثورة المضادة البرجوازية الصغرى هي أخطر من دنيكين Dénikine"161.

ونظرا لأنه في طبيعة البيروقراطية التمركز في القمة هرم السلطة، فانطلاقا من هناك انطلقت الثورة المضادة البرجوازية الصغرى. لكن أولئك المخلصون للاشتراكية ولديكتاتورية البروليتارية الموجودين في قلب ادارة الحزب والدولة مثل مالنكوف ومولوتوف وآخرون، فقد ضلوا يقاومون بشكل مفتوح هذه الثورة المضادة. بينما استغل خروتشوف الوضعية السيئة للفلاحة من أجل مهاجمة بشكل ديماغوجي هؤلاء الرفاق وكان هدفه هو ابعادهم من قمة الادارة السياسية وتشنيع بهم ك"أعداء للحزب". وقد تمكن من ذلك سنة 1957.

لكن كل ذلك لم يكن كافيا لتدمير أسس الاشتراكية واغتصاب السلطة. فمن أجل هذا الهدف، كان من الضروري تحريك وسائل هائلة تعمل على مراحل لنجاز الثورة المضادة البرجوازية الصغرى:

1 – كان يجب كخطوة أولى تلطيخ سمعة ستالين في الوحل لتنهار المكانة العظيمة التي يتمتع بها ستالين لدى الشعب السوفياتي والحركة الشيوعية العالمية، وهي المكانة التي ما فتئت تتزايد مع الانتصار الباهر الذي حققه في الحرب العالمية الثانية. كما كان يجري تصوير تحرر البيروقراطية من مراقبة ستالين كتحرر للشعب بكامله من "الديكتاتور" ستالين. وقد استعملت في هذا المجال وسيلتين اثنتين:

أ – تشويه سمعة ستالين من خلال النضال ضد ما يسمونه "بعبادة الشخصية" و
ب – شيطنة شخص ستالين عبر تقديم صراعه ضد أعداء الحزب والبيروقراطية المناهضة للعمال، بمثابة اضطهاد لضحايا أبرياء وكجريمة.

2 – كان يجب أيضا مراجعة واستبدال الماركسية اللينينية، وهي الأساس النظري للاتحاد السوفياتي الاشتراكي وللحركة العمالية العالمية ، بنظرية تحريفية، وذلك بهدف:

أ – تدمير الأسس الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي؛
ب – وتقسيم الحركة الشيوعية العالمية ووضع فصيلها التحريفي في الادارة التحريفية السوفياتية.

3 – كان يجب أيضا تدمير الأسس العلمية للاشتراكية في الاتحاد السوفياتي ومباشرة ارجاع الرأسمالية عبر ادخال قوانين رأسمالية ، وهو الشيء غير الممكن الا عن طريق:
أ – الغاء ديكتاتورية البروليتارية، و
ب – تملك وسائل الانتاج من طرف مجموع البيروقراطية واستغلالها كرأسمالية جماعية.

وخلال هذه العملية، أخذت البيروقراطية التي كانت في البداية عبارة عن شريحة برجوازية صغرى، تتحول الى طبقة جديدة برجوازية، تقوم على قاعدة اقتصادية تتمثل في ارجاع الانتاج الرأسمالي. ان هذا لا يعني مجرد اعادة ادماج الرأسمال الخاص ولكن ارجاع الرأسمالية الاحتكارية البيروقراطية. فالتناقض الرئيسي لهذا المجتمع الرأسمالي الجديد يكمن في الطابع الاجتماعي للانتاج وتملكه الرأسمالي من طرف مجموع البيروقراطية. ان البيروقراطي الفرد لا يشكل بحد ذاته رأسماليا خاصا بالمفهوم القديم للكلمة؛ لكن البيروقراطية في مجموعها هي من يمثل الرأسمالي، انها برجوازية جديدة احتكارية للدولة. وباعتبارها كطبقة برجوازية مهيمنة جديدة، فقد قادت سياسة طبقية برجوازية تستهدف حماية المصالح المشتركة للرأسمالية البيروقراطية. هذا التطور الذي حدث خطوة خطوة، سمح بوجود بعض المكتسبات الاشتراكية الى جانب الظواهر الرأسمالية الجديدة. ذلك لأنه من المستحيل تصفية هذه المكتسبات دفعة واحدة، بدون التسبب في تمرد جماهيري عمالي.

