علمانية شاملة، أم مجرَّد إلغاء للطائفية السياسية؟


كميل داغر
الحوار المتمدن - العدد: 3771 - 2012 / 6 / 27 - 09:25
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

هذا النص هو الكلمة التي ألقيتها، السبت 14 نيسان 2012، في المؤتمر حول العلمانية، الذي انعقد، في 13 و14 منه، في فندق روتانا-الحازمية، بدعوة من الجمعية اللبنانية لفلسفة القانون، والجمعية الدولية للفكر الحر.



استعرت عنوان مداخلتي، اليوم، ألا وهو: "علمانية شاملة، أم مجرد إلغاء للطائفية السياسية؟"، من خلاف أساسي نشب، ضمن الحراك الاجتماعي، الذي سمعتم به، جميعاً، وشارك فيه العديد منا، قبل أكثر من عام بقليل. وهو الحراك الذي كان مندفعاً، تحت شعار إسقاط النظام اللبناني ورموزه، ولكنه توقف، عملياً، في مثل هذا الشهر من السنة الماضية، بنتيجة الخلاف المشار إليه، وكان مستحكماً.

على أن الإجابة عن السؤال الذي يتضمنه العنوان الوارد أعلاه باتت محسومة، بالنسبة لي، من زمن بعيد. وبالضبط، لأسبابٍ عديداتٍ لا تتعلق فقط بتجارب الشعوب، ولا سيما تلك التي شهدت ثورات رائعة نقلتْها من واقعٍ بائسٍ قديم إلى مجتمعات جديدة على هذا القدر أو ذاك من الازدهار، والرقي، والتقدم، بل تتعلق أيضاً بتجربة شعبنا الشخصية، بالذات، وما عرفه من ثورات مجهضة، ومحاولات متكررة للتغيير الجذري، في أكثر من منعطف تاريخي، في القرنين الأخيرين، كانت تصطدم باستمرار بواقع طائفي بغيض أثبت قدرته على تحويل مشاريع الثورات، وحتى الثورات، إلى حروب أهلية طائفية . وهو أمرٌ كان، ولا يزال، يدفع بالكثيرين إلى الاعتقاد، جازمين، بأن هذا، بالنسبة إلينا، شيء أشبه بقَدَرٍ لنا، لا مجال لرَدِّه. قدرً ربما تمكن تسميته "لعنةَ لبنان"!!!

وفي الواقع، أنا لا أشارك هؤلاء قناعتهم هذه، وهي تعادل، في عنادها، كما في بؤسها، بعض ضروب الإيمان الأعمى، بعيداً من أي إعمال للعقل، وبمعزل عن أي اتعاظٍ بمحن الذات، كما بتجارب الآخرين. ولأجل ذلك، أنا متيقن من أن التعاطي لدينا، مع ما بات يُعرف بالمسألة الطائفية، ينطوي، لدى جمهرة واسعة، على الكثير من النفاق، وبالتالي الهرب من الواقع، وحقائق هذا الواقع، كما الحال لدى كل أولئك الذين يطرحون بالكثير من التباله، إذا لم يكن البلاهة، سؤالهم المشهور: ما الذي يجب تغييره، بادىء ذي بدء، الطائفية في النفوس أم الطائفية في النصوص؟

والأدهى من ذلك هو أن نسبة عاليةً من الناس، عندنا، تنصرف إلى هجاء الطائفية، بما هي آفة ومرض، في الوقت عينه الذي تتمسك فيه بها، عملياً، وعلى ارض الواقع، كما لو هي خشبة خلاص من هلاكٍ داهم، وذلك بأشكالٍ شتى، علماً بأنها تزعم، بين الحين والآخر، دعمها لقيام مجتمع ودولة علمانيين. هكذا، ففي لحظة مفصلية من إعداد التدخل العسكري المباشر، من جانب النظام السوري، تضامناً مع اليمين الرجعي المسيحي، وللحيلولة دون اندفاع الامور، في لبنان، في اتجاه تجاوز البنى الطائفية، والإطلال على مجتمع ودولة من نوع آخر، كان أمين الجميل، يعلن، في 25 ايار 1976،على سبيل المثال، وبالفم الملآن، كما يقولون: "نحن مع العلمانية، وإلغاء الطائفية، واستلهام النسبية"(!!!).

