في مأسَسَة سلطة التحريم الثقافي - حديث النظرية والتاريخ


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 4011 - 2013 / 2 / 22 - 15:30
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

1.حديث النظرية والتاريخ

تعلّمت أن أتعامل مع الظواهر كدارس يحاول أن يتفهمها بموضوعية قد يتوصّل إلى تحقيقها بهذه الدرجة أو تلك. تعني دراسة الظاهرة، كما ارى، تناول أصولها، أسبابها، تجلّياتها ومآلها. لكن الموضوعية لايمكن أن تكون قناعا يخفي موت الضمير. فقد درس مئات، إن لم يكن آلاف الباحثين، النازية بموضوعية شديدة من دون إخفاء عدائهم الشديد لها. وأذكر أن مؤلفي كتاب كسب شهرة يستحقها، هما الصديقين الراحلة ماريون فاروق سلغلت وبيتر سلغلت، كتبا في المقدمة أنهم درسا التطور السياسي في العراق بموضوعية "لكن الموضوعية غير الحياد. وإن وجد القارئ أننا منحازان إلى الضحايا، فهو على حق".
إذن أتفهّم، ولا أبرر، موقف تحريم الفكر والممارسة البعثيين للنتاج الثقافي المغاير حتى لو كان ذلك النتاج صادرا من المنظومة الفكرية نفسها لكنه يشذ هنا وهناك عن الموقف الرسمي الحرفي للنظام الحاكم. أبرز مثال يحضرني هنا هو كتاب نال شهرة وقت صدوره هو "حرب تلد أخرى" للأستاذ سعد البزاز الذي يدير الآن امبراطورية إعلامية مهمة. سألت الصديق طلال سلمان رئيس تحرير صحيفة السفير اللبنانية عن دوافع نشر الكتاب مسلسلا في صحيفته فأجاب بأنه أراد اطلاع القارئ على رؤية مزوّقة للموقف الرسمي لنظام صدام حسين من حرب الخليج الأولى عام 1991. ومع هذا لم يسامحه البعث على ذلك. أما الجمهور الباحث عن تفسيرات لمواقف قيادة مغلقة تغلف كل مواقفها بسرية فقد رأى في العمل رؤية مغايرة. كان رأيي، ومايزال، أن الرجل أراد أن يلعب دور محمد حسنين هيكل الذي اعتاد أن يسّوق مواقف القيادة الناصرية بإسلوب يوحي بأنه صحفي مستقل لكنه لم يدرك أن نظام البعث لم يكن يحتمل حتى مسوّق كهيكل. باختصار، ليس الصوت المعادي وحده هو مايثير خشية المستبدين، بل هو أي صوت غير ممتثل.
يعرف القارئ العراقي والعربي عشرات الأمثلة الأخرى لعشرات الأنظمة الممائلة الأخرى، ليست منظوماتها الفكرية قابلة للإنفصال عن رؤيتها لعالم خارجي متؤامر ومعاد لقضية سامية كبرى، وعن نتاجات تعمل بوعي أو من دون وعي على خدمة تلك المخططات والمؤامرات. تفاوت نجاح تلك النظم في حجب آراء المعادين وفق ما أتيح لها من وسائل الإفساد المالي والقمع الوحشي فضلا عن قدرتها التقنية على حجب وصول المعلومة. وصار الحديث مألوفا عن صعوبة القيام بذلك بعد تطور وسائل التواصل الهائلة المختلفة عبر الإنترنيت. إلى جانب هذا، تفاوتت درجة النجاح بين نظام وآخر حتى قبل أن يعرف العالم تلك المنظومة. خذ مثلا دور الجغرافية. لم يكن بوسع نظام حافظ الأسد فرض تعتيم كاللذي مارسه نظام صدام حسين، لا لأن الأول كان أكثر تسامحا، بل لأن القرب من لبنان جعل من المستحيل عليه القيام بذلك برغم لجوئه إلى اغتيال الأصوات اللبنانية المعادية له. أما حظ العراق الجغرافي السيئ فقد جعل من شبه المستحيل على القنوات التلفزيونية المعارضة الوصول إلى المشاهد العراقي يوم لم تكن هناك قنوات فضائية وكان استخدام الصحون الفضائية جريمة.
