في أسس الحل السياسي كضرورة وطنية


شاهر أحمد نصر
الحوار المتمدن - العدد: 4000 - 2013 / 2 / 11 - 12:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


(نص المحاضرة التي ألقيت في فرع طرطوس لاتحاد الكتاب العرب بتاريخ 10/2/2013)
عشرات الآلاف من الشهداء العسكريين والمدنيين، ملايين المهجرين داخل وخارج البلاد يعانون أبشع أشكال الهوان، مئات الآلاف من المنازل والأبنية العامة والخاصة المدمرة، وحالة مرعبة من الخراب، والدمار، والموت تخيم على الوطن لحد يفوق المعقول؛ والحال يزداد سوءاً يومياً مع استمرار الصراع المسلح الذي يُجمع كثير من الخبراء على أنّ حسمه مكلف إن كان ممكناً، وتدفع سوريا وحدها ثمنه الباهظ... وفي الختام سيصل الجميع إلى تبني حل سياسي؛ فلماذا لا يتوقف هذا الدمار العبثي، ويعتمد ذلك الحل السياسي؟!
إذا كانت مقدرات أي بلد، وأفقه، وتوازناته الاجتماعية، وتطلعات أبنائه تتجلى، ويتم التعبير عنها وتكثيفها بسياسة الحكم في هذا البلد، فإنّ الحرب هي أبشع شكل من أشكال السياسة للتعبير عن التناقضات لتي تعتمل فيه، بل هي تعبير جلي عن فشل النهج السياسي... ويترك فشل النهج السياسي تداعيات سلبية على مختلف مناحي الحياة في أية دولة، كما يترك آثاراً سلبية جمة في المجتمع والدولة، لا يمكن معالجتها إلاّ بإعادة التوازن والسلامة لذلك النهج السياسي.
إنّه لسؤال مشروع: ما الغاية من هذا الدمار؟ وفي صالح من؟
يرى مختلف المفكرين والمسؤولين السياسيين، في الداخل والخارج، من هيئة الأمم المتحدة، ورئيسها ومندوبها إلى سوريا، ورؤساء مختلف الدول العظمى، والدول الإقليمية، والدول العربية، وجامعتها أنّ الحل السياسي هو المخرج السليم للأزمة السورية، إن لم يكن الوحيد؛ فلماذا يستمر الصراع المسلح؟!
هل يستمر هذا الصراع لتحديد أسس وأطر الحل السياسي؟! وما هي أسس الحل السياسي الذي يمكن أن يتفق الجميع عليه؟! لعل جوهر المسألة يكمن هنا...
في آراء المفكرين حول ما يجري:
عند البحث عن الحل السياسي لأية معضلة من الضروري تحليلها، وتحديد مسبباتها، وجذورها، وتحديد التناقضات الداخلية والخارجية، الذاتية، والموضوعية التي أدت إليها، لوضع الحلول لهذه التناقضات، ومعالجتها. ولعل أبسط درجة من التحليل هي توصيف الحالة التي يتم معالجتها. هل هي منعزلة عن محيطها، أم أنّها تؤثر، وتتأثر به؟ هل توجد قواسم مشتركة بينها، وبين حالات أخرى مرتّ، وتمر بها دول محيطة؟ والحالات المقصودة هي حالات التغيير الكبير الذي تشهده الدول العربية. أي من الضروري، والمفيد توصيف الحالة العامة التي تسود في أغلب البلدان العربية التي تشهد تغيرات في بنيتها السياسية. هل هذه الحالة هي ثورات أم مجرد مؤامرة تقودها الإمبريالية والصهيونية؟! لأنّ الجواب على هذا السؤال سيؤثر على معالم الحل السياسي للخروج من الأزمة.
انقسم المفكرون، والباحثون، والمثقفون العرب عند معالجة هذه المسألة إلى عدة اتجاهات: اتجاه يعد ما يحصل ثورة لا بد أن تصل إلى مبتغاها، واتجاه يرى فيما يجري على الساحة العربية نتيجة مؤامرة تحاك ضد هذه المجتمعات من قبل الغرب للهيمنة على مصادر الثروة فيها، والتحكم بإرادتها، وقراراتها السيادية الوطنية... ويكتفي بعض الباحثين، والمثقفين، والسياسيين المستفيدين من البنى المهيمنة، والمتأثرين بها، بكيل الشتائم على هذه الحالة، ويتبارون في وصفها بأشنع الصفات، معبرين عن أسلوب بائس، وضيق أفق في التفكير... وسنستعرض بعجالة آراء بعض المفكرين العرب، والسوريين من داخل سوريا حول هذه المسألة:
يعدّ الدكتور صادق جلال العظم ما يجري في العالم العربي ثورات من نمط جديد، ويرى أنّ أبرز مفاجآت الثورات العربية هي " الابتعاد الكلي ونبذ تقريباً نمط الحركات الاجتماعية التي عرفناها في السابق. فالهتافات التي كانت تهتف، والشعارات التي كانت ترفع فيها كلها اختفت تقريباً... الآن نرى روحاً وممارسة جديدتين، وأكبر مفاجأة هي القطيعة مع النمط القديم في طريقة الاحتجاج والتظاهر المدني. وهذا فيه نوع من النضج العالي". (مقابلة: منى نجارـ مراجعة: لؤي المدهون ـ موقع قنطرة الإلكتروني 2011)
