العلاقة الاشكالية بين اليسار والديموقراطية


محمد سيد رصاص
2012 / 4 / 25 - 08:33     

في الفترة الفاصلة بين هزيمة نظام الثورة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت في معركة واترلو عام1815وبين ثورات عامي1848-1849الأوروبية،كان مصطلحا الديموقراطية واليسار في موقع التوأمة بالأذهان،وقد ركَزت الأحزاب اليسارية على مطلب نيل الطبقات غير المالكة لحق الإقتراع العام،ولتنبني حركات سياسية يسارية على هذا المطلب مثل حركة(الشارتيون)في انكلترا التي أتت رداً على الإصلاح الانتخابي في عام1832الذي حرم العمال من حق الإنتخاب. من هنا،لم يكن غريباً الرسالة التضامنية التي وجهها كارل ماركس وفريدريك انجلز في 16 تموزيوليو1846لدعم الحركة الشارتية تحت اسم لم يكن غريباً آنذاك:"الشيوعيون الديموقراطيون الألمان".
منذ سحق كومونة باريس العمالية في عام1871من قبل حكومة منبثقة عن جمعية وطنية منتخبة ،وفق حق الاقتراع العام،بدأ الإنزياح التفارقي بين اليسار والديموقراطية،ولتبدأ تنظيرات عند انجلز،بعد وفاة ماركس في عام1883،في هذا الاتجاه،قبل أن تكتمل عند لينين ولتبلغ ذروتها في مرحلة مابعد انتصار ثورة أوكتوبر1917عنده وعند خليفته ستالين،لماوضع النموذج السوفياتي السياسي كنظام حكم في تعارض جبهي مع نموذج أُسمِي آنذاك ب(الديموقراطية البرجوازية)بكل مايعنيه من انبثاق كافة الهيئات التمثيلية السياسية عبر ممارسة حق الإنتخاب العام لكافة المواطنين فوق سن18،ولم يكن غريباً في عقدي العشرينيات والثلاثينيات مماثلة أشكال النماذج السياسية عند ستالين وهتلر وموسوليني في نظر الكثير من الليبراليين وبعض الديموقراطيين الآخرين،مثل الاشتراكيين الديموقراطيين، رغم العداء الشرس الذي أبداه الفوهرر الألماني والدوتشي الايطالي للشيوعيين.
خلال الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو(1947-1989)دعمت الولايات المتحدة انقلابات عسكرية ضد الشيوعيين ،أواليساريين،في غواتيمالا(1954)والبرازيل(1964)وإندونيسيا(1965)وتشيلي(1973)، وساندت أنظمة من الديكتاتوريات المدنية (ماركوس في الفيليبين)والعسكرية(كوريا الجنوبية ومعظم بلدان أميركا اللاتينية) . لم يؤد هذا عند اليسار الشيوعي إلى انزياح مفاهيمي نحو تبني مقولة (الديموقراطية) واعتبارها بديلاً في النموذج السياسي عن(ديكتاتورية البروليتاريا) أوعن(الديموقراطية الشعبية)أو(الديموقراطية الثورية)،وعندما حاول هذا أمين عام الحزب الشيوعي الاسباني سانتياغو كاريو في كتابة:"الشيوعية الأوروبية والدولة"عام1976جوبه برفض قطعي من الكرملين السوفياتي ولم يساند كاريو أحد من الأحزاب الشيوعية والعمالية العالمية باستثناء الحزب الايطالي.
هنا،ومع بداية اختلال التوازن الدولي لصالح الغرب في النصف الأول من الثمانينيات وانتهاء المد اليساري العالمي،بدأت واشنطن في التخلي عن حلفائها الديكتاتوريين ونحت نحو دعم التحولات الديموقراطية في أميركا اللاتينية من أرجنتين1983وحتى تشيلي1989 وهو ماترافق مع اتجاهات أميركية مماثلة في فيليبين1986وكوريا الجنوبية 1987. في تحولات1989-1991بدول الكتلة السوفياتية بأوروبة الشرقية والوسطى ثم في الاتحاد السوفياتي كانت هناك مشهدية سياسية ظهرت فيها عملية التحول نحو الديموقراطية على حساب أنظمة للحزب الواحد أو"الحزب القائد"كان يقودها يساريون شيوعيون ماركسيون،وظهر فيها أن التحول نحو الديموقراطية كان مرفوقاً بالليبرالية كنموذج سياسي- اقتصادي- اجتماعي،كان من الواضح أن أمثولته العالمية الكبرى هي في واشنطن.