هل استطاع نظام البعث العراقي حجب الصوت غير الممتثل عن الفضاء الثقافي العراقي؟ نعم، ولا. حزب واحد غسل عقول أجيال من الشباب الذين كبروا في ظل منظومته التعليمية والإعلامية. وفوق هذا كله، نظام بوليسي تغلغل في كل مسامات المجتمع حتى باتت قراءة، ناهيك عن توزيع، مطبوع غير ممتثل من كبرى الجرائم. ومع هذا، دمعت عيناي حين عدت إلى بغداد بعد سقوط النظام الوحشي. معرفة كثير من الأسماء، بما في ذلك أسماء شعراء مهمّين (وهمّ العراقي الشعر هو الشعر) كانت غائمة. آخرون لم يعرفهم العراقي قط، علما أن معظم هؤلاء كرّس عمله في المنفى لقضية شعبه. لايقتصر الأمر على العراق بالطبع. فحين عاد الروائي حامل جائزة نوبل سولزنستين إلى بلاده بعد سقوط الإتحاد السوفييتي، وجد أن كثيرا من الروس لايعرفونه أو لايهتمون به. إذن، أن أكتشف أن شابا مثقفا ومغامرا نقل كتابا لي، وكتاباتي ليست من النوع الجماهيري، بالقلم الرصاص ووزعه على جمهرة لا أعرف عددها، كان أكثر أهمية لي من كل التصفيق والإعجاب الذي لاقاه هذا وغيره من أبحاث من جانب أكاديميين ومعلقين آخرين عرب أو غربيين.
لأنتقل إلى حُرُم آخر على الثقافة لم يُمارس بوليسيا أو سلطويا. هو حُرُم تفرضه قيادة سياسية- ثقافية على نتاج ثقافي أو منتِج له. حرُم يحقق قدرا من النجاح يتناسب مع حجم أتباع تلك القيادة والمتأثرين بها. ولعل هذا الحُرُم أشد إيلاما لأن ممارسيه يطرحون أنفسهم نقيضا وبديلا لنظم الإستبداد. وأقصد بالسلطة الثقافية هنا غير ما يقصده مثقفون يرون أن كل ما لاينتمي إلى عالم الثقافة العلمانية خارج هذا التعريف. بالنسبة لي، أرى أن نتاج سيد قطب وابن تيمية والمودودي والصدر وغيرهم ثقافة لا تنزاح خارج هذا العالم لمجرد أن منتجيها أو متلقيها يقعون خارج مفاهيمنا. تبقى ثقافة كهذه قابعة في أدراج منتجيها إن لم يكن ثمة متلقّ. لكن هذا ينطبق على حال أنماط الثقافة الأخرى كذلك. وقد كان الحال هكذا حتى أوائل السبعينات إذ كانت الثقافة والعلمانية واليسار تبدو مفاهيم شبه متطابقة في أعين الجمهور. وككل ثقافة مهيمنة، تتألق لأنها مهيمنة، لكن الأخطر في الأمر هو أن إنتاج ثقافة كهذه يتكئ على سلطة غير حاكمة تؤمن لها غطاءا يشرعنه ويقنّنه. هو أخطر لأن مثقف تلك السلطة غير الحاكمة سياسيا يحتاج أكثر من غيره إلى الحماية والدعم، بل إنه بحاجة إلى دعم مالي يؤمّن له حياته فضلا عن الإستمرار في عمله. إنه وضع يفرض عليه قمع حسّه النقدي المتمرد كما يفرض عليه الخنوع لمن يؤمنون له ذلك. هو وضع تراجيدي يحيل من حَمَل قضية التمرد على الحكام المستبدين إلى ممتثل خانع يمارس دور الرقيب والقامع لرفاقه غير الممتثلين والواشي بهم إلى قيادته. لا أتحدث هنا عن المثقف المرتزق بالمعنى المبتذل وهو من نعثر عليه في كل زمان