كما أنّ الدكتور طيب التيزيني يعدّ ما يحصل في البلدان العربية ثورات، مع أن تطور الأحداث يبين أن واقع الحال "الذي أفصح عن نفسه، يظهر بعض المشكلات... التي تشغل مواقع مهمة في مسار تلك البلدان. فبرزت، على سبيل المثال، مشكلات التعددية السياسية، والعلاقة بين السياسة والدين، ونمط الحكم: برلمانياً كان، أم رئاسياً، وخطط العمل فيما إذا كان المطلوب منها أن تكون ذات طابع إنقاذي سريع، أم يمكن أن تأخذ طابعاً استراتيجياً بعيد المدى، أو أن نجمع بين الصيغتين معاً، وغير ذلك كثير". (الثورة واستحقاقات التعددية ـ الحوار المتمدن 18-1-2012)
ويرى الدكتور عارف دليلة أنّ "ما يجري "ظاهرة موضوعية"، وهو حراك ثوري بالدرجة الأولى واستمرار لنضال الشعب الذي لطالما قدم الطليعيين من النخب المعادية للفساد، والمناضلة من أجل التغيير، والإصلاح السياسي، والاقتصادي" صحيفة الأخبار ـ العدد ١٨٣٠ الأربعاء ١٠ تشرين الأول ٢٠١٢
أما ميشيل كيلو، فيرى أنّ الثورة: "في البلدان العربية كانت "فاعلية مجتمعية" وليست حزبية أو نخبوية، الثورة هنا لم تصنعها طليعة، أو حزب، أو نخبة، وإنما صنعها مجتمع لم يعد يستطيع تحمّل ما يتعرض له من ظلم متزايد. وصنعها إنسان حريته هي مطلبه الوحيد. حوّل شأنه الخاص إلى شأن عام، وحوّل الشأن العام إلى شأن خاص وخرج إلى الثورة" (مقابلة بيار عقل الاربعاء 8 آب (أغسطس) 2012 ـ موقع
ww.middleeasttransparent.com/spip.php?page...id...
ويحذر أدونيس من نتائج الصراع الحاصل قائلاً: "الدكتاتورية ليست مجرد بنية سياسية٬ إنها بنية ثقافية اجتماعية. إنها في الرأس قبل أن تكون في الكرسي. لا بد في الثورة من أن يقترن مشروع تغيير السلطة أو النظام السياسي اقتراناً عضوياً بمشروع آخر هو تغيير المجتمع سياسياً وإدارياً٬ ثقافياً واجتماعياً". (من الكلمة التي ألقاها في مؤتمر جنيف للمعارضة السورية بتاريخ 28-1-2013 ـ شبكة الانترنت)
ويرى الدكتور عزمي بشارة أنّ "ما يحصل في العالم العربي هو تحول تاريخي، وفجر عصر جديد. لقد خرج المواطن العربي إلى المجال العام، وخرجت مجتمعات بأكملها تطالب بحقها بالحرية، والمساواة أمام القانون، وتؤكد على كرامتها ضد ممارسات القمع السلطوية، وعشوائية الاستبداد، وتعبر عن موقفها الرافض للفساد." (صفحة د.عزمي بشارة على موقع الفيس بوك: 25-1-2013)
وبعد التعرف إلى آراء أولئك المفكرين العلمانيين، من المفيد التعرف إلى آراء مفكرين إسلاميين عرب فيما يحصل: "سبب هذه الثورات في نظر الصادق المهدي، من السودان، "هو أن الشعوب العربية لديها مظالم مشتركة، عبارة عن سلطان متحكم، واقتصاد ظالم، وإعلام "طبال"، وأنظمة تستقوي بالخارج، كما أن لديها أيضاً تطلعات مشتركة، هي رغبتها في حكم رشيد، واقتصاد يكفل المعيشة للجميع، وعدالة اجتماعية، وسلام عادل، وعلاقة ندية مع الآخر، بما في ذلك الغرب". ويضيف الدكتور محمد الخطيب، من الأردن، سبباً آخر لاندلاع الثورات أسماه "تحالف السياسة والثروة" الذي أدى إلى وجود الغنى الفاحش مقابل الفقر المدقع في العالم العربي. ويرى المهندس مروان الفاعوري، من الأردن، "أنه على التيارات الإسلامية أن تتصالح فيما بينها، ومطلوب منها الآن أن تتحد في بناء الأوطان وأن تبتعد عن الإقصاء المتبادل الذي عانت منه طويلاً. ورأى أن عليها أن لا تختزل الإسلام في تطبيق الشريعة الإسلامية، وإقامة الحدود، كما أن على التيار العلماني في المقابل أن يقبل بقيادة الإسلاميين للربيع العربي، وأن لا يقلب الطاولة عليهم، في محاولة منه لخلط الأوراق." (انظر: الندوة التي نظمت بالعاصمة المغربية الرباط في كانون الثاني (يناير) عام 2012 حول أسباب الاندلاع المفاجئ للثورات العربية موقع المصدر في شبكة الانترنت الدولية).
وتوجد فضلاً عن آراء المفكرين الوردة أعلاه، آراء أخرى لباحثين ومثقفين وسياسيين، ـ كما قلنا ـ ترى فيما يجري مؤامرة تحاك ضد هذه المجتمعات من قبل الغرب... آراء نرى أنّ أغلبها لا يبحث في التناقضات الداخلية في المجتمعات وفي البنى الحاكمة التي قادت إلى هذه الأزمة. وهذه الآراء معروفة للجميع، لأنّ الإعلام الرسمي، بكل وسائله، مليء بها، وإعلام اتحاد الكتاب العرب في دمشق أحد دعاتها...