وبالطبع، ليست المشكلة في اليمين الرجعي الطائفي المشار إليه، وحده، بل هي أيضاً، وفي احيان ليست بقليلة، في قوى محسوبة على اليسار، حكماً، تبالغ في الحديث عن علمانيتها، وعن نضالها لأجل مجتمع ودولة ديمقراطيين علمانيين، في الظروف العادية، لتعود فتنكفىء، في اللحظات الحاسمة، إلى الاكتفاء بطرح مطلب إلغاء الطائفية السياسية، وهو مطلب، مأخوذاً لوحده، يخيف من يعتقدون، وقد يكونون صائبين، بأنه قد يفضي إلى هيمنة طائفية جديدة. وليس الحزب الشيوعي اللبناني هو وحده المقصود بهذه الملاحظة، المثيرة للكثير من الشجن، والأحزان، حسبما أثبتت تجربة السنة الماضية،في شوارع العاصمة اللبنانية، التي عجزت عن اللحاق بالحريق الثوري، الذي يشتعل، في مناطق شتى، على المستوى العربي.

في كل حال، فإنه حتى هذا المطلب القاصر جداً، والملتبس من حيث نتائجه، على الأرض، في حال تطبيقه، بالفعل، فشلت برجوازيات الطوائف، والمذاهب، الموجودة في السلطة، منذ الاتفاق عليه، في الطائف، قبل 23 عاماً، ومنذ إدخاله في الدستور اللبناني، في خريف العام 1990، فشلت في الانتقال به إلى التطبيق. ذلك ان مصالحها الطبقية، تحديداً، تتعارض مع ذلك، بل تتنافى، بالكامل! وهو ما يثبت، كما دائماً، أنه ليس ثمة إمكانية فعلية لأي إصلاح للنظام اللبناني، البرجوازي الطائفي، مهما يكن محدوداً، من داخله، وانه حتى هكذا إصلاح لن يمكن له ان يمر من دون ثورة فعلية. وهي الحقيقة القاتلة، التي وقف فؤاد شهاب خائفاً، أمامها، بل مذعوراً، حين أعلن، في العام 1970، استنكافه عن الترشح لرئاسة البلد، ليعود فيكشف هذه الحقيقة، بشكل أوضح، قبل أسابيع من وفاته، في حديث أعطاه لمفكر قانوني فرنسي مشهور.

أيها الصديقات والاصدقاء لقد لمَّحتُ، قبل قليل، للرياح الهائلة التي تهب، منذ اكثر من عام، بقليل،على عالمنا العربي. وهي رياح ثورية حقيقية، مهما تكن عاتيةً مساعي الرجعيات العربية، كما العالمية، لاستيعابها، وإجهاضها. وعلى عكس مزاعم قوى عديدة، بعضها يحسب نفسه إلى اليسار، سواء منه القومي، أو الاشتراكي، فلقد اعترف رأس الإمبريالية الأميركية الحالي، السيد أوباما، في أول مؤتمر صحفي عقده، بعد نجاح الثورتين، التونسية، فالمصرية، في إطاحة رأسي نظامي البلدين المعنيين، زين العابدين بن علي وحسني مبارك، وبالتحديد في 23 شباط 2011، بأن التغيير في ما سماه الشرق الاوسط "يتم بإرادة شعوبه، وليس وفقاً لمشيئة واشنطن". أكثر من ذلك، لقد اعترف أيضاً، وعلى الأرجح مذعوراً، وحزيناً، بأن ما يحدث لدينا "لن يغير المنطقة المنوه بها وحسب، بل العالم بأسره".

ومن الواضح أن الحالة التي نحن بصددها لن تكمل مهامها، بين لحظة وضحاها، بل هي تندفع في سيرورة قد تطول، في سعيها لتغيير الواقعين، المحلي، كما العالمي، ولكنها بالفعل سيرورة ثورية، بامتياز، على كل المستبشرين بها ان يشاركوا في المساعي لدحض مزاعم الأعداء الفعليين لهذه الثورات، على اختلاف مواقعهم - وسواء كانوا في صفوف القوى الإمبريالة العالمية، أو في مواقع الخصوم المزعومين لهذه القوى- كما في المساعي لضمان انتصارهذه الثورات، بشكل أو بآخر، ومن ذلك في بلدنا لبنان. هذا البلد حيث يُفترض أن يكون، على أعلى جدول الاعمال، تكنيسُ المعوِّق الأهم لانتصار ثورة فعلية، ألا وهو النظام البرجوازي الطائفي، لصالح مجتمع ودولة علمانيين ديمقراطيين ثوريين، ما يمكن أن يفتح الطريق واسعةً، عندئذ، أمام تحقيق الحقوق الأساسية للإنسان اللبناني، ألا وهي الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية.