ومكان بالطبع. أتحدّث بالأحرى عن مثقفين يتحولون إلى مرتزقة باسم الدفاع عن المبادئ. من هنا وصفت تلك الحال تراجيدييا. يتسيّد المشهد الآن مثقف أو شبه مثقف يؤمن، أو يتقرّب إلى قادته بإظهار الإيمان، بضرورة فرض الحُرُم على الثقافة المتحدية والمثقف المستقل غير المدجّن أو التابع. أكان ممكنا إصدار فتوى تهدر دم سلمان رشدي وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد ونجيب محفوظ لو لم يكن ثمة قطيع لا يرى العالم إلا من خلال عدسة من يتبع؟
فماذا إذا لم يستند الحُرُم المدني إلى سلطة سياسية قادرة على القمع الجسدي؟ هل سيلجأ إلى المقارعة النظرية التي يفترض المرء أنها العدّة الأساس لحاملي فكرة ترى أنها الأكثر علمية ومنهجية عما عداها؟
نستمتع، نحن المثقفين العلمانيين، بتسجيل أهداف في ملعب خصمنا المؤمن بشكل سلفي من أشكال الإسلام السياسي. أهداف استحققنا بعضها بجدارة كما أظن. لكن بوسع "خصمنا" تسجيل أهداف لاتقل جدارة. أدّت "الفتوى" الستالينية بانحراف تروتسكي إلى قطع رأسه بالفأس وهو في منفاه في المكسيك. وأدت فتوى مشابهة إلى تعليق إمري ناجي، زعيم الحزب الشيوعي الهنغاري الداعي إلى شيوعية ديمقراطية، على حبل المشنقة. وأدت محاكمات أواخر الثلاثينات لأبرز قادة الحركة الشيوعية العالمية إلى إعدامهم بتهم الإنحراف اليميني و"العمالة لألمانيا"!
يعرف جلّ، إن لم يكن كل، الجمهور المعني بالشأن العام أن اليسار كان مهيمنا على النشاط السياسي النقدي للنظم الحاكمة في المشرق، وكان مهيمنا بالتالي على الحياة الثقافية. وانتعش النشاط الفكري العلمي مستفيدا من وسائله في إيصال المعلومة والفكر إلى الجمهور العام. نشر عبد الملك نوري أولى أعماله القصصية في مجلة الثقافة الجديدة التي اصدرها الحزب الشيوعي العراقي. وكذلك كان الحال مع الإقتصادي الكبير ابراهيم كبة والشاعر حسين مردان وغيرهم. لكن الحُرُم فُرض على من لم يتساوق مع خط الأحزاب الشيوعية في مصر والعراق ولبنان والأردن وسوريا: ذو النون أيوب أحد رواد القصة العراقية القصيرة، بندلي جوزي رائد التفسير الماركسي للإسلام، و... بدر شاكر السياب وعشرات، إن لم يكن مئات، غيرهم.
حتى حين أحس الشيوعيون بالإنحسار المريع لجماهيريتهم، ظل وهم قدرتهم على شل قدرة الماركسيين على رفض تفسيرهم له والبقاء متمسكين بذلك المنهج ملازما لهم. لن أنسى شعوري بالصدمة حين أقترحت على رفاقي المحتفين، عن حق، بكتاب جون ريد "عشرة أيام هزّت العالم" عن الثورة البلشفية الروسية بقراءة الترجمة الرائعة التي قام بها فواز طرابلسي. كان ثمة جواب جماعي هو أن عليهم قراءة الترجمة (شديدة الرداءة) الصادرة عن دار التقدم في موسكو خوفا من أن يدسّ المترجم أفكارا تحريفية في النص.


يليه الجزء الثاني: حديث الملموس