وجوه الاجتماع البشري: المجتمع، الهوية والجماعات


بشير السباعي
الحوار المتمدن - العدد: 6543 - 2020 / 4 / 21 - 16:09
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

وجوه الاجتماع البشري:
المجتمع، الهوية والجماعات

ترجمة:
بشير السباعي



الملكية الاجتماعية (×)
روبير كاستل
ROBERT CASTEL

ما الداعي إلى التفكير في الملكية الاجتماعية ؟ لقد بدا لي أن هذه الفكرة يمكن أن تشكل مدخلاً ممتازاً لاستيعاب بعض الرهانات الرئيسية للمسألة الاجتماعية الراهنة، وخاصة المعارضة الراهنة للدولة في دورها الاجتماعي كضامنة للتماسك الاجتماعي.
وقد تألفت الملكية الاجتماعية أساساً من توفير أشكال حماية للعمل: بحيث يتمكن العامل، بدءًا من عمله، ببناء أمنه. وقد لعبت الدولة دوراً أساسياً في هذا البناء. وما نسميها بـ «دولة الرعاية الاجتماعية» ـ وإن كان من الأنسب تسميتها بالدولة الاجتماعية سعياً إلى تفادي كل دلالة إحسانية ـ إنما تتدخل قبل كل شيء كأداة لاختزال انعدام الأمن الاجتماعي ـ وكأداة لتقديم الخدمات، وذلك بقيامها خاصة بتوفير حقوق وأشكال حماية وخدمات بهدف مكافحة انعدام الأمن الاجتماعي. والوسيلة الرئيسية التي سمحت للدولة بلعب هذا الدور الحامي هي إيجاد شكل أصيل للملكية: هو الملكية الاجتماعية ـ المختلفة عن الملكية الخاصة ـ والتي كفلت الأمن لأولئك الذين كانوا خارج الملكية، خاصة أولئك الذين لم يكونوا يملكون سوى عملهم كمصدر للعيش أو للبقاء. وقد فعلت الدولة ذلك على نطاق واسع بحيث أن ما يسمى بأزمة أو بتراجع الدولة الاجتماعية، أو دولة الرعاية الاجتماعية، يمكن تفسيره إلى حد بعيد بأنه أزمة أو تراجع للملكية الاجتماعية.
ومن ثم فسوف ينصب حديثي على التآزر العميق الذي يوحِّد بين الدولة الاجتماعية والملكية الاجتماعية، في آن واحد، في سيرورة بنائهما المتزامن والتي سمحت بكفالة الأمن للجميع أو للجميع تقريباً، وفي «أزمتهما» الحالية في الرفض الذي يستهدفهما، وذلك خاصة بسبب ضغط الأيديولوجية والممارسات الليبرالية الجديدة.

الطبقة غير المالكة
لكي نفهم جيداً طبيعة وأهمية الملكية الاجتماعية، يجب البدء مما كان عليه الوضع قبل أن تفرض نفسها، وخاصة وضع أولئك الذين كانوا محرومين من الملكية ولم يكونوا يملكون غير قوة سواعدهم لتدبير أسباب العيش، أي غالبية العمال. وكان هذا الوضع، لزمن طويل، رهيباً إلى حد بعيد. والحق، ودون مبالغة، أن من كانوا لا يملكون شيئاً، كانوا لا شيء، من الناحية الاجتماعية. وسوف أقتصر على شهادةٍ واحدةٍ حينما بدأت المسألة تنطرح في أواخر القرن الثامن عشر، وإن كنت لا أختار هذه الشهادة بشكل عشوائي، لأنها شهادة القس سييس، الملهم الأول لإعلان حقوق الإنسان والمواطن ـ ومن ثم فإنه ليس مفكراً رجعياً بشكل خاص. ففي ملاحظة ترجع إلى مستهل ثمانينيات القرن الثامن عشر، يتحدث عن «أولئك التعساء الذين حُكم عليهم بأداء الأعمال الشاقة، أولئك المنتجين لمتعة الآخرين، والذين يحصلون بشق الأنفس على ما يقيم أود أجسامهم المعانية والتي تحتاج إلى الكثير، ذلك الحشد الهائل من الأدوات ذوات القدمين والذي لا يملك غير أيدٍ لا تكسب سوى القليل ونفساً مهمومة». وقد طرح سييس سؤالاً رهيباً إلى أبعد حد: «هل تسمون أولئك بشراً ؟»(×). وهو إذ يفعل ذلك، فإنه لا يعبر، أو لا يعبر فقط في اعتقادي، عن احتقار طبقي. فهو يقدم رصداً يتميز بطابع سوسيولوجي. فهؤلاء الأفراد «الذين لا يملكون غير أيدٍ لا تكسب سوى القليل»، هم حرفياً من سوف يسميهم ماركس بالبروليتاريين «منتجي متعة الآخرين»، وإن كانوا لا يملكون شيئاً ولا يُعَدَّون شيئاً بالنسبة لأنفسهم. أو أنهم، بالأحرى ـ لأن البروليتاريا الصناعية لم تكن موجودة بعدُ ـ ذلك السديم من صغار الحرفيين ومن المياومين، والعمال اليدويين في المدن والأرياف، «أهل الكد واليد» كما كان يقال آنذاك، والذين كانوا يكافحون يومياً ليكفلوا لأنفسهم البقاء. وهم لم يكونوا بائسين فحسب، بل كانوا فاقدين للاعتبار من الناحية الاجتماعية، ومن ثم موضع احتقار، حتى في نظر المفكرين المستنيرين (كان فولتير يسميهم بـ«الأوباش»).
ويمكننا أن نرى في ذلك ظهور المسألة الاجتماعية الحديثة، في وجود «طبقة غير مالكة»، كما قال أحد كتاب العصر. والواقع أنها نواة العمال الحديثين بأجر والتي بدا أنها قد حُكم عليها بالبؤس وبفقدان الاعتبار الاجتماعي. والحال أن هذه المسألة التي تظهر في أواخر القرن الثامن عشر في فرنسا وفي أوروبا الغربية سوف تصبح المسألة الكبرى للقرن التاسع عشر، وسوف تتخذ مكانة متزايدة المحورية باطراد مع التصنيع. لأن العامل الصناعي إنما يصبح رأس حربة السيرورة الإنتاجية، وهو ضروري لإنتاج الثروات. وقد أصبح البروليتاريون أوفر عدداً باطراد إلاَّ أنهم ظلوا محرومين من الممتلكات ومن الحماية. ومن هنا خطر رؤية انتصاب وتطور جمهور في مركز الهيكل الاجتماعي نفسه يتألف من شبه «أدوات ذوات قدمين»، إذا تحدثنا كسييس، ويتكون من عمال ومن عائلاتهم البائسة، يجري النظر إليهم أيضاً على أنهم عديمو الأخلاق وخطرون، وعلى أنهم تكاثر لـ «برابرة جدد»، لو استخدمنا تعبيراً رائجاً آنذاك، في قلب المصانع والمدن. «طبقات عاملة، طبقات خطرة».
والحال أن بالإمكان قول أن هذه المشكلة إنما تتفاقم مع التقدم في القرن التاسع عشر لأن اعتماد العمل المأجور يكتسب طابعاً مُعَمَّمَاً مع تطور التصنيع والنمو الحضري. ويبدأ إدراك واقع أن العمل المأجور، بوجه عام، هو حالة لا سبيل إلى ردها ثم إن توسعها إنما يرتبط ارتباطاً عضوياً بتحولات المجتمع الحديث. وفي الأغلب الأعم، فعندما يكون المرء عاملاً بالأجر، فإنه سوف يظل عاملاً بالأجر مدى الحياة. كما سوف يكون هناك عدد متزايد باطراد من العمال بالأجر في المجتمع الحديث، لن تصبح غالبيتهم من الملاك. ويمكننا أن نرى بوضوح المشكلة التي يطرحها وضع عمالي يبقى في حالة البؤس وفقدان الاعتبار هذه التي هي بوجه عام حالتهم. وسوف تنمو في قلب المجتمع الحديث جماهير أوفر فأوفر عدداً بشكل مطرد، في حالة انعدام دائم للأمن، وهي جماهير غير مندمجة في المجتمع الصناعي وتنذر بالسقوط في الضياع أو باللجوء إلى التمرد وإلى هدم النظام الاجتماعي.

ابتكار الملكية الاجتماعية
ابتكار الملكية الاجتماعية هو الرد الذي جرى تقديمه لهذه الصعوبة الجسيمة. وسوف تتألف الملكية الاجتماعية من توفير أشكال حماية ومن توفير الأمن لوضع العامل نفسه. وكان هناك في الواقع رد آخر ممكن: هو القضاء على الملكية الخاصة وإحلال الملكية الجماعية محلها، وهذا الخيار طرحته آنذاك مختلف تيارات الاشتراكية الثورية، كما طرحه الماركسيون. إلاَّ أن من الواضح أن الحكام والطبقات المالكة لم تكن تريد شيئاً من ذلك. ويمكن قول أن ابتكار الملكية الاجتماعية كان الأسلوب الهادف إلى اختزال الحل الجذري، الثوري، المتمثل في تحقيق الملكية الجماعية. وقد سمح بالخروج من المعضلة، وبالعثور على طريق ثالث بين المدافعين عن الملكية الخاصة، أنصار الوضع القائم الذين حكموا بانعدام الوجود الاجتماعي على غالبية من العمال، من جهة، وأنصار اشتراكية جماعية، أو شيوعية، والتي سوف تفرض نفسها أيضاً اعتباراً من عام 1917 في روسيا تحت الشكل الذي سوف يسمى بـ«الاشتراكية القائمة في الواقع»، من جهة أخرى. وسوف يجري التمكن من الإفلات من هذه المعضلة بتوفير الأمن للعمل نفسه، وبالشروع، انطلاقاً من العمل، ببناء دعامات توفير حمايات متكافئة أو شبه متكافئة مع الحمايات التي توفرها الملكية الخاصة للملاك. وهذا تحديداً هو ما سوف يؤدي إلى تطور الملكية الاجتماعية.
وقد جرى تداول كلمة «الملكية الاجتماعية» في أواخر القرن التاسع عشر، في أوساط تلك الأسرة من المفكرين المرتبطين بالجمهورية الثالثة [1870ـ1940] الساعين إلى إيجاد هذا الطريق الوسط بين الليبراليين المتمسكين بمبدأ حرية الاستثمار، من جهة، و[الاشتراكيين] المتمسكيـن بمبـدأ الثـورة الاجتماعيـة الجذرية، من جهة أخرى. والحال أن أحد هؤلاء الكتاب، وهو ألفريد فوييه الذي نشر في عام 1884 كتاب الملكية الاجتماعية والديموقراطية، قد قَدَّم أوضح تشخيص وجدْته للملكية الاجتماعية: «بوسع الدولة، دون أن تنتهك العدل، بل وباسم العدل، أن تطلب للعمال حداً أدنى من الاحتياط ومن الضمانات بالنسبة للمستقبل، لأن هذه الضمانات لرأس المال البشري والتي تشكل حداً أدنى من الملكية ضرورياً لكل مواطن حر ومتساو حقاً مع الآخرين إنما تعد ضرورية بشكل متزايد باطراد وذلك لتجنب نشوء طبقة من البروليتاريين محكوم عليهـا لا محالة إمَّا بالعبودية أو باللجـوء إلى التمرد»(×).
وبهذا الاستشهاد، الثري إلى حد بعيد، يمكننا أن نرى كيف جرى صوغ دور جديد للدولة (وهو نواة الدولة الاجتماعية التي يمكنها ويجب عليها التدخل باسم العدل والتي تنتهك تابو الليبرالية الرافضة لكل تدخل عام في المسألة الاجتماعية) وأسلوب تدخل هذه الدولة نفسها، أو صوغ أسلوب له الأولوية على أية حال: وهو أسلوب يجب أن يشجع على ضمانة إلزامية وأن يلزم العمال بتوفير الضمانات لأنفسهم حيال المخاطر الاجتماعية. وهو ما سوف يمنحهم أمناً بالنسبة للمستقبل، بدلاً من العيش «يوماً بيوم» تحت رحمة أبسط طارئ. كما يجري تحديد محصلة هذه العملية: فهي توفر ما «يشبه حداً أدنى من الملكية»، أو معادلاً للملكية، يكفل للعامل حداً أدنى من الاستقلال، أو من الموارد الضرورية حتى لا يعتمد على الآخرين، وحتى يتمتع بقدر من الحرية، ويكون مواطناً كالآخريـن ـ أي كأولئك الآمنين لأنهم ملاك. وأخـيراً فإن الهدف السياسي للعملية إنما يجري إعلانه بوضوح أيضاً: فالأمر يتعلق بتبديد خطر الهدم الذي يتمثل في بروليتاريا أو في طبقة عاملة تشكو أوضاعها من انعدام الاستقرار ولن «تخسر شيئاً سوى أغلالها»، كما سوف يقول ماركس.
ذلك هو البرنامج الذي سوف يشكل محوراً رئيسياً للقوانين الاجتماعية للجمهورية الثالثة، بل وبما يجاوز هذه القوانين، إذ سوف يشكل نواة تطور هذه الدولة الاجتماعية التي يمكننا أن نرى الآن بشكل أفضل أنها تعمل أساساً كقوة اختزال لانعدام الأمن تكفل حداً أدنى من الأمن لأولئك الذين كانوا يشكون من الانعدام الدائم لأمنهم [الاجتماعي]. والحال أن سياسة اختزال المخاطر هذه إنما تمر بإيجاد نمط غير مسبوق من الموارد التي تتميز بوظائف مماثلة لوظائف الملكية الخاصة. ويمكن قول أن الملكية الاجتماعية نظير للملكية الخاصة، فهي ملكية من أجل توفير الأمن. وبعبارة أخرى، فإنها تختلف عن الملكية الخاصة مع لعبها أحد أدوارها الأساسية. وهي ليست ذخراً خاصاً يتم التصرف فيه بحرية في السوق. فهي تعتمد على منظومة حقوق والتزامات. كما هو الأمر في حالة التقاعد مثلاً: فالمرء لا يمكنه بيع حقه في التقاعد، إلاَّ أنه ما أن يتم الوفاء بالالتزامات القانونية المرتبطة به والتي تضمنها الدولة، يحصل المرء على معاش يكفل هذا «الحد الأدنى من الملكية» الذي تحدث عنه فوييه. ودون أن يكفل ذلك المعاشُ التَرَفَ، فإنه ينقذ على الأقل من البؤس ومن فقدان الاعتبار ويبدد تلك الدراما الحقيقية التي كانت في الأغلب الأعم حالة العمال المتقدمين في العمر والذين لم يعد بوسعهم العمل والذين كان محكوماً عليهم، ما لم يتمكن أبناؤهم من إعالتهم، بأن يتعفنوا ويموتوا في دور العجزة. والحال أن هذا المصير قد مثل مصدر خوف مزمن بالنسبة لجزء كبير مما كان يسمى في الماضي بـ«الشعب».
المسألة إذاً هي مسألة تغيير ملحوظ تماماً قياساً إلى حالة البروليتاريين عند بدايات التصنيع، والذين كانوا يبددون حياتهم حرفياً في كسب عيشهم. وهكذا فإن هذا الشكل للملكية الاجتماعية إنما يوفر قيداً معيناً على الهيمنة الكاملة للسوق على العمل. فضرورات تحقيق أقصى ربح ممكن لم تعد تسيطر سيطرة تامة على حالة العامل، فهي تعترف بمقابل اجتماعي يجب دفعه من أجل حماية العمال. ويمكن قول أن السوق قد جرى، إلى حد ما، تدجينها وتقييدها بإطار مراعاة الحماية الاجتماعية. ومن الواضح أن ذلك لا يعني إلغاء السوق وإنما يعني إيجاد حل وسط يبدو لي أنه نواة ما سوف يسمى بـ «الحل الوسط» الاجتماعي، والذي سوف يبلغ أوجه في سبعينيات القرن العشرين ـ وهو حل وسط بين متطلبات السوق، أي الشروط الضرورية لإنتاج الثروة، من جهة، ومتطلبات تأمين شروط حد أدنى من الأمن الاجتماعي لمن يعدون المنتجين الرئيسيين لهذه الثروة، أي العمال والعاملات بأجر، من جهة أخرى.

توسع الملكية الاجتماعية
هذا العرض، العمومي جداً، للملكية الاجتماعية، ينطوي على فجوتين مهمتين تتطلبان بعض التدقيقات حتى نتوصل إلى تمثيل أشمل للرهانات الدائرة اليوم حول الملكية الاجتماعية.
أولاً، لقد توقفتُ عند لحظة انبثاق المفهوم في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والتي أفضت في مرحلة أولى إلى إنجازات عملية جد متواضعة، إن لم نقل مثيرة للسخرية. فالقانون الخاص بمعاشات العمال والفلاحين والذي صدر في فرنسا في عام 1910بعد عشرين سنة من المناقشات الشرسة لم يمس غير عدد جد محدود من الناس لأنه، من جهة، لم يتعلق إلاَّ بالعمال الأفقر الذين لا يحصلون إلاَّ على أدنى الأجور و، من جهة أخرى، كانت الغالبية العظمى من العمال تموت قبل سن التقاعد. ومن ثم فإن المسألة هي معرفة كيف جرى تعزيز هذه الإنجازات الأكثر من هزيلة والتي تعود إلى أوائل القرن، ثم كيف جرى توسيعها بحيث تُشَكِّلُ بنية ما سماه فرانسوا ايوالد بـ «مجتمع تأميني(×)» قاد إلى «تأمين» جميع العاملين بأجر أولاً، بل وفيما بعد إلى «تأمين» جميع السكان من الناحية العملية ضد المخاطر الاجتماعية الرئيسية. كيف حدث الانتقال من المجتمع الصناعي إلى مجتمع يتميز بتعميم العمل المأجور، إلى «مجتمع عاملين بأجر»؟ إن التحولات، التي لا يمكن عرضها هنا، كانت طويلة الأمد ومعقدة، وقد أفضت إلى العديد من النزاعات وكان دور الدولة فيها مهيمناً. لكن ما يمكن قوله على الأقل، هو أن «مجتمع العاملين بأجر» ليس فقط مجتمعاً تحصل فيه غالبية السكان العاملين على أجور، بل هو أيضاً وبشكل خاص مجتمع أدت فيه أشكال التأمين والحماية، التي تطورت في البداية بدءًا من تأمين وحماية الأجراء العمال، إلى تأمين الجميع من الناحية العملية. ويمكننا أن نضيف أن «مجتمع العاملين بأجر» هذا هو المجتمع الذي مازلنا فيه إلى الآن، بالرغم من التهديد الذي يتعرض له، وهو المجتمع الذي وصلنا إليه بفضل تعميم الملكية الاجتماعية.
ويجب طرح مسألة ثانية، ترتبط أيضاً بالأولى. فقد قَدَّمْتُ الملكية الاجتماعية انطلاقاً مما أعتقد أنه نواتها، أو على الأقل منجزها الأكثر أصالة: التحويل المباشر للعمل إلى الأمن عن طريق التأمين الإلزامي والذي لاشك في أن حق التقاعد والحصول على معاش، والذي ينطوي عليه، يمثل النموذج الأكثر وضوحاً لحماية مبنية انطلاقاً من العمل ويكفل حماية العامل المأجور حال خروجه من العمل وإلى آخر حياته. لكن الملكية الاجتماعية لا تنحصر في هذا النوع من الإعانات الاجتماعية. فهي تتألف أيضاً من ضمان مشاركة الأفراد غير المالكين في منافع وفي خدمات جماعية توفرها الدولة. وفي المقام الأول، يُعَرِّفُ حقوقي من أوائل القرن العشرين تطور ونمو الخدمات العامة على النحو التالي: «هو كل نشاط يجب تأمين وتنظيم تحقيقه من جانب الحاكمين لأن تحقيق هذا النشاط ضروري لتحقيق ولتنمية التكافل الاجتماعي ولأنه يتميز بطبيعة يتعذر معها تحقيقه على نحو تام وناجز دون تدخل القوة الحكومية»(×). وهذه الفكرة عن «التكافل الاجتماعي» (والتي تشكل إعادة صياغة لمبدأ «التضامن العضوي» الذي طرحه إميل دوركايم) إنما تعد فكرة جوهرية. فهي تعبر عن ضرورة صون آصرة روح تبادلية تعبر عن اشتراك المواطنين في كيان جماعي واحد بحيث يواصلون، في وجه مخاطر التفكك الاجتماعي ـ أي في وجه ما يسمى اليوم بالاستبعاد ـ «تكوين آصرة اجتماعية» بأقوى معنى للكلمة، وتأمين تكامل البعض مع البعض الآخر، وتكوين ما يُسمى في اللغة السياسية بالأمة وما يُسمى في اللغة السوسيولوجية بالتلاحم الاجتماعي. والحال أن «القوة الحكومية»، أي الدولة الاجتماعية، هي التي تبني إمكانات هذا التكامل بوضعها منافع وخدمات مشتركة تحت تصرف الجميع. وهكذا فإن دوراً رئيسياً للدولة الحديثة إنما يتمثل في أن تكون قوة توزيع منسَّقٍ للخدمات باسم الصالح العام. وهذا ضروري لأن المشاريع الاستثمارية الخاصة ـ وذلك تحديداً لأنها تمثل مصالح خاصة ـ لا يمكنها تولي هذه المهمة على نحو كاف ومرضٍ.
والواقع أن هذا المفهوم عن الخدمة العامة سوف يفضي بعد الحرب العالمية الثانية، في إطار اقتصاد موجَّهٍ يستلهم أفكار كينز، إلى تأميم بعض المشاريع الاستثمارية. وتتمثل الفكرة في أن السلطات العامة يجب أيضاً أن تدير بعض المشاريع لأن المنافع التي تنتجها تمثل مصلحة جماعية لا يمكن ترك إدارتها للمبادرة الخاصة.
ويمكننا أن نرى أن هناك تفاوتات قوية فيما بين هذه الأشكال المختلفة للملكية الاجتماعية، والتي يجب أن نضيف إليها على الأقل السكن الاجتماعي، وهو وسيلة أخرى لتمكين غير المالكين من الحصول على منفعة أساسية. وأنا لا أزعم أن الملكية الاجتماعية تمثل وحدة مفهومية مطلقة (وأياً كان الأمر فإنني أعترف بأنني غير قادر على توضيحها بالكامل)، لكن هذه المنجزات المختلفة للملكية الاجتماعية إنما تتسم على الأقل بالهدف نفسه والذي يمكن تسميته برد الاعتبار الاجتماعي إلى غير المالكين. فهم، بالرغم من حرمانهم من الملكية الخاصة، إنما يشاركون من الآن فصاعداً في الثروة الاجتماعية، أكان ذلك من خلال التمتع بأمن اجتماعي على شكل منظومات تأمين تكفلها الدولة، أم على شكل التمتع بمنافع وبخدمات جماعية موضوعة تحت تصرفهم من جانب السلطة العامة ضمن منطق ليس هو منطق السوق الخالصة. وسوف أزعم أن هذين القطبين للملكية الاجتماعية هما اللذان يؤسسان مواطَنَةً اجتماعية بأقوى معنى للكلمة. وإذا كان لهذه الفكرة عن المواطنة الاجتماعية، والتي أصبحت اليوم عرضة لتشويـش مسرف، معنى يتميز بالدقة وبالتحديـد، فإنه يبدو لي أن ذلك هو المعنى المميز لها. فلم تعد الملكية الخاصة أساساً وحيداً للمواطنة. وذلك لأن من لا يملك إنما يتمتع هو أيضاً بحقوق اجتماعية وبضمانات اجتماعية. وهو يشارك في الحصول على إعانات وعلى خدمات جماعية تكفلها الدولة وتعمل بذلك كنظير للملكية الخاصة بالنسبة لغير المالكين.

