خالد الحروب - كاتب وباحث أكاديمي / مدير مشروع الاعلام العربي في جامعة كامبريدج/أنجلترا - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: الربيع العربي: من رُهاب الواقع والاسلاميين إلى افق المستقبل.


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 3803 - 2012 / 7 / 29 - 16:45
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا - 84 - سيكون مع الاستاذ د.خالد الحروب - كاتب وباحث أكاديمي / مدير مشروع الاعلام العربي في جامعة كامبريدج/أنجلترا - حول: الربيع العربي: من رُهاب الواقع والاسلاميين إلى افق المستقبل.

 
النص التالي جزء (مُعدل ومضافا اليه) من مقدمة كتاب "في مديح الثورة: النهر ضد الُمستنقع" للكاتب, الصادر عن دار الساقي, بيروت, 2012
 
الانحياز للثورات العربية, برغم كل ما فيها من اختلالات, ومغامرات, ومخاطرات, هو انحياز لإفق المستقبل على انسداد الحاضر المستنقعي, كما على احلام العودة للماضي المحنط. انحياز للحرية والكرامة, ضد الاستبداد والذل المستديم. وهو ايضا, وبوعي كامل, انحياز مقامر في ذات الوقت. إذ ليس هناك اي قدر من السذاجة او التساذج يتغافل عن الصعوبات الهائلة التي تواجه مجتمعات مع بعد الثورات في المنطقة العربية. فإسقاط انظمة الاستبداد هو الشوط الاسهل, رغم صعوبته واحيانا دمويته وأكلافه الهائلة, خلال مسيرة بناء مجتمعات ديموقراطية وصحية وفاعلة. الشوط الاكثر صعوبة هو عملية التأسيس والبناء بعد عقود الخراب الطويل. الانحياز هنا يعني الاصطفاف مع التغيير ضد رتابة التكلس وجمود الاوضاع الآسنة. الثورة هي النهر الذي يجرف البرك الراكدة والمستنقعات التي عشعش العفن في قلبها, رغم ان ركوب النهر نفسه والتسليم بقياده مخاطرة ومقامرة ايضا.

انجراف المستنقعات لا يعني ظهور واحات خضراء مكانها على الفور. لهذا فإن الذين توقعوا او لا زالوا يتوقعون ان تتحول بلدان الثورات إلى جنان عدن بين عشية وضحاها كانوا ولا يزالون غارقين في الوهم. فالفساد والاستبداد اللذان دمرا تلك البلدان على مدار عقود طويلة لا يمكن اصلاح آثارهما في وقت قصير. والشعوب نفسها التي حُرمت من الحرية والتعايش المشترك في ما بينها على مبدأ الندية والمساواة, وليس تفوق شريحة معينة واستبدادها ببقية الشرائح, هي شعوب تحتاج بدورها زمنا لا غنى عنه كي تتقن ممارسة الحرية من دون اعتداء على الآخرين ومن دون الانزلاق الى مهاوي استبداد جديد. صحيح ان لحظة "ميدان التحرير" ولحظات ميادين التغيير الاخرى مثلت التتويج المثالي لالتفاف شرائح الشعب حول بعضها وتضامنها واسقاطها للدكتاتور الخاص بها هنا او هناك. لكن تلك اللحظة وطوباويتها لا تستديم. روعتها تكمن في قدرتها الخارقة على توحيد الشعب على هدف مرحلي واحد هو اسقاط النظام الفاسد. وبعد سقوطه يتلاشى ذلك التلاحم وتعود التنافسات الطبيعية بين المجموعات المختلفة للظهور وطبع المشهد بصراعاتها. بل اكثر من ذلك, تأخذ هذه التنافسات والصراع بين المجموعات والاحزاب المختلفة اشكالا اكثر حدة لانها تتم الآن في مناخ الحرية وليس القمع, وهذا كله شيء طبيعي. لكن هذا بالنسبة للغالبية الكاسحة من الرأي العام تحول مُحبط, مُربك, ومثير للخوف على الحاضر والمستقبل, ويدفع جزءً من ذلك الرأي العام إلى الترحم على ايام الُمستبد حيث كانت الحياة "مستقرة"! "مستقرة" نعم, لكنه كان استقرار الاستبداد وليس استقرار الحرية. إنه "استقرار القبور" بإستعارة توصيف صادق جلال العظم لحال الامن والاستقرار التي تفاخرت بها انظمة الاستبداد العربي طويلا. 

