صعود الإخوان ومستقبل الثورة


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 3914 - 2012 / 11 / 17 - 22:45
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     


فى أعقاب شهر عسل طويل بين الإخوان والمجلس العسكرى يأتى تفجر الصراع بينهما طوال الأشهر الأخيرة  منذ نهاية شهر فبراير الماضى حول العديد من المحاور تراوحت بين مجلسى الشعب والشورى، والجمعية التأسيسية، والوزارة، ولكن أبرزها بالطبع الانتخابات الرئاسية وما تلاها من ضربات وجهها الإخوان لنفوذ المجلس العسكرى. ثم تحقق انتصار الإخوان فى الاستحواذ على نصيب ضخم فى السلطة بنجاح مرسى فى الانتخابات الرئاسية ثم حله للمجلس العسكرى. والسلطة بالطبع هى القضية الحاسمة فى كل ثورة، وهى لهذا تهم الثوريين فى المحل الأول لصالح أهدافهم هم، وبالتالى يصبح من الهام قراءة السياق السياسى لهذا الصدام، ووضع السلطة الحالى ووضع ميزان القوى الاجتماعى الراهن، وصولا إلى التكتيك الثورى الملائم الذى يخدم قضية تطوير الثورة وتحقيق أهدافها.
العسكر والإخوان والنظام القديم معا ضد الثورة
فمثلما عقد الإخوان المسلمون صفقة مع مبارك بتأييد التجديد له فى انتخابات 2005 ومباركة التوريث –ضد جميع القوى الوطنية آنذاك- فى مقابل 88 مقعدا فى مجلس الشعب، سارع الإخوان بعد الثورة بعقد الصفقة مع المجلس العسكرى جوهرها استيلائهم –مع حلفائهم الإسلاميين- على أغلبية السلطة التشريعية فى مقابل عدم الاقتراب من السلطة التنفيذية لا فى الوزارة ولا فى انتخابات رئاسة الجمهورية، مع التأييد النشط لكل خطوات المجلس العسكرى فى قمع الثورة.
واستند هذا التحالف غير المقدس ضد الثورة إلى توافق المصالح بين العسكر والإخوان فى الدفاع عن مصالح وأسس مجتمع واقتصاد فترة مبارك، مصالح المستثمرين والتجار ورجال الأعمال، التى يصرح الطرفان بتبنيها لولا بعض الفساد والمحسوبية التى شابتها فى عصر مبارك! لا يهمهما كيف أدت تلك الأسس لإفقار أكثر من نصف الشعب وكيف يعيش ملايين العمال والموظفين بأقل من مستوى الكفاف. لقد توافق كلاهما على أهمية تبريد الثورة تمهيدا لقمعها فى مناسبات مثل مذابح محمد محمود ومجلس الوزراء وغيرها.
وبناء على هذا التحالف تغاضى المجلس العسكرى عن كل السلوكيات المشينة للإخوان والتيارات الإسلامية خلال الانتخابات من تدفق مليارات الخليج عليهم تدخلا فى السياسة المصرية تأمينا للرجعيات الخليجية، وحتى استخدام الدعاية الدينية والطائفية، واستخدام المنابر الدينية فى السياسة والتشهير بالخصوم واتهامهم فى عقائدهم، والسيطرة العلنية والتحكم لجماعة الإخوان المسلمين التى لا تتمتع بأى وضع شرعى على الانتخابات وعلى حزب الحرية والعدالة، وخرق حظر الدعاية فى فترة الصمت الانتخابى قبلها ب48 ساعة، واستمرار الدعاية حتى آخر لحظة حول –بل وداخل- المقار الانتخابية.
وبالطبع فالإخوان لهم جماهيرية ذات وزن هام فى الشارع، ولكن مثلما كان وزنهم فى الشارع لا يؤهلهم وحده لكسب 88 مقعدا فى انتخابات عام 2005 نظرا للتزوير لولا السماح المباركى، فإن حجم الأصوات التى نالوها فى انتخابات 2011 قد ازداد كثيرا بالتسهيلات والاختراقات التى مكنهم منها المجلس العسكرى، وهو قد غير سلوكه هذا فى انتخابات الرئاسة كما سنرى.
ظهر رد الإخوان الجميل للمجلس العسكرى فى تأييد الإخوان لوزارة الجنزورى رغم معارضة كل القوى الوطنية والثورية له وقيام الشباب بالاعتصام أمام مقر رئاسة الوزراء لمنعه من دخوله، بل وتأييد الإخوان لقمع الاعتصام أمام مجلس الوزراء والتنكيل بالمعتصمين بناتا وبنين وزيادة قائمة قتلى وجرحى الثورة. وتحدث الإخوان عن أن تلك الاحتجاجات الجماهيرية ما هى إلا محاولة لمنع الثورة من تحقيق أهدافها المتمثلة فى وصولهم إلى مجلس الشعب!
صدام العسكر والإخوان   
إذن لماذا تصاعد الصدام بين الإخوان والعسكر إلى هذا المستوى؟ لقد بدأت البوادر فى أواخر شهر فبراير بمطالبة الإخوان بأربع مناصب وزارية من خارج الوزارات السيادية وحددوها، بل وحددوا نصيب شركائهم السلفيين منها فى وزارة التعليم، ولهم الصحة والتعليم العالى والحكم المحلى. لقد قدر الإخوان أن مستوى نفوذهم وكذلك تأييد الأمريكان لهم (حيث يرونهم أقدر على مواجهة الثورة فى الشارع من المجلس العسكرى الذى يمثل القمع وسيلته الأساسية) يؤهلهم للمطالبة بزيادة نصيبهم فى الصفقة بوضع موطئ قدم لهم فى السلطة التنفيذية أيضا بجانب السلطة التشريعية.
ورغم محدودية المطالب إلا أن المجلس العسكرى قد رأى فيها خطرا باعتبار أن الإخوان لا كلمة لهم ولا حليف دائم، بل هى مصالحهم فى التغلغل وتأسيس أو تقريب الدولة الدينية حتى لو أخلفوا وعودهم، وأوراق المجلس العسكرى فى مواجهة ذلك بالطبع هى الأقوى من خلال سيطرته على أجهزة الأمن من جيش وبوليس ومخابرات ...الخ، وكذلك سيطرته المباشرة على أجهزة الدولة البيروقراطية والسلطة التنفيذية من خلال رئيس وزرائه ومن خلال اللواءات مندوبيه المباشرين فى كل وزارة.
رفض العسكر بشدة مطالب الإخوان الجديدة، واستمرت المناوشات الصغرى والكبرى بينهما. صعَّد الإخوان مطالبهم تدريجيا، فأضافوا أولا إحدى الوزارات السيادية، تحديدا وزارة الداخلية، ثم تقدموا باستجوابات لوزارة الجنزورى. وامتنع بعض الوزراء عن حضور بعض الاستجوابات. ثم طرح الإخوان تقدمهم بمرشح لانتخابات الرئاسة على عكس كل تعاهداتهم السابقة (أنظر تصريح بديع العام الماضى: "قطع أصابعى أهون عندى من نقض عهدى مع الله، وأرى عدم ترشيح شخصية إسلامية (لرئاسة الجمهورية) لنطمئن الداخل والخارج"). فى نفس الوقت يسرب الإخوان أنهم سوف يكتفون بإحدى الحسنيين: فإما تعديل وزارى يعطيهم المقاعد الوزارية التى يطلبونها أو الاستمرار فى معركة الرئاسة. ورفض المجلس العسكرى جاعلا وزارة الجنزورى خطا أحمر. واستخدم الإخوان تكتيك العصيان بوقف جلسات البرلمان لفترة احتجاجا على تجاهل الوزراء حضور استجواباتهم، وبالطبع تخلل كل ذلك مفاوضات لحل المآزق الصغرى على الأقل فعاد البرلمان للانعقاد وحضر الوزراء، ولكن تراجع الإخوان عن المطالبة بسحب الثقة من وزارة الجنزورى.
وبرز فى هذا السياق معركة الجمعية التأسيسية الأولى التى أصر الإخوان ومعهم كافة التيارات الدينية الممثلة فى مجلسى الشعب والشورى على تشكيلها بمنطق المغالبة كما تمثل هذا بمحاولة تمرير القرارات بأغلبية بسيطة (النصف + 1 ثم الثلثين فى أول أقتراع يتلوه أغلبية 57% فى الاقتراع الثانى) مع الاحتفاظ بأغلبية ساحقة للتيارات الإسلامية فى تشكيل الجمعية تضمن لهم تمرير دستور إسلامى. ورفضت التيارات الإسلامية بصلف أن يصنع الدستور بالتوافق بين مختلف التيارات السياسية كما تصنع الدساتير عادة ونشطوا فى ممارسة عملهم ضد جميع التيارات الأخرى. ولجأت القوى الوطنية إلى المحكمة، كما لجأت الأغلبية الساحقة منهم إلى الانسحاب لإحراج الإخوان سياسيا فانسحبت التيارات الوطنية والتيارات ذات الصلات بالدولة مثل ممثلى الأزهر والقضاء ومع ذلك لم يردع هذا الإخوان وحاولوا الاستمرار فى عملهم فى وضع الدستور. ثم أتى حكم محكمة القضاء الإدارى بحل التأسيسية فى 10 إبريل لأسباب تتعلق بوجود "عوار" قانوني في تشكيلها، وعدم تمثيلها لكافة أطياف المجتمع، إضافة إلى عدم قانونية مشاركة نواب البرلمان في التشكيل.