تفكك الملكية الاجتماعية
بعد أن قدمنا هذه الإيضاحات حول طبيعة ووظائف الملكية الاجتماعية، كيف يمكننا تحليل رفض وزعزعة الملكية الاجتماعية ودور الدولة التي تشكل دعامة لها، وذلك في إطار «أزمة» مجتمع العاملين بأجر؟ فهذه الأزمة التي لاشك في أنها أكثر بكثير من مجرد أزمة عابرة، إنما ترمز إلى إعادة تكوينٍ جد عميقة للعلاقات فيما بين ما هو اقتصادي وما هو اجتماعي، كما ترمز إلى تهديد «الحل الوسط الاجتماعي»، الذي أشرنا إليه بالفعل، والذي تشكل الملكية الاجتماعية عموده الفقاري. ومن غير الممكن هنا عرض محصلة التحولات الملحوظة التي حدثت منذ خمسة وعشرين سنة. ومن ثم فسوف أقتصر على توضيح أثرها على مختلف جوانب الملكية الاجتماعية التي ميزتها ـ وهو ما يثبت أيضاً بشكل عكسي الوحدة النسبية على الأقل للفكرة [فكرة الملكية الاجتماعية] لأن أشكالها المختلفة قد تأثرت كلها اليوم، حتى وإن كان بشكل متفاوت.
قلتُ أن تأميم بعض المشاريع الاستثمارية كان يمثل صدارة الملكية الاجتماعية في قلب القطاع الاقتصادي نفسه في إطار اقتصاد موجَّهٍ من النمط الكينزي، حيث تولت السلطة العامة المسئولية المباشرة عن إدارة بعض المشاريع باسم الصالح الجماعي العام. وهذا القطاع هو أيضاً القطاع الأكثر عرضة للاختزال بين قطاعات الملكية الاجتماعية ولا شك في أنه في حالة تصفية تامة، وحتى في ظل حكومة اشتراكية تشتدُّ سيرورة خصخصة المشاريع المؤمَّمة. وأعتقد أن بالإمكان قول أن هناك اتجاهاً يحقق انتصاراً في كل مكان في العالم، وهو اتجاه يتمثل في ردِّ إنتاج أو إدارة المنافع والخدمات ذات القيمة السلعية بشكل مباشر إلى دائرة السوق.
وما يحدث على مستوى الخدمات العامة بالمعنى الأصيل للمصطلح إنما يبدو لي أكثر تعقيداً. فمن جهة، نرصد اتجاهاً عاماً إلى تسيير إدارة هذه الخدمات بما يتماشى مع نمط تسيير الخدمات الخاصة. إذ يدور الحديث في ذلك القطاع أيضاً عن الكفاءة وعن المرونة في الخدمة المقدمة إلى الزبائن، الخ، وهو ما لا يُعَدُّ شائناً في حد ذاته بالضرورة. لكننا نرصد أيضاً اتجاهاً إلى الإحالة إلى القطاع الخاص، اتجاهاً إلى خصخصة خدمات كانت قد أُنشئت في الأصل والبداية من جانب السلطات العامة. ففي فرنسا، مثلاً، كانت السلطة العامة هي التي استحدثت شبكات الاتصالات اللاسلكية، اعتماداً، من جهة أخرى، على تكاليف باهظة تحمَّلَها المشتركون. لكن الدولة كانت هي وحدها القادرة على هذا النوع من الاستثمارات، أو أنه، على أية حال، لم يكن يهم القطاع الخاص، لأنه لم يكن مربحاً. والحال أنه قد جرى مؤخراً خصخصة الهيئة الفرنسية للاتصالات اللاسلكية، جزئياً على الأقل، لأن الأمر يتعلق الآن بمنافع يمكن أن تكون مربحة. كما أن هذا الاتجاه إلى تحويل العام إلى خاص اتجاه عام، اشتد بشكل خاص في بعض البلدان كإنجلترا في عهد رئاسة السيدة ثاتشر للوزارة البريطانية.
وهذا التوجه يطرح سؤالاً أساسياً: هل هناك منافع لا يمكن تسويقها، أي تتميز بطبيعة تحول دون إعادتها إلى السوق، وحتى إذا كانت هذه المنافع قابلة للبيع ؟ إذ أن بالإمكان «إضفاء طابع سلعي من جديد عليها» مع التأكد من أنها سوف تواصل أداء وظيفتها الجماعية، أي سوف تواصل دورها كأدوات لـ «التكامل الاجتماعي» كما قال ليون ديجي ؟ إنني أفكر بشكل خاص في تلكما المنفعتين الأساسيتين المتمثلتين في التعليم والصحة، العمودين الرئيسيين للخدمة العامة. فهنا أيضاً نشهد صعود روح إدارية وحسابية. ومن المؤكد أن الحرص على تخفيف عبء النفقات العامة حرص مشروع، لكن المسألة هي معرفة ما إذا كان يمكن اختزال تكلفة خدمة عامة إلى مستوى ثمنها في السوق. لأن وظيفة الخدمة العامة هي جعل الصدارة للصالح العام ولاشك في أن السلطة العامة هي وحدها التي يمكنها أن تكون ضامنة لهذا الصالح العام، وذلك ببساطة لأن منطق الخاص هو منطق الربح. وهناك توتر، إن لم يكن هذا التوتر تناقضاً، بين هذين المنطقين، واليوم يميل تقدم منطق التسليع إلى اختزال صدارة السلطة العامة ومكانة الدولة الاجتماعية على حد سواء.
والتوتر نفسه فاعل من خلال إعادة التشكيل الحالية للحماية الاجتماعية. وفي حين أنه عبر تأسيس التأمين الإلزامي الذي أفضى إلى أمن اجتماعي معمم تأكدت الملكية الاجتماعية بالشكل الأكثر وضوحاً، ففي هذا المجال أيضاً، يجري الحديث عن «أزمة» لمنظومة الحماية هذه وهي أزمة تتجلى بادئ ذي بدء على أنها أزمة تخص تمويل هذه المنظومة. والواقع أنه إذا كان يتعين تمويل الجانب الرئيسي لمنظومة الحماية عن طريق أقساط اجتماعية بدءًا من العمل، فسوف يتضح لنا أن البطالة الواسعة وتزايد هشاشة الوظائف وتقدم أعمار السكان العاملين، الخ، إنما تهدد بوقف آليات التمويل. ومن هنا بعض الإصلاحات، التي جرى تطبيق بعضها بالفعل كالتمويل الجزئي لمنظومة الحماية عن طريق الاكتتاب الاجتماعي المعمم، ويجري التخطيط لبعضها، كما هي الحال في المناقشات الجارية حول تمويل نظم التقاعد والمعاشات.
إلاَّ أنه فيما وراء مسائل التمويل هذه، أليس الشيء المعرَّض للتهديد هو منطق منظومة الحماية الاجتماعية نفسه ؟ لقد تمثلتْ ذروةُ الحماية الاجتماعية في تأمين مجمل السكان عبر تدابير عامة ذات مهمة عمومية. وخلاصتها تأمين الجميع، أو الجميع تقريباً، من خلال ترتيبات متجانسة عامة. بما يعد منطقاً مخالفاً لمنطق المساعدة الذي يتألف من توزيع إعانات عاجلة على شرائح من السكان لأنها تمر بمصاعب خاصة، بحسب منطق الاستهداف الخاص، أو كما يقال في أميركا الشمالية، بحسب منطق التمييز الإيجابي. وهكذا نشهد تكاثر ما يُسمى بالحدود الدنيا الاجتماعية، أي الإعانات المخصصة بحسب أوضاع الموارد لجماعات تمر بمصاعب خاصة. وفي فرنسا اليوم سبعة حدود دنيا اجتماعية، آخرها هو الحد الأدنى من الدخل الذي يسمح بالاندراج في المجتمع.
ودون أن نشجب هذه الترتيبات الجديدة التي تشكل سبلاً للسعي إلى مواجهة وضع أصبح أكثر صعوبة، فإننا يجب أن نتساءل ما إذا لم نكن بازاء تحويل لنظام الحمايات نفسه. فبدلاً من نظم عامة لحماية مجتمع العاملين بأجر، سوف نكون بازاء نظام حماية يتميز بسرعتين: تأمينات عامة وراسخة لأولئك الذين ما يزالون مندمجين اندماجاً قوياً بهياكل مجتمع العاملين بأجر، وإعانات خاصة لأولئك الذين جرى فصلهم عن الترتيبات العامة والذين يجري منحهم تعويضات، ولكن بدءًا من دونيتهم. وهي إعانات ليست فقط أدنى من الإعانات المستمدة من العمل، وإنما تهدد أيضاً بأن تكون دليلاً دامغاً وذلك بقدر ما أنها تُعطَى على أساس قصور أو على الأقل على أساس معاينة أن الفرد لم يعد ينتمي إلى النظام العام المشترك.
أَلاَ نشهد بذلك، عبر هذه التحولات، تمييعاً عميقاً لمفهوم التضامن نفسه والذي يتمثل أقوى معنى له في تكافل الأطراف والفرقاء قياساً إلى الكل ؟ فاليوم، غالباً ما يميل التضامن إلى أن يصبح شكلاً من أشكال العطف والإحسان على بعض الفئات المتروكة إلى هذا الحد أو ذاك لمصائرها، والتي يجري مع ذلك تقديم بعض الإعانات العاجلة إليها، ولكن وفق موقف يشبه منطق فعل الخير بأكثر مما يشبه الاعتراف بمواطنة اجتماعية حقيقية. وتلك هي حال «مخصصات التضامن النوعية» الممنوحة للعاطلين عند سقوط حقوقهم، أي عند تجريدهم من الحقوق التي كانت مرتبطة بالعمل والتي اندرجت في منطق الحماية الاجتماعية. ولو عممنا هذا الكلام فسوف يكون بوسعنا أن نتساءل ما إذا كنا لا نشهد الآن بالفعل نوعاً من ثأر الملكية الخاصة من الملكية الاجتماعية. والحال أن الملكية الاجتماعية لم تلغ قط الملكية الخاصة. بل إن بالإمكان الدفاع عن الأطروحة التي تذهب إلى أنها قد أنقذتها إذ اختزلت الخيار الجماعي. لكن الملكية الاجتماعية قد قيدت هيمنة الملكية الخاصة إذ كفلت الأمن الاجتماعي لغير المالكين. وربما كان ما يعود إلى الصدارة هو وجه المالك، وإن كان في صور جديدة للغاية من جهة أخرى. فهو لم يعد مالك الأرض الذي كان مسيطراً في المجتمع قبل الصناعي، كما لم يعد صاحب الريع الذي رسم صورته كُتَّابٌ كبلزاك والذي كان بالغ القوة في القرن التاسع عشر بل وبعد ذلك، ولا هو قطب الصناعة في عصر التصنيع العظيم، بل هو بالأخص رأس المال المالي، البحث عن الربح لأجل الربح، أياً كان الثمن. وإذا ما انتصرت هذه الملكية انتصاراً مطلقاً، فلن يعود هناك مكان للملكية الاجتماعية وللدولة الاجتماعية كسلطة تنظيم، تعمل في آن واحد على اختزال انعدام الأمن وعلى توفير الخدمات العامة، حتى نعيد إلى الأذهان الدورين الرئيسيين اللذين قامت بهما في مجتمع العاملين بأجر.
على أننا لم نصل إلى ذلك اليوم، ليس بعد على الأقل. ويبدو لي أن التشخيص الذي يمكن تقديمه انطلاقاً من الوضع الراهن هو التشخيص الذي يشير إلى تفكك الملكية الاجتماعية وليس إلى انهيارها. ومن المؤكد أننا نرصد تزايداً للهشاشة الاجتماعية، لكنها هشاشة اجتماعية ما تزال محاطة بالحمايات وما تزال تتخللها الحمايات. فالأمن الاجتماعي، الذي أعرفه، مايزال موجوداً في فرنسا وفي العالم كله تقريباً. كما أن الدولة الاجتماعية موجودة، بل وبالإمكان الإدعاء بأن تدخلاتها لم تكن قط بمثل ما هي عليه اليوم من وفرة وتنوع، حتى وإن لم تكن فعالة دائماً. وعلى سبيل المثال فإن قانون التأمين الطبي العام الذي أجيز إنما يعتبر مداً للحماية الاجتماعية إلى أولئك الذين كانوا مستبعدين منها إلى الآن. ولا شك في أن الدولة الاجتماعية تتعرض للرفض وللتهديد، لكنها لا هي ميتة ولا حتى محتضرة. فما يزال دورها الحامي قوياً، كما تثبت ذلك بشكل عكسي أيضاً حدة الهجمات التي تتعرض لها من جانب الأيديولوجية الليبرالية. والحال أن التحليلات التي تتنبأ بانهيارها هي تعميمات وحيدة الجانب لاتجاهات قوية تنزع إلى الخصخصة وتجتاز بالفعل الوضع الراهن. لكن هذه الاتجاهات ليست مهيمنة. وهذا الوضع الراهن يتضمن الكثير من الحدود بحيث يتعذر الإدعاء بأن المستقبل قد تقرر، وذلك بقدر ما أنه سوف يتوقف أيضاً على ما سوف نفعله، أو ما لن نفعله، اليوم لتحمل أعبائه.

خلاصة
مَثَّلَ ابتكار الملكية الاجتماعية ما يشبه ثورة لم تتم الإشارة دوماً إلى أهميتها لأنها كانت ثورة صامتة، تحققت في أمد طويل ـ قرن على الأقل ـ دون انقلابات عنيفة، وهو ما لا يعني دون نزاعات. لكنها أحدثت تغيراً عميقاً في الوضع الاجتماعي لغالبية سكان المجتمعات الغربية وتوصلت إلى القضاء من حيث الجوهر على حالة الهشاشة وانعدام الأمن الاجتماعي الدائمة التي كانت المصير المزمن لغالبية العمال. وهذا ليس حكم قيمة، بل ما يشهد عليه التاريخ الاجتماعي منذ مستهل القرن العشرين. وعلى أساس هذا التحليل، فإنني أؤكد ـ وهو ما قد يكون حكم قيمة وإن كنت أتبناه ـ أن الملكية الاجتماعية فكرة تستحق النظر وأنه سوف يكون من المناسب التفكير مرتين قبل إعلان أنها فكرة بالية وأن الوقت قد حان للانتقال إلى شيء آخر ـ إلى قبول هيمنة السوق التامة مثلاً. ولا يعني ذلك بالضرورة أنه يجب الاحتفاظ بها قائمةً في ذات الصورة التي اتخذتها في «الحل الوسط الاجتماعي» في أوائل سبعينيات القرن العشرين مثلاً. فالواقع أن هناك ما لا يمكن رده في التحولات التي حدثت منذ خمس وعشرين سنة وزعزعت مجتمع العاملين بأجر زعزعة قوية. لكن المسألة التي ماتزال لها راهنيتها وماتزال جوهرية هي مسألة معرفة ما إذا كان بالإمكان إعادة نشر الملكية الاجتماعية في سياق جديد يتميز بقدر أكبر من الحركية ومتطلبات القدرة على المنافسة والمزاحمة المتزايدة، الخ. هل بالإمكان إقامة أشكال جديدة لحل وسط بين، كما قلتُ، الشروط اللازمة لإنتاج الثروات والتي تحيل إلى متطلبات السوق التي قد تكون مشروعة، من جهة، والشروط اللازمة لضمان الحماية والاعتراف الاجتماعي لأولئك الذين ينتج عملهم هذه الثروات، من جهة أخرى ؟ من الواضح أن هذا سؤال آخر، وهو يطرح صعوبات رهيبة. لكنه يفرض نفسه إذا ما سلَّمنا بالأهمية التي اكتسبتها، وماتزال تكتسبها، الملكية الاجتماعية في مجتمع العاملين بأجر. لأننا إذا عجزنا عن تقديم إجابة عنه، فمن المؤكد أننا سوف نخرج من مجتمع العاملين بأجر، ولكن من أسفل، وذلك بالمجازفة بإعادة التواصل، باسم السعي إلى الكفاءة وإلى القدرة على المنافسة مهما كان الثمن، مع تلك المهانة التي تميز بها الوضع العمالي والتي أشرت إليها في البداية لكي أوضح ما كان عليه عالم العمل بوجه عام قبل تدشين الملكية الاجتماعية. والخلاصة أننا نجازف، باسم الاحتفال بمستقبل متحرر من القيود ومن اللوائح التنظيمية ومن بيروقراطيات الدولة، باستعادة أقدم أشكال البؤس العمالي وانعدام الأمن الاجتماعي.














الجمعيات والديموقراطية:
الفرادة الفرنسية(×)
مارتين بارتيلمي
MARTINE BARTHÉLEMY

تستعد السلطات السياسية وأوساط الجمعيات للاحتفال بالذكرى المئوية لصدور قانون عام 1901 والخاص بتنظيم الجمعيات. وقد تسارع نمو منظمات العمل الطوعي خلال الربع الأخير من القرن العشرين. وأصبحت الجمعيات مدعوة الآن إلى تخفيف أزمة الوساطات التقليدية فيما بين السلطة السياسية والمواطنين. فإلى أي حدٍّ تعتبر الجمعيات رأس حربة الديموقراطية؟ سوف أحاول الإجابة عن هذا السؤال في ثلاث خطوات. فبعد التذكير بأصول النموذج الجمعياتي الفرنسي سوف أقدم عرضاً لبُعدَي الدمج والاستقلالية، وبعد ذلك سوف أقدم عرضاً للسياق الراهن ولحدود الحل الجمعياتي.

النموذج الجمعياتي الفرنسي
المقصود بالجمعية هنا هو تجمع إذ يبدأ من المجال الخاص يتدخل في المجال العام؛ وتستند الجمعية على أشخاص خاصين، لكنها تتميز في آن واحد عن السوق وعن المجال الخاص والعائلي، كما تتميز عن المجال العام بمعناه الدقيق والذي يقتصر على سلطة الدولة. والحال أن مفهومي «التشارك الجمعياتي» و«العام» إنما ينتميان إلى المجتمع الحديث ويسيران يداً بيد مع انبثاق النزعة الفردية، أي مع إمكانية تصور المجتمع ليس بعدُ ككيان مراتبي من الطوائف والمراتب الاجتماعية، وإنما ككيان مؤلف من أفراد يعتبر وجودهم المستقل سابقاً على اندراجهم في جماعات انتماء.
عندئذ تنطرح مسألة الآصرة الاجتماعية والسياسية ومسألة المواطنة. وكانت الإجابات المقدمة لهذه المسألة مختلفة من مجتمع إلى آخر. فالمجتمع الفرنسي إنما يضع السمات المميزة للمجتمع التقليدي، والمتمثلة في الطائفة والهيراركية والمقدس، من جهة، في تعارض مع السمات المميزة للمجتمع الحديث، والمتمثلة في الأمة والنزعة الفردية والمساواة والتنظيم العقلاني للسلطة، من جهة أخرى، فارضاً على هذا الاختلاف التمايزَ بين العام والخاص. فالشأن العام الذي يحدد مجال السياسة والمواطنة إنما يتأسس على آصرة مباشرة فيما بين الفرد والأمة. والنزعة الفردية العقلانية للتنوير تضع ضمانة الحقوق الفردية في السيادة القومية، حيث يتمسك بهذا المبدأ كل من الليبراليين والجمهوريين في آن واحد. وسوف تضع الدساتير الجمهورية السيادة القومية في الشعب، بما يعني أن الدولة، وهي هيئة السلطة، يجب أن تتصرف بما يتماشى مع صالح أكبر عدد ممكن من الناس وأن تتدخل تدخلاً مباشراً في الحياة الاجتماعية(×).
والحال أن المثل الأعلى الثوري، عبر السيادة الشعبية ومن خلال الأمل في الاقتراب قدر الإمكان من الحكم المباشر، إنما يستبعد من الناحية النظرية كل شكل لجماعة وسيطة بين المواطن والأمة. والتهديد الذي تمثله الكنيسة إلى أواخر القرن التاسع عشر إنما يشكل عقبة أمام اعتراف الجمهوريين بالتشارك الجمعياتي؛ بينما تكمن العقبة الفلسفية في الخوف الماثل دائماً من الحرمان من حرية الضمير الفردي لصالح سلطة أو مرجعية ما تجسدها هذه المنظمة أو تلك. ومن ثم فإن التراث الجمهوري إنما يتميز بأصالة لا جدال فيها. فكل شيء يحدث وكأنما هذا التراث يرفض جزئياً الحداثة على نحو ما اعترف بها وعرَّفها الأنجلوـ ساكسون، أي العمل على تأكيدٍ في قلب المجتمع المدني للطاقات الفردية وتنظيمها عن طريق انضباط ذاتي يتم اختزاله إلى أدنى حد ممكن وعن طريق دولة مُخْتَزَلَةٍ إلى أدنى حد ممكن، وذلك لصالح حد أقصى من الحرية. ولهذا سببان رئيسيان: تطور المَلَكية المطلقة والممركزة، والذي شجع على الترسيخ المبكر لمفهوم الخدمة العامة، ثم أهمية الكنيسة الكاثوليكية والعقيدة الدينية اللتين سوف تؤسس الجمهورية ضدهما مطالبتها بالحرية.
والحال أن حرية تنظيم الجمعيات إنما تعد مكفولة على المستوى الدستوري في غالبية بلدان أوروبا الغربية، بما في ذلك فرنسا، وذلك منذ قرار المجلس الدستوري الصادر في16 يوليو/ تموز 1971. وإذا كان أي تشريع خاص لا ينص على وضعية المنظمات الطوعية في الولايات المتحدة، فإن فرنسا ليست البلد الوحيد في أوروبا الذي أرسى تعريفاً قانونياً للجمعيات. وبالمقابل، فإن هذه الجمعيات لا تعني دائماً أداء نشاط خال من المصالح. فالقانون الصادر في الأول من يوليو/ تموز 1901 يجمع بين حريتين، حرية الأفراد في أن ينشئوا عن طريق الاتفاق فيما بينهم جمعية وفي أن ينسحبوا منها عندما يشاءون وحرية تشكيل الجمعيات دون أية رقابة مسبقة وتسيير عملها بالشكل الذي ترتأيه، مع مراعاة القيود المتصلة بالجمعيات التي تضم أجانب. وتوضع الجمعية في المجال الخاص لكن الحظر الذي يمنعها من اقتسام المكاسب إنما يضعها بشكل صريح خارج السوق, وحيازة الشخصية القانونية والإمكانات المرتبطة بها إنما تخضع لإعلان بذلك وتتوقف، فيما يتعلق بـ «أقصى حجم لها»، على الاعتراف بها عن طريق مرسوم كجمعية منفعة عامة. والحال أن الجمعية، التي كانت مستبعدة إلى ذلك الحين من الحقل الاجتماعي، قد اكتسبت شرعية لا جدال فيها وإن كانت شرعية ممنوحة من السلطة العامة ومؤطَّرة بها. وبعيداً عن القيمة القانونية، فإن قانون عام 1901 إنما يتميز بقيمة الرمز: فهو ثمرة حل وسط بين روح التنوير والتراث الجمهوري، من جهة، ومعاداة النزعة الفردية التي تضفي شرعية على مساهمة تجمعات المجتمع المدني في الديموقراطية، من جهة أخرى.