إنني أرى في الرأيين كليهما جانباً من الصواب، وفي هذا المجال، من الضروري التأكيد على أنّه من غير المنطقي تجاهل مسألة المؤامرة؛ فالتآمر على بلادنا وشعبنا مسألة تاريخية؛ كانت، وستبقى موجودة، فالصراع مع المشروع الصهيوني مستمر، وإسرائيل تحتل الجولان ومزارع شبعا ولا تعترف بحقوق الشعب العربي الفلسطيني، وتطمح في تدمير بلادنا، وتوجد دول كبرى كالولايات المتحدة الأمريكية ترى في أمن إسرائيل وتفوقها على العرب جميعاً أولى أولوياتها... ومن الخطأ دفن الرؤوس في الرمال، وعدم رؤية هذه المخاطر، ولكن وفي الوقت نفسه من الضروري ألا تجعلنا هذه الحقيقة نخفي رؤوسنا في رمال المؤامرة، وتعمينا عن رؤية الأزمة في البنية السياسية المهيمنة...
ولادة التاريخ:
قد لا يكون التمسك بحرفية المصطلحات عند توصيف هذه الحالة كافياً، أو دقيقاً للتعبير عن واقع ما: أهي ثورة، أم انتفاضة، أم حراك شعبي... إنما التحليل العلمي الموضوعي المجرد عن الهوى، والتحليل القائم على ما اصطلح تعريفه بالحالة الثورية، ـ التي تنشأ كما اتفق علماء الاجتماع، عندما تكون علاقات الإنتاج (أي طبيعة ملكيته، ومراقبته، أو التحكم فيه (البنيان الفوقي) عاملاً يَحدّ من نموّ وسائل الإنتاج؛ هذا التعريف الذي طور لاحقاً، ليعبر عن تلك الحالة التي لا يستطيع فيها البنيان الفوقي الاستمرار في الحكم، وفق النهج القديم، في الوقت الذي تفقد فيه البنية التحتية إمكانية الاستمرار في وضعها المأساوي المتردي؛ ـ يبين هذا التوصيف أنّ المجتمعات العربية وصلت إلى هذه الحالة... ألم تصبح البنى الحاكمة متخلفة عن متطلبات التطور التاريخي في عصر المعلوماتية والتغيير المستمر، وأخذت تلعب دوراً معرقلاً، وكابحاً لتطور المجتمعات العربية؟! ألم تزدد الفروقات الطبقية حدة، فازدادت الأقلية الغنية غنىً، وازداد الفقراء فقراً، مع ازدياد نسبة البطالة خاصة في صفوف الشباب إلى مستويات عالية قادت إلى تفجر الحالة الاجتماعية في البلدان العربية؟!... وهذا ما قاد إلى ولادة التاريخ في العالم العربي، لقد "ساهم التطور التكنولوجي العالمي، والثورة المعلوماتية وانتشار شبكة الانترنت الدولية في صياغة وتشكل ثقافة جديدة في صفوف الشباب تتجاوز ثقافة الخنوع، كما ساهم امتزاج حالة تفشي البطالة وهذه الثقافة معاً في تشكل فئات جديدة في المجتمعات العربية ذات ثقافة جديدة عالية، ولا تملك شيئاً، وبالتالي لا يوجد لديها إن ثارت ما تفقده، مما جعلها من حيث لا تدري فئة ثورية بامتياز... وأدى تعنت وفساد الطبقات الغنية الحاكمة، وانفصالها عن أحوال شعوبها، وعدم قبولها أية نصيحة للقيام بالإصلاحات السياسية الضرورية لمواكبة متطلبات العصر، وازدياد الفروقات الطبقية حدة، وانسداد الأفق السياسي والاقتصادي إلى خلق حالة ثورية حاملها الأساسي تلك الشبيبة المثقفة المتنورة التي تدعو إلى العدالة الاجتماعية، ومكافحة الفساد والمفسدين، وحرية الرأي، والكرامة الإنسانية، وبناء المجتمع على أسس متحضرة سليمة... وأدى كل ذلك إلى اندلاع لهيب الثورة... فكان للشبيبة العربية في تونس ومصر شرف تدشين الثورات الحديثة في القرن الواحد والعشرين...
ومن ميزات هذه الثورة، أنّها كانت أكبر من جميع الأحزاب والأطر والقادة، وهذه ميزة عصرية تمتاز بها عن بقية الثورات التي عرفتها شعوب العالم، ولعلّ من أفضالها أنّها لم تستسلم لقيادة شخص محدد، يقوم بذبح الثوريين الذين ناضلوا ضد الأنظمة البائدة، وساندوه وهو سجينا،ً فأعدمهم بعد انتصار الثورة، واستلامه قيادتها، كما حصل في ثورات سابقة... (شباط ـ 2011 ـ شاهر أحمد نصر ـ الحوار المتمدن ـ شبكة الانترنت الدولية)
أهي مؤامرة:
ومن الضروري التأكيد على أنّ حركة التغيير التي تشهدها البلدان العربية نتيجة التناقضات العميقة التي تعتمل في مجتمعاتنا، لا تلغي ولن توقف التآمر على بلداننا، وعلى شعوبنا من قبل أعدائها... ومن الضروري الانتباه إلى حقيقة أن قوى كثيرة، ستحاول إفشال الثورات، وستبذل كل ما في وسعها لإجهاضها، أو التقليل قدر ما تستطيع من إنجازاتها... ويكمن السبب الجوهري لذلك في أنّ بناء المجتمعات العربية على أسس ديمقراطية حضارية متطورة سيفقد إسرائيل بعض حماتها... فضلاً عن أنّ هذه الثورات تهدد الرأسماليين المحدثين الفاسدين أيضاً، مما يدفعهم للوقوف في وجهها لإجهاضها.
وفي هذا السياق من الضروري مناقشة بعض الآراء التي تؤكد على أنّ ما يحصل في العالم العربي مؤامرة تحاك ضد شعوبنا، وتدلل على رأيها بتسليط الضوء على مسألة استيلاء الإخوان المسلمين على السلطة في مصر، والتساؤل إن كانت هذه النتيجة هي فعلاً ثورة أم ارتداد، وهل هذا ما تتوق إليه الثورات العربية؟!