ماذا يعني مجتمع ودولة علمانيين ثوريين، وما هو المقصود، عملياً، وعلى أرض الواقع، بالعلمانية الشاملة، بديلاً من الطرح البرجوازي الطائفي الكاذب، طرح الاكتفاء بإلغاء الطائفية السياسية؟ إنه يعني ما يلي:

1- الفصل التام للدين عن الدولة، بحيث يتم وضع بند المساواة، الموجود في الدستور الحالي، على علاته، في التنفيذ الفعلي، وبحيث يصبح جميع اللبنانيين مواطنين كاملي المواطنية، وقادرين على شغل أي من مناصب الدولة، ومواقع الإدارة، من دون ادنى تمييز، سواء من حيث المذهب، او الدين، أو العرق، او الأصول القومية، أو الجنس، وسواء كانوا نساء أو رجالاً. وعلى أساس الفصل المشار إليه، بين الدولة والدين، إعادة النظر جذرياً في كل القوانين، المدنية، كما الجزائية، كما الإدارية،كما أي قوانين اخرى، بما يضمن ذلك، بالفعل، وبصورة جذرية. وهو الأمر الذي يتيح التخلص النهائي من تصنيف الناس بين اقليات واكثريات، في مفاعيله القصوى. وهو الأمر الذي يضمن،هكذا،وأيضاً، كسب جزء اساسي من المتعرضين، تاريخياً، للتمييز، لصالح عملية التغيير، بما فيه التغيير الثوري، في اقصى الحالات.

2- وضع قانون مدني إلزامي وموحد للأحوال الشخصية، يتيح الخلاص نهائياً من التمييز بين الناس على أساس أديانهم،وطوائفهم، ومذاهبهم، في الزواج، كما في مفاعيله، ونتائجه، وفي الوضع العائلي، والإرث، والانفصال، وما إلى ذلك.

3- ضمان المساواة الكاملة للمرأة مع الرجل، على الصعد جميعاً، وفي شتى مستويات الحياة، بما فيه في الحياة السياسية، بما يضمن حضورها الكامل في شتى القرارات، ومن دون تمييز. وهو ما سيكون بين مفاعيله، بالضرورة، كسب الجزء الأكبر مما يشكل نصف المجتمع، او اكثر بقليل، لصالح سيرورة التغيير المنوَّه بها اعلاه.

4- علمنة التعليم، سواء منه الابتدائي، أو الثانوي، أو الجامعي، وإن تطلب ذلك بعض التدرج الزمني، بحيث يتاح للمدارس والجامعات الخاصة، أن تأخذ الوقت اللازم لتصفية أعمالها، وحضورها، والمصالح المرتبطة بذلك كله . ولا سيما أن بقاء هذه المؤسسات التعليمية يخدم الانقسام الطائفي، والانشطار الاجتماعي الشامل، المترتب على هذا الواقع، ويعيق إلى ابعد الحدود قيام مواطنية حقيقية. ومشكلة كتابة تاريخ البلد، التي اثيرت في الفترة الأخيرة، أحد الأدلة الدامغة على ذلك.

أخيراً، لقد فاجأت الثورات العربية الكثيرين، ليس فقط في المنطقة العربية، ولبنان من ضمنها، بل كذلك، على المستوى العالمي. وإذا كان لبنان ليس على موعد مع الثورة المشار إليها، إلى الآن، فهو يستطيع أن يلعب دوراً قيادياً رائداً، بقدر ما قد يتمكن، في تاريخ غير بعيد لاحق، من أن يقدم إسهامه الخاص، المتعلق بالخيار العلماني الثوري، في وقت تجد فيه القوى الأكثر تقدماً، في البلدان العربية التي اندلعت فيها ثورات، أنها عاجزة عن طرح المنظور العلماني الديمقراطي الثوري، كبند أساسي في برامجها، بذريعة الوعي الديني الغالب، إلى الآن، لدى أوسع الجماهير العربية، بحيث تستعيض من ذلك بطرح مفهوم الدولة المدنية الملتبس، وغير الجذري، في مواجهة صعود القوى الأصولية، وتقدمها على غيرها في الانتخابات، على اختلافها.

في كل حال، إنها لسيرورة ٌ لا بد من أن تأخذ حاجتها من الوقت، على طريق إنجاز المهام الأساسية الكبرى، المتعلقة بتحديثٍ جذري لمجتمعاتنا،والارتقاء بها إلى إنجاز مهام أكثر جذرية وعمقاً، هي تلك التي لا بد من أن تفضي إلى التحرير الكامل للإنسان العربي، واللبناني من ضمنه، ولا سيما بمقدار ما يمكن أن ينتزع قدرته على السيطرة الكاملة على خيرات كامل المنطقة العربية، وتوحيدها، وإزالة الهيمنة الاستعمارية، وعواقبها الخطيرة،على اختلافها، ومن ضمنها الوجود الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. وسيكون ذلك، عندئذ، وبمقدار ما يتحقق، إسهاماً هائلاً في ما اعتبره أوباما، وإن من وجهة نظره الخاصة به، "تغيير العالم".