أشكال منطق نمو الجمعيات
على أثر أليكسيس دو توكفيل، جرى على نحو منتظم التذرع بالتراث الجمهوري وبالمركزة وبصدارة السياسة لشجب تخلف الفرنسيين في مسألة النمو الجمعياتي ولإضفاء طابع مثالي على النموذج الأميركي. وتعتمد هذه المعاينة على اختلافات ثقافية لا سبيل إلى إنكارها. وهكذا فإن التوزع الديني للمجتمع الأميركي وتشظي البروتستانتية إنما يفسران كيف أن دمج الأفراد في الطائفة الدينية يجد ترجمة له في ميل قوي إلى تشكيل الجمعيات: فنحو ثلثي المنظمات الطوعية في الولايات المتحدة سوف يرجعان إلى أصول دينية.
ولا سبيل اليوم بعدُ إلى الشك في حيويـة الواقع الجمعياتي، بما في ذلك فـي فرنسـا: فهنـاك الآن 000 700 جمعية، حيث يتم تشكيل أكثر من 60000 في العام الواحد، وتنتمي نسبة 45% من الفرنسيين إلى جمعيات. وإذا كان جزء أقل من ذلك بكثير من السكان يندرج في هذه الجمعيات بنشاط، فإن ثمانية فرنسيين من كل عشرة تهمهم الحياة الجمعياتية، والهبات والأعمال الطوعية.
ويعبر نمو الجمعيات عن تحول شبكات العلاقات والوضعيات الاجتماعيـة. ويرجـع تكاثـر التجمعات إلى التعقيد المتزايد للحياة الاجتماعية وإلى تنوع الرهانات وإلى دخول عدد متزايد الأهمية باطراد من الأفراد في هذا التعقيد. والشكل الجمعياتي ليس مجرد شكل للتشارك الاجتماعي: ففي داخل الجمعيات، تنمو وتتجدد الوضعيات الاجتماعية وتتبلور الحركـات الاجتماعيـة. وأخيراً، فـإن الطبيعة المزدوجة للجمعية إنما تضفي عليها هوية سياسية: فهي، في آن واحد أو بالتعاقـب، أداة تعبير وتقرير ذاتي للمصير من جانب المواطنين وأداة رقابة اجتماعية وإضفاء للشرعية السياسية. فمصير الديموقراطية لا يتقرر في مجرد السياسة ذات الطابع المؤسسي و«المتحققة»، والتي تُعْتَبَرُ الدولة موقعها، وإنما يتقرر أيضاً في الحركة الاجتماعية والتجمعات المنبثقة من المجتمع، أي في السياسة «التي يتم التشاور بشأنها»(×).
ولا يمكن، لا في الولايات المتحدة ولا في فرنسا، تشبيه نمو المنظمات الطوعية على نحو متسرع بسيرورة دمقرطة. فمنذ منعطف القرن، نجد أن أيديولوجية محافظة بدرجة عميقة تمزج بين المبادئ المسيحية والداروينية الاجتماعية تحيط بنمو الجمعيات الأميركية: فهي تجعل من الإحسان والعمل الطوعي واجباً دينياً يفرض نفسه على أولئك الذين سمح لهم تفوقهم «الطبيعي» بأن يكونوا أغنياء ومراكمين للثروات عبر الاستثمار. وعلى مدار جيلين، سوف تؤدي هذه الأيديولوجية إلى تكريس فشل دولة الرعاية الاجتماعية وذلك بالرغم من تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي وبالرغم من عجز المنظمات الخيرية عن الوفاء بالأهداف التي حددتها لنفسها.
والحال أن تداخل سلطة البلديات مع الشبكات الجمعياتية إنما يُعَدُّ اليوم واضحاً في البلدين على حد سواء. وبحكم محدودية عددهم والأسلوب الذي يحددون به أنفسهم والاعتراف الذي يتمتعون به في داخل البلديات، يصل مناضلو الجمعيات إلى تكوين نخبة حقيقية قابلة لتقديم مرشحين وأشكال دعم لهذه القائمة الانتخابية أو تلك. وتمثل الحياة الجمعياتية بالنسبة للفاعلين فيها وسيلة مهمة للصعود الاجتماعي ـ السياسي. ومن حيث الجوهر، فإنها تفشل في التزود بقاعدة شعبية. وإذا كانت توفر دراية بمحركات الحياة العامة والفعل الجماعي، فإنها تفترض أيضاً حيازة أرصدة ثقافية خاصة. ودمج الأفراد في الجماعة المحلية والذي تحققه أو تسهله المشاركة في الجمعيات إنما يعد هو نفسه انتقائياً: فالجمعيات توفر ساحة لإعادة تكوين «الاستبعادات»، حيث تبدو المشاركة في هذا التجمع أو ذاك بمثابة شبه واجب اجتماعي أو مصدر مكانةٍ وهيبةٍ.
والواقع أن نمو إنشاء الجمعيات ونمو معدل انتماء الفرنسيين إليها، وهو نمو أكثر اعتدالاً من حيث مقاييسه، إنما يترجمان صعود الحركات المكرَّسة للدفاع عن قضايا مختلفة، كقضية البيئة أو النزعة النسوية أو مكافحة العنصرية، ويترجمان، منذ أواسط ثمانينيات القرن العشرين، تكاثر أو استئناف مسيرة الجمعيات الخيرية وجمعيات المهاجرين وجمعيات المساعدة على الحصول على عمل أو على سكن والدفاع عن المحرومين من وثائق الإقامة. وبالمقابل، فإن القطاعات التاريخية المتمثلة في التعليم الشعبي أو رعاية الأسرة أو العمل الصحي والاجتماعي إنما تشهد تراجعاً في جزء نسبي من إنشاء الجمعيات وتعاني على نحو مباشر من أزمة الروح الكفاحية. أَمَّا نمو الجمعيات المتمحورة على أعضائها والتي لا تهدف إلاَّ إلى إشباع حاجاتهم فهو يشكل ملمحاً آخر لنمو الجمعيات. والحال أن الأخويات وأندية المرحلة الثالثة من العمر والجمعيات المؤلفة حول هوية ثقافية أو حول هواية من الهوايات، وهي جمعيات متزايدة العدد باطراد، لا تعبر بشكل سافر لا عن إرادة تأثير اجتماعي ولا عن الرغبة في الاضطلاع بعمل حيال السلطات العامة، حتى وإن كانت قادرة في ظروف معينة على الدخول إلى المجال العام (على غرار جماعة القنص وصيد السمك والطبيعة والتراث).
وأخيراً، فإن بعض الجمعيات، المنخرطة في النشاط الاقتصادي، إنما تجد نفسها في الواقع على تخوم عالم الجمعيات وعالم السوق، كجمعيات الوسطاء أو جمعيات التدريب أو إدارات الأحياء. وهناك جمعيات أخرى، يتم إنشاؤها أو إدارتها بشكل مباشر من جانب جماعات عامة بهدف الإفلات من قيود القانون العام، تشهد على إساءة استخدام قانون عام1901 من جانب السلطة العامة نفسها، كما تشهد على موقفها الملتبس حيال المصالح الخاصة.
وفي وجه التفاؤل الليبرالي والمناوئ للدولة، وهو التفاؤل الذي أعرب عنه توكفيل، يمكننا أيضاً أن نضع السيرورة الجدلية التي تحكم حركة المجتمع المدني وتوسُّع الدولة، والتي لا يمكن اختزالها في درجة المركزة. وفي كل مكان، في أوروبا وفي أميركا الشمالية، يؤدي بناء الدولة ـ الأمة في القرن التاسع عشر إلى تغذية نمو الفعل الجماعي ونمو الحياة الجمعياتية. وفي كل مكان، نجد أن قيام دولة الرعاية الاجتماعية إنما ينطوي على تطور أشكال جديدة للتعاون مع القطاع الجمعياتي، بين الدولة والجمعيات. واعتباراً من الحرب العالمية الثانية، أسهمت السلطة السياسية ـ الإدارية إلى حد بعيد في تنظيم التكامل بين الفعل العام والمنظومة الجمعياتية، خاصة في الشأن الاجتماعي والتعليمي. ولا تكمن الخصوصيات الفرنسية في واقع تداخل المؤسسات العامة والتجمعات الجمعياتية بقدر ما تكمن في تأطيره الحقوقي وأشكاله الرمزية والسياسية، وهي أشكال جد كاشفة لنزعةٍ جمعياتيةٍ في خدمة المنفعة العامة.
ومنذ قانون عام 1901، ضاعفت الإدارة من عدد اللوائح التنظيمية المتصلة بالجمعيات وذلك، في آن واحد، من أجل تشجيعها ومن أجل مراقبتها. فالجمعيات تستمد جانباً على الأقل من مشروعيتها من الامتيازات والصلاحيات الممنوحة لها: ويظل التعامل مع الدولة إحدى أولوياتها. ولا يندرج التفاعل المستمر بين الأوساط الجمعياتية والسلطات العامة في إطار مؤسسي رسمي: ففرنسا تفلت من نظام العلاقات التعاملية المتداخلة بين الجماعات والسلطات العامة، على نحو ما قد يكون موجوداً في سكاندينافيا أو في ألمانيا أو النمسا. وبالمقابل، نجد أن القطاع التعليمي والمصالح العائلية قد قدمت منذ عام 1945 توضيحاً نموذجياً لشكل من أشكال «الكوربوراتية [الطائفية] من النمط الفرنسي»، وهو شكل يتولى فيه المحترفون أو المستفيدون إدارة نشاط اجتماعي بدعم من الدولة(×). وقد عرفت مشاركة الجمعيات في تحديد السياسات العامة تسارعاً بعد تداول السلطة في عام 1981، وهو تسارع ساعد عليه «التداخل السياسي» بين مناضلي الجمعيات ودعاة النزعة النسوية ومناهضي العنصرية أو أنصار حماية البيئة و«حلفائـ»ـهم في الحكومة(×). ذلك أن الجمعيات القديمة والجديدة على حد سواء معنية بتداخل الفعل العام والحركة الاجتماعية وبالمواجهة بين منطق الدمج ومنطق الاستقلالية.
على أن منطق الاستقلالية هو الذي انتصر، منذ أواخر ستينيات القرن العشرين. وفي توازٍ مع ارتفاع الأعداد السنوية للجمعيات المنشأة، يظهر عدد معين من السمات المشتركة. إذ تنشأ صلة متميزة بين الانتماء إلى الطبقات المتوسطة، التي تشهد صعوداً سافراً، والاعتماد على الجمعيات. فالشكل الجمعياتي يستولي على الحياة اليومية ويظهر بوصفه الدعامة الأولى للمطالب وللاحتجاجات التي غالباً ما تتذرع بروح ثورة مايو/ آيار 1968. وأخيراً، فإن قيم التضامن والعلاقات الإيجابية بين الأفراد والديموقراطية المحلية إنما تصبح المرجعية السائدة.
والحال أن الفرادة الفرنسية لا تعبر عن نفسها في الجمع بين هذه النضالات الاجتماعية الجديدة والجمعيات، وإنما في الانتماء إلى أيديولوجية جمعياتية حقيقية. والواقع أن التمايز بين العام والخاص، والذي ميز النموذج الأصلي لعام 1901، قد أخلى المكان تدريجياً في التمثيلات الجماعية لمجال جمعياتي مستقل، مبنيٍ حول مفهوم المصلحة الجماعية والنزع المزدوج للقيمة عن العام، البيروقراطي، وعن الخاص، الفاسد الذي لا تهمه سوى المصلحة(××). وقد تغيرت وضعية الفرد: فهو بالأمس كان موضوع تطبيع ديموقراطي، أَمَّا اليوم فهو مدعو إلى المشاركة وإلى التعبير عن إمكاناته. ولُحمة هذه الأيديولوجية هي التشديد على فشل أو على أزمة الوساطات الاجتماعية ـ السياسية التقليدية. والحال أن البُعد النقدي حيال النظام الحزبي وحيال السياسة المحترفة إنما يعتمد يساراً على الإعلاء من قيمة الأشكال «غير الممركَزة» و«النوعية» للنزاع، بينما يعتمد يميناً على رؤية حداثية وتعددية للتعبير وللمشاركة الاجتماعيين. ويشترك التسيير الذاتي و«الليبرالية المتقدمة» في شجب توسع الدولة وفي تمجيد «المجتمع المدني». وهذا الخطاب الجمعياتي إنما يعيد احتياز التيمات السائدة في أواخر القرن التاسع عشر: إذ يجري تفعيل أسطورة الاقتصاد الاجتماعي، ورد الاعتبار إلى قيم التضامن والعمل الطوعي، أما مبدأ الدعم الذي يؤدي بموجبه تدخل الدولة إلى دعم المستويات المحلية أو النسيج الجمعياتي الذي ما يزال أولياً فهو يسند المطالبة باللامركزية ويكمن خلفها.
والجمعيات لا ترفض بدرجة واحدة من الحدة الأحزاب كلها. إذ تنشأ علاقات متميزة بين الأوساط الجمعياتية واليمين الليبرالي كما تنشأ بشكل خاص بين هذه الأوساط والحزب الاشتراكي. ومن المعروف أن تجديد هذا الحزب وصعوده إلى السلطة إنما يرجعان إلى نمو الجمعيات وإلى إمكاناتها الكفاحية. وقد انتقلت السلطات العامة تدريجياً من موقف يتميز بالريبة إلى عناية جديدة بالجمعيات. واعتباراً من عام 1981، أخذ خيار الاشتراكيين الجمعياتي يكتسب طابعاً ملموساً وأخذ يشكل امتدادا لسياسة فاليري جيسكار ديستان الخاصة بتفعيل الجمعيات. وعلى أساس هيمنة الليبرالية الاقتصادية، يترافق الاعتراف المؤسسي بالعالم الجمعياتي مع انحدار العمل النقابي ومع الأفول النسبي لبعض الحركات الاجتماعية.

التجديد الجمعياتي وحدوده
مع تسعينيات القرن العشرين، تُغَذِّي عدةُ عناصر اللجوءَ إلى الجمعيات: البطالة المتصلة وتزايد الهشاشة الاجتماعية وانعدام ثقة الفرنسيين المتزايدة بالطبقة السياسية وبالأشكال التقليدية للمشاركة، وتراجع الأيديولوجيات المعولِمة وتشظي العلاقات الطبقية. ومحل اختزال التماس تدخل الدولة والذي نودي به في السبعينيات، حلت المطالبة بدولة أخرى، دولة «تفعيلية» تعتمد على مبادرة وتعبئة الفاعلين المحليين والمشروعات الاستثمارية والمنتجين والجمعيات. وأصبحت هذه مسئولة عن إنتاج التشارك الاجتماعي والتضامن والمواطنة. وقد عينت السلطات العامة لها دور ترجمة وتأطير المطالب الاجتماعية وحفز روح المسئولية لدى المواطنين. وقد التقى هذا الدور المحدَّدُ للجمعيات مع طموحاتها والتي تتمثل في تأكيد نفسها كمواقع مستقلة لممارسة الديموقراطية في الحياة اليومية، قريبة من المواطنين ومستقلة عن أجهزة النقابات والأحزاب والدولة.
وتَرُدُّ اليوم مختلف المبادرات الجمعياتية عن طريق أعمال هادفة، على مستوى المشروع السياسي، على أحوال اجتماعية أو «مدنية» ملحة، كالفقر أو التخلف المدرسي أو «الحرمان من الاندراج في المجتمع» أو العنصرية. وعلى الجانب الإنساني للرد على الأحوال الملحة، يضاف حشد من الجمعيات الجديدة إلى الجمعيات التقليدية التي تكرس جهودها للعمل الاجتماعي. وعلى الجانب الاحتجاجي، فإن تحمل المسئولية أو الدفاع عن الجماعة إنما يترافق مع شجب أكثر نقداً للوضع السياسي والاجتماعي. وفي الحالتين، فإن إشكالية الدفاع عن حقوق الفرد إنما تحكم الجانب الرئيسي من المبادرات. ويشكل السعي إلى التحالفات في العمل خاصية رئيسية لإنشاء ولتعبئة الجمعيات. ولا توجد حاجة البتة إلى الاتفاق على ما قد يكون عليه مجتمع الغد كشرط للعمل المشترك اليوم: وتكمن هذه القناعة في أساس الإنشاء، بالغ الاتساع، لشبكات أفقية ولتجمعات للجمعيات.
أَمَّا فيما يتعلق بالنمو الجديد للجمعيات الثقافية والرياضية فهو يرمز إلى الأفول النسبي لبيداجوجيا [تربية] الانتماء الوطني التي ميزت كبرى منظمات التعليم الشعبي وقضاء وقت الفراغ التقليدية، وذلك لصالح شواغل استهلاكية إلى هذا الحد أو ذاك. فروح «الرياضة للجميع» تميل إلى إخلاء المكان في آن واحد لرياضة المنافسة وللنشاطات الرياضية من النوع التجاري والفردي أكثر. ويؤدي تشجيع الأعمال الثقافية أو تنمية المشاريع الثقافية المحدودة الممولة «بحرية» من جانب السلطات المحلية إلى اختزال منزلة الفكرة التي تتحدث عن حق جميع الأفراد في الوصول إلى الممارسة وإلى التدريب.
وينمحي «المناضل» التقليدي لصالح فاعل فردي «ملموس»(×). والحال أن نموذج الكفاحية السائد في التراث الجمهوري الفرنسي قد جرى تصوره بوصفه تعبيراً عن رؤية شاملة للعالم. ومن خلال اندراج التجمعات في شبكات سياسية وأيديولوجية (مسيحية، علمانية، اشتراكية، شيوعية، إلخ) فإن هذا النموذج إنما يعد نموذجاً سياسياً بشكل أساسي. وتجد المقارنة بين الكفاحية النقابية والحزبية والكفاحية الجمعياتية تبريراً لها في الكفاحية التعددية، والتي تعد سمة مميزة لليسار الجديد في سبعينيات القرن العشرين. والحال أن انحسار هذا الشكل التاريخي والسياسي للكفاحية لا ينحصر في هبوط أعداد المنتمين والمرصود في المنظمات الحزبية والنقابية، أو في المنظمات الجمعياتية، في بعض الحالات. فهو يتضح أيضاً في التحولات النوعية لدوافع الانتماء الفردي ولأنماط ولأهداف الالتزام في المجال العام. فهذا الالتزام لم يعد يفترض موقف انتماء عاماً إلى نسق أيديولوجي، بل يفترض أشكالاً مرنة وعملية للانتماء إلى الجماعة وللعمل المشترك، سعياً إلى تحقيق أهداف محددة. والحال أن المثل الأعلى الكفاحي قد تحدد في آن واحد باندراجه في التاريخ القومي وبشحنته الهوياتية. واليوم يميل إلى أن يحل محل هذا المثل الأعلى البعدُ المحلي والأفقُ العالمي، من جهة، والمباشَرَةُ والمصلحةُ العامة، من الجهة الأخرى. أَمَّا الحظوة التي يتمتع بها العمل الطوعي فهي علامة أخرى على التجديد. فالعمل الطوعي إنما يطرح نفسه بوصفه عملاً غير مُجْبَر، يتوجه إلى الآخرين أو إلى الجماعة المحلية، وذلك قبل أن يكون، بداهةً، انتماءً إلى جماعة. وتنوع أنماط الالتزام وفئات المتطوعين تنوع واسع، لكن المسألة هي دوماً مسألة التزام متواضع.
ولدى النظرة الأولى، فإن النمو الجمعياتي الأخير يبرر قدراً عظيماً من التفاؤل. فهو يدل على إحياء صحي للديموقراطية المحلية وعلى تعبير مشروع عن التضامنات أو عن الجماعات الثقافية والجماعات التي لها مصلحة مشتركة تدافع عنها. وتعلن الديموقراطية الجمهورية مثلاً أعلى هو تأمين المساواة في الحقوق للجميع، وهو ما ينفيه رصدُ المجريات الواقعية الملموسة. والحال أن الحركة الجمعياتية إنما تطمح إلى التعريف بهذه المجريات الواقعية وأخذها في الحسبان بهدف السعي إلى تجديد الديموقراطية. فهل ستصل إلى ذلك ؟ إن نموذج «المواطنة الجمعياتية» قد حل، في التسعينيات، محل النموذج الذي طرحته ثورة مايو/ آيار 1968 عن «المجتمع المدني». على أن الاحتفاء بالاستقلالية بل وتطور الشكل الجمعياتي إنما ينطويان على عدد من الحدود.
إن تداخل الدولة والمجتمع إنما يُبطل الأيديولوجية التي تتحدث عن «كلٍّ جمعياتي». والحال أن التوترات بين نمطي العمل الجماعي، حيث ينبني النمط الأول حول الدولة وحول ما هو قومي، بينما يتمحور النمط الثاني حول استقلالية الجماعات وحول الفعل المحلي، قد ازدادت حدة منذ أواسط ثمانينيات القرن العشرين. ويتحمل الاشتراكيون إلى عام 1993 جانباً مهماً من المسئولية عن التباين الذي بات من الواضح اتساعه بين المثل الأعلى والمجريات الواقعية: ففي كثير من الحالات، تغلَّبَ منطق الدولة على الحركة الاجتماعية أو على الديموقراطية المحلية، وذلك حتى مع أن الأوساط الجمعياتية كانت قد علقت آمالاً عظيمة على وصول الاشتراكيين إلى السلطة. والحال أن الدعوة إلى المشاركة والموجهة إلى السكان، خاصة سكان الأحياء أو الضواحي المسماة بغير المحظوظة أو التي تمر بموقف صعب، غالباً ما تترافق مع البيروقراطية والاستخدام الذرائعي، بما يؤدي، بشكل عكسي، إلى كبح الديناميات المحلية.
وقد أدت اللامركزية إلى تغيير الموقف. فقد جسدت إدارة الدولة تحكيماً جغرافياً متكافئاً نسبياً واستمراريةً معينةً لتمويل الهياكل الجمعياتية، عن طريق الدعم. وبالنسبة للتجمعات الجمعياتية، يخلق تعزيز صلاحيات الجمعيات المحلية وتجزئة السياسات العامة موقفاً تتزايد باطراد صعوبة التعامل معه، وهو يتمثل في تفاقم النزاعات مع الشركاء المحليين وفي التفاوتات المتزايدة بين الكومينات أو بين الإدارات وفي مزاحمة الخدمات التجارية وفي الاعتماد على المساعدة العامة.
ولا شك أن هناك حاجة إلى إعادة تعريف تكامل الجمعيات مع السلطات العامة. لكن واقع مساءلة الدولة لا يجب أن يقود الجمعيات إلى إهمال مسئولياتها هي عن قصور الديموقراطية. والواقع أن كل شيء إنما يتسابق على جعل الجمعية نقيضاً لملاذٍ للديموقراطية: اختيار الأشخاص الأكثر كفاءة، لعبة الدمج وروح التكيف. وإذ تستعيد اليوم كبرى الجمعيات لحسابها المطالبات بالمواطنة، فإنها غالباً ما تسعى إلى الفوز بشرعية لدى السلطة العامة، مع ما ينطوي عليه ذلك من احتمال تحولها إلى جمعيات محترفين في الديموقراطية التشاركية. ويعرفُ عدد من التجمعات، الصغيرة أو الكبيرة، تحوَّل عددٍ من مسئوليها إلى وجهاء، كما يعرف ضعفاً في تجديد القادة وتحللاً من الإجراءات الديموقراطية. فعالم الجمعيات لا يفلت من التناقض بين المثل الأعلى الجمهوري الخاص بالسيادة التامة وضرورات الحياة السياسية التي تقود إلى الاستعاضة عن إرادة المواطنين بإرادة ممثليهم.
وتحتم إعادةُ الحيوية إلى الديموقراطية وردُّ الاعتبار إلى السياسة كسراً لاحتكار التمثيل الذي تحوزه السياسة المؤسسية والأجهزة القيادية للأحزاب. إلاَّ أنه إذا كانت الجمعيات ترغب في العمل على تحقيق تحول اجتماعي حقيقي، فإن عليها هي نفسها أن تتجه إلى تسييسٍ لأشكال تدخلها في المجال العام. وهذا يفترض أن أسطورة حركة جمعياتية تسوي جميع الخلافات لابد لها من أن تخلي المكان لاعترافٍ بالنزاعات ولتحديد للرهانات. وهذا يفترض أيضاً أن المبادرات والتعبئات المحدَّدة لابد من تجاوزها ودمجها في رؤية اجتماعية كما يفترض أن ممارسات التضامن لابد من ربطها بدلالات سياسية. وأخيراً فإنه يفترض إعادة التفكير في تآزر بين النسيج الاجتماعي والفعل في المؤسسات، وذلك بما يسمح بإيجاد تمفصل بين حركات المجتمع المدني والمجتمع السياسي. وفي هذا، في النهاية، يكمن سر الديموقراطية.