وفي هذا الصدد من المفيد معرفة أنّ الثورة ليست فعلاً آنياً تُحصَد ثماره مباشرة، كأن نقول للأمر كن فيكون، بل هي عملية تراكمية، خاصة أن المجتمعات العربية كانت قد مرت بفترة طويلة من العقم السياسي، ساد فيها خوف أبناء المجتمع من العمل السياسي، وابتعادهم عنه بفعل أجواء القمع والاستبداد، وحالات الطوارئ التي سادت لعقود طويلة... ونتائج الثورات قد تحتاج لأجيال من تراكم الفعل السياسي الاجتماعي كي تحصد الشعوب ثمارها، وهذا يتطلب وقتاً، وفي هذا السياق من المفيد التذكير بأنّ الثورة الفرنسية، على سبيل المثال، استمرت عشر سنين (منذ عام 1789 ولغاية عام 1799)، ومرت في ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: ((تموز (يوليو) 1789 - آب (أغسطس) 1792))، مرحلة الملكية الدستورية، التي تميزت باقتحام سجن الباستيل في 14 تموز (يوليو) 1789، ووضع أول دستور، وبيان حقوق الإنسان والمواطن، وتأسيس الجمعية الوطنية، وإلغاء حقوق الأمراء والارستقراطيين. وتميزت هذه المرحلة بظهور نظرية العقد الاجتماعي لـجان جاك روسو.
المرحلة الثانية: ((آب (أغسطس) 1792 – تموز (يوليو) 1794))، فترة بداية الجمهورية الفرنسية الأولى، والنظام الجمهوري، وتصاعد التيار الثوري المتشدد، وإعدام الملك لويس السادس عشر، وتحويل فرنسا إلى نظام جمهوري متشدد. بداية حكم الإرهاب ـ روبسبير وإعدام الكثيرين
المرحلة الثالثة: ((تموز (يوليو) 1794 – تشرين الثاني (نوفمبر) 1799)) مرحلة انحسار الأعمال الثورية المتشددة بالتدريج، وعودة دور البورجوازية المعتدلة، ووضع دستور جديد، وتحالف الثوار مع الجيش، وانتهت بوصول نابوليون بونابارت إلى الحكم.
لعل في هذا المثال عبرة للمشككين.
ونعود ونؤكد على أنّه من الضروري أن يعالج التباين في الآراء بين المفكرين العرب حول هذه الأحداث بالحوار، لا بالعداوة، ولا الإلغاء... يرى أصحاب النظرة الثورية وجود غشاوة على عيون من هم في الطرف الآخر، ويتساءلون: إن كان ذلك ضيق أفق، وسطحية، أم خلل في الحس السليم، ومنهج التفكير! وتزداد التساؤلات، ويتعمق الاستغراب، والأسف! وفي الوقت نفسه ينظر أصحاب الفكر الآخر إلى أصدقائهم أصحاب الرأي المخالف ـ النظرة نفسها، محفوفة بالاستغراب والأسف، فالتباين والاختلاف والتعارض في الآراء، والأفكار سمة من سمات الحياة، والتاريخ هو من سيحكم على صحة الأفكار، إنما هذا الاختلاف يجب ألا يعالج بإلغاء الآخر، والتضييق على الفكر المعارض، وعدم نشره، ولا بالعداوة، أو العنف؛ بل بالجدال، وبالحجة، والبرهان، والإقناع... ولا يبرر هذا التباين، والاختلاف أن يقتل الواحد الآخر، أو أن يسمح بوصول الصراع إلى مستوى الإلغاء، والعنف... وعلينا في الوقت نفسه الإقرار بأنّ كافة الآراء والاتجاهات المختلفة والمتباينة، وحتى المتناقضة ستبقى موجودة في مجتمعنا وفي الحياة... ومن الضروري أن تمتلك كافة التيارات الفكرية، وممثلوها حق الوجود، والتعبير عن نفسها، فالوطن يبنى بجهود كافة أبنائه، مهما اختلفت آراؤهم، ومناهج تفكيرهم، ومن الضروري أن تعلن جميع الأفكار بصدق وصراحة وموضوعية، لا أن تتلون، ليس المهم طرح الأفكار التي تسر الأصدقاء، بل المهم مقاربة الحقيقة، فصديقك من صدقك، وصالح الوطن هو الأول والأساس، وهذا ما يقودنا إلى الحديث من القلب عن مأساة وطننا الذي يبقى همنا الأول...