ظهرت هناك استثناءات لهذا التوجه الأميركي نحو "حمل راية الديموقراطية الليبرالية "، في تسعينيات القرن العشرين ، لمادعمت واشنطن مجابهة الرئيس المصري حسني مبارك مع الاسلاميين وتقييده للحريات الديموقراطية منذ عام1990،ثم فعلت هذا في تونس1991 ضد اسلاميي (حركة النهضة)،وفي جزائر عسكر مابعد انقلاب11يناير1992ضد المسار الانتخابي الذي قطع ذلك الانقلاب دورته الثانية التي كانت تؤشر الدورة الأولى بتحقيق الاسلاميين فوزاً كبيراً بالانتخابات البرلمانية. في عام2011استطاعت واشنطن أن تقفز للضفة الأخرى في مجابهة العسكر والاسلاميين وأن تقف وتضع أشرعتها مع اتجاه رياح الثورات الديموقراطية في تونس ومصر التي كان من الواضح أن الاسلاميون هم القوة الكبرى الدافعة وراء تلك الحركات الاجتماعية المتوجهة ضد أنظمة حليفة لواشنطن،التي لم تكرر في قاهرة11فبراير2011مافعلته في طهران11فبراير1979لماظلت للنهاية واقفة مع نظام الشاه الموالي لها ضد حركة احتجاجية يقودها الاسلاميون وهو مادفعت ثمنه غالياً لثلث قرن لاحق.
في خطبة يوم الجمعة 4فبراير2011حاول السيد علي خامنئي اعتبار "الثورة المصرية استمراراً للثورة الايرانية" ،كماحاول يساريون عرب تحميل ثورتي تونس ومصر اتجاهاً معادياً للأميركان مادامتا قد قامتا ضد نظامين مواليين للأميركان،من دون أن يلحظوا غياب أي شعارات في تلك الثورتين يتجاوز حدود المطالب الداخلية.عندما وضح أن واشنطن قد نجحت في جعل تونس وقاهرة2011في وضعية شبيهة بوارسو وبراغ1989بدأ الخطاب عند الكثير من اليساريين العرب،من ماركسيين وعروبيين،يتجه نحو موقف من تلك الثورات في صيغة:"نعم ،ولكن"،وخاصة مع وضوح سيطرة انتخابية للاسلاميين أظهرتها صناديق الاقتراع خلال أشهر قليلة أعقبت تلك الثورات.
مع الحراك السوري منذ يوم18آذارمارس2011بدأ الكثير من اليساريين السوريين والعرب،ماركسيون وعروبيون،يستعيدون صيغة المرحوم خالد بكداش في عام1979:"إذا أخذنا الأوضاع الداخلية لوحدها فأنا في موقع المعارضة،ولكن إذا أخذنا السياسة الخارجية للنظام و وتوجهات أعدائه،فأنا أرجِح وأُغلِب موقف الحليف والمساند له":من هنا بدأ الحديث عند هؤلاء عن "ثورات أميركية"تم تصميمها في مراكز أبحاث غربية وعند نشوبها تمت ملاقاة موجاتها فيماقال البعض بأن الإشعال للفتيل قد تم بالأصل من هناك وأن "الموضوع من أوله لآخره هو مؤامرة لترتيب أوضاع المنطقة من جديد عبر إعادة صياغة الأوضاع الداخلية العربية من جديد بعد أن انتهت عند الأميركان صلاحية الأنظمة الجمهورية القائمة"إثر فشل واشنطن بين عامي 2003و2006 في مشروع"إعادة صياغة المنطقة"التي كان يأمل "المحافظون الجدد" في االبدء فيه من "البوابة البغدادية". لايساهم فقط في تشكيل هذا الاصطفاف اليساري ضد موجة ديموقراطية ،من الواضح أن محركاتها الأساسية داخلية ثم ركبَت واشنطن أشرعتها عليها، عامل وقوف الأميركان معها وإنما أيضاً قدرة الاسلاميين على قيادة الشارع ثم الفوز في صناديق الاقتراع،وهو مايدفع بالكثير من اليساريين إلى أن يكون موقفهم مبنياً على ضدية يتشكَل فيها موقفك من خلال التضاد مع الخصم والذي يصبح هو المحدِد عبر التعاكس لحركاتك واتجاهاتك ومواقفك، وليس على موقف يرى التلازم،وهو تلازم أول ماشددت عليه ماركسية كارل ماركس،بين متانة الوضع الداخلي وبين السياسة الخارجية،وهو ماكان الاتحاد السوفياتي مثالاً كبيراً عليه لم يفهمه اليساريون حتى الآن عندما ساهم تردي وهشاشة الوضع الداخلي لدولة عظمى كانت أحد قطبي العالم ليس فقط في هزيمتها في الحرب الباردة أمام واشنطن عام1989وإنما أيضاً في تفككها كدولة بعد سنتين من تلك الهزيمة.