 ولكن الصراع لا يجرى بين الإخوان والعسكر فى الفراغ، والطرف الثالث الهام الذى يتحد كلاهما معا فى الموقف منه ويحسب كلاهما له ألف حساب هو الثورة وجمهورها. وإذا كانت بعض الخلافات لا تعنى الجمهور كثيرا فإن بعضها الآخر لا يمكن أن يمر بسهولة لأنه يتعلق بأخص شئون الثورة. وظهر هذا بوضوح فى موضوع الجمعية التأسيسية الذى أصر الإخوان مدعمين بتيارات الإسلام السياسى على تشكيلها بمنطق المغالبة لا التوافق (كما هو واجب فى صياغة الدساتير) والاحتفاظ بأغلبية تتيح لهم فرض مايريدون من خطوات لصياغة أسس الدولة الدينية أو الاقتراب منها بقدر الإمكان. لهذا رد المعارضون من تيارات ثورية وليبرالية وحتى المحسوبين على الدولة مثل الأعضاء المنتسبين لمؤسسة الأزهر والمحكمة الدستورية العليا بالانسحاب من تلك الجمعية المنحازة باتجاه إفشالها.
قام مجلسا الشعب والشورى بتكوين الجمعية التأسيسية الثانية بعد حل الأولى، ولم يخل تشكيلها من عوار بارز أيضا لاحتوائها على أعضاء من مجلسى الشعب والشورى (وإن حاولوا تفادى النقد بعد حل مجلس الشعب باستقالة الأعضاء الأربعة الذين مازالوا أعضاء فى مجلس الشورى)، وضعف تمثيل النساء والأقباط والعمال والفقهاء الدستوريين واستمرار نفس الميل للمغالبة والاستبعاد والاحتفاظ بقاعدة التصويت القريبة من الأغلبية البسيطة رغم امتلاك التيار الإسلامى لأغلبية مانعة. تقلص عدد الشخصيات العامة من خارج الإخوان واقتصر على أمثال عمرو موسى وغيره، واستمر النضال ضد الجمعية التأسيسية الثانية على ساحة القضاء مع تأجيل الجلسات مرات متعددة مما أدى إلى دخول الإخوان فى سباق مع الزمن حتى ينتهوا من وضع الدستور وطرحه للاستفتاء قبل الحكم ضد تلك التأسيسية أيضا.
دور مجلس الشعب
تميز مجلس الشعب ذو الأغلبية الإسلامية خلال عمره القصير (140 يوما) بثلاث سمات رئيسية:
1-    البعد شبه الكامل عن طرح قضايا ومطالب الثورة بالذات فى مجال العدالة الاجتماعية مثل حد أدنى للأجور وضرائب تصاعدية ونصيب عادل للخدمات الاجتماعية وعلى رأسها التعليم والصحة فى الموازنة العامة للدولة.
2-    طرح قضايا ثانوية لتشغل الرأى العام، وطرحها من منظور بالغ الرجعية، باعتبارها القضايا المحورية فى صياغة مستقبل مصر بعد الثورة مثل رفض قوانين الأحوال الشخصية المسماة قوانين سوزان مبارك، مثل قضايا تقليل سن الزواج للإناث وختان الإناث وحق الرؤية والحضانة للأب المطلِّق وما يسمى بقوامة الرجال. وتصل المأساه إلى حدود المهزلة فى طرح قضية مسفة مثل ما يسمى بمضاجعة الوداع!
3-    استخدام سلطة التشريع فى الصراع على نصيب أكبر من السلطة، وتفصيل القوانين على مقاس أهدافهم تماما كما كان يفعل الحزب الوطنى. وظهر هذا جليا فى قانون العزل السياسى، فبينما كان إصدار قانون من هذا النوع هو مطلب الثوريين ورفضه الإخوان بشدة فى البداية إذا بهم يستدعونه ثانية فى صراعهم مع أحمد شفيق فى محاولة لمنعه من خوض سباق انتخابات الرئاسة. وأدى هذا إلى قانون مفصل على مقاس أحمد شفيق يحدد المستبعدين برؤساء الوزارة فقط ويستبعد الوزراء وذوى المناصب القيادية لعدم المساس بعمر موسى وبكثيرين غيره،  كما يحصرها بفترة عشر سنوات فقط لكى يتجنب معركة لا لزوم لها وقتها مع الجنزورى رئيس الوزراء القائم الذى يحرجه اعتباره من الفلول! كما ظهر هذا فى محاولة الالتفاف على المحكمة الدستورية العليا التى تملك إصدار حكم بحل مجلس الشعب بطرح قانون يحجم سلطات المحكمة الدستورية العليا ويجعلها استشارية فى إعادة ممجوجة على مستوى أسوأ لمشروع المجلس سيد قراره تأكيدا على سير الإخوان على درب الحزب الوطنى. وظهر هذا فى آخر محاولة للمجلس لتحصين الجمعية التأسيسية من الحل (على غرار قيام المجلس العسكرى بتحصين قرارات لجنة الانتخابات فى المادة 28 من الدستور) قبيل حل المجلس نفسه على يد القضاء عندما أصدر حكمان فى يوم واحد أحدهما بعدم دستورية قانون مجلس الشعب بتفسير يؤدى لحله والآخر بعدم دستورية قانون العزل بصورة تمكن شفيق من الاستمرار فى انتخابات الرئاسة.
القضاء كساحة مواجهة سياسية
لقد استخدمت كل القوى بما فيها قوى المعارضة والقوى الثورية ساحة القضاء كساحة نضال سواء قبل إسقاط مبارك أو بعدها. ومن الهام تسجيل أن القضاء قد أنصف الثوريين فى عدد من القضايا والمواقف الهامة، ولكن دون أن يدفعنا هذا إلى تقديس مواقف القضاء كمؤسسة، فالقضاء من مؤسسات النظام القديم، ورغم وجود قضاة شرفاء كثيرين بين صفوفه، ورغم أحكام ناصعة نصرت قضايا هامة للجماهير، إلا أنه مقيد بعدد من القيود وبه عدد من المثالب المهمة. فأولا يتحرك القضاء فى إطار المنظومة القانونية الاستبدادية بحكم ميزان القوى وقت صياغة وإقرار تلك القوانين، وثانيا يكمن مصير كل القضايا فى يد النائب العام الذى يملك وحده فقط حفظ الدعوى أو تحريكها، كما يملك أيضا هو والقضاء توقيت نظر القضايا: فإما نظرها سريعا أو تأجيلها لسنوات حسب المواءمات السياسية التى تتدخل فيها السلطة التنفيذية. إن قضية مثل قضية الاعتراض على محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، مازالت منظورة أمام القضاء منذ أكثر من سبعة عشر عاما ولكنها محفوظة فى الثلاجة بدون حركة حتى الآن! والمجلس العسكرى يعلم أن هناك قضية ضد انتخابات مجلس الشعب، ولكنها سلاح مسلط على رقبة المجلس أجلَّه طوال الفترة الماضية وأخرجه فى التوقيت المناسب! بالضبط كما يتردد أن المجلس العسكرى يمسك أوراقا على الإخوان من نوع تسجيل تورطهم مع حماس فى اقتحام السجون لتهريب معتقلى الإخوان وحماس، كما يمسك عليهم أدلة على التمويل الأجنبى المحظور، ولكنه بالطبع لا يستخدم كل أسلحته مرة واحدة بل يتدرج فى استخدامها باحتراف وفق مواءماته السياسية.
استخدمت المعارضة الثورية ساحة القضاء لكى تكسب حل اللجنة التأسيسية الأولى دينية الطابع من زاوية بطلان تشكيلها لعضوية أعضاء مجلس الشعب فيها، بالطبع فى ظل عدم ممانعة من المجلس العسكرى. واستخدم الفلول ساحة القضاء للاعتراض على منع شفيق من الترشح لانتخابات مجلس الشعب بمباركة المجلس العسكرى أيضا ورفضت المحكمة الدستورية قانون العزل السياسى المفصل على مقاس شفيق وسمحت له بخوض الانتخابات. بل وتم استخدام التوقيت فى جعل يوم النطق بالحكم فى القضيتين معا: قضية حل مجلس الشعب وقضية رفض قانون العزل السياسى للسماح لشفيق بخوض المعركة الانتخابية. وكان الحكم فى هاتين القضيتين معا فى الرابع عشر من يونيو هو مفجر المعركة الضخمة بين الإخوان والعسكر، ولكن قبل هذا لابد من استعراض معركة انتخابات الرئاسة.
أول انتخابات رئاسية بعد الثورة
دارت انتخابات الرئاسة على هذه الخلفية، خلفية الصراع القائم بين الثورة التى لم تحقق أهدافها بعد فى السلطة ولا فى العدالة الاجتماعية ولا فى الديمقراطية الحقيقية (إلا ما انتزعته بقوة الأمر الواقع فى الممارسة) وبين الثورة المضادة المتمسكة بكل شراسة بمحاولة الإبقاء على مصالحها وعلى كل أسس النظام القديم. كما دارت الانتخابات وفيها المستوى الذى أوضحناه من الصدام بين طرفى الثورة المضادة، العسكر والإخوان، على نصيب كل منهما من السلطة.