المنظوراتُ القَبَلية
أو تغير النموذج الإرشادي الاجتماعي(×)
ميشيل مافزولي
MICHEL MAFFESOLI

من شأن التغيرات المهمة في القيم والتي هي بسبيلها إلى الوقوع في مجتمعاتنا في نهاية القرن العشرين هذه أن تلزمنا بأخذ مسافة عن المجريات الراهنة حتى يتسنى لنا الحكم عليها بشكل أكثر موضوعية. وهذا هو ما يمكننا عمله مع بقاء حكمنا، في مرحلة أولى، بالغ العمومية. ويمكننا، بعد ذلك، اقتراح «رافعة أو أداة منهجية» لمحاولة فهم هذه التغيرات في القيم التي أشرنا إليها للتو؛ مستخدمين في الوصول إلى ذلك مجازاً، هو مجاز «القَبَلية» (وهو أسلوب آخر للحديث عن تكاثر الجماعات الاجتماعية الصغرى)، والتي تشكل ظاهرة منبثقة وصاعدة في أيامنا، تستتبع سلسلة بأكملها من الآثار والنتائج المهمة بالنسبة لصياغة وهيكلة الفرد ولصياغة وهيكلة الحياة الاجتماعية برمتها.

العناصر الأساسية الأنثروبو- سوسيولوجية
لكي نحدد بسرعة بالغة الإطار الذي سوف أطرح ضمنه افتراضاتي، يجب التذكير ببعض المعطيات المميزة للحداثة، وهي معطيات مبذولة وشائعة علـى أيـة حال.
هناك أولاً مفهوم الـ épistémệ [مجموع المعارف المنضبطة (مفهوم العالم، العلوم، الفلسفات …) المميزة لجماعة اجتماعية، في عصر من العصور]. وعبر هذا المفهوم، يشير الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكوه إلى أننا، في نهاية الأمر، موضع تفكير بأكثر من كوننا نفكر، وموضع فعل بأكثر من كوننا نفعل. وباقتراحه مفهوم الـ épistémệ كموضوع للمناقشة، قصد ميشيل فوكوه أن أشكال التمثيل والتنظيم الاجتماعيين إنما تتميز بملمح مزدوج: من جهة، شيء سوف يصوغ بشكل عميق وبأسلوب تحتي خفي التمثيلات الاجتماعية، ومن جهة أخرى، واقع أن هذه التمثيلات الاجتماعية تتميز هي نفسها بسلسلة بأكملها من الآثار على التنظيم الاجتماعي، وإن كان ذلك لا يتم بالضرورة التفكير فيه أو جعله موضوعاً للإدراك والوعي أو التعبير عنه لغوياً بصفته تلك. ويمكن قول الشيء نفسه عن الاكتشافات العلمية. وهكذا فإن كاتباً مثل توماس كوهن يقدم المعاينات نفسها التي يقدمها ميشيل فوكوه. فعن طريق مفهوم النموذج الإرشـادي (paradigme) (والأكثر مرونة من مفهوم النموذج modèle)، يوضح كيف أن هناك قالباً تتقاطع، إنطلاقاً منه، في المجال العلمي، أساليب تَمَثُّلِ العالم.
ومفهوم الحوض السيمانطيقي [الدلالي] الذي اقترحه جيلبير ديران مستلهماً مفهوم اللاوعي الجمعي عند يونج هو أيضاً مفهوم يستحق النظر فيه وأخذه بعين الاعتبار. فجيلبير ديران يستخدم صورة الحوض الدلالي لكي يوضح كيف أن من شأن الأشياء الصغيرة أن تفضي إلى أشياء أكثر أهمية. فالسيل يفضي إلى تشكل النهر في أسفل الوادي، وهو نهر سوف نسميه وسوف نشق له قنوات وسوف ينتهي إلى فقدان معالمه في الدلتا، ثم يؤول إلى صب مياهه في البحر، إلى أن تبدأ من جديد دورة جديدة.
وبالأسلـوب نفسـه، يمـكن استحضـار حقـل مياه جوفية من شأنه، مع أننا لا نراه، أن يدعم الحياة دعماً عميقاً، أي أن يدعم أساليبنا في الوجود والكينونة.
وهذا هو ما يمكن تسميته بالمحيط الاجتماعي، والذي يشمل مفهوم روح العصر، وهو مفهوم أبرز هيجل في القرن التاسع عشر أهميته. وهكذا، فحتى قبل نشوء وتكوين الأفراد أو الفاعلين الاجتماعيين أعضاء المجتمع، هناك شيء ما يتجاوز كل واحد، ويتجاوز عمومية وكلية المجتمع. والحق أن هذا الشيء «غامض»، بأبسط معنى للمصطلح، أي أنه ما يربط، ما يوحد الناس فيما بينهم.
وهذا، هنا، أسلوب آخر لتسمية وتعيين الثقافة، ليس الأعمال الكبرى التي تؤلف الثقافة، وإنما تلك الركيزة التحتية، تلك الخلفية التي يسبح فيها كل واحد دون أن يلحظ ذلك. فهي، من حيث الجوهر، ما يرضعه المرء مع لبن أمه، وما تشربنا إياه التربية. ونحن هنا بازاء ثقافة تصوغنا. وفي الوقت نفسه، فإن مفهوم الـ épistémệ هذا ليس معطى خاصاً بالأزمنة الحديثة. فبالإمكان تطبيقه على كثير من الحقب الأخرى، وذلك بحسب تطور دوري يجب أخذه في الحسبان حتى نحسن تقدير ملاءمة هذا الكلام. إلاَّ أنه لا مفر من أن تنطرح عندئذ مسألة الانتقال من épistémệ إلى آخر.
إن الانتقال، أو اكتمال épistémệ وبدء épistémệ آخر، إنما يعد مسألة صعبة، لا يمكن التفكير فيها وفهمها إلاَّ بقدر كبير من الرزانة والتعقل. ويمكن التمسك بفكرة طرحها سوروكين، عالم الاجتماع الأميركي الذي تخصص في علم اجتماع الثقافة. فهذا الكاتب يستخدم فكرة التشبع. وهو يوضح كيف أنه، في لحظة معينة، يفقد بنيان ثقافي عام بداهته. وعندما تتبدد هذه البداهة تحديداً، فإننا سندخل تدريجياً في نوع آخر من الـ épistémệ. فبما يشبه إلى حد ما ما يحدث في علاقات الصداقة أو الحب، تتلاشى بداهة الحب أو بداهة الصداقة، ذات يوم، دون أن يكون بوسعنا العثور على سبب محدَّدٍ لذلك. وببساطة، سوف نتذرع بالفتور أو بالإنهاك المترتب في نهاية الأمر على التاريخ المشترك الذي تقاسمناه لوقت طويل مع شخص ما، كما لو أن كل شيء لابد له، بشكل شبه تلقائي وآلي، أن يناله الإنهاك.
ويمكننا أن نتساءل ما إذا لم يكن شيء من هذا القبيل يمارس تأثيره بالفعل في مجتمعاتنا، خلف ما نسميه عادة بالأزمة.
ونحن لا نعرف بشكل بالغ الوضوح ما يجب أن ندرجه تحت مصطلح الأزمة هذا، ما لم نتفق بشكل متزايد باطراد على الاعتراف بأن هذه الأزمة ليست أو لم تعد مجرد أزمة اقتصادية، كما أنها ليست أزمة سياسية فقط، ناهيك عن أن تكون مجرد أزمة ثقافية. ولا مراء في أن من الأجدر بنا أن نتحدث هنا عن زوال للبداهة. وعندئذ فإن هذا إنما يعني أنه، في لحظة معينة، يكفُّ كيان اجتماعي أو بالأحرى حضاري عن معرفة ماهيته. فهو يكف عن معرفة ماهية الأساطير الكبرى التي تحرك حياته. وهو يكف عن الثقة بماهيته. ولنتذكر هنا صيغة للروائي التشيكي ـ الفرنسي ميلان كونديرا في روايته خفة الكائن التي لا تُحتمل [والمترجمة إلى العربية في ترجمتين متميزتين]: «هناك تجارب حب مصيرها مصير الإمبراطوريات، فعندما تتوقف فاعلية الفكرة التي تقوم عليها، تختفي مع اختفاء هذه الفكرة».
ومن كثير من النواحي، يمكن تصور أن الفكرة التي شكلت أساس الحداثة قد وصلت إلى درجة التشبع. فما شَكَّلَ، إلى الآن، الهيكل الذي قامت على قاعدته بنية المجتمع، قد استنفد أغراضه بشكل ما، وذلك إلى الدرجة التي أصبح من الممكن عندها لشيء آخر أن يولد.

أسطورة الحداثة
من الأهمية بمكان أن نرجع مرة أخرى إلى سوروكين. فالواقع أن هذا الكاتب إنما يوضح أن هناك من الناحية الإمبريقية نمطين من الكيانات الاجتماعية، نمط عقلاني أو نمط حسي.
وقد صاغ نيتشه بطريقته هذا التفرع الثنائي عندما أشار إلى التوازن بين أبوللو [إله النور والوضوح والفنون] وديونيزوس [إله النبيذ والنشوة الحسية]. كما أن مؤرخين للفنون قد استعادوا هذا التمييز، مثل والتر باتير. وبالمثل، فإن عالم الاجتماع كارل مانهايم قد طرح الفكرة نفسها. أَمَّا فيما يخصني، فقد أعدتُ أيضاً استخدام هذه المفاهيم لكي أشير إلى أن شيئاً ما لابد أنه قد شَكَّلَ الحداثة حول صورة أبوللو الرمزية. لكنني، من وجهة نظر سوسيولوجية، أُفَضِّلُ صورة بروميثيوس، ذلك الذي سرق النار من الآلهة، ذلك الذي سوف يتضح من خلاله عدد معين من المواقف الإيجابية في شخصه وفيما يتعلق بالعالم. والافتراض الذي أذهب إليه هو أن صورة أبوللو أو بروميثيوس الرمزية هذه إنما تخلي المكان الآن، خفيةً أو بشكل معلن إلى هذا الحد أو ذاك، لصورة ديونيزوس الرمزية.
وبعبارة أخرى، فإن مجتمعاً أكثر حسيةً إنما يحل شيئاً فشيئاً محل المجتمع العقلاني الذي كانه المجتمع الحديث. والواقع أن صورة بروميثيوس أو أبوللو الرمزية، ومن ثم كل ما سوف يميز الحداثة، إنما ينتظم حول بعض الكلمات المفتاحية الكبرى.
فما الذي يمكن أن تكون عليه، الآن، الكلمات المفتاحية للحداثة ؟

مفهوم الزمن مفهوم
زمن غائي مستقبلي
عندما نود التوصل إلى فهم عميق لكيان اجتماعي، يجب أن نعرف على أي عنصر من عناصر الثالوث الزمني يُشَدِّدُ هذا الكيان: على الماضي أم على الحاضر أم على المستقبل.
فنحن نرصد مجتمعات سوف ينقلب الزمن بالنسبة لها إلى الماضي: وتلك حالة المجتمعات المسماة بالتقليدية، والتي لا يتجدد شيء بالنسبة لها، فكل شيء إنما يحدث وفقاً للتقاليد وللتراث، أي وفقاً لما صار ماضياً بالفعل.
وعلى العكس من ذلك، تشدد مجتمعات أخرى على الحاضر.
وهناك مجتمعات ثالثة سوف يتشكل كل شيء بالنسبة لها من زاوية المستقبل. وقد عمل المجتمع الحديث على هذا الأساس، متخذاً من المستقبل مرجعاً له، وذلك مع النتيجة التي ترتبت على ذلك والمتمثلة في أسطورة التقدم، والتي تعد تعبيراً رئيسياً عن الزمن الغائي المستقبلي.
ومن الصعب للغاية أن نعرف لماذا اتجهت مجتمعاتنا على هذا النحو إلى هذا المفهوم عن الزمن الغائي المستقبلي. ولا نملك سوى معاينة ما حدث، اعتباراً من القرنين السابع عشر والثامن عشر بل وفي القرن التاسع عشر أيضاً، حيث سوف يبلغ توجه المجتمع هذا من زاوية مستقبله ذروته.
وهكذا فإن فلسفة التاريخ الهيجيلية كلها، ومختلف تحليلات الفلاسفة أو علماء الاجتماع، كأوجست كونت، كلها، قد جرت من زاوية ما سوف يأتي. فاليوم لا قيمة له إلاَّ من زاوية الغد. وهو ما يشير إليه فرويد أيضاً في فكرته عن «ترحيل أو إرجاء المتعة».
وهذا المفهوم عن الزمن الغائي المستقبلي، عن الزمن منظوراً إليه من زاوية المستقبل، هو أحد العناصر الأولى لتكوين épistémệ الحداثة. ويمكن القول أننا هنا بازاء مفهوم مشروعاتي: فالمشروع الذي سوف يتحقق في المستقبل هو عنصر تكويني للفرد. وبالأسلوب نفسه، فإنه عنصر تكويني للكيان الاجتماعي برمته.
أَمَّا العامل الموجِّه لهذا الزمن الغائي المستقبلي، أي واقع أننا لن نفكر في العالم إلا من زاوية المستقبل، فهو أسلوب لزيادة ولإعمال حدة العقل.

العقلانية
من المؤكد أن العقلانية هي إحدى خصائص الكائن البشري، لكن هذه العقلانية، في لحظات معينة من تاريخ الإنسان، تتخذ لدى الإنسان توجهاً خاصاً ونوعياً. وأنا أرجع هنا إلى فلاسفة مدرسة فرانكفورت الذين أوضحوا جيداً كيف أن العقلانية rationalité قد أصبحت في القرن التاسع عشر روحاً عقلانية rationalisme. والمصطلح أكثر دلالة، في الألمانية. فالـ Zweckrationalität هو عقل يتوجه من زاوية غاية. ووفق هذا المنظور، «لا معنى إلاَّ لما له وجهة مستقبلية»؛ وبهذا نفسه يصبح عديم المعنى ما ليست له وجهة مستقبلية. ومن هذه الزاوية، فإن تعدد معاني المصطلح في الفرنسية إنما يصبح لافتاً لأنه يسمح بالإشارة إلى أننا لن نحتفظ هنا، في داخل تلك الطاقة الإنسانية العظمى التي هي العقل، إلاَّ بنمط واحد من هذا العقل، أي بشيء لا يعطي معنى إلاَّ من زاوية المستقبل. وقد جرت ترجمة ذلك بـ«العقلانية الذرائعية»، وهو ما يعبر عنه جيداً هذا المفهوم عن الحداثة والذي يعني أن كل شيء لن تكون له قيمة إلاَّ بقدر مساعدته على تحقيق المنفعة أو بقدر استناده إليها. ويمكننا هنا أن نرجع إلى هايدجر عندما يتحدث عن «الأدواتية». وبدءًا من ذلك، فإن سلسلة بأكملها من الآثار والنتائج الاجتماعية سوف تستحق الانتباه.

السيطرة
العنصر الثالث في تكوين هذه الأسطورة التي تخص الحداثة هو السيطرة، أي صورة لمنطق السيادة، على الذات وعلى العالم.
فالمفهوم النفعي الكبير للعالم والذي يكتسبه كل إنسان بشكل تدريجي من خلال التربية والاندراج الاجتماعي، هو واقع أن من المناسب أن يسيطر المرء على نفسه. وهذا هو المفهوم الاقتصادي للحداثة: اقتصاد الذات، اقتصاد العالم. إذ يتعين على الفرد أن يتمكن من امتلاك هوية مسيطرة على نفسها وأن يتمكن، كنتيجة لذلك، من أن يسيطر على العالم، بالاشتراك مع آخرين وصلوا إلى هذه السيطرة نفسها على الذات. ويجدر التذكير بهذه الصيغة التي نجدها عند كورني في مسرحية Cinna أو عفو أغسطس، وذلك تحديداً في عصر هو عين بداية الحداثة. فالواقع أن سينّا يقول: «إنني سيد نفسي، كما أنني سيد العالم، أنا هذا السيد. وأريد أن أكونه». وهكذا فإن الشعراء غالباً ما يملكون المقدرة على بلورة الزمن بشكل جيد.
أَمَّا محور هذا المخطط التصوري للحداثة، والذي هو بمثابة البداهة، فهو الفرد أو النزعة الفردية.

النزعة الفردية
تظهر النزعة الفردية بوصفها التعبير النظري عن الحداثة. وهي تندرج في إطارها العام. ومن المؤكد أن مبدأ الفردنة principium individuationis هو النقطة الجوهرية التي يمكن تصور الحداثة انطلاقاً منها، والنقطة الجوهرية التي نصوغ جميع أنساقنا انطلاقاً منها. لكن إعادة إدراج هذا المبدأ أيضاً في الحداثة إنما توضح لنا أنه ظاهرة محدَّدة، فهو لم يكن موجوداً دائماً؛ وهو لن يوجد دوماً بالضرورة. ويمكن قول أن مبدأ الفردنة هذا قد وصل إلى درجة التشبع في المجريات الواقعية، في حين أنه لم يصل إلى هذه الدرجة في رءوسنا، أو على الأقل في رءوس جماعة المثقفين، أي أولئك الذين يملكون القدرة على عمل وقول شيء ما.
وبإمكاننا أن نحدد بسرعة أصل وتطور مبدأ الفردنة هذا.
عندما يطرح رينيه ديكارت مبدأ الكوجيتو ايرجو سوم [أنا أفكر إذاً أنا موجود]، فإنه يوضح جيداً، قياساً إلى ما كان عليه الفكر الجماعي في العصر الوسيط، أنه ما من فكر هناك سوى الفكر الفردي. ثم إن الصيغة اللاتينية في مجملها إنما تعد أكثر إثارة للانتباه: cogito ergo sum in arcem meum «أنا أفكر إذاً أنا موجود في معقل فكري». وهذه الصيغة توضح جيداً «التسوير أو التسييج» الخاص الذي هو تسييج تكوين الفرد في بداية الحداثة. كما توضح هذه الصيغة جيداً هذا الاختلاف الأساسي قياساً إلى فكرٍ سابقٍ كان جماعياً. وليس من المستحيل أن نعود في زمن لاحق إلى فكر جماعي.
والحال أن الإصلاح الديني، في ذات الوقت تقريباً كالديكارتية، قد أدخل هو أيضاً شيئاً ينتمي إلى النزعة الفردية، فمع الإصلاح الديني لم تعد العلاقة بالله مسألة جماعية. وقد أدخل لوثر وكالفن مبدأ حرية الاختيار، والذي يعبر عن علاقة فردية سوف تقيمها «الأنا» مع آخرية مطلقة.
وقد فعل جان-جاك روسو الشيء نفسه. فمن الواضح أنه انطلاقاً من فرد عقلاني يمكن تصور عقد اجتماعي، كما سوف يظهر ذلك مع الثورة الفرنسية الكبرى [1789] ومجموعة القوانين النابوليونية. وأخيراً فإن الكلمة المهيمنة، بما يشكل تتمة لما قلته عن ديكارت والإصلاح الديني وفلسفة التنوير، هي كلمة الاستقلالية، الفرد المستقل، كما هو واضح. ولنتذكر أصل المصطلح autonomos: أنا قانون نفسي. ويبدو لي أنه في هذا يكمن محور الحداثة، في هذا المفهوم عن الفرد الذي يحدد لنفسه قانونه، والذي يمكنه بعد ذلك الاجتماع مع أفراد مستقلين آخرين سعياً إلى صنع التاريخ. وبدءًا من ذلك ينبني العقد الاجتماعي (الذي نرى جيداً هشاشته في أيامنا) والمواطنة، التي لاشك في أنها جماع ما يؤسس المثل الأعلى الديموقراطي. وقد أوضحت حَنَّه أرندت كل ما يدين به هذا المثل الأعلى للفرد.

القَبَلية
في مقابل هذا المخطط التصوري الذي عرضته للتو، وفي مقابل رموز الحداثة، فإن أطروحتي، الإمبريقية، هي أننا نواجه الآن تغايراً [تفكيكاً لتجانس] هذا النموذج التوحيدي الذي كان إلى الآن نموذج الحداثة:
ـ ليس هناك تنظير لما هو بسبيله إلى الوقوع في مجتمعاتنا الغربية؛ إلاَّ أنه بما أننا علماء اجتماع وعلماء أنثروبولوجيا، فإننا ملزمون بمعاينة تشبُّعٍ وإنهاكٍ واتساعٍ متواصلٍ لنفاذية مسام الدولة-الأمة. فهذه الدولة-الأمة، وهي تعبير سياسي عن العقد الاجتماعي وعن المثل الأعلى الديموقراطي، إنّما تصل إلى درجة التشبع ويمكن حشد سلسلة بأكملها من العناصر لبيان ذلك، أكان بشكل عنيف بل ودموي في بعض البلدان، أم بشكل أكثر تحضراً وأكثر رقة في بلدان أخرى.
ـ والشيء نفسه ينطبق على المؤسسات الكبرى التي تشكلت في القرن التاسع عشر أساساً: الأسرة، المؤسسة العلاجية، المؤسسة الجامعية، بل والمؤسسة الكنسية (فالكنيسة الكاثوليكية لم تصل إلى إنجاز قوامها إلاَّ في مجمع الفاتيكانI في عام 1871، وهو المجمع الذي أضفى على الكنيسة إجمالاً «طابعاً رومانياً» [نسبة إلى روما، مقر الكرسي الرسولي الكاثوليكي]). وهكذا فإن جميع المؤسسات الاجتماعية، أياً كانت، قد أصبحت أكثر نفاذية باطراد في أيامنا. ويمكننا أن نستحضر، لأجل تكوين صورة، نسيجاً اجتماعياً يظل كاملاً، إلاَّ أنه بسبيله إلى التعرض لهجوم العث من كل جانب. وهذا «التعرض لهجوم العث» إنما يولِّد في المؤسسات وفي المشاريع الاستثمارية وفي أوساط التربية والتعليم والعمل الاجتماعي كيانات ميكروسكوبية؛ أكانت زوايا للصلاة أم جمعيات محدودة أم جماعات صغرى أم، وهذا أفضل، ما أسميه بالقبائل.
ـ ويكمن عنصر آخر من عناصر هذا التغاير لنموذج الحداثة في تشبع مشابه لليقينيات الأيديولوجية الموروثة. فالفكر كان يتغذى على أفكار كبرى، على «تلك المرويات والسرديات المرجعية الكبرى» (إذا استعدنا تعبيراً لجان-فرانسوا ليوتار) التي قد تكون الماركسية، أو الفرويدية من نواح معينة أو الوضعية. وهذه الأفكار الكبرى وصلت بدورها إلى درجة التشبع، وأصبحت ذات نفاذية عالية بشكل متزايد باطراد. وهذا لا يعني أنها لم تعد موجودة، بل يعني أنها ليست موجودة إلاَّ في حالة مخلفات زالت بواعثها، وليس كمرجعيات يجب للمرء تحديد موقعه حيالها. ونحن نواجه اليوم نوعاً من البرقشة، من اللمامة الأيديولوجية المتنافرة، من الأيديولوجيات الخفيفة المتنقلة، المتعددة والمتنوعة، أي نواجه شكلاً من أشكال «بلبلة [نسبة إلى مصير سكان بابل] الفكر».
ـ وفي إطار هذا التغاير أو هذا الافتراض للتغاير السياسي والمؤسسي والأيديولوجي، يبدو من الضروري أن نتساءل عما عرَّفته للتوِّ بأنه محور الحداثة: أي الفرد، مع هويته النوعية، الجنسية [ذكر/ أنثى/ خنثى]، الأيديولوجية، المهنية.
فالآن يبدو أنه يتعين على الفرد أن يخلي المكان لشيء آخر. ويبقى أن نعثر على المصطلح الذي يشير إلى هذا الشيء. وفيما يخصني، فقد اقترحت مصطلح «الشخص»، بالمعنى الأصلي لمصطلح (persona). وهذا يعني أننا بازاء «أقنعة» وأننا لا نحوز هوية بقدر ما نحوز تمييزات. فكسب الهوية كان إلى الآن قمة التربية والتعليم، وذروة الاندراج الاجتماعي. لكننا نشهد الآن انتقالاً من الهوية إلى تمييزات متعددة. ويبدو لي أن هذا الانتقال يؤسس مولد، وقد يكون من الأفضل أن أقول إحياء، الأشكال الَقَبلية للوجود الاجتماعي. وهكذا فإن القَبَلية مجاز مفيد للسعي، مؤقتاً، إلى تسجيل التشبع الذي تحدثنا عنه ولتسجيل واقع أن الفرد أو النزعة الفردية إنما تتلاشى اليوم لصالح كيانات صغرى وأشكال جماعاتية. وغالباً ما اعتدنا التشديد على الفرد أو النزعة الفردية في أيامنا. والواقع أن ما يسود الآن هو «القرابات الاتحادية» التي لم تعد من فعل البعض، بل من فعل عدد كبير جداً والتي تصوغنا على شكل قبائل في داخل مؤسساتنا. وهذا أمر صارخ الوضوح في العالم الجامعي؛ وهو صارخ الوضوح أيضاً في المجال الديني حيث يعتبر تطور الشِّيع أمراً بديهياً. والواقع أن جميع المؤسسات إنما تتشظى في كيانات ميكروسكوبية.
وفي ذلك فإن فكرة الاستقلالية التي كانت فكرة تكوينية للحداثة إنما تخلي المكان لشيء آخر. ويمكن الحديث عن قانون الآخر، بما يعني واقع أنني لم أعد قانوني الخاص. فقانوني هو الآخر. وأنا لا أوجَدُ إلاَّ في الآخر وبعقله، إلاَّ في نظر الآخر وبهذا النظر.
وفي هذا الصدد فإن «موضة المستقبل» إنما تستحق الانتباه: الموضة الملابسية، الموضة اللغوية، الموضة الجسدية، الموضة الجنسية. فهناك، كما في ظاهرة الموضة، شيء يتأسس في مجتمعاتنا، لا يستند بعدُ إلى الإرادة، بل يستند إلى العدوى. فهو شيء أشبه ما يكون بالحُمَّى. فالموضة حُمَّى؛ والحُمَّى تؤدي إلى أوبئة. وأعتقد أن شيئاً من هذا القبيل يستقر في جميع المجالات. والفكر نفسه لا يفلت من هذه الظاهرة. وهذا واضح جداً بشكل خاص. وبينما يتوجب على المرء أن يفكر بنفسه، فإننا نرى تشكل كيانات صغيرة، عصبوية، متعصبة، يعارض بعضها البعض الآخر.
ففي تعارض مع العقد الاجتماعي، مع ذلك الملمح العقلاني الاختياري الذي تنطوي عليه فكرة العقد الاجتماعي هذه، يبدأ في التشكل أسلوب آخر للوجود، وشكل آخر للاندراج الاجتماعي. والحال أن هذا الأسلوب الآخر للوجود سوف يعيد استثمار عناصر كان التحليل الاجتماعي قد أهملها: عنصر العاطفة وعنصر الانفعال. والواقع أن الانفعال والعاطفة لا ينتميان فقط إلى ما هو عاطفي أو انفعالي، بل هما يشكلان بشكل واضح بيئة نوعية خاصة تستند إلى سيرورات العدوى، إلى واقع أن سلسلة بأكملها من «البيئات» الماكروسكوبية أحياناً، الميكروسكوبية غالباً، إنما تشكل تربةَ الحياةِ الاجتماعية الخصبة.
وبهذا المعنى، فإن الإنسان السياسي أو الإنسان الاقتصادي سوف يخلي المكان أكثر فأكثر، للأحسن وللأسوأ، لإنسان جمالي. والحال أن هذا الإنسان الجمالي سوف يشكل نفسه بالاستناد إلى العواطف المشتركة. وفي القدرات على تفعيل العاطفي والانفعالي تحديداً، سوف يتعين علينا من الآن أن نفكر في هذا الإنسان الجمالي، ركيزة ما أسميه بالقبلية.