               الحاضر المُباشر لما بعد الثورة هو الارتباك والفوضى المؤقتة. الاقرار بهذا يخفض من سقف التوقعات ويعقلن فهم التغيرات السياسية والاجتماعية الحادة ويضعها في اطار التحول التاريخي طويل الامد وليس انتظار النتائج يوما بيوم. ولهذا فإن الامر بالغ الاهمية في فهم واستيعاب حاضر الثورات العربية هو موضعتها في سياق التحولات التاريخية العريضة والمؤسسة لمرحلة جديدة تقتضي بدايات طويلة وصعبة وربما دموية. وهذه الموضعة تعني ايضا الانفكاك من اللحظة الراهنة وأسر التعثرات والتخوفات العديدة والتي يضخمها حلفاء الاستبداد المنقضي او الذي ما زال قائما, ويبثون الخوف عند الناس كي ينحازوا ل "استقرار الاستبداد" مرة اخرى.

               تسببت عقود الاستبداد الطويلة في توليد طبقات من العفن المريع في مجتمعاتنا وبلداننا وحرمتها من التطور الطبيعي ومواجهة واقعها ومشكلاتها وجها لوجه. كانت الآلية الوحيدة للاستبداد في حل المعضلات هي كنسها واخفاؤها تحت السطح والتظاهر بأن كل الامور على ما يرام. ليس هناك شعب او مجتمع او مجموعة بشرية يتمتع بهذه الخدعة الكبرى وان "الامور على ما يرام". تاريخ الاجتماع البشري والانساني قائم على ان "الامور ليست على ما يُرام" وان سيل المشكلات التي يواجهها البشر لا ينقطع. وتعريف السياسة يأتي من انها الآلية المُستديمة التي تحاول حل ما يستجد من مشكلات اولا بأول. طبعا لن تُحل كل مشكلات البشر وإلا لتحولت الارض إلى جنة مثالية. لكن السياسة الناجحة هي تلك التي تعمل على تفكيك اكبر المشكلات واخطرها على امن المجتمعات وتعايشها المشترك, وتحقق اكبر اقدار من العدالة الاجتماعية والكرامة والمساواة.

               المواجهة المباشرة مع المشكلات المركبة التي تضرب في بنية المجتمعات وحلها اولا بأول ليس من سمة الدكتاتوريات المنشغلة بالمهمة الاولى والاخيرة وهي الدفاع عن بقائها في الحكم. لهذا فإن ما يتم على مدار حكم الاستبداد هو تراكم المشكلات ودخولها حقبا طويلا من التعفن الطويل الذي يأتي على البنية التحتية للشعوب والمجتمعات, ويعمل على مفاقمة المعضلات الكبرى وتسعيرها. لذلك فإن ما يحدث فور سقوط النظام المُستبد, وهو ما نراه الآن في عدد من الحالات, هو انفجار تلك المعضلات دفعة واحدة بما فيها القبلية والطائفية والجهوية والتعصب الديني. تثير هذه الانفجارات احباطا وخوفا عميقا ومبررا, لكنها انفجارات لا بد منها. إنها القيح الذي لا مناص عن إسالته من الجرح حتى يتطهر ويتعافى. وفي النظرة إلى هذه الانفجارات وتقيحاتها يميل المزاج الشعبي في بلداننا الى النفور والرهبة والهروب الى الامام وعدم الاعتراف بواقع الاختلاف العميق, وهي سمات جماعية من مواريث الحقب الاستبدادية الطويلة. وهذه كلها تعبيرات عن الغرق المباشر في اسر اللحظة الراهنة والحاضر المرير على حساب الانحياز للتاريخ والمستقبل الذي تفتحه هذه الثورات واسقاطها لواقع القمع والجبروت الذي يخفي المشكلات ولا يواجهها.