قرر التيار الأساسى للثورة المشاركة فى الانتخابات تحت راية أهداف الثورة كمعركة من معارك تحقيق أهدافها، وإن برز تياران آخران صغيران أحدهما على يمين ذلك التيار والآخر على يساره.
فأما التيار اليمينى فقد قرر خوض المعركة الانتخابية خلف من يراه أبرز رموز التيار الليبرالى من أجل الدفاع عن الدولة المدنية وقطع الطريق على التيار الدينى. وساهم فى هذا المنطلق الاقتناع بأنه إذا كان ميزان القوى الراهن لا يؤهل على الأرجح لنجاح مرشح ثورى مستقل فإن الأفضل عمليا عدم تضييع الأصوات، بل يجب حشدها من أجل إنجاح مرشح مدنى. إنطلاقا من هذا التقدير حشد قسم صغير من اليسار قواه خلف عبد المنعم أبو الفتوح المرشح المنشق عن الإخوان المسلمين باعتباره ليبراليا صاحب إمكانية فى النجاح. بل إن منتمين لهذا التقدير صوتوا فى جولة الإعادة لأحمد شفيق خوفا من الدولة الدينية التى يمثلها مرسى. ولكن النظر للمعركة الانتخابية بهذا القدر من ضيق الأفق ليس من شأنه إلا تأبيد ذيلية اليسار وتحويله إلى مجرد تيار ليبرالى أكثر راديكالية، بينما يقتضى بناء نفوذ مستقل لليسار ذو شعبية متزايدة عبرمختلف المعارك الانتخابية البرلمانية والرئاسية والمحلية وغيرها، يقتضى تقديم قادة مستقلين خلف برنامجه المستقل.
 والقسم الثانى الثانوى بين اليسار رأى مقاطعة الانتخابات لأنها تأتى –مثلها مثل انتخابات مجلس الشعب- فى سياق محاولة إعادة بناء هياكل الدولة بعد الثورة على نفس الأسس القديمة، بينما الواجب هو بناء دولة ثورية تليق بأهداف الثورة. وبالطبع فإن انتخابات البرلمان مهما بلغت ديمقراطيتها تؤدى دائما إلى أغلبية القوى المسيطرة اقتصاديا، كما أن انتخابات الرئاسة بحكم ميزان القوى الذى تتم فيه لا يمكن أن تؤدى إلى انتخاب رئيس ثورى يحقق برنامج الثورة بضربة واحدة. إلا أن هذا لا يمكن أن يستنتج منه صحة المعارضة الثورية للانتخابات إلا فى اللحظات التى تنصرف فيه أغلبية الجمهور عن الانتخابات إلى بناء سلطة ثورية، أو يبدو هذا المسار قريبا فى الأفق إذا تحرك الثوريون فى اتجاهه. أما حينما تكون أغلبية الشعب ميالة للمشاركة فى الانتخابات ومرحبة بممارسة ديمقراطية التصويت بعد فترة طويلة من الاستبداد فيكون واجبنا هو المشاركة من أجل إقناع الجماهير ببرنامجنا مستغلين تعطشها للسياسة والمشاركة والفهم لنشر برنامجنا الثورى بما فيه فضح الأوهام البرلمانية مع الدفاع عن أهمية استخدام البرلمان فى التوجه للجماهير وفرض ما تستطيعه من مصالحها باستخدام قوة الضغط الجماهيرى. ولعل تأمل نتيجة الانتخابات سوف يكون محكا إضافيا لصحة أو خطأ كل من تلك التكتيكات، ولكن لنؤجل ذلك قليلا.
المهم أن التيار الرئيسى الغالب فى اليسار قد قرر خوض الانتخابات مع مرشح ثورى يتبنى برنامج الثورة. وتشكلت اللوحة الانتخابية من القوى الرئيسية التالية:
·     أربعة من مرشحى اليسار واليسار القومى الذين يتبنون، مع بعض التباينات، برنامج الثورة، وهم حمدين صباحى وخالد على وأبو العز الحريرى وهشام البسطويسى.
·     ثلاثة من مرشحى التيار الإسلامى هم مرشح الإخوان محمد مرسى، وعبد المنعم أبو الفتوح المنشق عن الإخوان، وسليم العوا.
·     اثنان رئيسيان من تيار الفلول هما أحمد شفيق وعمرو موسى.
·     أربعة مرشحين ذوى وزن هامشى وغير مؤثر لشخصيات غير معروفة ومحسوبة على النظام القديم.
وأدت المناورات المتبادلة بين العسكر والإخوان إلى أن دفع المجلس العسكرى بعمر سليمان للترشح حتى يمكن شطبه ومعه شخصيتين متنفذتين للتيار الدينى هما حازم أبو اسماعيل السلفى وخيرت الشاطر مرشح الإخوان الأول والمفضل.
وانتهت المرحلة الأولى للانتخابات بدروس بالغة الأهمية:
1.     تطور مستوى تسييس الشعب ومشاركته فى الانتخابات، وانعكس هذا فى زيادة عدد الناخبين الذى وصل إلى 23.6 مليون صوت بنسبة 46% من إجمالى الناخبين، كما ارتفع بشدة مستوى النقاش السياسى العام تضاءل بجانبة نصيب كرة القدم ومسلسلات رمضان التى كانت تستحوذ على معظم الاهتمام قبل الثورة.
2.     ظهر التبلور السياسى الحاد بين الاتجاهات الثلاث الرئيسية مع تقارب الأصوات بين المرشحين الثلاثة الأوائل. جاء فى الترتيب الأول محمد مرسى مرشح التيار الإسلامى حيث حصل على حوالى 5.8 مليون صوت بنسبة 24.9%. ويمثل هذا تراجعا فى مستوى التصويت للإخوان وتيار الإسلام السياسى الذى حصل على حوالى 15 مليون صوت فى انتخابات البرلمان التى تمت فى نوفمبر من العام الماضى مما يوضح كيف ارتقى وعى الشعب ومستوى فضحه للإخوان بعد أدائهم فى البرلمان ومواقفهم السياسية العامة بالذات تأييدهم للمذابح ضد الثوار. ولكن لابد لحساب أدق للأصوات التى نالها التيار الإسلامى لابد من إضافة نصف الأصوات التى نالها المرشح الآخر عبد المنعم أبو الفتوح الذى نال حوالى 4.1 مليون صوت، بالإضافة إلى الأصوات التى حصل عليها العوا (1% من الأصوات). وبالتالى يمكن اعتبار إجمالى الأصوات التى نالها التيار الإسلامى تدور حول ثلث الأصوات تقريبا.
3.    جاء ترتيب ممثل الفلول الصريح الفريق أحمد شفيق الثانى حيث حصل على 5.5 مليون صوت بنسبة 23.6%. وبالطبع لم ينل مرشح الفلول ربع الأصوات لدعايته الصريحة للفلول فقط (مبارك مثله الأعلى، ادعاءه بانتهاء الثورة وقدرته على قمع ميدان التحرير فى بضع ساعات)، ولكن أساسا بفضل بناء حملته على استعادة الاستقرار فى الوقت الذى يصب كل نشاط المجلس العسكرى والحكومة فى ابتزاز الجمهور بالترويع الأمنى وغياب الاستقرار، والترويع الاقتصادى وتدهور مستويات المعيشة بعد الثورة من أجل إجهاض حلم الجماهير بالثورة والكفر بها وتمنى الاستقرار ولو بعودة النظام القديم.
4.     نال أوفر مرشحى الثورة حظا، حمدين صباحى مرشح التيار القومى اليسارى، 4.8 مليون صوت بنسبة 20.6% من إجمالى الأصوات. ويتضح مستوى التقدم فى التأييد الشعبى لتيار الثورة من مقارنة ذلك التصويت بما حصل عليه تيار الثورة مستمرة فى الانتخابات البرلمانية قبل 6 شهور وهو لم يتعد 850 ألف صوت بنسبة 3.5% من الأصوات. وحصل مرشحوا الثورة الآخرين، خالد على وأبو العز الحريرى وهشام البسطويسى على 0.6%، و0.2%، و0.1% على التوالى.
5.     انعكس مستوى الاستقطاب فى فشل مرشحى التيارات الوسطية التى لعبت على أكثر من حصان، فمرشح الفلول، عمرو موسى، الذى غازل تيار الثورة فشل أمام مرشح الفلول الصريح أحمد شفيق، ولم يحصل إلا على 2.6 مليون صوت بنسبة 11.2%. وحصل أبو الفتوح المرشح الإسلامى الذى غازل معسكر الثورة على 4.1 مليون صوت بنسبة 17.6%. كسبت التيارات الصريحة وخسرت التيارات الوسطية بما يمثل دليلا إضافيا على وضوح وحدة الاستقطاب.