لنبدأ من النهاية:
قليلون من توقعوا عدم حسم الصراع في بلادنا قبل نهاية عام 2012. ومع حلول عام 2013 يبقى الصراع مفتوحاً، مع أن خاتمته معروفة لكل محلل يرى فيه صراعاً بين بنية سياسية تجاوزها الزمن، ومتطلبات العصر المنسجمة مع إرادة الشعب؛ ببناء دولة مدنية برلمانية متحضرة على أسس دستورية ديمقراطية تعددية، تسمح بتداول السلطة، وتجديد بنيانها... ومع القناعة بأنّنا سنصل في نهاية المطاف إلى تطبيق هذه الأسس، وبناء الدولة المدنية العصرية فأنّه كان من الحكمة تجنباً لكثير من الضحايا، وهدر الطاقات، والزمن، البدء من هذه النهاية منذ بداية الأحداث، مع استمرار الحراك الشعبي المدني السلمي لأشهر، رافعاً مطالب أقر الجميع بشرعيتها. إلاَ أن قوى متضررة من التغيير أخذت تبحث عن سبل احتواء الحراك الشعبي السلمي، لخص الأستاذ فاروق الشرع ذلك في لقائه مع صحيفة الأخبار في أواخر عام 2012، بقوله: "في بداية الأحداث كانت السلطة تتوسل رؤية مسلح واحد، أو قناص على أسطح إحدى البنايات"، ومن يعيد تذكر تسلسل الأحداث، يلاحظ كيف أخذت تنتشر مصطلحات: المندسين، والمسلحين، والمأجورين، ولوائح العار... وكيف أخذ يهرب السلاح... وأخذت تسقط الضحايا... التي تحتاج إلى تحقيق نزيه في كيفية، وأسباب حصولها... وأخذ الصراع يتعقد وامتد من صراع في سوريا ناتج عن تناقضات داخلية بالدرجة الأولى، لتتداخل فيه حلقات جديدة لصراع على سوريا في سوريا، وحلت لحظة يحاول فيها أعداء سوريا استثمارها إلى أقصى حد، وإطالتها إلى أبعد مدى...
من يوقف الدمار قبل فوات الأوان:
مع التأكيد على أنّ الأسباب الجوهرية للصراع هي التناقضات الداخلية، ولن ينتهي هذا الصراع إلا بمعالجة تلك التناقضات، كما أسلفنا، فإنّه من المفيد، والضروري التمعن في أهداف كثير من القوى، والدول التي يبدو أنّها تتنازع على سوريا في سوريا، من دول إقليمية يريد بعضها أن يحول سوريا إلى خندق دفاعه الأول، ويطمع آخرون في إعادة عمارها، ويهدف آخرون لتدميرها...
ناقوس خطر
لا شك أنّ المستفيد الأول من تدمير البنية التحتية والدفاعية في بلادنا هم أعداؤها، ولا شك في أنّ إسرائيل تطمح لزيادة النعرات والعداوات في المجتمع السوري، وترغب في تدمير ليس فقط البنية الاجتماعية، والبنية التحتية الاقتصادية، بل ويهمها في الدرجة الأولى تدمير تلك القواعد الصاروخية التي لا مثيل لها، حتى على أراضي دول حلف وارسو السابق، والتي بنيت في الثمانينيات، إبان حكم أندروبوف، ـ تلك التي أسقطت طائرتين أمريكيتين فوق سماء بيروت، وتلك التي أبعدت الأسطول السادس عن شواطئ بيروت في عام 1982 ـ ولو تطلب تدميرها استخدام صواريخ تحمل اليورانيوم المخصَب، كما حصل في العراق، وما سيخلفه ذلك من أمراض سرطان وأوبئة وأضرار على الإنسان، والنبات، والحيوان في سوريا... فضلاً عن القضاء على سلاح الطيران السوري، وإعادة سوريا عقوداً إلى الوراء، وقطع علاقاتها مع أية دولة صديقة يمكن أن تزودها لاحقاً بالسلاح لحماية الأمن الوطني، ولاستعادة الجولان...
من الضروري لكل مهتم في شؤون البلاد أن يأخذ جدية هذه المسألة بالحسبان، وإيقاف أي نهج يُستغل لتدمير مقدرات البلاد... والتوجه إلى الحل السياسي كمخرج رئيسي يجنب الوطن مزيداً من الخسائر، والفرقة الاجتماعية، والدمار المتصاعد في البنى الاقتصادية، والاجتماعية، والعسكرية...
العالم يتغير، وروسيا تتغير
ومن الضروري الانتباه إلى حقيقة أنّ إسرائيل تعتمد في تحقيق أهدافها هذه، ليس فقط على الولايات المتحدة الأمريكية التي تعد أمن إسرائيل أولى أولوياتها، وليس على أوربا فحسب، بل، ومن الضروري الانتباه إلى أنّها تجهد للاعتماد على قوى صديقة لها في روسيا، أيضاً... فـ روسيا اليوم ليست هي روسيا نفسها إبان العهد السوفيتي، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية ترتبط البنية الحاكمة في روسيا بأوثق الروابط مع إسرائيل... "في 27 شباط (فبراير) عام 2008 خطب حاخام روسيا بيرل لازار في في هيئة شابد في أوكسفورد (الموقع الصوتي: http://www.chabadreseareach.co.uk/oxford/rabbiberllazar.mp3
وإليكم بعض المقتطفات من خطابه: "لم يقم أي زعيم روسي، أو سوفيتي في أي وقت بفعل مقدار ما فعله فلاديمير بوتين لليهود. في جميع المجالات... أكد أريل شارون في جلسات ثقة معي، عدة مرات، بعد العديد من لقاءاته مع ف. بوتين أنّه "يوجد لدينا، نحن اليهود، ولدى إسرائيل صديق كبير في الكرملين"... إننا نحصل على أكثر مما يمكن أن نتمنى... (انظر: يوري موخين ـ الكسندر شابالوف ـ لماذا تكذب كتب التاريخ ـ دار الطليعة الجديدة ـ دمشق -2012).
ولقد كرر جيرونوفسكي رئيس الحزب الليبرالي والمرشح لرئاسة روسيا عام 2012 في خطابه الذي نقلته قناة روسيا 24 التلفزيونية مباشرة، تلك الأفكار...