مراجع









الوساطة. وسطاء (×)
جان ـ فرانسوا سيز
JEAN-FRANÇOIS SIX

استولت كلمةٌ على السنوات العشر الأخيرة: «الوساطة». وقد تشظت هذه الكلمة وتذررت، حرفياً: فقد جرى استخدامها والتذرع بها في قطاعات جد مختلفة. فهناك «وساطة» جزائية، عائلية، قضائية، ثقافية وثقافية متبادلة، اجتماعية، الخ. والوسطاء موجودون في المحاكم، وفي البنايات والأحياء، والمشاريع الاستثمارية والبنوك، وشركات التأمين والتعليم القومي، والمستشفيات والأبرشيات والصحف، الخ. فلنحاول، فيما يتعلق بالوساطات المتعددة ذات الأهمية، أن نعثر على خيطٍ هادٍ يسمح بالتمييز فيما بينها.

مقاربة وصفية
للاضطلاع بمهمة التمييز هذه، سوف أتقدم بحذر. وبالإمكان التمييز بين شكلين رئيسيين للوساطة: «الوساطة – البيت» و«الوساطة – البستان».

«الوساطة ـ البيت»
يُبنى البيت من مادة صلبة، لأجل استخدامات متباينة، وذلك بحسب مشيئةٍ توجيهية تُعَيِّنُ له غاية محدَّدة؛ وهكذا فإن البيت المعني قد يكون سكناً خاصاً أو مكتباً. و«الوساطات – البيت» تُؤَسَّسُ من أعلى؛ ولها بيت تتخذه مقراً لها؛ ولها وظائف تقوم بها، كما أن لها وجهةً محدَّدة جيداً.
فالجمهورية، على سبيل المثال، قد قررت منذ ما يزيد قليلاً عن ربع قرن بناء «بيت – وساطة»؛ ويمكن للمرء أن يقرأ على لوحته المعدنية: «وسيط الجمهورية». وهو بيت مهمته استقبال أولئك الذين وقعوا في نزاع مع بيت آخر، هو الإدارة، سواء لأنها قد أساءت استقبالهم أو أحبطتهم. وعلى أثر ذلك، فإن مؤسسات أخرى، عامة وخاصة، قد أقامت بيوت وساطة تخصها، كالبنوك وشركات التأمين وهيئة البريد والشركة القومية للسكك الحديدية الفرنسية والبلديات والأسقفيات وقنوات التليفزيون والصحف.
وهذه البيوت تابعة لمن أنشأها. فلو أخذنا على سبيل المثال «الوسيط» الذي نَصَّبَتْهُ القناةُ الفرنسيةُ الثانية، فسوف نجد أنه جد مرتبط بالقناة الفرنسية الثانية، فهي قناته؛ وحتى إذا كان يعلن استقلاله أمام المشاهدين، فإن القناة الفرنسية الثانية هي التي تدفع له راتبه.
وهدف هذه المواقع التي أقامتها المؤسسات هو إقامة أو استعادة الاتصال فيما بين المؤسسة ومن يتعاملون معها. فعندما اغتالت الشركة القومية للسكك الحديدية الفرنسية سقراط، على المستوى المعلوماتي أعني، مما أدى إلى صرف زبائنها عنها، تداركت الأمر وأنشأت بيت وسطاء لإعادة الأمور إلى سواء السبيل.
وقد جرى إنشاء هذه البيوت لتلبية حاجات القضية ولإرضاء الزبائن الذين خسرتهم المؤسسات ولرفع لافتة براقة أو لرفع الشأن ولتقديم «خدمة» إلى من يلجأون إلى مؤسسة من المؤسسات. وتلك هي حالة الجمعيات الكبرى التي تريد تقديم «خدمة» إلى أعضائها – فالاتحاد القومي للجمعيات العائلية مثلاً يقدم للعائلات «خدمات وساطة وتوفيق وإصلاح لذات البين» - لكنها أيضاً حال الجمعيات الصغيرة التي تنهمك في مثل هذا النشاط بما يؤدي إلى إنجابها، هي أيضاً، للعديد من بيوت الوساطة الصغيرة.
ومن المفروض في هذه البيوت أن تلبي عدداً من الحاجات: فعبر شبكة المصاعب الراهنة المعقدة، يحتاج كثيرون إلى التوجه إلى بيوت من هذا النوع، وذلك بهدف العثور على المعلومات أو المساندات الضرورية. وبما أن كل شيء يزداد تعقيداً، فإن هذه البيوت إنما تنمو كنبات الفطر. وقبل دخول بيـوت الوساطـة هـذه، يجب أن نعرف إلى من تنتمي: فبيت الوساطة هذا قد يكون تحت رعاية حزب سياسي متطرف، وهذا البيت الآخر قد يكون تحت رعاية شيعة من الشيع. ثم إن أسعارها المتباينة، تكون مجانية عند البعض وباهظة عند البعض الآخر. وبيوت الوساطة هذه تحذو حذو عصرنا وحذو انفجار وتكاثـر الخدمـات: بل إنها أحياناً ما تكون متحركة؛ ومثال ذلك مدرسة الآباء التي أقامت، بالاشتراك مع مدينة باريس، خدمة وساطة عائلية عبر التليفون.

«الوساطة – البستان»
إلى جانب الوساطات – البيوت، يوجد شكل آخر أكثر تكتماً بكثير، هو شكل «الوساطة –البستان». وبالمقارنة مع الوساطة – البيت، فإننا بازاء وساطة ليس لها أي مبنى، فهي مكان مفتوح، لا باب له ولا نوافذ، ومفتوح للكافة: فهي لا تعرف نطاقاً مضروباً حولها ولا مجال لإغلاقها. والحال أن الوساطة – البيت الناشئة عن مؤسسة إنما تعد بالضرورة سلطة: سلطة تحديد موعد للقاء مع من يطلب مثل هذا اللقاء، وسلطة تقديم العون إلى من هو في حاجة إلى مثل هذا العون ويطلبه؛ ويرعى هذه الوساطة وسطاء مستعدون لتجنيبك المخاطر ولسد ما لديك من قصور. أمَّا الوساطة – البستان فهي بلا أية سلطة؛ فهي وساطة تتم في لقاء يتميز بالندية، حيث يمكن للمرء عقد الصلات التي قد يتمنى المرء تنميتها أو وقفها، متقاسماً مع الآخر مشاهد وأحداث ساحة الحياة في المجتمع، متحدثاً معه عن بستانه الشخصي. فليس هناك، هذه المرة، من يقوم بالعمل نيابة عنك، وكأنه مساعد غيور على مصالحك: فكل طرف يلتقي بالطرف الآخر في هذه الوساطة وبيد كل منهما معزقته ومدمَّته، على بساط الأرض، أي على مستوى واقع يومي واحد.
وهذا الموقف غير مألوف وغير لائق بالنسبة لكثيرين من معاصرينا الذين استقروا على أسلوب تقديم المساعدة المجرَّب. فالوساطة - البيت أسهل لأنها تستعيد، دون أن تجدِّد، تلك الأساليب الثنائية الخاصة بالعرض والطلب. وهي أساليب، يجب أن نكرر ذلك، قادرة على تقديم وعلى مواصلة تقديم خدمات عديدة. أَمَّا في الوساطة – البستان، فإن المرء لا يمكنه أن يكون سلبياً، إذ يجب على الطرفين دخولها معاً، بموقف نشيط وإيجابي.
موقف إيجابي وفي الوقت نفسه مستريح وهادئ: فالمرء يتنزه، في بستان، والحديث هناك حديث بين أصدقاء؛ ولا يسعني، هنا، أن أمنع نفسي عن تذكر أولئك الفلاسفة القدماء الذين كانوا يناقشون أمور الفلسفة في بستان على مشارف أثينا. أولئك الفلاسفة الذين انتموا إلى مدرسة أرسطو والذين كانوا يسمون بـ«المشَّائين» (أتمشَّى: pateo). وقبل هؤلاء كان هناك منافسوهم المنتمون إلى المدرسة الأفلاطونية المسماة بـ«الأكاديمية» والمستقرون في داخل المدينة.
وأن يكون المرء «وسيطاً»، وينتظر في داخل مكتب – في حمى المؤسسات – طالبي الوساطة، فهذا شيء. وشيء آخر أن يكون المرء في الهواء الطلق وأن يمتزج بالجميع وبكل واحد، وينصت إلى ما يحدث ويلاحظه، ويستكشف الواقع من حوله، ويتحدث مع البعض ومع البعض الآخر، في وساطة مشتركة.
والحال أننا بازاء شكلين ونوعين وبنيتين وأسلوبين مختلفين.

مقاربة فينومينولوجية
ما يهمنا هنا هو التساؤل عن غاية كل من التيارين، عن الهدف الذي يسعى إليه كل منهما.

الوساطة – النزاع
التيار الذي وصفناه في الوساطة – البيت يهدف إلى إيجاد حلولٍ لنزاع من النزاعات. وهذا على جميع المستويات: النزاع بين الدول، بين زوجين، أو في أحد الأحياء أو في مشروع استثماري. وعندئذ فسوف يتعلق الأمر بتطبيق أساليب لإزالة النزاع الناشئ. ويمكن مقارنة الوسطاء المنتمين إلى هذا التيار بالأطباء الذي يكافحون المرض بالأساليب الملائمة أو أيضاً برجال إطفاء يجتهدون في إطفاء الحرائق المتمثلة في النزاعات.
وفي هذا التيار، فإن النزاع، السيئ في حد ذاته، هو الذي يشغل المكانة المركزية وهو ما يجب العمل على ملاشاته. وعندئذ فسوف يكون الوسطاء من هذا النوع ملائكة تقضي على النزاع، هدفها استعادة الفردوس المفقود، والانسجام الأصلي الذي عكَّره النزاع.
وتقترح عدة مراكز للوسطاء أساليب تقانية لمحو النزاع. فغرفة التجارة والصناعة بباريس مزودة بمركز للوساطة وللتحكيم يسعى إلى معالجة «المنازعات فيما بين المشاريع الاستثمارية». فما هي أداة هذه الوساطة ؟ إنها المفاوضات، سعياً إلى التصدي للمنازعات بكفاءة أفضل وسعياً، بالأخص، إلى ملاشاتها على نحو أفضل.
وهذا التيار – ما يسمى بـ «الوساطة المؤسسية» - إنما تتركز وجهته على حسم النزاع. وسواء أكنا بازاء غرفة التجارة والصناعة تلك أم بازاء وسيط الجمهورية، فإن الهدف واحد: إنهم يقدمون العون والمساعدة في حالة النزاع، فهم«خالقون للحلول». وتلك مهمة لا ينقصها أن تكون جد نافعة في عالمنا الذي هو ساحة نزاعات بشكل متزايد باطراد. «الطلب – تلبية الطلب»، «النزاع – حل النزاع»: إن الوسطاء إنما يقومون هنا بعمل ثنائي صارم.

«الوساطة – اللقاء»
الهدف الذي تسعى إليه الوساطة غير المؤسسية هو اللقاء. أي توفير «الإحساس بالآخرين». وفي هذه الوساطة، ليس هناك «وسيط»، بالمعنى الدقيق للمصطلح. فذلك الذي نخاطبه بوصفه وسيطاً سوف يرد: « أنا لست وسيطاً. فأنا لا أملك حلاً أقترحه عليك وليست لديَّ نصائح أقدمها لك؛ فأنا لست مستشاراً. ولستُ «عليماً بواطن الأمور» ». وهناك، بالنسبة لنا جميعاً، أسلوبان لمواجهة مشكلة من المشاكل: ويتألف الأسلوب الأول من حل المشكلة حلاً تقانياً، بالاعتماد على خبير في الموضوع، هو الوسيط الفني، الثنائي؛ وفي كثير من الحالات، يتعين اللجوء إلى هذا الفني. أمَّا الأسلوب الثاني فهو مختلف تماماً: فعندما أتحدث إلى شخص ما، شخص ما لن أنظر إليه باعتباره فنياً بل باعتباره صديقاً، شخصاً أتحدث معه بندية، فإنه لن يعطيني نصائح، حتى ولو كانت حكيمة. وهو لن يحكم عليَّ، ولن يعطيني درساً في الأخلاق؛ بل سوف ينصت إليَّ وسوف يطرح من آن لآخر، كصديق، سؤالاً؛ والحال أن اللقاء الذي سوف نجريه سوف يكون، في حد ذاته، عاملاً في تحريك مواجهتي للمشكلة. وهكذا فإننا سوف نحيا سوياً تجربة توفيق، فيتلقى كل منا من الآخر ونتغذى على ما سوف نتقاسمه وعلى الثقة المتبادلة التي يمنحها أحدنا للآخر. وحتى إذا كان هذا الشخص أو هذا الفريق قد جاء على وجه الحصر للنظر في نزاع، فإنه لن يكون قد ضيع وقته: فمن شأن اللقاء أن يساعده على قياس هذا النزاع قياساً أفضل وعلى أخذ مسافة كافية تسمح له بالرؤية الموضوعية للأمور وعلى أن يدرك بشكل أفضل الإمكانيات الإبداعية التي يمكن استخلاصها من النزاع نفسه. وعندئذ تكون الوساطة رهاناً على الكلام، على المحادثة التي تؤتي هي نفسها ثمارها، رهاناً على تبادل للحديث يوافق عليه الناس بحرية وبسخاء روحي.
أَمَّا إذا كنتُ وسيطاً أو إذا ما اعتبرت نفسي وسيطاً، فإنني إنما أضع نفسي إلى حدِّ ما فوق الآخر أو بشكل أعلى؛ ويساورني إغراء تقديم أفكاري وتحويل الآخر إلى تبني وجهة نظري، والعمل على دفع الأمور إلى الأمام بأسرع ما يمكن حتى يتسنى الوصول أخيراً إلى ضفة الحل. لكننا، في وساطة مع هذا الشخص، إنما نتحدث ونتبادل الآراء ونستفيد بشكل متبادل من اللقاء في حد ذاته، وهو لقاء قد لا يسفر عن حل لكنه ينشئ أواصر إنسانية.
وبوسع كل واحد منّا معايشة هذه الوساطة في كل مكان: في الأسرة وفي العمل وفي الحي وفي جمعية من الجمعيات، بحسب الأحداث اليومية. والحال أن هذا اللقاء الذي لا يتميز بأية علاقة قوة مع الآخر هو لقاء سخي، ومصدر فرحة وبهجة.


الثنائي والثلاثي
اللقـاء، الوساطـة، يسعـــى إلـى الندية، ندية قائمة بين أصدقاء أو بيـن مواطنين.
وهذا لا يحدث من تلقاء نفسه. فعالمنا مبني، مبني بالدرجة الأولى على القاعدة الثنائية، قاعدة «السادة والمسودين»؛ مع كل ما تنطوي عليه هذه الوضعية من استراتيجيات هادفة إلى اختزال أو إلى إزالة الآخر، في نسيان لواقع أن بوسع المرء الاستفادة حقاً من آصرة سخية مع الآخر. والحال أن المتمسكين بعلاقة ثنائية خالصة من هذا النوع، والذين لا يرون، غالباً، إلاَّ ما يقع في دائرة بصرهم المحدودة، لا يحبون الطرف الثالث الذي هو بالنسبة لهم، بحكم طبيعته، مصدر إزعاج. وأنصار القطبين هؤلاء، كالوسطاء مثلاً، لا يحبون الوساطة وإصلاح ذات البين. وهذه ليست مفارقة، بل هي معاينة لواقع الأمور.
والحال أن الشغف غير العادي بكلمة «الوساطة»، إنما يجد ترجمة له في تفريخ وسطاء عديدين، وهو ما يصدر في أغلب الأوقات عن شعور طيب: تقديم المساعدة، تزويد الآخر بحل لمنازعاته، الانكباب على دراسة مشكلاته؛ فكل هذا نبيل، وإن كان يتميز أحياناً بما سماه أحد الفلاسفة بـ«إغراء فعل الخير». لكنه يصدر أحياناً عن هدف آخر: إذ يحدث أننا نخلق بصورة مصطنعة حاجات أو مشكلات لكي يتسنى لنا الرد عليها بشكل مصلحي؛ ويحدث أن بعض الوسطاء ليسوا غير فاعلين خبثاء يتاجرون بكل شيء وبأي شيء.

أسس تاريخية
الوسطاء يتبنون مفهوماً ثنائياً. أَمَّا الوساطة فهي ثلاثية بشكل جذري. فكيف نفهم الوساطة في جوهرها نفسه، البعد الثالث، تلك الوساطة التي هي شاملة، والموجودة والتي تسعى إلى الوجود في كل الأمكنة والأزمنة ؟ لكي أجيب عن هذا السؤال، أود أن ألجأ إلى فلاسفة يبدون بعيدين لكنهم يبدون أيضاً قادرين على التعبير عن الوساطة وعلى شرحها.

الطاوية
نحن الغربيين نفسر علامة الـ Yin وعلامة الـ Yang على أنهما الأسود والأبيض، دون أن نـدرك أنـه، بالنسبـة للطاوي، يوجَد، بين الـ Yin والـ Yang مكان يسمح لهما بالتمفصل أحدهما مع الآخر، وبمعايشة أحدهما للآخر. وقد عبر عن ذلك المفكر الصيني فرانسوا شينج في مقال نشر في صحيفة ليبراسيون (31 ديسمبر/ كانون الأول 1999): «كل فكر حقيقي متفاعل. فهذا هو ما يولد من منطق الواحد أو الاثنين. وهناك شأن كبير للثالث الذي حاز بعض الصينيين القدماء حدساً سمح لهم بتسميته بنَفَس الفراغ-الأوسط، وهو النَفَس الذي يسمح بتقاطع متناغم، ممكن جداً، بين الـ Yin والـ Yang ؛ فهو النَفَس الذي يربط فيما بين الأشياء الحية وينقلها دوماً إلى أبعد مما هي عليه.». نحن هنا إذاً بازاء دينامية، حركية، وبازاء تجاوز.
والوساطة هي الثلاثة: فهي الـ Yin والـ Yang و«نَفَس الفراغ-الأوسط» معاً. فبين كائنين يلتقيان ويرتبطان معاً بشكل أو بآخر، هناك بالضبط الآصرة، «الفراغ – الأوسط»، التي تنشأ بينهما، وقد تكون صداقة أو حباً، شيئاً مشتركاً بينهما ولا ينتمي لأي من الاثنين، هو العلاقة فيما بينهما. وحتى بالنسبة لخصمين متواجهين، فإن علاقة تنشأ فيما بينهما، فالنزاع نفسه قائم، واقعي، كتوتر قد يكون بنَّاءً ومساعداً على حدوث تحول. ويقول فرانسوا شينج: «علاوة على الكائنين في ذاتهما ومنفصلين، فإن هناك ما ينبثق بينهما، ما يجرهما إلى الصيرورة والتحول». ولابدَّ من الاعتماد على «ما بين» الاثنين، أي على «الثالث القادر على السمو بالاثنين دون أن يقضي عليهما».
وما يكمن في صميم هذه الحكمة هو الشيء الجوهري في الوساطة والتوفيق: انتفاء السلطة؛ وما تسميه الطاوية بـ«انتفاء الفعل»، الـ wu-wei، لا يتميز بأي سكون أو بأية سلبية؛ فهو فعل أرقى، هو فعل ترك الأمور تنمو وتنضج بدلاً من الرد بسرعة وفوراً وبدلاً من إقامة حاجز عبر نوع من الروح النشاطية أو تحطيم الأمور عبر نوع من الروح التدخلية.