أما من زاوية تطور قوى الثورة فيهمنا هنا أن نبرز ما يلى: لقد رفضت القوى الثورية تكتيك المجلس العسكرى بعد فبراير 2011 فى الإسراع باستعادة الاستقرار عن طريق الاستفتاء على دستور وعمل انتخابات برلمانية فى شهور قليلة والعودة للسكنات خلال ستة أشهر. ورأى الثوريون عن حق أن ذلك هو تكتيك إجهاض الثورة والسماح للقوى الجاهزة، الفلول والإسلاميين، بالسيطرة مع حرمان القوى الجديدة من فرصة التبلور. ومكن تأخير مدى الترشيح إلى سبتمبر وإجراء الانتخابات فى نوفمبر، مكن حزبا يساريا ثوريا مثل التحالف الشعبى الاشتراكى من إشهار نفسه فى اللحظات الأخيرة ليلتحق بقطار الانتخابات، على رأس تحالف ثورى من أحزاب وأحزاب تحت التأسيس، تحت شعار الثورة مستمرة وينتهز فرصة الانتخابات لبناء تنظيماته بالمحافظات والوصول بدعايته لها. وتغلغل القوى الثورية الجديدة بالطبع يتم فى الزمان ويحتاج وقتا ضروريا. ورغم أن حزب اليسار القومى الأبرز، حزب الكرامة، قد تمكن هو أيضا من إشهار نفسه، إلا أنه قد خاض الانتخابات متحالفا مع الإخوان فى سقطة سياسية شديدة انتقد نفسه عليها متأخرا. وتضامن اليسار بكل فصائله الاشتراكية والقومية فى معركة انتخابات الرئاسة لاتى شكلت دفعة ضخمة لدعايته السياسية ومرتكزاته التنظيمية بالمحافظات والعواصم وانعكس هذا على التصويت السياسى كما أوضحنا سابقا. ولعل فى هذا حجة عملية أخيرة توضح خطأ تكتيك المقاطعة فى ميزان القوى الملموس الذى أوضحناه وصحة تكتيك المشاركة وأثره فى تطوير جماهيرية قوى الثورة وتعميق البرنامج الثورى.
وكما كان تأخير انتخابات مجلس الشعب فرصة للقوى الثورية بالالتحاق بقطار الثورة لكى تدفع تلك الانتخابات بمزيد من بلورة وجماهيرية تلك القوى وذلك البرنامج الثورى، كانت انتخابات الرئاسة فرصة هامة لمزيد من توسيع نفوذ برنامج الثورة وكسب مزيد من الأنصار له وفتح المزيد من المدن والقرى وبلورة أنوية تنظيمية بها لقوى ثورية. إن تطور القوى الثورية بعد فترة مبارك التى انعكس استبدادها على محدودية نفوذ الثوريين فى أوساط الجماهير لابد وأن يتم فى الزمان، كما أن تطور جماهيرية البرنامج الثورى هى خط ثابت منذ قيام الثورة حتى الآن، وعليه يقع رهاننا فى تطوير واقعنا لتحقيق قيم وأهداف الثورة.
بل إن تتبع تفاصيل التصويتات التى جرت ترينا أن المحافظات الحضرية الأكثر وعيا قد أعطت مكانا بارزا لمرشح اليسار حمدين صباحى مثل القاهرة والإسكندرية. وفى الإسكندرية مثلا كان ترتيب حمدين صباحى الأول بينما كان ترتيب محمد مرسى الخامس! أما فى أكثر المناطق تخلفا، فى الصعيد بأكمله فقد أعطى مليونى صوت لمرسى بينما لم يعط حمدين سوى أربعمائة ألف صوت فقط! (لاحظ أن فرق الأصوات بين مرسى وحمدين على مستوى القطر لم يتجاوز تسعمائة ألف صوت، أى أن الصعيد وحده يكفى لقلب الموازين، هو أو غيره من المحافظات مع تزايد وعى الجمهور). ولا تخفى الدلالة "المخيفة" لمثل ذلك التصويت عن الإخوان أنفسهم الذين يرون تهديدا متزايدا مع مزيد من وعى الشعب، ويعون بوضوح تناقص شعبيتهم ولهذا يستميتون فى محاولة إحياء مجلس الشعب بعد حله بدلا من إجراء انتخابات جديدة كما سنرى.
انتخابات الإعادة على رئاسة الجمهورية
مثلت الفترة بين إعلان نتيجة الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية فى أواخر مايو 2012 وحتى تولى الرئيس "المنتخب" فترة عصيبة موارة بالكثير من الأحداث المعلنة ومثلها وراء الستار. لقد أسفرت الجولة الأولى عن الإعادة بين مرشح الإخوان، محمد مرسى، ومرشح الفلول والمجلس العسكرى، ومثل هذا تصاعدا هاما فى صراع القوتين على نصيب كل منهما من السلطة فى مصر، حيث أخذ كل فريق يستجمع عناصر قوته وارتفعت حرارة الصراع.
ومن المهم الإشارة إلى أن الإخوان المسلمين قد أرسلوا وفدا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التى يعرفون أنها تمسك بأوراق قوة أساسية فى لعبة السلطة فى مصر، للتفاوض، وتقديم الطمأنات والتنازلات، والاستعانة بهم فى معركتهم على نصيبهم فى السلطة مع العسكر. وأمريكا بالطبع حريصة على العسكر الذين يمثلون أحد أهم ركائزها فى المنطقة وليس فى مصر وحدها، وما تجربة مشاركتهم فيما سمى بمعركة تحرير الكويت ببعيدة. وبصرف النظر عن حجم دورهم العسكرى المباشر فقد كان دورهم فى تقديم التغطية السياسية للأمريكان هو ميزتهم الكبرى. كما أن أمريكا أيضا حريصة على الإخوان ذوى الوزن الهام فى الشارع، مع مراعاة أنهم قوة منحازة بقوة لليبرالية الاقتصادية وتقدم كل التطمينات الواجبة على أن كل دعايتهم السابقة أيام كونهم فى المعارضة ضد إسرائيل لن تدفعهم حتى إلى المطالبة بتعديل كامب دافيد، بل وتعهدت بعدم تنظيم استفتاء على كامب دافيد!
مع بروز احتمال وصول الإخوان إلى منصب رئاسة الجمهورية، المنصب الحاكم فى تاريخ مصر بحكم كل تراث الحكم الفردى الاستبدادى، استنفر المجلس العسكرى واستخدم كل أدوات قوته المباشرة وغير المباشرة. وفى القضاء الذى لا تبعد أصابع المجلس العسكرى عنه  بالذات من ناحية توقيت الأحكام والتقديم والتأخير فى تاريخ الحكم فى القضايا المختلفة تبعا للمواءمات السياسية، صدر الحكم القضائى بحل مجلس الشعب فى 14 يونيو، قبل انتخابات مرحلة الإعادة مباشرة (فى 16 و17 يونيو). ومثلت حيثيات الحكم مبررا قويا متوقعا لاستخدامهما فى حل مجلس الشورى والجمعية التأسيسية المنبثقة عنها.
ثم تلا تلك الخطوة قيام المجلس العسكرى بإصدار الإعلان الدستورى المكمل فى 17 يونيو، اليوم الثانى فى انتخابات الإعادة، لكى يستبق انتخابات الرئاسة بخلق وضع يتيح له التحكم فى الأمور مهما كان الرئيس. فقد نص الإعلان الدستورى المكمل على نقل سلطة التشريع واعتماد الموازنة إلى المجلس العسكرى لحين انتخاب مجلس شعب جديد، وحق المجلس العسكرى فى تشكيل الجمعية التأسيسية إذا وجد مانع يحول دون استكمال مهامها، كما استبقى فى يد المجلس العسكرى ورئيسه كل السلطات الخاصة برئيس الجمهورية كقائد أعلى للقوات المسلحة، وسلبت حق رئيس الجمهورية فى إعلان حالة الحرب إلا بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وأعطى لجهات عديدة حق الاعتراض على مواد فى الدستور الجديد منها المجلس العسكرى نفسه.
وبهذا يجمع المجلس العسكرى لنفسه سلطة التشريع مع قسم هام من السلطة التنفيذية مهما كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية، على الأقل حتى انتخابات مجلس الشعب الجديد، ويعطى لنفسه كل السلطات الاستثنائية. وهو فى كل هذا يعيد الإخوان إلى المربع صفر بسلبه لهم ما سبق أن حققوه فى السيطرة على السلطة التشريعية، ويضرب فى مقتل إمكانيات وصولهم للسلطة التنفيذية من خلال الاحتمال القوى لإعاقة وصول رئيسهم المرشح مهما كانت نتيجة الانتخابات الفعلية نتيجة لسيطرتهم على جهاز الدولة بكامله، واتضاح نيته فى مواجهة قوية مع الإخوان، تتضمن بالطبع التهديد المبطن بإنجاح شفيق فى انتخابات الرئاسة.
إزاء ذلك استخدم الإخوان كل أسلحتهم فقرروا النزول للشارع والاعتصام فى التحرير، كما حاولوا مغازلة القوى السياسية الأخرى بما فيها القوى الثورية مطالبينها بالتحالف معهم ضد الديكتاتورية العسكرية. وكان الهدف المعلن للإخوان هو منع المجلس العسكرى من تزوير الانتخابات ضدهم فقد أعلنوا مبكرا فوزهم وسقوط شفيق. وبالطبع كان كل هذا يتم بجانب نشاطهم الدبلوماسى القوى مع واشنطن من خلال بعثتهم هناك التى مكثت نحو الشهر، طوال فترة الأزمة.
وبدا فى نظر العديدين من القوى السياسية الأكثر اطلاعا على دخائل الأمور أن البلد توشك على الدخول فى حرب أهلية، فقوى الإخوان المنظمة حوالى 850 ألف، وحجم مليشياتهم المدربة والمسلحة حوالى 160 ألفا، غير ما أضيف لها بعد الثورة. ولم يخف الإخوان اتجاههم "للقتال" إذا ما تم تزوير الانتخابات وإعلان فوز أحمد شفيق.