إذا وضعنا انصار ومنظري الانظمة القائمة او تلك التي انهارت جانبا, هم ومقولاتهم ودفوعهم عن هذا النظام او ذاك, ننتهي إلى ثلاثة اتجاهات تجمل النظرة إلى الثورات والانتفاضات العربية في العام 2011, كل منها يضم طيفا من الرؤى والآراء. الاتجاه الاول هو التأييد التام وهو ما تندرج فيه مقاربات "مديح الثورة" هنا معتبرا أن التغيير مهما كان ستكون ايجابياته بعيدة الامد افضل بكثير من الوضع القائم وقتامته. الاتجاه الثاني يؤيد هذه الثورات في بعض البلدان ويعارضها في بلدان اخرى, متمترسا بمقولة اولوية الاستقرار وان المقامرة بتأييد الثورات كل البلدان تؤدي إلى فوضى سلبياتها ومآلاتها اسوأ من الوضع القائم. أما الاتجاه الثالث فقد تبلور, او ربما انشق, عن الاتجاه الاول خاصة بعد الثورة الليبية والثورة السورية بزعم ان القوى الغربية اصبحت هي الموجه الاساسي لهذه الثورات بشكل او بآخر, وان هذه القوى تحالفت مع انظمة عربية موالية للغرب, خاصة دول الخليج وتركيا بهدف تعزيز السيطرة الغربية في المنطقة. ولهذا فقد اصبح الرأي الغالب عند هذا الاتجاه هو الوقوف ضد هذه الثورات في ليبيا وسوريا حتى لو أدى ذلك إلى تأييد الاستبداد في هذه البلدان.

كل من هذه الاتجاهات يسوق مقدمات وتنظيرات ودفوعات عن موقفه. وكذا هي مقاربات "في مديح الثورة" إذ هي في تنوعها بين المعالجة الموضوعية, والتحليل السياسي والسوسيولوجي, والتأطير التاريخي لحالات الثورات العربية, تنحاز إلى الاتجاه الاول وتدافع عنه: اتجاه المقامرة مع جريان النهر على حساب البركة الآسنة.

               كل ما نراه الآن من فوضى وعدم استقرار هو نتاج طبيعي ومرحلة لا بد من المرور بها إن اردنا الوصول إلى بلدان ومجتمعات قائمة على استقرار الحرية وتوافقات متكافئة بين الشرائح والمجموعات المختلفة داخل كل مجتمع. وليس هناك آلية سحرية يمكننا ان نستخدمها لحرق المراحل في هذه الحقبة. كان بالإمكان عبر عقود الاستقلال الطويلة ان تعمل الانظمة التي ورثت الاستعمار على نقل المجتمعات والبلدان تدريجيا الى مرحلة بلدان المواطنة والقانون والدستور وبذلك  توفر على نفسها وعلى مجتمعاتها مقامرة الانخراط في ثورات شعبية عارمة كالتي رأيناها. الشعوب والمجتمعات تميل بالطبيعة والتعريف والتجربة التاريخية الى آليات التغيير التدريجي والنمو والتطور الطبيعي إن كان ملموسا وحقيقيا ومقنعا للغالبية. لكن في غياب ذلك كله, وفي سقوط الاستبداد في كل اختبارات بناء البلدان واحدا تلو الاخر, وعقدا زمنيا بعد الآخر, تضيق خيارات الشعوب وتدفع دفعا نحو الخيارات والآليات القصوى, وتصبح الثورة مسألة حتمية, ومسألة حياة بالنسبة لهذه المجتمعات. حياة كريمة لكنها تأتي بعد مراحل صعبة ومريرة, او البقاء في موت سريري مستديم تحت لافتة الاستقرار الموهوم. رهان الثورات العربية القائمة هو على المستقبل لا يعني هذا الهرب من الواقع, بل هو رهان يدرك أن جذر الوصول الى مستقبل صحي هو مواجهة مشكلات الواقع بشجاعة وعقلانية وعدم الهروب منها. من دون المقامرة مع النهر يبقى المستنقع مستعمرا لحاضر العرب ومستقبلهم.