في الغرب
فلسفة العلاقة هذه جرى صوغها منذ وقت مبكر في الغرب. ويجب التذكير بأرسطو وبتحليله للصداقة(×)؛ فهو يميز، من زاوية الغايات، ثلاثة أشكال للصداقة، بحسب ما إذا كان المرء يسعى إلى المصلحة أو إلى المتعة أو إلى الفضيلة. والشيء المشترك فيما بين هذه الأشكال هو أنها تميل ثلاثتها كلها إلى الندية فيما بين من يمارسونها. لكن الشكل الثالث هو ما يهمنا هنا – ومن الواضح أننا بازاء علاقة أخلاقية: فالأصدقاء يتعرفون على أنفسهم، في داخل هذه العلاقة، كأشباه، لأنهم يسعون معاً إلى خير مشترك؛ إنهم يتعرفون على أنفسهم في ندية وفي تبادلية في السعي إلى الأفضل.
ويرى أرسطو أن هذه العلاقة لا تتميز بطابع خاص خالص، فقد قال أن الصداقة هي «الآصرة الاجتماعية التي يولي لها المشرعون قيمة أعلى من قيمة العدالة نفسها»(××). وإذا كانت العدالة تتألف من إعطاء كل واحد ما يستحقه، فإن الصداقة إنما تؤدي إلى تمكين المرء من التخلي عما يستحقه. وهكذا رأى أرسطو في الصداقة صميم الآصرة الاجتماعية.
وهذه الفلسفة عن الطرف «الثالث»، أي عن العلاقة، موجودة اليوم في الغرب. وإذا كان لابد من ذكر أسماء، فلنذكر هوسرل أو مارتن بوبر، الذي يميز العلاقة فيما بين الأشخاص تمييزاً بالغ الوضوح عن العلاقة بين الذات والموضوع، أو لنذكر جابرييل مارسيل، الذي يُعَرِّفُ الحبَّ بأنه «مساءلة متقدة وتبادلية»، أو لنذكر تلميذه بول ريكور. ففلاسفة العلاقة هؤلاء إنما يستجيبون استجابة جد خاصة فيما يتصل بـ«نزع تشيؤ» الكائن الإنساني الغارق في منظومة تقانية–علمية-اقتصادية ذات قوانين تفلت إلى حد بعيد من سيطرة الإنسان.
فعلى أي شيء يشددون ؟ على أن العلاقة بين الأفراد تُنشئ أواصر لها قوامها الخاص، قيمتها الخاصة، الناشئة عن تصور وعن تاريخ. ومن شأن الانتهاك، أياً كان، نفسياً أم جسدياً، أن يُدخل وقفاً للاستمرارية، أن يُدخل قطيعة في العلاقة؛ فهو يحطم الشيء الذي هو، في الإنسان، أكثر الأشياء فرادة وأكثرها عموميةً. فإذا ما حدث انتهاك في العلاقة بين أب وابنته، فإن ما يصاب هو علاقتهما الفريدة، وهو، في الوقت نفسه، علاقة الأبوة والبنوة العامة. وبالمثل، فإن ما يصاب في خيانة الصداقة هو المابين، علاقة «المابين»، بين واحد وآخر. وهي إصابات تحدث من جرَّاءِ إرادةٍ تبدو، من طرفٍ واحد، كلية الجبروت، وتستخدم القوة، القوة التي، كما تقول سيمون فيل، «تحوِّل كل ما هو إنساني إلى شيء».
وهذه الفلسفة عن العلاقة هي «ما بين»: فهنا لا نتحدث عن علاقة «حيال»: حيال الذات أو حيال الآخر، وإنما عن علاقةٍ «بين»: بين كائنات فريدة دوماً ومختلفة دوماً أحدها عن الآخر. فالناس يكتسبون فرادتهم واختلافهم عبر علاقتهم، عبر علاقتهم نفسها؛ وكل علاقة حقيقية هي مصدر للهوية ومراعاة لها.
وليست المسألة مسألة علاقات خارجية ومجردة بين أفرادٍ كل منهم متشبث بموقفه، أفرادٍ طافحين على أنفسهم وكاملين في أنفسهم، بل هي أواصر تنشأ على الفور بين أفراد، أواصر تنعقد عبر مسار الحياة وأفعالها، عبر الزمن، كأواصر المواطنة مثلاً: وهذه الفلسفة عن العلاقة ليست أولاً أو بشكل وحيد فلسفة فردية تبادلية، بل هي فلسفة سياسية. وعلى المؤسسات السياسية أن تتحمل المسئولية وأن تدافع عن الحرية والمساواة الضروريتين لهذه العلاقة.
وكما كتب إيمانويل ليفيناس: «تبدأ الذات من علاقتها، من واجبها حيال الآخر […]. الآخر الذي هو غريب عنك ومحايد، الذي لا ينتمي لا إلى طبيعة اهتماماتك ولا إلى طبيعة عواطفك، ومع ذلك يراعيك. إن آخريته تهمك. والعلاقة من نوع مختلف عن المعرفة التي تقتحم فيها الدرايةُ الشيء، وهو النوع الـذي يجـري اعتباره النمط الوحيد للعلاقة مع الكائنات»(×). والحال أن الكلام هـو مخاطبـة للآخـر، ومناشـدة له، وبوح له؛ فاللغة آصرة اللقاء مع الآخر.
و«الثالث» [أي العلاقة] صعب؛ ذلك أن الانفتاح على الآخر، على الحدث غير المتوقع، هو مهمة، هي مهمة التوفيق، وهي مهمة يتعين دوماً معاودتها، بشغف وبحماسة يتعين متابعتها ومواصلتها على مدار حياة المرء.
هناك إذاً، من جهة، وسطاء، وهناك، من جهة أخرى، الوساطة، ثقافة ثنائية وثقافة أخرى تماماً، ثلاثية. وقد أشار مفكرون مثل د. ر. ديفور إلى عدم إمكان اختزال هاتين الثقافتين، إلى معركتهما المتصلة التي لا تلين. لكن هذه المعركة بالتحديد يمكنها تعزيز وتشذيب هوية كل من الفريقين، هوية كل في دوره الخاص.

أيَّ مستقبل للوساطة وللوسطاء ؟
وسطاء
لا يتطلب الأمر أن يكون المرء كاتباً جهبذا لكي يعلن أنه سوف يكون هناك المزيد والمزيد من الوسطاء وذلك في جميع قطاعات المجتمع؛ بل وسوف يكون هناك، بفضل الإنترنت، وسطاء-آلات سوف يردون على كل مشكلة. وسوف ينتظم هؤلاء الوسطاء في طوائف هدفها تتبع النزاعات الخاصة في كل قطاع، بأساليب فنية خاصة. وهذه الروح الكوربوراتية [الطائفية] موجودة بالفعل. وإحدى الخصائص الأكثر تمييزاً لها هي تجمع الوسطاء العائليين من خلال اللجنة القومية لجمعيات وخدمات الوساطة العائلية؛ وهي لجنة لها موقعها على الإنترنت ولها مجلة تحمل عنوان لو ميدياتور فاميليال [الوسيط العائلي]. وهذه اللجنة تُعَرِّفُ مهمتها بالاختصاص في المنازعات العائلية وهدفها هو حلها. فهل سوف تنجح هذه الطائفة في العمل على نيل اعترافٍ بمهنة الوسيط العائلي من جانب السلطات العامة التي تبدو الآن جد متحفظة تجاه مثل هذا الاعتراف ؟
فما الذي سوف تكون عليه، في المجتمع، وظيفة هؤلاء الوسطاء الذين اكتسبوا قواماً وطابعاً مؤسسياً ؟ يسعى كتاب صدر مؤخراً تحت عنوان الوساطة، الوسطاء(×) إلى الإجابة عن هذا السؤال. ويمهد للكتاب رائد لتيار «الوساطة-النزاع»، هو ايبير توزار، الذي يعرِّفُ الوساطة بأنها «إجراء». وخاتمة الكتاب، غير الموقَّعة، إنما تتمحور حول النزاع. وهي متشائمة جداً بشكل غريب فيما يتعلق بمصير الوسطاء، الذين يجري تعريفهم بأنهم لا يملكون ثقلاً حقيقياً للعثور على «حلول لمشكلات اليوم»، وهي حلول «لا تتوقف في الواقع على الأشخاص بقدر ما تتوقف على النُظُم». فما هو موقع الوسطاء، في هذه الظروف؟: «بوسعهم أن يؤدوا وظيفة نذير اجتماعي وناقل لمقترحات تتعلق بإدخال تغييرات على النظم»(××).
لكن الوساطة إنما تجد لها تعريفاً آخر مختلفاً، في هذا الكتاب، من جانب كاتبين، هما ج. سالزيه وج. ب. فوش: «حيال التأزم الاقتصادي والاجتماعي، تبدو الوساطة كمهدئ. وبالإمكان استخدامها كمهدئ مخدِّر، يُبقى على وجوه خلل المجتمع الحالي بجعلها محتملة. إلاَّ أن بالإمكان استخدامها كمهدئٍ حافزٍ وذلك بخلق دينامية حياة أفضل للجميع(×××)». والحال أن الوساطة المعرَّفة بأنها «مهدئ» هي فكرة تجري استعادتها في الخاتمة: «هل سنخدع الجماعات السكانية عن طريق الوساطة البنجية بإعطائها وهم سلطة معطاة على مستوى بالغ المحدودية ؟»(××××). والواقع أن ما يزعج هؤلاء الكتاب هو، بشكل واضح، غياب السلطة الفعلية للوسطاء، وهي سلطة يريدون امتلاكها، بل ويسعون إلى نيلها من جانب السلطات العامة عبر الفوز بثقة هذه السلطات. ولا يمكننا أن نرى كيف يمكن لهذه الوساطة «البنجية» أن تؤدي إلى «حياة أفضل للجميع». اللهم إلاَّ إذا كانت هذه الحياة الأفضل سُباتاً هائلاً يؤدي إلى هدوء المجتمع وهدوء البيوت والشوارع والمكاتب والورش.
ومن حسن الحظ أن وسطاء آخرين إنما يسعون إلى هدف آخر؛ وإذا كان هذا الهدف ثنائياً، وإذا كان لا يبتكر جديداً بالفعل، وإذا كان يتألف، في نهاية المطاف، من شكل جديد للمساعدة الاجتماعية بالمعنى الواسع، إلاَّ أنه له على الأقل فائدته ونبله، كما أنه لا يختزل الوساطة إلى مجرد جرعة أفيون للشعب.
الوساطة
رأينا أن الوساطة، من حيث كونها وساطة بالفعل، إنما تسعى إلى الثلاثي، كهدف لها. وفي هذا الباب، ليست المسألة مسألة نظر إلى الكائنات والأحداث على أنها إما سوداء أو بيضاء. فالثلاثي مختلف عن ثنائي «اعرف نفسك بنفسك» حيث يبقى المرء في زجاجة مقفلة، في سكون تكراري. ذلك أن الثلاثي يطلب الخروج إلى الخارج، يطلب الوجود الفعلي في العالم، والدخول في الحياة وترك الحياة تستولي على المرء، والجرأة على مواجهة الواقع والجرأة على تحمل المرء للمساس به، أكان مساساً من جانب زرقة السماء أم انفصالاً أم إهانة أم كلمة حب. العيش بكثافة، إثمار هذه الآصرة، هذه العلاقة التي تتمثل في الوجود مع كائن أو مع فريق تقابله، في مشهد جديد أو حتى في نزاع.
وبوسعنا الأمل في أن هذه الوساطة سوف تشق طريقها في عام 2025، وأنها سوف تصمد للوسطاء وتقاومهم. أولئك الوسطاء الذين لن ينجحوا في التغلب عليها، حتى وإن اجتهدوا في الإيحاء بأنهم قادرون على الرد على جميع الأسئلة، وعلى تخفيف جميع الأوجاع، وملء الفراغ وسد الصدع الفاغر اللذين أصبحا من أقدارنا.
فالوساطة «وجود-مع-الآخر» و«وجود-من أجل-الآخر». وبهذه الصفة، بهذه الصفة وحدها، سوف يكون بوسعها أن توجد حقاً في عام 2025. وهو ما يعني أنها لا يمكن، أنها لا يجب أن تُدْرَجَ في إطار من اللوائح ومن القوانين. وأن تقوم مؤسسات، لتلبية حاجات ملحة، بتنظيم وسطائها، أجهزة وسطائها، كتائب وسطائها، فإن ذلك إنما يرجع إلى مهمتها، الثنائية. لكن الوساطة شيء آخر.
أي شيء ؟ الإخاء. فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والصادر في عام 1948 يؤكد، بدءًا من مادته الأولى، أن «جميع البشر يولدون أحراراً ومتساوين في الكرامة وفي الحقوق» ـ وهنا نكون في الثنائي، مجال العدالة، مجال القوانين التي يجب عليها العمل على مراعاة هذه الكرامة وهذه الحقوق. لكن الإعلان يضيف: «إنهم [البشر] يجب أن يسلكوا بعضهم حيال بعض في روح الإخاء». وهنا نكون بازاء هدف أخلاقي، واجب أخلاقي: «إنهم يجب». ولا يمكن استبعاد أحد من ذلك: «جميع البشر». وهذا السلوك، هذه «الممارسة»، هي واجب وهي مسلك يجب إنجازه في تبادلية متواصلة، فالإعلان يقول: «بعضهم حيال بعض».
والإعلان يضع الإخاء في مكانه بالضبط: بعد الحرية والمساواة. وكان ليون بلوم قد قال في عام 1945: «إنه [الإخاء] يترتب عليهما. إذ لا يمكن أن يوجد إخاء إلاَّ بين بشر أحرار ومتساوين». والوساطة إخاء إيجابي؛ فهي تتطلب أن نعمل أولاً من أجل الحرية ومن أجل المساواة، ويجب أَلاَّ ننسى ذلك، وإلاَّ فإننا سوف نجعل من الإخاء، من الوساطة، موقعاً للمُثل العليا الجميلة وللمشاعر الطيبة وخواءً.
والحال أن تحقيق الإخاء، الوساطة، بشكل ملموس إنما يعد مهمة ضخمة. ويقول لنا ليفيناس أن «الإخاء الحقيقي هو الإخاء بحكم أن الآخر يهمني؛ وهو أخ لي من حيث كونه غريباً»(×). والآخر آخر، وأنا مسئول عنه في غرابته ذاتها؛ ونحن لن نكون شيئاً واحداً، نسخاً مكررة، ولذا فأنا لست مسئولاً عنه لأنه يشبهني وإنما لأننا آخرون أحدنا بالنسبة إلى الآخر. ويتحدث ليفيناس عن لقاء «الواحد بالآخر»، عن آصرة حية ويعِّرفُ الإخاء بأنه «ترفق فردي من جانب الإنسان تجاه الإنسان». وعن هذه الآصرة بالإنسان الآخر، يقول ليفيناس أنها مجازفة جميلة تستحق الإقدام عليها. فدون «الفعل التواصلي»، دون الترفق، دون الآصرة، دون الثقة المتبادلة، دون الضيافة المتبادلة، من الوارد لقلب الإنسانية، في عام 2025 أو قبل ذلك، أن يصبح رسم قلب كهربائياً مسطحاً بشكل متزايد باطراد، أن يصبح عالماً من بعدين محدَّداً تحديداً تقانياً دقيقاً. وحيال هذا الخطر يكمن رهان الوساطة، البُعد الثالث. وهذا يتوقف على تحملنا للمسئولية، يتوقف علينا كلّنا: فالوساطة بين أيدينا.