وبالطبع انشغلت كل القوى السياسية ومنها قوى الثورة بنشاط شديد للإجابة على سؤال مع العمل فى ظل هذا الاستقطاب وتلك الأخطار المحدقة. واتخذت أغلبية قوى الثورة الموقف المبدئى الصحيح بالوقوف ضد كل من العسكر والإخوان الشركاء فى العداء للثورة. ولكن دفع هذا المناخ بمجموعة محدودة من القيادات الوطنية إلى تصور إمكانية أخذ صف الإخوان ضد المجلس العسكرى مع أخذ تعهدات عليهم بالولاء لأهداف الثورة. وذهبت تلك المجموعة، وبها قيادات وطنية مثل الدكتور عبد الجليل مصطفى رئيس الجمعية الوطنية للتغيير (وإن فعل هذا بصفته الشخصية وكلفه هذا الاستقالة من رئاسة الجمعية الوطنية)، والصحفى حمدى قنديل، والكاتب علاء الأسوانى، وغيرهم، ذهبوا للقاء مرسى مع قيادات الإخوان فى فندق فرمونت، حيث استمر اللقاء حتى الثالثة من فجر يوم الجمعة الموافق 22 يونيو. واتفق الطرفان على 6 نقاط فيما عرف باتفاق فرمونت الذى تضمن تأييد الإخوان ضد أى تزوير محتمل وتأييد مرسى فى حال فوزه بالرئاسة على أساس 6 نقاط تتضمن الاتفاق على تشكيل وزارة وحدة وطنية برئاسة شخصية وطنية مستقلة لا تنتمى للإخوان المسلمين، وإعادة النظر فى تشكيل الجمعية التأسيسية لزيادة العناصر المدنية بها، مع إقرار معايير لاختيار الفريق الرئاسى، ونواب الرئيس ومستشاريه. واعتبر هذا مشروعا للشراكة الوطنية ومشروعا وطنيا جامعا، وأن الإخوان سوف ينهجون نهج الشراكة الوطنية بدلا من نهج الهيمنة المنفردة. واعتبر الحاضرون أنفسهم الجبهة الوطنية الثورية، وأعلنوا ذلك الاتفاق باحتفاء كبير لم تشاركهم إياه أغلبية القوى الوطنية والثورية فى مصر.
وشهدت تلك الفترة نشاطا ديبلوماسيا أمريكيا للوساطة بين أصدقائها من العسكر والإخوان، فجاءت إلى القاهرة وزيرة الخارجية "كلينتون"، ثم وزيرالدفاع "بانيتا"، وقام كلاهما بلقاء الطرفين ومحاولات الوساطة، وتسربت أخبار عن التوصل لاتفاق يتضمن التراجع عن حل"مجلس الشورى"و"الجمعية التأسيسية"، وإقرار استكمال "مرسى" لمدته الرئاسية كاملة، فى مقابل الحفاظ على"الإعلان الدستورى المكمل" وصلاحيات "المجلس العسكرى"، وبهذا يخرج كل طرف بمكاسب هامة ويصبح القانون هو لا غالب ولا مغلوب، ولو لحين.
ملابسات إعلان نتيجة الانتخابات
                 ترددت أنباء كثيرة جديرة بالثقة، منها ما وجد طريقه للإعلام بوضوح، بأن النتيجة الأولى التى أعلنت لانتخابات الرئاسة فى الكواليس كانت فوز أحمد شفيق، حيث اتصل به تليفونيا من أعلنه بالفوز مع إرسال ضباط من الحرس الجمهورى لإحضاره. وفيما يبدو وفى إطار الضغوط الموجودة كان لدى المجلس العسكرى كلتا النتيجتين كل منهما تعلن فوز أحد المرشحين فى انتظار محصلة الموقف السياسى للإعلان. ولكن النتيجة التى أعلنت فعلا كانت فوز محمد مرسى أول رئيس يأتى، ليس فقط من خارج المؤسسة العسكرية منذ إعلان الجمهورية فى مصر، ولكن أيضا أول رئيس يأتى من جماعة الإخوان المسلمين.
                 ويتناقض هذا الإعلان بشدة مع سلوك المجلس العسكرى الساعى إلى تجريد الإخوان من كل عناصر قوتهم السياسية فى الشهر السابق مما يستدعى تفسيرا. والتفسير المتاح والقوى هو أن الضغوط العنيفة التى مارستها أمريكا كانت السبب فى خضوع العسكر رغم أنفهم ورغم خطواتهم السابق الإشارة إليها لتجميع عناصر القوة السياسية بين أيديهم. وتردد أن الإمريكيين قد هددوهم بفضح فسادهم، وهو ما برز فعليا أمامنا حينما تقدم أعضاء بالكونجرس الأمريكى باقتراح وقف المعونة الأمريكية العسكرية لمصر حتى تعلن بشفافية أوجه إنفاق المعونة السابقة، التى يعرف الأمريكان بالطبع عن ثقة بالنصيب الذى ناله العسكر منها كنتيجة للفساد. وكدليل إضافى، ما أن أعلن عن فوز مرسى وتسلم السلطة فى أول يوليو حتى سحب الأمريكان اقتراحهم بالشفافية موضحين أن المعونة العسكرية ستستمر بدون شروط وأنهم ليس من سياستهم التدخل فى أوجه صرف المعونة العسكرية وليس لهم مطالب فى مجال الإعلان عن أوجه الإنفاق!
                 وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحتفظ بعلاقات قوية مع حلفائها فى المجلس العسكرى والإخوان المسلمين معا، وإذا كانت تعتبر كلاهما مصدة قوية لثورة الشعب، وهى تعرف أن استطلاع معهد جالوب يوضح أن 73% من الشعوب فى المنطقة يعتبرون أن الولايات المتحدة الأمريكية، وليس إسرائيل، هو العدو الأول لهم، وبالتالى تراهن على إعادة خلق النظام القديم من خلالهما معا وضد أى احتمال لنظام ديمقراطى لابد وأن يسفر عن تصاعد العداء ضدها، فلماذا تدخلت بتلك القوة لكى تزيح طرفا منهما، أى المجلس العسكرى، عن واجهة تصدر زعامة المشهد السياسى (مع استمراره فى الخلفية بالطبع حيث لا يمكن الاستغناء عنه) وتعطى الفرصة للطرف الجديد أن يصل لأول مرة فى تاريخه إلى سلطة الرئاسة المحورية فى كل الدول الاستبدادية كبلادنا.
                 وقد سبق توضيح السياسة الأمريكية التى تفضل أن تتمخض ثورات ما يعرف بالربيع العربى عن تصدر القوى الإسلامية للساحة السياسية باعتبارها قوى معارضة من نوع ما قبل الثورة وتمتلك قاعدة بين الجماهير، بينما هى تعرف جيدا طبيعة تلك القوى المؤيدة للاقتصاد الحر وغير معارضة لإسرائيل فى الحقيقة. ولكن هناك بعد آخر يجدر إبرازه. لقد أوضح الأمريكان فى مناسبات متعددة أن العسكر فى مصر لا يعتبرون الجيش قوة عسكرية محترفة ومتفرغة، بل ينشغلون بالاستثمار مما يدفع الأمريكان إلى السخرية مما يعتبرونه "شركة الجيش" (أنظر مثلا المقالة الخاصة بالثورة المصرية فى جريدة فورين أفيرز بتاريخ 7 فبراير 2011 وقبيل سقوط مبارك).
                 وقد نشرت مؤسسة كارنيجى وثيقة الصلة بمراكز صنع القرار فى الولايات المتحدة الأمريكية دراسة هامة جدا من زاوية محتواها وكذلك من زاوية الدلالة الهامة لتوقيت نشرها. والدراسة معنونة باسم: " فوق الدولة: جمهورية الضباط فى مصر" نشرت فى موقع مؤسسة كارنيجى بالعربية والإنجليزية فى أوائل أغسطس من هذا العام فيما يمكن أن يمثل خلفية لموقف أمريكا. والدراسة تستنكر –ليس فقط قيام الجيش بالاستثمار فى الحياة المدنية- ولكن أيضا كيف أن هذا الاستثمار محصن من أشياء كثيرة وبالذات ضد الخصخصة.
                 توضح الدراسة أن هناك 35 شركة كبرى تمثل استثمارات الجيش فى المجالات المدنية، ورغم أن عملية الخصخصة قد خصخصت نحو 300 شركة قطاع عام إلا أنه لم تجر خصخصة ولا شركة واحدة للجيش. وتشهر الدراسة بأن استثمارات الجيش غير معلومة بدقة لأنها لا تنشر ميزانيات، ولا تدفع ضرائب، ولا تخضع لإشراف الجهاز المركزى للمحاسبات ولا يتم إدراج بياناتها فى الموازنة العامة للدولة، ولا يعلم أحد حجم الفائض السنوى لها ولا إلى أين وكيف يذهب (رغم أنه يذهب بالطبع للقادة العسكريين الكبار وينوب صغار الضباط منه الفتات). وبالطبع لا ينبع موقف أمريكا من حرصها على الديمقراطية ولا الشفافية ولا خشيتها من تربح قادة عسكريين فى حد ذاته ولكنها تتلمظ على خصخصة تلك الاستثمارات مما يشكل سببا إضافيا لسعيها إلى إضعاف نفوذ العسكر لصالح تيار الإسلام السياسى.