نحن في حاجة إلى صداقة جميع الدول
إنني لا أورد المعلومات أعلاه للدعوة إلى اتخاذ موقف مسبق من روسيا على الإطلاق، بل نحن في حاجة إلى صداقة جميع الدول، وفي مقدمتها روسيا، لا سيما بعد استتباب الأمور والبدء بوضع سياسات التنمية الاقتصادية، والبشرية، الإستراتيجية، ليس التقنية وحدها، بل ولتطبيق سياسات النمو الاجتماعي، والسياحي، والاقتصادي، وسيكون ذلك ضرورياً لمن سيهمه تطوير وتنمية سوريا... هذا، وفضلاً عن أصدقاء إسرائيل في روسيا، توجد، أيضاً، فئات واسعة من المثقفين، والمفكرين، والكتاب، والضباط الروس الكبار الغيورين على مصالح روسيا الوطنية، والصادقين في صداقتهم مع الشعوب العربية، التي تربطها مع الشعب الروسي أواصر صداقة تاريخية... وتوجد، أيضاً، في مفاصل الإدارة الروسية، شخصيات وطنية تطمح لإعادة دور روسيا على الساحة الدولية، وتجاوز مرحلة هيمنة القطب الواحد في السياسة الدولية، والسعي لإقامة نمط جديد من العلاقات الدولية يقوم على أسس قوانين الشرعية الدولية، وتحقيق مصالح جميع الدول والتعاون فيما بينها...
ستنتصر إرادة الشعب
وبالعودة إلى المسألة الرئيسية التي نناقشها، نرى أنّه، وإلى جانب الدول، دخلت قوى متعددة في الصراع في بلادنا، ومن بينها قوى تتبنى شعارات لم تكن مرفوعة إبان الحراك الشعبي السلمي، شعارات متخلفة ومتطرفة، وسيترك انتصارها آثاراً كبيرة على مستقبل التطور في سوريا، وقد تكون تلك القوى من إفرازات الحياة السياسية الاجتماعية، والواقع الموضوعي الذي تتجسد فيه وحدة وصراع المتناقضات والأضداد، فضلاً عن أنّها من تداعيات الحالة التي تخلق التربة المناسبة للتدخل الخارجي... وكيلا ينتصر أو يسود أحد الأضداد المغالية في الراديكالية والتطرف، نأمل أن يفرز الواقع قوى جديدة جديرة بأخذ البلاد إلى بر الأمان، والحل السياسي هو السبيل لذلك... ولمن يتخوف من سيادة التطرف في بلادنا نقول: إنّ بنية المجتمع السوري أكبر ضامن لعدم حصول ذلك، فهي بنية أفرزت تاريخياً المحبة، والوئام بين جميع السوريين، من مختلف المذاهب، والطوائف، والانتماءات، وهذه البنية بطبيعتها حامل اجتماعي ليس للتطرف بكافة ألوانه، بل للاعتدال وللقيم الحضارية... هذا لا يعني تجاهل ظاهرة محاولة فرض حالة من الجنون واللاعقلانية، تهيمن فيها القوة والعضلات، وينحى العقل والعقلاء جانباً، وما ينجم عن ذلك من مخاطر على البنية الاجتماعية والوطن، وأؤيد الرأي القائل بأنّ المسألة معقدة، وليست بهذه البساطة، إنها بحاجة إلى عقل راجح، وحل سياسي، الذي أصبح من ضرورات أمن وحماية سيادة الوطن، ويؤمن الأجواء السليمة لتنمو قواه الوطنية الخيرة وتنضج بعيداً عن العنف، والبطش، والاستبداد...
ضرورة إعمال العقل
لا يمكن إعادة التاريخ إلى الوراء مهما حاول أعداء سوريا، مهما ازداد ضيق الأفق، والحقد، ومهما حصل من قتل وتدمير... من الضروري إعمال العقل، ورؤية الواقع، وصيرورة الحياة كما هي، والإقرار بأنّ عمليات التجميل لم تعد تجدي، وصدق من قال: لا يصلح العطار ما أفسد الدهر... من الضروري تنفيذ التغيير الذي تتطلبه الحياة، وإرادة الشعب، وتجنيب الوطن الدمار الذي يخدم أعداءه... تحتاج الأوطان إلى عقل استراتيجي واسع الأفق يضع صالح الوطن، والشعب، وحمايته من العبث، والدمار فوق كل الاعتبارات، والمصالح الذاتية؛ في مثل هذه اللحظات التاريخية يتوحد الخاص والذاتي بالعام، ويبقى الصالح العام هو ضامن الخاص، والذاتي، وحاميه. ومهما ازداد التنافر بين القوى، ستأتي لحظة تكون الأغلبية من جميع الأطراف المتنافرة جزءاً من الحل، وسيحتاج الوطن إلى الجميع، إنما ستكون عملية إعادة التأهيل صعبة، وواسعة، وعميقة، وشاملة، أساسها الحل السياسي، وهذا يؤكد ضرورة الابتعاد عن مقولة: من ليس معنا فهو ضدنا، بل إن كل من هو مع الوطن، وأمنه، وسيادته، ومع تطلعات الشعب هو معنا... وكما علمتنا الحياة، جميع من مروا وسيمرون على هذا التراب إلى زوال، والبقاء للأرض، والشعب، والأوطان، فهلا أعملنا العقل، وتبنينا حلاً سياسياً يبدأ من النهاية، لإنقاذ الشعب، والوطن... ويبقى السؤال المشروع: ما هي أسس هذا الحل السياسي، وكيف يمكن تحقيقه؟