الهوية والعولمة (×)
زيجمونت باومان
ZYGMUNT BAUMAN


في تقديم لمجلدٍ يتضمن مجموعة من الدراسات نشر في عام 1996، لاحظ ستيوارت هول: «حدث انفجار خطابي حقيقي في هذه الأعوام الأخيرة حول مفهوم الهوية»(××). وقد مرت عدة سنوات منذ هذه الملاحظة ودشن الانفجار سيلاً حقيقياً. فأي جانب آخر من جوانب الحياة المعاصرة لا يستثير مثل هذا القدر من الاهتمام من جانب الفلاسفة والمتخصصين في العلوم الإنسانية وعلماء النفس. وقد أصبحت «الهوية» موشوراً يتم من خلاله فهم وفحص الجوانب الأخرى للحياة الاجتماعية. وهكذا فإن المناقشة حول العدالة والمساواة إنما تميل إلى أن تُخاض من زاوية «الاعتراف» بالهوية؛ ويجري الحديث عن الثقافة من زاوية هويات مختلفة لها طابعها الهجين والخلاسي –في حين أن السيرورة السياسية يجري التنظير لها هي أيضاً في الأغلب حول محور مشكلات حقوق الإنسان (الحق في هوية منفصلة) وسياسات الحياة (بناء الهوية والتفاوض عليها وتأكيدها).
ونحن نعرف منذ هيجل أن بومة مينرفا تميل عند هبوط الليل إلى نشر جناحيها باحتراس: فالحكمة تجئ في آخر النهار، عندما تكون الشمس قد غربت ولا يعود من السهولة بمكان رؤية الأشياء. فالمرء لا يرى ما هو مرئي بجلاء، كما أنه لا ينتبه إلى ما هو موجود وماثل دائماً – بل إنه ينتبه إلى الأشياء بمجرد إختفائها. وبحسب الخلاصة القصيرة التي قدمها آرلاند آشِر، فإن «العالم من حيث كونه عالماً لا يتكشف لي إلاَّ عندما تسوء الأمور»(×).
والحال أن اكتشاف أن الأشياء لا تحتفظ بشكلها إلى ما لا نهاية وأنها قد تكون مختلفة عما كانته للتو إنما يُعَدُّ بالفعل تجربة ملتبسة. وانعدام إمكانية التوقع يستتبع الكرب والخوف: وإذا كان العالم مليئاً بالحوادث وبالمفاجآت، فإن المرء لا يجب له البتة أن يخفف يقظته وحذره. لكن طابع الأشياء غير المستقر والهش والمرن قد يساعد أيضاً على إيقاظ الطموح والعزيمة: فبما أن أي حكم من أحكام الطبيعة ليس دائماً أو غير قابل للإلغاء، فإن بوسع المرء أن يحلم بحياة مختلفة، أكثر إشباعاً وأكثر إرضاءً. وإذا ما وثق المرء علاوة على ذلك بقوة تفكيره وبقوة عضلاته، فإن بوسعه العمل والتصرف بما يتماشى مع متطلبات تحقيق هذه الأحلام، بل قد يكون بوسعه تحقيقها في الواقع. وقد أشار آلان بيرفيت إلى أن الحركية الملحوظة، غير المسبوقة والفريدة، التي يتميز بها مجتمعنا الرأسمالي الحديث، شأنها في ذلك شأن جميع أشكال التقدم المثيرة التي أحرزتها الحضارة الغربية في هذين القرنين أو القرون الثلاثة الأخيرة، من شأنها أن تكون مستحيلة لولا مثل هذه الثقة: الثقة الثلاثية بالذات وبالآخرين وبالمؤسسات الاجتماعية المعمرة التي يمكن للمرء أن يدرج فيها مشروعاته وأفعاله في الأمد الطويل(××).
والواقع أن الارتباك والإقدام، والخوف والشجاعة، واليأس والأمل، إنما تولد معاً، لكن حجم كل منها إنما يتوقف على الإمكانات التي نتمتع بها. فأولئك الذين يملكون سفناً قوية وجبارة إنما يرون البحر باعتباره ساحة للمغامرات المثيرة للحمية؛ وأولئك المحكوم عليهم بالابحار على زوارق صغيرة خطرة إنما يؤثرون البقاء في مأمن. والمخاوف والمباهج الناجمة عن عدم استقرار الأمور إنما تُعَدُّ موزعة بشكل جد متفاوت.
والحال أن الحداثة، بتحريكها العالم، قد أثبتت هشاشة الأشياء وانعدام استقرارها وفتحت على أوسع نطاق إمكانية إصلاحها وكذلك الحاجة إلى إصلاحها. وقد أثنى ماركس وإنجلز على الرأسماليين، البورجوازيين الثوريين الذين تمكنوا من «إذابة كل ما هو صلب وإضفاء طابع دنيوي على كل ما هو مقدس» - تلك الأطر المتحجرة التي شكلت عقبة في وجه ملكات الإنسان الإبداعية على مدار قرون عديدة. أَمَّا أليكسيس دو توكفيل فقد رأى أن الأشياء الصلبة التي تمت إذابتها على حرارة الثورة الحديثة كانت في حالة تحلل بالغ قبل وقت طويل من بداية الصياغة الجديدة الحديثة للطبيعة وللمجتمع. ولا أهمية كبيرة لهذه النقطة؛ فالطبيعة البشرية كانت دوماً مرمية في البوتقة melting pot مع بقية مخلوقات الرب. ولم يعد ولم يكن بالإمكان بعدُ النظر إليها على أنها «معطى ثابت». على العكس، لقد أصبحت «مهمة»، مهمة لا يملك «كل» رجل و«كل» امرأة سوى تنفيذها بمفرده تماماً وبأفضل ما لديه من إمكانات. وهكذا جرت الاستعاضة عن «المصير المكتوب منذ الأزل» بـ«مشروع الحياة» وعن «القدر» بـ«الاستعدادات والميول والنزعات» وعن «الطبيعة البشرية» بـ«هوية» يتعين على المرء بناؤها ومحوها وإدخال المواءمات عليها باستمرار.
وقد احتفى فلاسفة الرينسانس بالآفاق المثيرة الجديدة التي يتيحها الطابع «غير المنجَز» للطبيعة البشرية للأذكياء وللجسورين. وقد أعلن ليون باتيستا آلبيرتي أن «بوسع البشر عمل كل شيء إن شاءوا ذلك». بينما أعلن بك دو لا ميراندول «إن بوسعنا أن نصبح مانريد». والحال أن ضفدع أوفيد، الذي كان بوسعه أن يتحول متى شاء من شاب إلى أسد أو إلى دب أو إلى ثعبان، إلى حجر أو إلى شجرة، والحرباء، تلك الأستاذة العظيمة في إعادة التجسد الفوري، قد أصبحا النموذجين للفضيلة البشرية المتمثلة في تكوين الذات والثقة بها والتي جرى اكتشافها آنذاك(×). وبعد ذلك بقليل، حدد جان-جاك روسو القابلية للكمال بأنها الصفة الشاملة الوحيدة التي أضفتها الطبيعة على الجنس البشري. وقد شدد على واقع أن قدرة الإنسان على تحويل نفسه بنفسه هي الجوهر البشري الوحيد والسمة الوحيدة المشتركة بيننا كلنا.
وهو ما لا يعني بالضرورة أن البشر محكوم عليهم بالتقلب وبالسير على غير هدى … وربما كان الضفدع يمثل رمز القدرة على خلق الذات، لكن الوجود الضفدعي ليس بالضرورة الخيار الأول للبشر الأحرار. والأشياء الصلبة القديمة يمكن أن تذوب، لكنها تذوب بهدف صب أشياء صلبة جديدة يكون لها شكل أفضل من شكل الأشياء التي تحل محلها – أي بهدف تحسين سعادة الإنسان. كما أنها سـوف تكـون أكثـر صلابة ومن ثم أكثر فاعلية مما كان بوسع الأشياء القديمة أن تكون عليه. ولا يجب لإذابة الأشياء الصلبة أن تكون سوى المرحلة الأولية للمشروع الحديث –إذ يجب أن تجعل العالم أكثر مؤاتاة وأكثر ملاءمة لسكنى الإنسان. وتتألف المرحلة الثانية من صوغ إطار جديد– صامد ومقيم ومتين. ولابد من أن تلحق الهزيمة بنظامٍ ما دام بالإمكان الاستعاضة عنه بنظام آخر تكون له هذه الوظيفة بما يتماشى مع معايير العقل والمنطق.
وقد شدد إيمانويل كانط على واقع أننا كلنا –كل واحد بيننا- نحوز ملكة العقل، تلك الأداة القوية التي تسمح لنا بالمقارنة بين الخيارات المتاحة لنا وبالقيام باختيارات فردية. ولو أحسنَّا استخدام هذه الأداة، فسوف نصل كلنا إلى استنتاجات واحدة وسوف نقبل كلنا شريعة للتعايش يقدمها لنا العقل على أنها الشريعة الأفضل. ولم يكن المفكرون متفائلين كلهم إلى هذا الحد الذي أمكن أن يصل إليه كانط؛ ولم يكونوا واثقين كلهم بـأن كل واحد منّا سوف يتبع طريق العقل بملء إرادته. وكما ارتاب في الأمر روسو، أليس من الوارد أننا يجب أن نرغم أنفسنا على أن نكون أحراراً ؟ وأليس من الوارد أن هذه الحرية حديثة الاكتساب بحاجة إلى استخدامها «من أجل» الناس بأكثر مما «من جانب» الناس ؟ وأليس من الوارد أننا بحاجة دوماً إلى مستبدين، وإن كانوا «مستنيرين» ومن ثم أقل غرابة في أطوارهم، وأكثر حزماً وكفاءة من مستبدي الأمس، لأنهم يحددون وينفذون مشاريع يمليها العقل من شأنها أن تضمن استخدام الناس حريتهم استخداماً لائقاً ؟ إن الافتراضين يبدوان مستساغين ولكل منهما سواء بسواء أنصاره المتحمسون وأنبياؤه ودعاته. ويمكن القول بأن أفكار تأكيد الذات وبناء البشر لأنفسهم إنما تحمل في ذاتها بذور الديموقراطية ممتزجة ببذور الشمولية. وكان لابد للعصر الجديد، عصر المجريات الواقعية المرنة وحرية الخيار، أن يؤدي إلى مولد تواءِم غريبة: حقوق الإنسان – ولكن أيضاً ما سمته حَنَّه أرندت بـ«الإغراء الشمولي».
ولدى النظرة الأولى، لا يبدو أن لهذا الكلام من علاقة بموضوعنا، لكن هذا ليس غير وهم. فالواقع أن عدم إنجاز الهوية وخاصة المسئولية الملقاة على عاتق الفرد عن تحقيقها وإنجازها إنما يحتفظان بصلة حميمة مع جميع الجوانب الأخرى للوضع البشري. وعبثاً جرى إدخال الهوية في عصرنا، فهي لا تعدو أن تكون «شأناً خاصاً» أو «هماً خاصاً». فواقع أن فرديتنا نتيجـة إنتـاج اجتمـاعي إنما يعد الآن من البديهيات، لكنَّ مُقَابِلَ هذه البديهية إنما يحتاج إلى استعادته وتكراره: فشكل تشاركنا الاجتماعي، ومن ثم المجتمع الذي نتقاسمه إنما يتوقف بدوره على مفاهيمنا عن واستجاباتنا لمهمة «التفردن».
وما تعلِّمنا إياه فكرة «التفردن» هو كيف يتحرر الفرد من التحديد الممنوح والموروث والفطري لشخصيته الاجتماعية؛ وهو توجه يعتبر بحقٍ السمة الأكثر وضوحاً وأصالة للوضع الحديث. وبكلمة، فإن «التفردن» يحول «الهوية» البشرية من «معطى» إلى «مهمة» - وذلك بمنحه الفاعلين المسئولين عن تحقيق هذه المهمة وتحمل نتائج (وكذلك الآثار السلبية المترتبة على) أدائهم؛ وبعبارة أخرى، فإن التفردن إنما يحقق استقلالية من الناحية القانونية وليس بالضرورة من الناحية الفعلية. والحال أن المفهوم الذي يذهب إلى أن مكانة الفرد في المجتمع هي منحة (منشودة أم لا) لم تعد له صلاحية. وكما عبر عن ذلك جان-بول سارتر بشكل جيد، فإنه لا يكفي أن يولدَ المرءُ بورجوازياً، إذ يجب أن يحيا حياة بورجوازي. ولم يكن ضرورياً ولا ممكناً قول الشيء نفسه عن الأمراء أو الفرسان أو أحلاس الأرض أو سكان المدن في العصر قبل الحديث. فضرورة أن «يصبح» المرء «ما هو عليه» إنما تعد الخاصية الأخص للحياة الحديثة. والحال أن الحداثة إنما تستعيض عن «تحديد» المرتبة الاجتماعية بـ«تحديد للذات» إجباري وإلزامي. ودعوني أكرر أن هذا ينطبق على كلية العصر الحديث – على جميع الحقب وجميع قطاعات المجتمع.
والآن، إن كانت تلك هي الحال، فما هو السبب في أن «الانفجار» الحقيقي للشواغل المتعلقة بالهوية لم يظهر إلاَّ خلال الأعوام الأخيرة ؟ ما الجديد الذي حدث، في نهاية الأمر، لهذه المشكلة القديمة قدم الحداثة نفسها ؟
أجل، هناك بالفعل شيء جديد، وهو شيء يفسر الانزعاج الحالي تجاه مهمات يبدو أن الأجيال الماضية قد حققتها بشكل روتيني ودون أن يطرأ عليها شيء. إلاَّ أنه في الوضع الدقيق الذي يتقاسمه خالقو الهوية، فإن تنويعات مهمة تميز الحقب المتعاقبة للتاريخ الحديث.
فبمجرد تحطيم أطر «المراتب الاجتماعية» الجامدة في بداية الحقبة الحديثة، نجد أن مهمة «التحديد الذاتي» للرجال وللنساء كانت مقتصرة في البداية على تحدي العيش «في تماشٍ مع الواقع»؛ أي التماشي بشكل إيجابي مع الأنماط الاجتماعية المقررة ومع نماذج السلوك، وذلك باتِّباع صيغة «التثاقف» دون انحراف عن المعيار.
والحال أن انهيار «المراتب الاجتماعية» لم يترك الأفراد يسيرون على غير هدى: فقد جرت الاستعاضة عن «المراتب الاجتماعية» بـ«الطبقات». وفي حين أن المراتب الاجتماعية كانت مسألة معطى، فإن الانتماء إلى طبقة كان، إلى حدِّ ما، شيئاً يتعين تحقيقه. والطبقات، على عكس المراتب الاجتماعية، يجب أن تكون «موحَّدة»: ولابد من تجديد أعضائها وتأكيدهم وتثبيتهم رسمياً في مسلكهم اليومي. وبعبارة أخرى، فإن الأفراد «الذين تحرروا من تثبيتهم» كان عليهم أن يسارعوا على الفور إلى ممارسة حقهم الجديد في تقرير مصيرهم بأنفسهم في السعي المسعور إلى «تثبيت جديد» لهم. والحال أن التوزع الطبقي، بالرغم من أنه قد تشكل مبكراً ولم يكن مجرد «نتيجة للوسط الذي ولد فيه المرء» كما من الوارد أن يكون الأمر قد حدث على هذا النحو بالنسبة للـ estates أو للـ Stande أو للـ «états» [المراتب الاجتماعية قبل الحديثة]، قد مال إلى أن يصبح صلباً وغير قابل للتغير وصامداً في وجه التلاعب الفردي شأنه في ذلك شأن الحيازة قبل الحديثة للمرتبة الاجتماعية. وكانت الطبقة ونوع الجنس [ذكر/ أنثى] إطارين للخيارات الفردية. فالإفلات من قيودهما لم يكن أسهل بكثير من مساءلة مكانة كل واحد في «سلسلة المخلوقات الربانية». وإذا لم تكن تلك هي الحال في النظرية، فإن الطبقة ونوع الجنس [ذكر/ أنثى]، في النوايا وفي الأهداف العملية على الأقل، كانا يشبهان بشكل غريب «حقائق من حقائق الطبيعة»؛ وكانت المهمة الباقية أمام غالبية الأفراد هي «أخذ المكان» في الخانة المحدَّدة والتصرف كشاغلين طبيعيين لها.
وأنا أرى أنه في هذه المسألة تحديداً يعتبر تفردن الأمس مختلفاً عن الشكل الذي اتخذه التفردن في عصر الحداثة «السائلة» حيث نجد، ليس فقط «المواقع» الفردية في المجتمع، وإنما «المكانات» التي قد يكون بوسع الأفراد الوصول إليها ونشدان احتلالها، في حالة اختلاط مستمر ويصعب أن تكون أهدافاً لـ«مشاريع حياة». وهذه الهشاشة والحركية الجديدة التي تتميز بها الأهداف إنما تؤثر علينا كلنا، سواء أكنا مؤهَّلين أم غير مؤهَّلين، مثقفين أم غير مثقفين، عازفين عن العمل أم عاملين. وهناك القليل جداً، بل ليس هناك على الإطلاق ما يمكن للمرء عمله من أجل «تثبيت المستقبل» بإتباع المعايير الجارية إتباعاً متواصلاً.
وكما قال دانيال كوهين، فإن «من بدأ مشواره عند ميكروسوفت ليست لديه أدنى فكرة عن المكان الذي سوف يُنهي فيه هذا المشوار. أَمَّا بدءُ المشوار عند فورد أو رينو فقد كان من شبه المؤكد، على العكس من ذلك، إنهاؤه في المكان نفسه»(×). فليس هناك سوى الأفراد الذين ينتقلون من مواقعهم. كما أن نقاط الوصول والدروب التي تقود إليها تتحرك هي أيضاً. و«انعدام الثبات» هو من الآن تجربة تملك كل الفرص في أن تتكرر عدداً معيناً من المرات خلال مدار الحياة الفردية (إحدى عشرة مرة في حالة شاب أميركي، بحسب كلام ريتشارد سينّيت). والرجال والنساء مرغمون على أن يكونوا دون توقف بسبيلهم إلى الركض دون وعد بالراحة ولا ضمان بالوصول إلى وجهة يمكن فيها للمرء أن يكف عن الحرب وأن يستريح وأن يتوقف عن تعذيب نفسه. وليس هناك أي أمل في «تثبيت نهائي جديد» في نهاية المشوار. والحال أن البقاء على الدرب قد أصبح أسلوب الحياة الدائم لأفراد يتم «نزع تثبيت»ـهم بشكل دوري.
وقد أوحى ماكس فيبر في مستهل القرن العشرين بأن «العقلانية الذرائعية» هي العامل الرئيسي الذي يحكم السلوك البشري في حقبة الحداثة، وربما كانت العامل الوحيد الذي يتمتع بفرصة الخروج سليماً من المعركة فيما بين الدوافع. وبالنسبة لفيبر، يبدو أن مسألة الأهداف كانت قد وجدت حلاً لها وكان ما بقي من مهمة الرجال والنساء الحديثين هو اختيار أفضل الوسائل للوصول إلى الأهداف. ويبدو أن انعدام اليقين فيما يتعلق بالكفاءة النسبية للوسائل وبتوافر هذه الوسائل هو المصدر الرئيسي لانعدام الأمن وللكرب، المميز للحياة الحديثة.
وسواء أكانت وجهة نظر فيبر صحيحة أم لا في مستهل القرن العشرين، فإنني أعتقد من جهتي أن صحتها قد تبخرت تدريجياً في اتجاه أواخر القرن العشرين. ففي أيامنا، ليست «الوسائل» هي المصدر الأول لانعدام الأمن وللكرب؛ فالوسائل قد تم إنتاجها بإيقاع متزايد السرعة، وذلك بما يتجاوز الحاجات المعروفة والمعتبرة ضرورية. فالوسائل تجئ في البداية – أَمَّا الحاجات فسوف تأتي بعد ذلك. والحال أن وفرة الوسائل هي من الاتساع بحيث أصبح يتعين البحث عن الحاجات التي قد تخدمها. وهكذا جاء الدور على الحلول لكي تبحث باستماتة عن مشكلات لم يتم التعبير عنها بعدُ ويمكنها حلها. أَمَّا الأهداف فقد أصبحت أكثر توزعاً وتفرقاً وانعداماً لليقين بكثير: لقد أصبحت مصدر الكرب الأعظم؛ «المجهول الأعظم في الحياة». وإذا كنتم تبحثون عن تعبير مقتضب لكنه مستوعب لحالة الهشاشة الجديدة هذه، فهاكم صياغة لها أفضل من كثير من الصياغات الأخرى، وهي عبارة عن إعلان قصير ظهر مؤخراً في باب «بحث عن وظائف» في صحيفة يومية إنجليزية: «طالب عمل يملك سيارة ويمكنه الانتقال وينتظر عروضاً».
وهكذا فإن «مشكلة الهوية» التي تلاحق الرجال والنساء منذ مجئ الأزمنة الحديثة قد تغيرت في الشكل والجوهر. لقد كانت بالأمس من نوع المشكلات الذي يواجهه الحجيج والذين كانوا يجدون صعوبة في حلها: مشكلة معرفة «كيف الوصول إلى هناك ؟». أما نوع المشكلات الآن فإنه أكثر شبهاً بالمشكلة التي يناضل ضدها يومياً الصعاليك والأشخاص الذين بلا مأوى ثابت أو بلا أوراق إقامة رسمية: «إلى أين يمكنني، إلى أين يجب عليَّ الذهاب ؟ وإلى أين سوف يقودني هذا الدرب الذي سلكته ؟». فالمهمة لم تعد استجماع ما يكفي من القوى أو العزيمة للتقدم خبط عشواء على طوال ممرات السير الممتدة نحو الأفق. فالمهمة هي اختيار المنعطف «الأقل خطراً» عند مفرق الطرق «الأقرب»، وتغيير «الاتجاه» قبل أن يصبح الطريق المواَجَهُ عصياً على الاجتياز، وقَبلَ أن تتغير معالم هذا الطريق أو قبل أن تتغير الوجهة المتوقعة أو تفقد فتنتها. وبعبارة أخرى، فإن المعضلة التي تعذب الرجال والنساء عند منعطف هذا القرن ليست هي معرفة كيفية الوصول إلى الهويات التي يختارونها وكيفية جعل الناس المحيطين بهم يعترفون بها، بقدر ما هي معرفة أية هوية يجب اختيارها وكيف يمكن الاحتفاظ بالحذر وباليقظة ما أن يتم سحب الهوية المختارة من السوق أو ما أن تفقد قدراتها الإغرائية. فالهم الرئيسي والأكثر إيلاماً ليس هو معرفة كيفية العثور على مكان ضمن إطار صلب لطبقة أو لفئة اجتماعية ولا كيفية الاحتفاظ بهذا المكان، في حال العثور عليه، وتجنب الطرد أو النفي منه. فما يزعج هو الشك الذي لا علاج له في أن هذا الإطار الذي تم كسبه بعد معركة شرسة سرعان ما سوف يجري إلغاؤه أو تبخره في دخان.
وفي تحليله الذي أصبح منذ أربعين عاماً كلاسيكياً، توصل ايريك هـ.ايريكسون إلى تشخيص أن الاضطراب الذي كان يعاني منه المراهقون آنذاك هو «أزمة هويـة». ويـرى ايريكسون أن «أزمة الهوية»، عند البالغين، هي مرض يتطلب تدخلاً طبياً علاجياً؛ وهي بالمقابل مرحلة عادية ولكنها عابرة في التطور الشخصي «السوي»، تبلغ عادةً نهايتها الطبيعية عندما يصبح اليافع أكثر نضجاً. ورداً على مسألة ما يجب أن يكون عليه شخص في صحة طيبة، «ما هي شاكلة الهوية عندما يكـون المرء واثقاً بأن له هوية»، أجاب ايريكسون بالحديث عن «الإحساس الذاتي بإتساقٍ وباستمراريةٍ حافزتين».
فإما أن رأي ايريكسون قد أصبح عتيقاً أو أن «أزمة الهوية» قد أصبحت في أيامنا أكثر من مرض نادر يصيب المراهق وأكثر من حالة عابرة من حالات المراهقة. فـ «الاتساق» و «الاستمرارية» شعوران نادراً ما يجربهما هذه الأيام الشبان أو الكبار. بل إنهما لم يعودا محل اشتهاء. وحتى إذا كان هذا الحلم مرغوباً فيه، فإنه مصبوغ بالهواجس التحذيرية وبالمخاوف الخبيثة. وكما أثبت ذلك محللا الثقافة، زبيشكو ميلوزيك وتوماش شكودلاريك(×)، فإن آفة كل الصيغ الهوياتية هي «أنني أنقذ حريتي عندما أبلغ هدفي؛ أنني لا أكون نفسي، عندما أصبح شخصاً ما». وفي عالمٍ مشكاليٍ قوامه القيم المتبدلة والدروب المتغيرة والأطر المرجعية المختلطة، فإن حرية الحركة إنما ترتفع إلى مستوى القيمة الأسمى، أي القيمة التي تعلو على جميع القيم، وشرط الوصول إلى جميع القيم الأخرى، الماضية والحاضرة وإن كان بالدرجة الأولى القادمة. والمسلك العقلاني في عالم كهذا إنما يتطلب ترك الخيارات، بأكبـر عـدد ممكـن، مفتوحـة، وواقـع أن حيازة هوية تتيح مـرة وإلـى الأبـد «اتسـاقاً» و«استمرارية»، ليس من شأنه إلاَّ أن يسفر عن سد باب الخيارات أو ضياعها. وكما لاحظ ذلك كريستوفر لاش، فإن الهويات التي يجري البحث عنها في أيامنا هي من النوع الذي «يمكن للمرء تبنيه والتخلص منه مثلما يبدل المرء ملابسه. وإذا كان يتم «اختيارها بحرية»، فإن الاختيار «لم يعد ينطوي على التزامات مع ما يترتب على هذه الالتزامات من نتائج»، وهكذا فإن حرية الاختيار إنما تساوي في الممارسة العملية الامتناع عن الاختيار»(××).
وفي جرينوبل، في ديسمبر/ كانون الأول 1997، تحث بيير بورديو عن «الهشاشة» التي «تعد اليوم منتشرة في كل مكان» و«تتسلط على الوعي والوعي الباطن». والحال أن هشاشة جميع المرجعيات التي يمكن تصورها وانعدام اليقين المتوطن فيما يتعلق بالمستقبل إنما يؤثران تأثيراً عميقاً على أولئك الذين أضيروا بالفعل وعلى جميع الآخرين بيننا الذين يمكنهم الثقة بأنهم سوف ينجون من آثار المستقبل. ويؤكد بورديو: «إن الهشاشة، إذ تجعل كل مستقبل غير مؤكد، إنما تحول دون كل توقع عقلاني وتحول، خصوصاً، دون هذا الحد الأدنى من الإيمان والأمل في المستقبل وهو الحد الأدنى الذي لابد من التمتع به لأجل التمرد، خاصة التمرد الجماعي ضد الحاضر، حتى الحاضر الأكثر تعذراً على الاحتمال. […] ولأجل تصور مشروع ثوري، أي طموح مدروس إلى تحويل الحاضر قياساً إلى مستقبل يمكن التخطيط له، لابد من امتلاك حد أدنى من السيطرة على الحاضر»(×). ومن الواضح تماماً أن السيطرة على الحاضر، الثقة بإمكانية سيطرة المرء على مصيره الخاص، هي ما نفتقر إليه في مجتمعنا المؤلف من أفراد وحيدين. ويتضاءل بشكل مطرد أملنا في أننا بتوحيد قوانا وبالسير إلى المعركة متخاصرين سوف يكون بوسعنا الوصول إلى تغيير قواعد اللعبة؛ ومن الوارد تماماً أن المخاطر التي تخيفنا والكوارث المسئولة عن مكابداتنا لها أصولها الاجتماعية الجماعية، إلاَّ أنه يبدو أنها تحل بكل واحد منّا بمحض الصدفة، كـ «مشكلات فردية»، من نوع المشكلات التي لا يملك المرء سبيلاً إلى مواجهتها أو معالجتها إلاَّ بشكل فردي، أو، في أفضل الحالات، بجهود فردية.
ويبدو عندئذ أن هناك القليل من الاهتمام بتحديد أنماط أخرى للعيش المشترك، بتصور مجتمع يخدم على نحو أفضل قضية الحرية والأمن الاجتماعي، بصوغ مشاريع من أجل عدالة مكفولة على المستوى الاجتماعي، إن كان من المستحيل العثور على فاعل اجتماعي قادر على الانتقال من القول إلى الفعل. ولا شك أن تبعياتنا تعد اليوم عالمية ومعولَمَة حقاً، في حين أن أفعالنا ما تزال محلية. ويبدو أن السلطات المسئولة عن «الوضع» الذي نواجه فيه مشكلاتنا تعد خارج مرمى جميع القوى الفاعلة التي أنتجتها الديموقراطية الحديثة خلال تاريخها الذي بدأ منذ قرنين. وكما أكد ذلك مانويل كاستِل، فإن السلطة الحقيقية، السلطة العالمية والتي كانت ترتبط في السابق بوحدة ترابية، إنما تنسرب وتتدفق في حالة السيولة بحرية تامة، وذلك في حين أن السياسة، المحصورة اليوم كما في الماضي في إطار الدول ـ الأمم، تظل كما في السابق «مسمَّرة بالأرض».
والواقع أننا بإزاء حلقة مفرغة. فالعولمة السريعة لشبكات السلطة يبدو أنها تتداخل وتتعاون مع الحياة السياسية المخصخَصة؛ فالاثنتان تحفز كل منهما الأخرى، وتدعم إحداهما الأخرى وتعزز إحداهما الأخرى. وإذا كانت العولمة تهدم قدرة المؤسسات السياسية القائمة على التصرف بشكل فعال، فإن انسحاب الحياة السياسية الجسيم نحو الشواغل الضيقة للهوية الشخصية إنما يحول دون تبلور أنماط أخرى للفعل الجماعي تقع على ذات مستوى عالمية «شبكة التبعية». ويبدو أن كل شيء قد توافر بالفعل لكي تتحقق «في آن واحد» عولمةُ «شروط» الحياة «و» تجزئة وتذرير وخصخصة النضالات في سبيل الحياة. والحال أنه في هذه الأطر يجب أن نفحص بعناية ونفهم المنطق واللا منطق المتوطن الذي يحكم «الشواغل الهوياتية» المعاصرة والأفعال التي تنتجها.
وكما لاحظ ذلك أولريش بيك، فإنه لا وجود لأي حل «بيوجرافي» للتناقض الكامن في صميم النظام، حتى وإن كان من نوع تلك الحلول المفروض علينا أن نكتشفها أو أن نوجدها. فلم يعد بالإمكان أن يوجد أي رد عقلاني على «التهشيش» المتسارع للشروط الإنسانية ما دام مثل هذا الرد مقتصراً على الفعل الفردي. والطابع اللاعقلاني للردود الممكنة «حتمي»، وذلك بالنظر إلى أن امتدادات «سياسات الحياة» وشبكة القوى التي تحدد هذه «الشروط» قد أصبحت بشكل خالص وببساطة عديمة النظير ومنفلتة الزمام.
فإذا ما لم يكن بوسع المرء أو إذا كان لا يعتقد أن بوسعه عمل ما هو مهم فعلاً، فإنه يتجه عندئذ إلى أشياء أقل أهمية أو حتى إلى أشياء قد لا تكون مهمة بالمرة ولكن المرء يمكنه عملها أو يعتقد أن بوسعه عملها. وإذ يوجه المرء اهتمامه وجهوده إلى مثل هذه الأشياء، فإن من الوارد أيضاً أن يتصور أنها مهمة إلى حد ما، للحظة على الأقل… ويؤكد كريستوفر لاش أن «الناس، بما أنهم لا يملكون أي أمل في تحسين حياتهم بأي شكل من الأشكال المهمة، إنما يتصورون أن الشيء المهم هو السلامة الشخصية النفسية: التصالح مع أحاسيسهم، أكل الغذاء الصحي، أخذ دروس في فن البالية أو في رقصة هز البطن، الانغماس في حكمة الشرق، ممارسة رياضة الجري، تعلم «التواصل»، التغلب على «الخوف من المتعة». ومع أن هذه الممارسات والمساعي ليست مؤذية في حد ذاتها، إلاَّ أن رفعها إلى مستوى البرنامج وتغليفها ببلاغة الأصالة وامتلاك زمام الوعي إنما يعنيان انسحاباً من ساحة السياسة»(×).
وهكذا نجد تنويعات هائلة ومتزايدة دوماً من «التسليات البديلة» والتي تشكل أعراضاً مميزة للتغير الذي يقود الأشياء المهمة، ولكن التي لا يملك المرء عمل شيء حيالها، إلى الأشياء الأقل أهمية أو التي لا أهمية لها على الإطلاق ولكن التي يملك المرء التعامل معها أو السيطرة عليها.
والحال أن النشاط الملتهم للوقت وللطاقة والذي يتألف من تركيب وتفكيك وإعادة ترتيب الهوية الشخصية هو أحد أقوى هذه الأدوية البديلة. واسمحوا لي أن أكرر ما قلته: إن هذا النشاط إنما يجري في ظروف أقل أمناً بشكل خاص؛ والأهداف التي يترسمها الفعل هشة بمثل ما أن نتائج الفعل غير مؤكدة. وغالباً ما تقود الجهود إلى ما يكفي من الإحباط اللازم لكي يسمم الخوفُ من الفشل النهائي بهجة النجاحات المؤقتة. وليس غريباً أن تذويب المخاوف الشخصية في «قوة الأعداد»، بالسعي إلى جعلها غير مسموعة في هرج ومرج الجمهور الحاشد، هو بمثابة غواية متصلة يجد عدد كبير من «بناة الهوية» صعوبة في مقاومتها. ففي هذا التذويب تكمن غواية إدعاء أن «تشابه المخاوف» المعيشة «على المستوى الفردي» هو الذي «يؤلف الجماعة».
إلاَّ أنه كما رأى ذلك بوضوح ايريك هوبسباوم، فإن كلمة «الجماعة» لم تستخدم قط بمثل هذا الأسلوب مفرط الاستخفاف ومفرط الخواء إلاَّ خلال الحقبة التي صار من الصعب فيها العثور على الجماعات، بالمعنى السوسيولوجي للمصطلح»(×). فالرجال والنساء يبحثون عن جماعات يمكنهم الانتماء إليها انتماءً أكيداً وإلى الأبد في عالم يتحرك ويتغير فيه كل شيء آخر ويُعَدُّ فيه كل شيء آخر غير مؤكد(××). ويكرر جوك يونج هذه الفكرة بشكل موجز وموجع: «يجري اختراع الهوية حتى مع أن الجماعة تنهار»(×××). والحال أن الاهتمام الذي تلقاه هذه «الهوية» والمشاعر التي تحفزها إنما تدين به «الهوية» لواقع أنها «بديل للجماعة»، دواء بديل لهذا «المقام الطبيعي» المزعوم الذي لم يعد متوافراً في سياق العولمة السريعة. ولهذا السبب عينه، يمكن تصور الهوية بحرية على أنها ملاذ مريح للحصول على الأمن والثقة. على أن المفارقة هي أن الهوية لكي تتيح ولو مجرد حد أدنى من الأمن وتلعب بذلك دورها العلاجي إنما يتعين عليها إعطاء فكرة زائفة عن منشأها، ويجب عليها إنكار واقع أنها ليست سوى دواء بديل، بل ويجب عليها علاوة على ذلك العمل على إطلاق شبح هذه الجماعة التي حلت الهوية للتو محلها. فالهوية إنما تنمو على قبر الجماعات وتزدهر كوعد ببعث الأموات.
و«عصر الهوية» مشحون بالصخب وبالغضب. فالبحث عن الهوية «يفرِّقُ» و«يَفْصِلُ». والطابع الهش للخلق الوحداني للهوية إنما يحفز أولئك الذين يخلقونها إلى البحث عن خطاطيف يعلقون عليها معاً مخاوفهم وكروبهم الفردية لكي يؤدوا طقوس التعويذ في صحبة أفراد آخرين مرعوبين ومكروبين هم أيضاً. أَمَّا أن مثل هذه «الجماعات الخطاطيف» توفر ما يأمل المرء في أن توفره، أي توفر الثقة الجماعية في مواجهة المخاطر الفردية التي نتعرض لها، فهذا أمر لا جدال في أنه قابل للنقاش. لكن إقامة متراس في صحبة أفراد آخرين إنما يوفر بالفعل فرصة لالتقاط قصير للأنفاس في مواجهة الوحدة. وسواء أكان ذلك فعَّالاً أم غير فعَّال، فقد تم عمل شيء، وبوسع المرء أن يعزي نفسه بفكرة أنه قد خاض معركة. وكما يؤكد ذلك جوناثان فريدمان، ففي عصر العولمة الذي نحياه، نجد أن «أحد الأشياء التي لم تحدث هو اختفاء الحدود. على العكس، إذ يبدو أنها تظهر في كل ركن لشارع في كل حي مهدَّم من أحياء عالمنا»(×).
والحدود لم تُخلق لفصل ولحماية هويات «قائمة» بالفعل. وكما أوضح ذلك فريدريك بارت، عالم الأنثروبولوجيا النرويجي الشهير، فإن الحالة المعاكسة تماماً هي التي حدثت: فالهويات «الجماعاتية» هي تعرجات لخطوط حدود مضطربة. وبوسعنا القول مع ارنست رينان أن الجماعة، شأن الأمة، إنما تحيا بموجب استفتاء يومي. وبمجرد إقامة المواقع الحدودية جرى استثمار الأساطير التي تتحدث عن قِدمها بينما جرى الاعتناء بإخفاء تاريخ منشأها الحديث جداً بالتذرع بتواريخ وبحكايات عن أصولها الموغلة في القِدم. وهدف هذه الخدعة هو إعطاء فكرة خادعة عن واقع أن فكرة الهوية (إذا ما استشهدنا مرة أخرى بكلام ستيوارت هول) لا «تومئ إلى اتجاه»، بل هي «قاعدة ثابتة تنتشر من البداية إلى النهاية عبر تقلبات التاريخ»(××).
وبدلاً من الكلام عن الهويات، الموروثة أو المكتَسَبة، ولأجل صون الاتصال بالمجريات الواقعية للعولمة، ربما كان من الأنسب إذاً أن نتحدث عن «صوغ الهوية»، عن نشاط لا نهاية له، غير مكتمل دائماً، غير منجز ومفتوح، كلنا منخرطون فيه، بحكم الضرورة كما من باب الاختيار سواء بسواء. والفرص قليلة في أن تتوقف التوترات والمواجهات والنزاعات التي ينتجها هذا النشاط. والحال أن البحث المسعور عن الهوية ليس أحد مخلفات زمن ما قبل العولمة، لم يتم القضاء عليه كلياً بعد وإن كان محكوماً عليه بالفناء إذا ما استمرت العولمة. فهذا البحث هو على العكس من ذلك نتيجة ثانوية وفرعية لاجتماع العولمة بالضغوط الفردية وبالتوترات التي تنتجها العولمة. وحروب صوغ الهوية لا هي متعارضة مع العولمة ولا هي عقبة في وجهها بل هي ثمرة شرعية ورفيق طبيعي وأمين للعولمة. وبعيداً عن أن تؤدي هذه الحروب إلى وقف العولمة فإنها إنما تُشَحِّمُ آلياتها وتُطلِقُ حركتها.