وكانت محصلة ما سبق بما فيها الضغوط الأمريكية هى أن أعلنت النتيجة الرسمية للانتخابات بفوز محمد مرسى بهامش ضئيل، حيث نال 13.2 مليون صوت بنسبة 51.7% من الأصوات بينما خسر أحمد شفيق الذى حصل على 12.3 مليون صوت بنسبة 48.3% من الأصوات. ولا يقتصر الأمر على ضآلة الهامش بين المرشحين، ولكن التصويت لم يعكس حجم التأييد الحقيقى لكليهما بقدر ما عكس مأزق الاختيار بين مرشحين لم يحز أيهما فى الجولة الأولى على أكثر من ربع أصوات الناخبين الذين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع (أى ثمن عدد الناخبين الكلى تقريبا باعتبار أن نصف الناخبين فقط قد أدلوا بأصواتهم). فقد أعطى الكثير من الناخبين مرسى كراهية فى شفيق وليس حبا فى مرسى، والعكس بالطبع صحيح، فقد أعطى الكثير من الناخبين شفيق خوفا من مرسى وليس شغفا بشفيق!
الرئيس الجديد "يمارس" و"يوسع" مهام منصبه
         ومنذ تولى مرسى انشغل هو ورجاله وحزبه بهدفين رئيسيين: أخونة الدولة بمعدلات متزايدة، وتوسيع نطاق سلطاته والتغلب على القيود التى وضعها المجلس العسكرى لتحجيمها. جرب الرئيس قوته لأول مرة بإصدار قرار فى 8 يوليو بدعوة مجلس الشعب للانعقاد، فأنذره المجلس العسكرى فى 9 يوليو مما اضطره للتراجع. وكان أول قراراته الهامة فى 12 يوليو هى إصدار المرسوم بقانون رقم 79 لسنة 2012 الذى عرف بتحديد معايير الجمعية التأسيسية. والإجراء الجديد يتضمن تحصين الجمعية التأسيسية من الحل، فعندما تصبح الجمعية التأسيسية صادرة بقانون وليس بقرار إدارى يمتنع الاعتراض على تشكيلها أمام المحكمة الإدارية، ويصبح من يعترض عليها يعترض على قانون وبالتالى عليه اللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا بإجراءاتها الطويلة. والغرض من هذا هو قطع الطريق على المجلس العسكرى، الذى كان لم يحل بعد، فى تشكيل جمعية أخرى وفق الإعلان الدستورى المكمل، وإتاحة فرصة أوسع للمناورة أمام الجمعية التأسيسية لكى تنتهى من مشروع الدستور ويستفتى عليه وتستبق أى حكم ضدها.
ثم أتى تشكيل الوزارة الجديدة بتكليف قنديل بتشكيلها فى 24 يوليو وأدائها اليمين فى 2 أغسطس، فإذا بالشخصية الوطنية من خارج الحرية والعدالة التى تعهد بها لكى ترأس الوزارة هى الشخصية الإخوانية المستترة. ويتضح من أضخم تشكيل وزارى فى مصر (34 وزيرا) تحالف التيارات الإسلامية مع الفلول، فهناك 5 وزراء من حزب الحرية والعدالة ولكن مع الكثيرين من ذوى التوجهات الإسلامية بالإضافة إلى تسعة من وزارة الجنزورى يشملون وزارات سيادية وهامة مثل الدفاع (قبل الإطاحة بطنطاوى بعد ذلك) والخارجية والمالية والإنتاج الحربى.
ثم جاءت أحداث رفح ومقتل 17 جندى مصرى وإصابة 6 فى 5 أغسطس لكى تعجل بالخطوة الكبرى لمرسى فى تحقيق مستوى أكبر بما لا يقاس من السلطة والإطاحة بالعسكر. ففى 12 أغسطس قام مرسى بخطوتين كبيرتين: الأولى هى إلغاء الإعلان الدستورى المكمل وتحويل الصلاحيات التى كانت ممنوحة بمقتضاه إلى المجلس العسكرى، تحويلها إليه هو شخصيا بحيث صار مرسى يمتلك السلطتين التشريعية والتنفيذية. والثانية إحالة وزير الدفاع طنطاوى ورئيس الأركان عنان إلى التقاعد مع إجراء تغييرات هيكلية كبرى فى تركيب قيادة المؤسسة العسكرية. وكان تعيين الفريق السيسى (بعد ترقيته) على رأس القوات المسلحة، وهو رتبة حديثة نسبيا، يعنى إحالة كل من له أقدمية عنه إلى المعاش حتى لا يعمل ذو الأقدمية الأكبر تحت رئاسة الأصغر، فشمل هذا إحالة 70 من كبار الضباط إلى التقاعد، كما تم تعيين رئيس أركان جديد وتغيير قادة الأسلحة جميعا فى القوات المسلحة. وترافق هذا مع تغيير رئيس المخابرات العامة بعزل مراد موافى وتعيين محمد رأفت، ولأول مرة يقسم رئيس المخابرات الجديدة أمام التلفزيون ويقسم على المصحف ويقسم بالولاء لرئيس الجمهورية وليس بالولاء للوطن والشعب فقط!
وفى 27 أغسطس قام الرئيس بتعيين "فريقه الرئاسى" فعين نائبا يتمتع باحترام بين الأوساط الوطنية هو المستشار محمود مكى، وأربعة مساعدين، وسبعة عشر مستشارا. ومثل الإخوان وحدهم 30% من الفريق بينما مثلوا مع بقية التيارات الإسلامية الأخرى 65% من الفريق. وبقى 35% من المستقلين، ولكن المهم هو عدم وجود أى مهام محددة أو صلاحيات محددة لأى منهم، بل إن الرئيس لا يكترث كثيرا بلقائهم، وفى سفره للخارج لا ينيب نائبة فى أى من اختصاصاته، فجهازه الرئاسى الحقيقى هو مكتب الإرشاد وقادة حزب الحرية والعدالة الذين يسمح لهم بدخول القصر الرئاسى فى أى وقت مثل عصام العريان ومحمد البلتاجى، كما يعطون أنفسهم الحق فى التحدث باسم الرئاسة.
وانطلقت بنشاط عملية أخونة الدولة بدءا بتعيين وزير إخوانى للإعلام وإعادة تشكيل المجلس الأعلى للصحافة وتغيير رؤساء تحرير الصحف، ثم إعادة تشكيل المجلس القومى لحقوق الإنسان. وتم تغيير قادة الأجهزة الرقابية جميعا مثل هيئة الرقابة الإدارية والجهاز المركزى للمحاسبات والجهاز المركزى للتنظيم والإدارة. بل تم تغيير عدد هام من قادة وزارات غنية مثل وزارات الطيران المدنى والبترول والكهرباء، علما بأنه كان قد تردد حتى قبل نجاح مرسى بأن الإخوان لديهم قائمة بثلاث عشرة ألف وظيفة فى الجهاز الإدارى للدولة يخططون لتوليها من قبل أعضائهم وأنصارهم!
وجاءت حركة المحافظين الجديدة فى 4 سبتمبر لكى يحظى الإخوان ب50% من التعيينات الجديدة وينخفض نصيب المحافظين ذوى الخلفية العسكرية إلى 30% تقتصر على المحافظات الحدودية التى كانت عادة مقصورة على مثل تلك الشخصيات لاعتبارات الأمن القومى فى نظر الأنظمة السابقة. لقد كان العرف السائد أيام مبارك يجعل شخصيات المحافظين ترد عادة من أربع مصادر: الجيش، وله نصيب الأسد، ثم الشرطة، والقضاء وأخيرا رؤساء الجامعات، وكلهم من  السابقين بالطبع. ولكن طابع التغييرات التى يجريها الإخوان تتضح من رؤية الطابع العقابى لتغييرات المحافظين: فقد تم تغيير المحافظين فى المحافظات التى لم تعط مرسى أصواتها فى الانتخابات الأخيرة بمحافظين من غلاة المتشددين الإخوان. برز هذا فى محافظتى الإسكندرية وكفر الشيخ اللتين أعطتا حمدين صباحى، والشرقية التى أعطت أحمد شفيق. وأوضح محافظ كفر الشيخ هذا حينما خطب الجمعة الأولى بعد توليه مرتديا الجلباب وقائلا للمصلين أنه داعية وأنه لم يحضر لحل مشاكل المواطنين، داعيا الله لهم بأن يعينهم عليه!! وبهذا فإن تلك التغييرات لا يصب مغزاها فى زيادة نصيب القيادات المدنية عن العسكرية ولكنه يصب فى تغيير الاستبداد العسكرى إلى استبداد الدولة الدينية!