من الضروري الاعتراف أولاً بأنّ الأزمة الوطنية السياسية الشاملة في جانبها الأساسي، هي نتيجة تناقضات تناحرية داخلية تترافق مع تآمر الأعداء لتدمير وطننا، وتحتاج إلى حل سياسي يقود إلى معالجة هذه التناقضات، وأن يكون منسجماً مع متطلبات الحياة؛ أي يخضع للأسس التي تبنى عليها الدول العصرية المتحضرة، وينطلق من أسس عامة يتفق الجميع عليها، وعلى الجدول الزمني لتطبيقها، وأهمها:
ـ ضرورة وجود حالة من الأمان توقف فيها العمليات العسكرية، مع إدانة ووقف جميع الأعمال الإرهابية، وخلق الظروف الملائمة لعودة النازحين والمهجرين، والتأسيس للعملية السياسية المنشودة التي تقود إلى التغيير الذي يصبو إليه أبناء الوطن... ونظراً لتعقيد الحالة المحيطة بالبلاد، ووجود قوى عالمية مؤثرة على أطراف كثيرة في الصراع يتآمر بعضها على بلادنا، فإنّ هذه الحالة تتطلب، مع التأكيد على رفض التدخل العسكري الخارجي، دعم جهود الأمم المتحدة، ومبعوثها الإبراهيمي، في وضع أسس تدعمها الأمم المتحدة، وتلتزم بها تلك الأطراف لوقف أعمال العنف، والأعمال العسكرية لخلق أجواء الأمان، والثقة، التي تسمح بعودة المهجرين، وبتجاوز حالة الصمم السياسي، عبر عملية سياسية تحدد أطرها من قبل جميع الأطراف، وليس من قبل طرف واحد... إذا أردنا أن تكون هذه العملية السياسية مجدية، فمن الضروري أن تتم بين القوى الفاعلة على أرض الواقع، لا أن تأخذ شكل المسرحيات الهزلية، كما حصل في كثير من مسرحيات الحوار السابقة، التي رميت توصياتها في سلة المهملات... ومن الضروري أن تنضج الأفكار داخل كل تنظيم سياسي، من خلال حوار داخلي، بما في ذلك داخل حزب البعث نفسه والأحزاب الشيوعية الرسمية، والجبهوية، وغيرها، لعلّ الحوار في داخلها ينبئنا عن أسباب وصول الوطن إلى ما وصل إليه، ومن ثم الانتقال إلى العملية السياسية التي تتطلب أن تشكل اللجان، التي ستدير تلك العملية من قبل جميع الأطراف الفاعلة في المجتمع، بالتوافق بينها جميعاً، دون إقصاء لأحد، وبالتكافؤ، لا أن تعين، أو تفرض من قبل أي طرف.
ـ من الضروري خلق حالة، وجو من الثقة بين مختلف الأطراف، تبنى على أسس حرية التعبير، والتظاهر السلمي، التي تبدأ بالإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، والافتراق كلياً عن نهج كم الأفواه، والاعتقال لأسباب سياسية، وعن نهج محاربة الرأي الآخر المعارض والتعتيم عليه، ومن الضروري أن يلعب الإعلام دوراً سليماً في ذلك، بالتخلص من البروبغندا الديماغوجية، والتحريضية المتطرفة من قبل جهات متنوعة، ومختلفة محلية، ودولية، وأن يصبح الإعلام نزيهاً حراً، وفي متناول جميع أبناء الشعب، من معارضة وموالاة بشكل متساو ومتكافئ... إنّه لأمر مؤسف أن يحرم الكثير من المفكرين كالدكتور طيب تيزيني، والدكتور صادق جلال العظم، والدكتور عارف دليلة، وميشيل كيلو، وغيرهم كثيرون من المفكرين الوطنيين، من إيصال صوتهم عبر الإعلام الوطني إلى أبناء الشعب، في هذه المرحلة العصيبة، وأن يحرم كثير من الكتاب، والباحثين والمثقفين من الكتابة في الصحف المحلية، لمجرد طرحهم أفكار لا تنسجم مع مصالح ورؤى هيئات وإدارات التحرير، التي تطغى المصلحة، والتبعية، والسطحية، وضيق الأفق على بعض القيمين عليها، حتى وصل الأمر ببعض مذيعي وسائل الإعلام الرسمي أن يتهموا المثقفين بأنّهم يصبون الزيت على النار... والإعلام لسان حال البنية السياسية المهيمنة، ويعبر عن مدى الحرية، والتغيير الحقيقي الذي يحصل في هذه البنية.