       في قلب هذه المقامرة الكبرى يقع النفوذ الكبير والمتسارع للاسلاميين في حقبة ما بعد الثورات العربية, المُعبر عنه بالفوز في النتائج الانتخابية التي شهدناها. واية انتخابات تحصل في اي بلد عربي تأتي بعد عقود طويلة من فشل دولة الاستقلال الحديثة, وهي الدولة التي نُظر إليها بكونها إما حامية للتجزئة, او موروثة عن الاستعمار, او محكومة من قبل قوى علمانية وغير اسلامية, أو كل ذلك مجموعا. وقد نُسب ذلك الفشل واختزلت آلياته المُعقدة وظروفه المُتداخلة إلى سبب تسطيحي تم تسويقه بمهارة فائقة من قبل الاسلاميين وهو "عدم الحكم بالشريعة". كل الحلول والحكومات والسلطات فاشلة, بحسب الاسلاميين, بسبب استبعاد الاسلام من الحكم, ولهذا فإن الشعار المُبسط والنافذ الذي اعتمده الاسلاميون كان "الاسلام هو الحل". لا يقدم هذا الشعار الغامض والفضفاض اية استراتيجية او برامج سياسية او اقتصادية او علاقات دولية, لكنه بالغ التأثير بكونه يخاطب وجدان الشعوب التي يشكل الاسلام والتدين العام بنية عميقة في وعيها التاريخي. وقد تضاعف تأثير ذلك الشعار بكونه ظل يُطرح من قبل تيارات وحركات تعرضت للقمع والاضطهاد على مدار فترات طويلة وتمثلت صورة الضحية في المخيلة الجمعية العامة. اضيف الى ذلك كله اشتغال الاسلاميين على مسألة تخويف شعوبهم من "التغريب" ومن اشكال الحداثة الجديدة والصادمة واعتبارها تهديدا مباشرا للهوية الاسلامية والدين. وقد تفاعل ذلك التخويف خلال العقود الماضية مُبقيا مسألة الهوية في صدارة اهتمام "الشارع", وتمكنت التيارات الاسلامية من الاحتماء بها وتصدر موقع الدفاع عنها. وبالتوازي مع ذاك تراجعت مسائل العدالة الاجتماعية, والتنمية الاقتصادية, والحرية السياسية, والديموقراطية, ولم تحتل نفس الموقع الذي احتلته مسألة الهوية. وهذه الاخيرة هي اقرب الى التعبئة الايديولوجية والتحريض منها إلى اية مقاربة اخرى للحكم والسلطة, وهي تعبئة كان حاملها الفعال شعار "الاسلام هو الحل" الذي يزيح جوهر المسائل والمعضلات بكسل فادح عن الاجندة العامة. وقد خدم ذلك الشعار الاسلاميين بقوة هائلة في عقود تواجدهم في المعارضة, وكان الفشل الذريع للنخب الحاكمة في البلدان العربية في بناء دول ومجتمعات فعالة لا يعمل سوى على تعزيز ذلك الشعار, مضيفا هالة سحرية انتظارية غيبية تنتظر قدوم المُخلّص حامل الشعار. بالترافق مع ذلك كله عملت مسألة الهوية والدين على تدعيم ادعاء صريح او ضمني عند الحركات الاسلامية بأنها تنطق بإسم الدين وتمثله. لم تكن تعبيرات عديدة من الشطط العلماني وتطرفاته, سواء من قبل انظمة حكم, ام احزاب, بعيدة عن المشاركة في  تجسيد ذلك الادعاء ودفع عموم الناس إلى الاحتماء بالاسلاميين بكونهم حماة الدين.

في الحقبة القادمة سوف تتعرض هاتين المسألتين, او الآليتين: "شعار الاسلام هو الحل", والنطق بإسم الدين, وما تمثلانه من حمولة ايديولوجية, إلى اختبار علني وشامل في مخبر الوعي الشعبي. ربما يأخذ هذا الاخبتار ردحا من الزمن, وقد يلتهم عمر جيل بأكمله, لكن يبدو انه لم يعد ثمة مناص عنه وعبور هذه المرحلة التاريخية من عمر الشعوب العربية كي يتحول وعيها تدريجيا من الهوس المُبالغ فيه بالهوية الى وعي الواقع سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. او بلغة اخرى ان يتحول وعي الشعوب والرأي العام من طوبى تعليق الآمال على شعارات ايديولوجية حالمة الى مواجهة الواقع ومحاكمة الاحزاب والحركات بناء على ما تقدمه من برامج فعلية وحقيقية على الارض, وهذا كله يشجعنا على رؤية آفاق ايجابية على المدى البعيد ويعزز "مديح الثورة" عموما.