يبقى القضاء أكبر حجر عثرة أمام الإخوان. وهم يحاولون النيل منه منذ أن كان معهم مجلس الشعب قبل حله. فقد حاولوا، وهم يعرفون بالقضايا المرفوعة أمام المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب، أن يلتفوا مسبقا على هذا الاحتمال بإصدار قانون من مجلس الشعب يجعل سلطة المحكمة الدستورية العليا استشارية. وردت المحكمة بإعلان نفسها فى حالة انعقاد دائم مما أجبر المجلس على التراجع. ثم جرت محاولة إعادة دعوة مجلس الشعب للانعقاد فى 8 يوليو وعادت المحكمة الدستورية لتؤكد قرارها بحل المجلس فتراجع مرسى كما سبق القول. وأخيرا انتهز الرئيس فرصة حكم براءة كل المتهمين فى موقعة الجمل الذى صدر يوم 10 أكتوبر وأعقبه مباشرة بعزل النائب العام الذى اتخذ صيغة تعيينه سفيرا لمصر فى الفاتيكان. وكان هذا مصحوبا بتلويح بتهديد النائب العام تليفونيا من قبل كل من وزير العدل ورئيس الجمعية التأسيسية بمصير السنهورى فى حالة رفض ترك المنصب. واجتمعت الجمعية العمومية للقضاه ووقفت ضد الاعتداء على استقلال القضاء. ورغم أن عزل النائب العام كان من مطالب الثورة منذ قيامها إلا أن أغلب فصائل الثوريين شاركوا فى إدانة الخطوة، ليس فقط من أجل رفض مبدأ تدخل السلطة التنفيذية فى استقلال القضاء ولكن أيضا لرفض السياق الذى يجرى فيه العزل وهو سياق إحلال الإخوان محل مختلف قيادات الدولة وليس سياق الانتصار لمبادئ الحريات. واضطر الرئيس مرسى للتراجع واستمر النائب العام فى وظيفته.
منذ قيام الثورة تعاون العسكر والإخوان لمدة عام كامل ضد الثورة مما أتاح للإخوان الشرعية والاستيلاء على مجلسى الشعب والشورى والعمل بحرية كبيرة، كما ضمن المجلس العسكرى تأييد ومباركة الإخوان لكل الخطوات التى اتخذها ضد الثورة والثوار. تلى هذا العام من التعاون ستة أشهر من الصدام بين العسكر والإخوان (أواخر فبراير- أغسطس 2012) نتج عنها تقدم الإخوان للإمساك بمقاليد السلطتين التشريعية والتنفيذية مع محاولة صياغة وفرض تصورهم على مستقبل البلاد من خلال صياغة دستورها، ومحاولة إضعاف التيارات المناوئة لهم فى السلطة القضائية وإحكام قبضتهم عليها. هل يعنى هذا على الأقل الخلاص من خطر عسكرة الدولة كهدف جزئى للثورة؟ بالقطع لا.
فعسكرة الدولة مفهوم واسع يشمل، فضلا عن القوانين والنظم واللوائح الاستبدادية، يشمل الأمر الواقع الذى يشهد انتشار العسكريين السابقين فى أغلب المناصب القيادية فى الوزارات ورئاسة الهيئات العامة وفى المحافظين والمحليات وغيرها. ويتمثل نجاح خطوات الإخوان الأخيرة فى إعادة تقسيم أنصبة القوى فى حكم البلد وليس الإطاحة بحكم العسكر حيث لا يستغنى الإخوان عن الجيش ذى الدور الهام فى استقرار الدولة وذى الوزن الحاكم فى مختلف أجهزتها. ومعظم القادة الذين تم تنحيتهم بواسطة الإخوان تم تسكينهم فى وظائف قيادية تقع فى الصف الأول من قيادات جهاز الدولة وتدر الملايين شهريا على شاغليها مثل رئاسة هيئة قناة السويس ورئاسة الهيئة العربية للتصنيع وغيرها. كما كان مصير القيادات الرئيسية، طنطاوى وعنان، كان مصيرهما التكريم الذى يتضمن بداهة التحصين من الملاحقة بدلا من المحاكمة على جرائمهم فى حق الثورة. وكل هذا يتضمن بالطبع الحفاظ على امتيازاتهم السياسية ومكافآتهم المادية ومكانتهم الاجتماعية، مع تعهدات بتحصينهم من الملاحقة القضائية وبالذات فيما يخص الكسب غير المشروع، وعدم محاكمتهم فى أى حال إلا أمام القضاء العسكرى، وعدم محاكمة المسئولين العسكريين إلا أمام القضاء العسكرى هو محتوى قانون أقره مجلس الشعب الإخوانى المنحل فى بداية دورته التشريعية.
قوى الثورة ومستقبل الثورة
إن فترتى التحالف والصراع بين الإخوان والعسكر لم تكونا فقط تجريان على أرض تجاهل مطالب الثورة فى عدالة اجتماعية وحد أدنى وأقصى للأجور وضرائب تصاعدية وديمقراطية حقيقية وحسب، ولكن أيضا على أرضية الهجوم الكاسح على مكتسبات الثورة الديمقراطية، وتجريم النضال الإضرابى لجماهير تفتقد كافة أسباب الحياة الإنسانية، ومحاولة تقنين سنة كاملة بدون إضرابات، ومنع الاحتجاجات التى تسد الطرقات ولو بالقوة. وقد شهدت المائة يوم الأولى من حكم مرسى تصعيدا جديدا فى محاولات قمع الثورة من حيث التنكيل بالقيادات العمالية فى النقابات المستقلة وفصلها وإصدار الأحكام عليها بالحبس وتطبيق القوانين الاستثنائية على الإضرابات العمالية والتضييق على الصحفيين واضطهاد المعارضين ومنع صحفيين من الكتابة وتقديمهم للمحاكمة وإغلاق قناتين فضائيتين وغيرها وغيرها.
وبالطبع كان لابد وأن يترافق هذا مع تنكر الرئيس لكل وعودة وتعهداته الست فيما عرف باتفاقية فرمونت. وانعكس هذا على اعتذار عدد من القيادات الوطنية التى وافقت على تلك الصفقة للشعب وانضمامها للأنشطة المواجهة للإخوان المسلمين مثل الصحفى حمدى قنديل والكاتب علاء الأسوانى. وفى الواقع كما أدى سلوك الإخوان خلال 140 يوم من مجلس الشعب إلى تآكل شديد فى شعبيتهم أدى سلوك مرسى خلال المائة يوم الأولى من حكمه (التى وعد فيها بحل خمس مشاكل رئيسية فى مصر) إلى مزيد من تقلص شعبية مرسى والإخوان.
 ولكن المسار الثابت للحركة الجماهيرية الثورية رغم كل هذا هو التصاعد الشديد، فقد شهد شهر يوليو الماضى حوالى 470 احتجاجا وإضرابا مما يعد أكثر شهر فى عدد الاحتجاجات منذ شهر الثورة، فبراير 2011، الذى شهد 495 حركة احتجاجية. كما شهد شهر أغسطس 420 احتجاجا رغم ظروف شهر رمضان. بل لقد رصدت وزارة الداخلية وقوع 1409 احتجاجا خلال 48 يوما من أول أغسطس حتى منتصف سبتمبر (فوارق الأعداد تأتى من اختلاف جهة الرصد واختلاف اتساع الرؤية وأساس الحساب، فالأرقام الأولى من رصد المركز المصرى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية التى ترصد الحركات الاجتماعية بينما الأرقام الأخيرة تأتى كما أوردنا من وزارة الداخلية التى ترصد كل أشكال قطع الطرق وغيرها، إلا أن المؤشر واضح بصرف النظر عن درجة دقة الأرقام حول تصاعد الحركة الجماهيرية الاحتجاجية). وشهد شهرا سبتمبر وأكتوبر حركات إضرابية ضخمة ومؤثرة اجتماعيا بين المعلمين والأطباء وغيرهم.
والأهم هنا من ملاحظة مدى اتساع الحركة هو مراقبة مؤشرات نضجها السياسى والتنظيمى. وفى الحقيقة فإن النضج والتبلور أمر لا يخص الحركة الثورية وحدها، فكما كان من الطبيعى أن تنتشر عشرات الأحزاب والتنظيمات الجديدة فى أعقاب الثورة مباشرة نرى من الطبيعى الآن أن يسفر الفرز والحراك السياسى عن تجمع تلك الأحزاب الكثيرة فى عدد قليل من الأحزاب الأكبر، وأن تتجه تلك الأحزاب والقوى نفسها للتجمع فى تحالفات وفق اتساق أهدافها.
لقد تجمع حوالى أربعون حزبا أساسا من أحزاب الفلول والأحزاب الليبرالية فى حزب المؤتمر حول عمرو موسى، ثم تحالف هذا الحزب مع حزب الوفد فى تحالف الأمة. كما اتحدت أربعة أحزاب ناصرية فى حزب واحد، ودخل فى تحالف واسع مع تيارات واسعة فى التيار الشعبى. كما تم إنشاء التحالف الديمقراطى الثورى، وهو تحالف يسارى تقدمى، ضم ستة أحزاب وأربعة حركات هى الحزب الاشتراكى المصرى صاحب الدعوة لتأسيس التحالف، حزب التحالف الشعبى الاشتراكى، حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى، الحزب الشيوعى المصرى، حزب العمال والفلاحين، حزب الديمقراطية الشعبية، اتحاد الشباب الاشتراكى، حركة مينا دانيال، الائتلاف المصرى لمكافحة الفساد، الحركة الاشتراكية الثورية (يناير).