وحتى تتحول البيروقراطية من خدمة الدولة الى سيدة للمجتمع، أبانت البيروقراطية عن ديماغوجية غير مسبوقة. فقد قدمت مناوراتها في الثورة المضادة على أساس تطوير مبدع للماركسية اللينينية، وكإجراء ضروري لدعم الاشتراكية. وقد ضلت تتغنى بالتقاليد البطولية للحزب البلشفي، بينما تعمل على تلطيخ عمل لينين، وستالين وثورة أكتوبر العظيمة.

فلنستمع قليلا الى العبارات الجوفاء لبريجنيف الذي قام بمناسبة الذكرى الخمسين لثورة أكتوبر العظيمة، بتقديم "الخطاب المهيب" التالي:

"حزبنا له تاريخ طويل غني بالأحداث. وإذا كنا قد استطعنا أن نسير على هذه الطريق الطويلة الصعبة، وإذا كنا قد تحملنا بجدارة جميع المصاعب، فذلك لكوننا استعملنا دائما أفضل أسلحتنا، النظرية الماركسية اللينينية، والتي قمنا بتطبيقها بدون ضعف وطورناها بفكر مبدع. (اليس ذلك زهو نموذجي للبيروقراطية في التقدم بدون حدود بمثل هذه المبايعة، بينما تعمل على مراجعة الماركسية اللينينية في العمق وفي الصميم). واذا كان حزبنا والكتلة الهائلة المتآلفة من الشيوعيين السوفيات، قادرين اليوم على مواجهة جميع المهام، وذلك في جميع قطاعات العمل، كبير أو صغير، فان الشيوعيين يتشبثون بشرف بدور الطليعة، ذلك لأن حزبنا تم تشكيله بالفكر الماركسي اللينيني وهو مفعم بأفكار هذا المذهب الكبير. بالنسبة لحزبنا، اللينينية هي العلم الحقيقي للانتصار. وسيبقى ذلك دائما بالنسبة لنا"172.

إن هذا الخطاب مقدم من طرف أحد التحريفيين الرئيسيين والذين سحقوا بأحذيتهم الماركسية اللينينية وفرضوا على الشعب السوفياتي سلطتهم البرجوازية. ذلك هو أحد مظاهر التذبذب لدى البيروقراطية البرجوازية الصغرى: فمن جهة هي في حاجة الى الاحتماء بخطاب أجوف يدعي الثورية وفي نفس الوقت يتهم الماركسيين اللينينيين بالدغمائية ومن جهة أخرى يظهرون كطبقة برجوازية تتبنى نمط عيش برجوازي. ومع ذلك، فإن قوة النظرية الماركسية اللينينية ستدفعهم باستمرار نحو الفشل. ومن أجل انجاز أهدافهم، كان عليهم إذن مراجعتها.

في مقال التالي سنتطرق بالتفصيل للخيانة العظمى للماركسية اللينينية من طرف التحريفيين، والتي لا زالت آثارها عالقة في خطاب جل الاحزاب التي تدعي الشيوعية أو الاشتراكية سواء في المغرب وفي العالم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ستالين، الأعمال، المجلد 10، الصفحة 286
2 – ستالين، المرجع السابق، المجلد 11، الصفحة 48
3 – ستالين، قضايا اللينينية، موسكو، 1951، الصفحة 470-471
4 – المرجع السابق، 463-464
5 – ستالين، المرجع السابق، المجلد 11، الصفحة 63
6 – تاريخ الحزب الشيوعي البلشفي، موسكو، 1949، الصفحة 294
7 – ستالين، الأعمال، المجلد 12، الصفحة: 287-288
8 – المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي للاتحاد السوفياتي، الصفحة 312-313
9 – دانيال كرانين، الباحثون، باريز 1958، الصفحة 70-72
10 – ستالين، المرجع السابق، المجلد 11، الصفحة 65
11 – مالنكوف، التقرير المقدم الى المؤتمر التاسع عشر للحزب حول أنشطة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي البلشفي للاتحاد السوفياتي، موسكو، 1952، الصفحة 106-107
12 – المرجع السابق، الصفحة: 108-109
13 – المرجع السابق، الصفحة 114، 115، 119، 121
14 – المرجع السابق، الصفحة 123
15 – لينين، المرجع السابق، المجلد 32، الصفحة 202
16 – منشورات نوفوستي، ثورة أكتوبر، موسكو، 1967، الصفحة 80-81