ـ الإعلان عن أنّ ما نصبو إليه هو تجاوز البنية السياسية التي قادت إلى الأزمة، والاتفاق على أسس بناء دولة مدنية برلمانية ديمقراطية، تعددية، تداولية، دستورية، يسودها القانون، وفصل السلطات، مع التأكيد على وحدة التراب والمجتمع في سورية، ووحدة البنية السياسية المتنوعة والمتعددة، ورفض أي حل يقوم على أية خلفية فئوية، أو طائفية، وإلغاء كافة أشكال المظالم، والتمييز الفئوي، أو الطائفي، أو الحزبي، أو العرقي، وتبني مبدأ العدالة كأساس للحل الدائم، والقضاء على ما يسبب التوترات الاجتماعية، والطبقية العميقة، والاتفاق على أسس إعادة توزيع الثروة الوطنية بشكل يلامس مصالح جميع أبناء المجتمع، وخاصة منتجيه، من عمال، وفلاحين، والتخلص من تلك الحالة الاقتصادية التي تتجلى، كما يقول الدكتور عارف دليلة، في وجود اقتصادين: "اقتصاد لا يعرف الأزمة والركود، في ازدهار دائم، في وفرة دائمة، بل في حالات الأزمة، والركود يزداد اكتنازاً، ـ هو اقتصاد القلة، واقتصاد الأغلبية الساحقة، وهؤلاء إذا ازدهر الاقتصاد، أم مال إلى الركود، هم في حالة فقر متزايد"؛ ويتطلب ذلك وضع مبدأ العدالة الاجتماعية في صلب نهج الحكومات الوطنية الاقتصادي، لمعالجة أسباب الفقر، والبطالة، ومعالجة مشاكل الشباب، وإيجاد فرص عمل لهم، واعتماد سياسة اقتصادية تجذب الرأسمال الاستثماري، والوطني الخاص المنتج، ومكافحة الفساد الذي يكبل الاقتصاد والمجتمع، والانتقال من معايير الأنصار والموالاة والممالأة إلى معايير الكفاءة في عملية انتقاء الكوارد... وكبح مسببات عملية تكرار ظهور التناقضات التناحرية، والمظالم التي تقود إلى الأزمات الدورية في بلادنا. وتجسيد هذه المبادئ في قوانين عصرية متحضرة، بتطوير قوانين العمل، ومكافحة الفساد، وقانون الأحزاب، وقانون الانتخابات، والدستور بتوافق جميع الأطراف... مع التنويه إلى أنّ الدعوة إلى إقرار قانوني انتخاب، وأحزاب جديدين، ووضع دستور جديد، ولم تمض سنة على إقرارها، تثير التساؤل حول جدية ما أقر سابقاً، ولماذا أقر ما هو غير كاف لمعالجة الأزمة، أهي الرغبة في الاستمرار وفق النهج القديم مع بعض الرتوش التجميلية، وهل نحن نسير فعلاً نحو الحلول الناجعة، أم تستمر اللعبة التجميلية... مع كل ما يثير ذلك من عدم ثقة، وهذا ما يجب معالجته وتجاوزه! كما أثبت تطور الأحداث أنّه لا يكفي اعتماد قوانين ودستور عصري، بل من الضروري ضمان حسن تطبيقها؛ ويعد تجاوز ما أسماه الدكتور طيب التيزيني "الدولة الأمنية"، وممارسة الديمقراطية، وسيادة القانون، والشفافية، وحرية التعبير، والتظاهر السلمي إحدى ضمانات ذلك التطبيق. ومن الضروري أن تتضمن القوانين، والدستور مبادئ بناء الدولة العصرية المتحضرة التي تقر المبادئ التالية:
ـ إقرار مبدأ المواطنة، في مواجهة أي تشرذم، وأخطار طائفية؛ والمجتمع المدني هو الأساس السليم الذي تبنى على أساسه الدولة المدنية التي يسودها العدل والمساواة، والقيم العلمانية. والتأكيد على حقوق المرأة المتساوية مع الرجل في جميع الميادين، والقوانين، والتشريعات. ومن الضروري سن القوانين التي تفعل ذلك، وإلغاء جميع القوانين التي تميز أية فئة في المجتمع عسكرية، أم سياسية عن باقي أبناء المجتمع، أو تمنح لها الحصانة، وتجعلها فوق المساءلة والمحاسبة، تلك القوانين التي تبقي سيف حالة الطوارئ مسلطاً على المجتمع، وتجعل مسألة إلغائها شكلية بلا فائدة.
ـ إقرار مبدأ المحاسبة والمساءلة، والعدالة وإنصاف المظلومين، والمضطهدين، والمتضررين...
ـ من الضروري التأكيد على أنّ الحرية والكرامة الإنسانية هي من أسس الدولة الديمقراطية، والحرية هي أحد تعبيرات ممارسة الديمقراطية، ومن الضروري أن تسود الحرية في جميع مفاصل الحياة الاجتماعية، والثقافية، والإعلامية...
ـ العدالة الاجتماعية أساس بناء المجتمعات السليمة. والعدالة الاجتماعية تتطلب وجود قضاء نزيه مستقل، ومحاسبة الفاسدين في القضاء، وخارجه، ورفع كافة أشكال الظلم عن أبناء المجتمع، والعدالة الاجتماعية تؤسس لوعي اجتماعي يتسم بالعفو، والرأفة، والمحبة، والتسامح، ينبذ العنف بكافة أشكاله، وخاصة العنف المسلح...
ـ وحدة الدولة والمجتمع تتطلب وجود جيش وطني واحد يصون تراب الوطن، ويحمي الشعب، ويمنع أي شكل من أشكال تشكيل المجموعات المسلحة خارج إطار الجيش الوطني الموحد. ويجب أن يخضع الجيش والحكومة، وجميع بنى سلطة الدولة، بلا استثناء، لحماية، ولإرادة الشعب... ومن الضروري نبذ أية محاولة لتشكيل تنظيمات مسلحة على أسس طائفية تفرض واقعاً سياسياً يتناقض مع أسس وحدة المجتمع والدولة...
إنّ الحالة التي يمر بها الوطن تثير شجوناً، وإحباطاً، ويأساً، واضطراباً في نفوس أبناء المجتمع، وخاصة في صفوف الشباب والأطفال، وتسبب فضلاً عن الدمار الاقتصادي، والعسكري، وتفتيت اللحمة الاجتماعية الوطنية، أزمات نفسية ستحتاج إلى برامج وطنية، وإلى جهود جمة لتجاوزها، ولسيادة العقل، ودمل الجراح، ورفع المظالم، وإعادة الحقوق إلى أصحابها، وبناء وطن حر سيد مستقل لجميع أبنائه بمختلف طوائفهم، ومذاهبهم، وانتماءاتهم، وطن قوي يستطيع الوقوف بصلابة في وجه كل ما يحاك ضده من قبل أعدائه، ويصبح منارة حضارة، وحرية، كما عرفت سوريا في عصورها المنيرة، وهذا يتطلب الشروع بإنجاز الحل السياسي الوطني الذي يتطلع إليه أبناء الشعب، الذي أصبح ضرورة وطنية ملحة... ويبقى صالح الوطن هو الهم الأول، لأنّ في سلامته، وأمنه؛ سلامة، وأمن جميع مواطنيه...