أما حركة النقابات المستقلة فقد شهدت زخما ثوريا ضخما حيث تطورت من ثلاث نقابات قبل الثورة إلى 140 نقابة فى ديسمبر عام 2011 إلى 550 نقابة فى إبريل 2012 إلى 850 نقابة فى سبتمبر. واتحدت معظم تلك النقابات فى اتحادين كبيرين هما الاتحاد المصرى للنقابات المستقلة (414 نقابة) ومؤتمر عمال مصر (270 نقابة). ثم تم تكوين الجبهة الوطنية للدفاع عن حقوق العمال والحريات النقابية فى 15 أكتوبر الحالى من كلا الاتحادين ومعهم أحزاب الدستور (حزب البرادعى) والمصرى الديمقراطى الاجتماعى والتحالف الشعبى الاشتراكى والاشتراكى المصرى مما يعد نقلة نوعية هامة كانت تنتظرها الحركة السياسية منذ الثورة لأنها تتعلق بربط حركة السياسيين بالحركة العمالية وتبنى الحركة السياسية للمطالب العادلة للعمال وتسييس الحركة العمالية.
قرر عدد كبير من الأحزاب والحركات الانضمام إلى "مليونية كشف الحساب والعدالة الاجتماعية" المحدد لها الجمعة 12 أكتوبر التى دعا إليها الشباب سابقا فى ذكرى مرور مائة يوم على حكم مرسى لكى يقول الشعب كلمته فى رفض وفضح حكم الإخوان. وقد سبق تلك المظاهرة مسيرة حاشدة فى ذكرى مرور عام على مذبحة ماسبيرو فى 9 أكتوبر بدأت فى شبرا وانتهت فى التحرير. وعندما جاء حكم المحكمة ببراءة كل المتهمين فى موقعة الجمل قبل الجمعة بيومين، أى يوم 10 أكتوبر قرر الإخوان النزول فى محاولة لتحويل الجمعة إلى جمعة المطالبة بإعادة المحاكمة وعزل النائب العام. وكانت هذه المحاولة لحرف المسار محاولة مكشوفة من الإخوان لنزع الطابع المعارض للإخوان عن تلك المليونية، وكان الإخوان مستعدين بالطبع لاحتمال فشل هذا التكتيك، فاستعدوا بطريقتهم الفاشية حيث أمروا ميليشياتهم بمهاجمة وتكسير منصة الثوريين وضربهم بالطوب واستخدام عنف شديد ضد الثوريين امتد حتى لممثلى الإعلام وعدد من الشخصيات العامة.
ولم يستطع القمع الفاشى الصريح إفساد المليونية وانتهى بانسحاب الإخوان فى السادسة مساء مع استمرار المليونية، ولم ينجح تكتيك الإخوان إلا فى فضحهم وتآكل شعبيتهم وتقديم البلاغات ضدهم. كما أدى السخط عليهم إلى إلى تنظيم مليونية أخرى فى الجمعة التالية 19 أكتوبر تحت عنوان "مصر مش عزبة" أو "مصر لكل المصريين" وهى جمعة اقتصرت على الثوريين وامتنع الإخوان عن النزول فيها بعد فضائحهم فى الجمعة السابقة، حيث أخذ الإخوان يحاولون بلا جدوى تحسين صورتهم ودعوة المعارضة للتصالح.
بدعوة من الدكتور محمد غنيم تم تأسيس تحالف انتخابى باسم تحالف الوطنية المصرية يضم بداخله التيار الشعبى، والتحالف الديمقراطى الثورى، والحزب الديمقراطى المصرى الاجتماعى (يسار الوسط)، وحزب الدستور والاتحاد المصرى للنقابات المستقلة، ومؤتمر عمال مصر، وحركة نساء مصر (التى ضمت الجبهة الوطنية لنساء مصر المكونة من أمانات المرأة بالأحزاب المختلفة وتحالف المنظمات النسوية مع منظمات كثيرة للمرأة، وكلها تلعب فى الفترة الحالية دورا كبيرا فى الدفاع عن حقوق المرأة فى الدستور الجديد) وكثيرون غيرهم فى مواجهة الإخوان المسلمين. والهدف الرئيسى من هذا التحالف الانتخابى هو دستور لكل المصريين وحل الجمعية التأسيسية.
خاتمة
لعل الخيط الناظم فى هذا المقال يكون واضحا وهو تتبع منطق الثورة منذ بدايتها وصولا إلى ميزان القوى الراهن من أجل تحديد تكتيك الثوريين فى استكمالها. وبهذا المعنى فإننا نتبنى المنطق الذى يقول بأن الثورة لم تنته بعد، ونحن لا ننتظر بعثا جديدا للثورة ولا مرحلة ثانية لها فطبيعة الثورات أنها تستمر لسنوات، وتستمر طالما ظل الزخم الثورى حالة جماهيرية واضحة دون أن يعنى ذلك استمرارها على شكل واحد أو بنمط واحد من الاحتجاجات مثل المليونيات الأسبوعية أو الاعتصام الدائم حتى تحقيق مطالبها.
لا توجد عيوب فى الثورة إلا لمن يتصور ثورة على مقاس ذهنى مجرد لدى البعض، ولكن توجد سمات للثورة باعتبارها معطى تاريخى، والمهم هو منطق التعامل معها. إن حصاد الثورة حتى الآن لم يرض الكثير من الثوار، فالثورة لم تؤدِ إلى استلام الثوريين للسلطة ولا حتى لمشاركتهم فيها. لكن الثورة نجحت بامتياز حتى الآن فى تغيير الشعب. حقا مازالت القوى الثورية فى المعارضة، لكنها تتطور بمعدلات شديدة السرعة نظرا لتفتح مسام الشعب بشراهة واستجابته للدعاية الثورية وتطور تسييسه وتنظيمه كما سبق وأوضحنا. وأصحاب نظرية انتهاء أو فشل الثورة يبحثون عن السبب لهذا الفشل فى ذاتهم (ما يسمى باختلاف النخبة وعدم توحدها وتغليبها للذاتية...الخ) أو فى صفات شعبنا، ولكنهم يغفلون حقيقة أساسية: وهى أن حصاد أى ثورة هو حصاد لمستوى نضج الحركة الجماهيرية قبلها ومستوى تبلور رؤيتها وبرامجها ومدى اتساع تنظيماتها الشعبية المختلفة المعبرة عنها. والعنصر الرئيسى المحدد لحصاد المراحل الأولى من الثورة هو محدودية نضج تسييس الشعب المصرى وجنينية تنظيماته النقابية والسياسية الديمقراطية والثورية بحكم عقود الاستبداد الماضية السابقة على الثورة.
بالطبع لابد وأن يكون هناك فارق بين ثورة هذه درجة نضج شعبها، وبين ثورة 1919 التى تشكل حزبها القيادى قبلها بخمسة أشهر، وبين ثورة جنوب أفريقيا 1994 التى تمتلك حزبها الثورى، المؤتمر الوطنى الأفريقى الذى يعمل أيضا كمظلة أو جبهة تضم داخلها أحزاب عديدة، وله وجوده التنظيميى الواسع ويحظى باعتراف الجماهير التى تقر له بالقيادة لمدة عقود قبل الثورة.
ولكن ما هو عبقرى فى الثورة هو السرعة الشديدة فى إنضاج وتطوير الحركة الجماهيرية ونمو تنظيماتها فى زمن الثورة الذى "تتعلم الجماهير فيه فى أيام ما يحتاج منها إلى سنوات أو عقود فى ظل ظروف مختلفة" وفقا لمقولة شهيرة.
ولا يعنى هذا أن ثورة 25 يناير كانت ثورة عفوية بالكامل. الثورة هى فعل جماهيرى واسع لجماهير ترفض أن تحكم كما فى السابق، ولكن مستوى السخط وأيضا مستوى نضج الشعارات يساهم فيه كل القوى الواعية فرادى وجماعات. وثورة 25 يناير بالقطع تنطوى على رؤية عبقرية لخصتها شعاراتها الأساسية "الشعب يريد إسقاط النظام" و"تغيير، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية" إلا أن هذا لا يجب أن يصرف انتباهنا عن مستوى محدودية النضج السياسى للثورة، وإدراكها لمختلف القوى الاجتماعية، ولا عن دورنا فى استمرار الثورة.
والمذهل بالنسبة لى هو مستوى تطور نضج الجماهير وتزايد تسييسها وتزايد مستويات تنظيمها فى الفترة الصغيرة فى عمر الشعوب، نحو سنة ونصف، منذ قيام الثورة حتى الآن. والمهم أيضا هو رؤية الصيرورة فى تطور الثورة المصرية منذ يناير2011 حتى الآن وإدراك أن الخط الثابت لها هو مزيد من العمق والاتساع والتنظيم، وهو خط ثابت متطور مادامت جذوة الثورة والاستعداد للكفاح والتضحية قائمة وسط الجماهير. نحن نعجز عن تطوير أى ظاهرة من خارجها وفق مخططات إرادية ذاتية ذهنية حتى لو ارتدت شكل الاستفادة من الأطر التاريخية للثورات. والتوازن بين فهم السمات المشتركة بين الثورات وفهم الخصوصية المميزة لكل ثورة هو طريقنا الثورى لتحديد التكتيكات الملائمة لاستمرار وتطوير الثورة. وهذا هو ما حاولت أن أفعله، لا أدرى بأى درجة من النجاح، وأن أتلمسة فى هذا المقال الذى أرجو أن يكون أساسا لحوار مجتمعى بين الثوريين حول المهمة الدائمة للثوريين: كيف نفهم واقعنا جيدا حتى نتمكن من تغييره.
محمد حسن خليل                      الحزب الاشتراكى المصرى  أكتوبر 2012