التعددية الثقافية، التعددية عموماً
الروح الجماعاتية (×)
آلان رينو
ALAIN RENAUT


جاءنا مصطلح التعددية الثقافية من كندا. ففي مستهل سبعينيات القرن العشرين، اضطلع بيير إليوت ترودو والليبراليون، الذين كانوا في السلطة في أوتاوا آنذاك، بالدفاع تحت هذا العنوان، ضد سياسة استيعاب ثقافي للمهاجرين، عن مبدأ الاعتراف من جانب السلطة العامة بالتنوع الثقافي وبالتعددية الإثنية. وكانت المسألة مسألة استفادة من واقع أن كندا لا تكف عن تكوين نفسها اعتماداً على المهاجرين القادمين إليها، سعياً إلى إغراق المطلب الذي أعربت عنه الأقلية الناطقة بالفرنسية والتي تشكل الأغلبية في كيبيك والداعي إلى اعتراف أقوى بهويتها. ومن الناحية الاستراتيجية، كان من الوارد في الواقع أن يكون من الذكاء إعلان أنه في كندا، «حتى وإن كانت هناك لغتان رسميتان، فإنه لا وجود هناك لثقافة رسمية وأن أية جماعة إثنية لا تملك صدارة على الجماعات الإثنية الأخرى»: وبما أن الحكومة الاتحادية قد جعلت من التعددية الثقافية برنامجاً لها، فقد سعت إلى سحب المطلب الكيبيكي واستبعاد خطر الانفصال الذي ينطوي عليه. وبفضل هذا المسعى، أصبحت التعددية الثقافية مبدأً دستورياً مسجَّلاً في الميثاق الكندي للحقوق وللحريات منذ عام 1982.
على أن هذا الانبثاق لبرنامج التعددية الثقافية لا يجب أن يُخفي أن المبدأ الذي جرى تأكيده بهذا الشكل قد اندمج بمنطق قوي، لا يمكن اختزاله في المعطيات الخاصة لهذا السياق، في ميراث الليبرالية السياسية. فالتعددية الثقافية التي جرى تعريفها على أنها مراعاة لتعدد الثقافات، إنما تمدد في الواقع أمد الرهان نفسه الذي قامت على أساسه المجتمعات الليبرالية منذ الحروب الدينية الإنجليزية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. فالمجتمعات التي مزقتها تلك الحروب قد أدركت أنه يتوجب عليها، لأجل السماح للجماعات الطائفية بالتعايش في داخل هذه المجتمعات، أن تدشن مبدأ التسامح حيال المعتقدات: وهكذا انبثقت ضرورة قبول تعددية مفاهيم الخير بوصفها تعددية كامنة في صميم المجتمعات التي لم يعد بوسعها تصور أن يكون نَسقٌ وحيد للمعايير أو للقيم مسجلاً في سماء الأفكار أو في ماضي التراث. ومنذ ذلك العصر، يكون المجتمع ليبرالياً من ثم إن جعل من هذه التعددية قيمة، مؤكداً أن الموقف المناسب الوحيد حيال هذه التعددية هو التسامح و، من جانب الدولة، الحياد، ولو بقدر ما أن عدم التسامح مع هذه التعددية من شأنه أن يقود المجتمع إلى الانفجار. والحال أن برنامج التعددية الثقافية الحالي إنما يتماشى من حيث الجوهر مع مرحلة جديدة لهذا الرهان الليبرالي: فلو اعترفنا بالفعل بأن تعددية أنساق القيم تجد تجسيداً لها، وراء الأديان، في تعدد الثقافات، فكيف لا نأخذ بعين الاعتبار أن مما يكمن بشكل أصيل في صميم منطق المجتمعات التي تضم جماعات ثقافية متباينة أن تصل إلى استقصاء هذا التعميق للتعددية اليبرالية الذي يبدو أنه لابد أن تمثله التعددية الثقافية ؟
ومن تعددية مفاهيم الخير إلى التعددية الثقافية، يبدو أن النتيجة لابد أن تكون طيبة وقوية، وإن كان بشرط عدم تهشيش قوام المجتمعات الديموقراطية – الليبرالية نفسه. والحال أن إحدى المشكلات الرئيسية لهذه المجتمعات، منذ مولدها، قد اتصلت بالفعل بالأسلوب الذي جازفت به تعدديةُ مفاهيم الخير المعترف بها والمكفولة فيها بأن تُضعِفَ في هذه المجتمعات قوام الآصرة الاجتماعية. والواقع أن قبول نقل مكان التعددية إلى الثقافات ما كان يمكن أن يكون له معنى ما لم يكن بالإمكان اتقاء إمكانية ازدياد تجذر مثل هذه المجازفة. وهذه المجازفة إنما يجري تحديدها اليوم بشكل متواتر باطراد على أنها مجازفة تمزق جماعاتي للمجتمعات المتعددة ثقافياً، والمعرضة لأن تتجزأ أو إلى أن تتفكك إلى مجموعة متنوعة من الجماعات المنغلقة على نفسها: فإذا ما استتبع مبدأ التعددية الثقافية مثل هذا الانحراف الجماعاتي، فإن التوسع الثقافي للتعددية من شأنه أن يضع المجتمعات الليبرالية في تناقض مع أنفسها ومع مشروعها الخاص بتحقيق التعـايش المشترك بين أفراد يعترفون بما بينهم من اختلافات.
ولكي أتناول هذا الملف المركب، قرَّرتُ ألاَّ أبقى فيه على مستوى المواقف المبدئية، المجردة(×)، بل أن أنظر إلى هذه المسائل من زاوية أكثر إجرائية، انطلاقاً من تفكير في المناقشة التي دارت في فرنسا حول اللغات الإقليمية والأقلية. وإذ أستحضرُ هذه المناقشة التي ما تزال حامية، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمسألة التعددية الثقافية، فإن هدفي هو أن أبين من خلال أي شيء تسمح هذه المناقشة الفرنسية، في مرحلتها الأحدث، بجعل الخيارات الماثلة أكثر قدرة على التمثيل ومن ثم قابلة للنقاش بشكل أسهل مما هي عليه الحال عندما ننظر إليها في كل عموميتها. والحال أن الأهمية السياسية والفلسفية لمثل هذه المناقشة إنما تتجاوز بكثير مسائل كمسائل معرفة ما إذا كان يجب على جهاز الأمن الاجتماعي أن يوفر استمارات مكتوبة باللغة البريتونية وما إذا كان يجب ترجمة القانون المدني إلى اللغة الأوكسيتانية، وما إذا كان يجب لمحاكمةٍ أن تدور باللغة الباسكية أو باللغة الكورسيكية: وهي مسائل كثيرة تخفي الرهان الحقيقي والذي يتصل بالاعتراف بالتنوع الثقافي.

المنطق الأوروبي، المنطق القومي
في 11 أكتوبر/ تشرين الأول 1997، أعلن ليونيل جوسبان، رئيس الوزراء الفرنسي، في كلمته الاختتامية لقمة مجلس أوروبا، والتي ألقاها في ستراسبورج: «إن أوروبا بحاجة إلى تأكيد هويتها، والتي تتألف من تنوع تراثها اللغوي والثقافي. وفي هذا الصدد، فإن اللغات والثقافات الإقليمية إنما تستحق اهتماماً خاصاً تماماً من جانبنا: إذ يجب علينا صونها وتوفير شروط الحياة لها». وفي 23 يونيو/ حزيران 1999، عندما اضطر جاك شيراك، رئيس الجمهورية، إلى النظر في طلب طرحه الأوتيل ماتينيون [مقر رئيس الوزراء] يتعلق بالاصلاح الدستوري المطلوب كي يتسنى التصديق على الميثاق الأوروبي الخاص باللغات الإقليمية، رفض رئيس الجمهورية تأييد إجراء كهذا. ولا يمكن للمرء فهم حيوية المواجهات فيما بين وجهات النظر والتي حدثت بين هذين التاريخين دون الانتباه إلى الأسلوب الذي دارت به هذه المناقشة في الواقع بالارتباط بسيرورتين متعارضتين. فالسيرورة الأولى تؤدي إلى استخدام المؤسسات الأوروبية. أمَّا السيرورة الثانية فهي تتصل بالتذبذبات التي تخضع لها السياسة اللغوية والثقافية لفرنسا بسبب التبدلات الانتخابية.
فعلى المستوى الأوروبي، جرى في 5 ديسمبر/ كانون الأول 1992، اعتماد ميثاق اللغات الإقليمية أو الأقلية من جانب اللجنة الوزارية لمجلس أوروبا. ويقترح الميثاق على الدول الموقعة قائمة من التعهدات التي تعبر عن مثلٍ أعلى قوامه التسامح اللغوي. وقد سمح إجراء تصديقٍ مرن بأن تدخل الوثيقة حيز التطبيق بالنسبة لسبعة بلدان اعتباراً من أول مارس/ آذار 1998. ولم تكن فرنسا واحداً من هذه البلدان.
وعلى الجانب الفرنسي، فإن ما نشهده في العقدين الأخيرين هو في واقع الأمر سيرورة أخرى تماماً. ففي عام 1992، وهو عين العام الذي اعتمد فيه مجلس أوروبا ميثاق اللغة الإقليمية، أضيفت إلى المادة الثانية من دستور عام 1958هذه الصيغة القاطعة: «لغة الجمهورية هي الفرنسية». أَمَّا أن فرنسا لم تكن منذ ذلك الحين واحداً من البلدان الأولى التي دشنت سيرورة التصديق على الميثاق، فليس في ذلك ما يدعو إلى الاستغراب. والواقع أن نزاعاً قد أخذ في التعمق بين منطقين متعارضين، المنطق الأوروبي والمنطق القومي، وهما منطقان تأكّدا بعد ذلك في الحياة السياسية الفرنسية نفسها.
فباسم الحكومة، وبموافقة رئيس الجمهورية، قام بيير موسكوفيتشي، الوزير المفوض للشئون الأوروبية، بالتوقيع بالأحرف الأولى على الميثاق الأوروبي في بودابست، في 7 مايو/ آيار 1999: وبوصفها البلد الثامن عشر الموقع على الميثاق، أصبح بوسع فرنسا أن تعلن استعدادها للتصديق في عام 2000 عليه، وهو تصديق يفترض موافقة مجلس الشيوخ والجمعية الوطنية. بيد أننا عرفنا آنذاك أن المجلس الدستوري، تحت إلحاح من رئيس الجمهورية، قد رأى في 20 يونيو/ جزيران أن الميثاق يتضمن بنوداً تتعارض مع الدستور. ويجب التذكير بأنه قد جرى من ثم تجريم نقطتين:
ـ إن التعهد، من أجل تشجيع استخدام اللغات الإقليمية، بـ«مراعاة الحاجات والأماني التي عبرت عنها الجماعات التي تستخدم هذه اللغات» (الباب الثاني)، إنما يعني الإقدام على خيار يتعارض «مع المبادئ الدستورية الخاصة بعدم جواز تقسيم الجمهورية، وبالمساواة أمام القانون وبوحدة الشعب الفرنسي». وبشكل أدق، فإن مثل هذه البادرة إنما تساوي منح حقوق خاصة لـ«جماعات»، في حين أن «المبادئ الأساسية» لدستورنا، إذ تكفل «المساواة أمام القانون لجميع المواطنين دون تمييز بسب الأصل أو العِرق أو الدين» (المادة 1)، إنما «تتعارض مع الاعتراف بحقوق جماعية لأية جماعةٍ أياً كانت، مُحَدَّدَةٍ بوحدة الأصل أو الثقافة أو اللغة أو العقيدة».
ـ إن الاعتراف لكل فرد بـ«حق لا يَبْلَى» في «ممارسة لغة إقليمية أو أقلية في الحياة الخاصة والعامة» (الديباجة) إنما يساوي أيضاً التعهد باتخاذ «ترتيبات تتعارض مع الفقرة الأولى من المادة الثانية للدستور» والتي تنص، منذ عام 1992، على أن «لغة الجمهورية هي الفرنسية»: ومثل هذه الترتيبات إنما تميل بالفعل إلى «الاعتراف بحقٍ في ممارسة لغة أخرى غير الفرنسية ليس فقط في الحياة الخاصة وإنما أيضاً في الحياة العامة».
ولا يتطلب الأمر مجهوداً لفهم أن رأي المجلس الدستوري هذا قد ساعد بقوة على نجاح المحاولة. ففي 23يونيو/ حزيران 1999، رفض رئيس الجمهورية الاضطلاع بالتعديل الدستوري الذي افترضته مواصلةُ السيرورة والذي كان رئيس الوزراء قد طالب رئيس الجمهورية بتدشينه: وهو منظور أعلن رئيس الوزراء الآن أنه يتميز بطبيعة من شأنها «المساس بالمبادئ الأساسية لجمهوريتنا». فهل كان محقاً، أم أنه قد أخطأ ؟ من الناحية التاكتيكية على أية حال، نجد أن مصلحة الايليزيه [رئاسة الجمهورية] وأوتيل ماتينيون [رئاسة الوزراء]، المفهومة تماماً، أصبحت تتمثل في تهدئة النزاع، خاصة وأن العملية، من زاوية الألاعيب السياسية، كانت تهدد بأن تكون باهظة التكلفة. وهكذا جرى وضع نهاية مؤقتة لمناقشة كشفت، كما سوف يبين ذلك تحليل للحجج المستخدمة في المعسكرين، إلى أية درجة يمكن لمفارقات الهوية الديموقراطية أن تظل عصية في بلدنا على تحمل المسئولية عنها بشكل واضح تماماً.

الحجج المطروحة
عند تحليل حجاج خصوم التصديق على الميثاق نجد أنه يتركز أساساً على ثلاثة اعتراضات:
ـ إن تبني المطلب الهوياتي بهذا الشكل إنما يعني في الواقع تهديد المفهـوم الجمهـوري عـن الأمة من حيث كونها تستند إلى إرادة مشتركة في بناء مستقبل مشترك قوامه التقدم. وبما أن الهوية الجمهورية تتجاوز النزعات الخصوصيـة، فمـن غير الوارد أن يدخل في منطقها تنظيم جماعات لغوية ما في قلب الدولة-الأمة: وباختصار، فإن الانتماء إلى مثل هذا الميثاق إنما يصدر عن فلسفة معادية للجمهورية، يمكن تمييز شبح الروح الجماعاتية فيها عادةً.
ـ تحت مظهر مجرد سياسة دفاعية عن اللغات التي تسئ الجمهورية معاملتها، يختفي أيضاً هجوم سياسي واسع ضد مبدأ الدولة-الأمة نفسه: فعندما يرى الميثاق أن بوسع المجالس المحلية إجراء مداولاتها باللغة الإقليمية المعنية وعندما يتسنى بذلك تأسيس أواصر متميزة فيما بين الأقاليم التي، مع انتمائها لدول مختلفة، تتكلم لغة واحدة، فإن ذلك إنما يعني بالفعل الإسهام في مشروع سياسي لأوروبا أقاليم، يكون بديلاً عن المشروع السياسي لأوروبا الأمم. وبصرف النظر عن التحفظات التي يمكن توجيهها حيال المضمون الكامن في صميم مثل هذا المشروع، فإنه سوف يجد ترجمة له على أية حال بالنسبة لفرنسا في إضعاف للدولة-الأمة وللقيم التي تنطوي عليها.
ـ إن الميثاق، بإشارته في بابه الثاني إلى «جماعات» يتوجب على الدولة الاعتراف بها من حيث كونها جماعات كما يتوجب عليها تمويل احتياجاتها، إنما يميل أخيراً إلى إدخال كيانات وسيطة جديدة، بين الفرد والدولة، وهي كيانات يتوافر كل ما يبرر الخوف من أن يتسنى لها أن تشكل في الحياة السياسية قوى تريد مقابلاً مالياً للدعم الذي يمكن أن تقدمه لهذا الطرف أو ذاك. والأهم من ذلك أن عين مفهوم صاحب الحقوق الديموقراطية سوف يتحول من الفرد إلى أصحاب حقوق جماعيين يشبهون طوائف عهد النظام القديم، ويتمتعون بحقوق خاصة وبامتيازات نوعية.
وعلى الجانب الآخر، فإن حجاج أنصار التصديق على الميثاق إنّما يسمح هو أيضاً بظهور ثلاثة اعتبارات رئيسية:
ـ تحت سيطرة اليعقوبية، فعلت الجمهورية كل شيء من أجل خنق، بل ومن أجل حظر، استخدام اللغات الإقليمية؛ وهكذا فإن فرسان جول فيري السود قد فرضوا استخدام الفرنسية على أطفال لم تكن الفرنسية لغتهم الأم، وذلك بحيث أنه باسم الحريات التي جرى العبث بها على هذا النحو كما بالنظر إلى الإفقار الذي جرى إنزاله بتراث فرنسا وأوروبا والبشرية الثقافي، لابد من الابتهاج بالإحياء الممكن لبعض هذه اللغات: ففي عالم يسلك درب العولمة، كيف يمكن الامتناع عن تشجيع طموح الناس إلى مواصلة صون هويتهم وجذورهم ؟
ـ ثم إن رفض الميثاق إنما يعني تهديد مكانة فرنسا نفسها في الجماعة الأوروبية. فمن جهة، سوف نجد أن فرنسا، بعدم اعتمادها هي نفسها نصاً يُعَدُّ اليوم مفروضاً على كل بلد راغب في الانتماء إلى مجلس أوروبا كشرط لاندماجه في الجماعة الأوروبية، إنما تغامر في النهاية بوضع نفسها على هامش هذه الجماعة. ومن جهة أخرى، من المؤكد أن فرنسا محقة في التذكير بوجوب احترام تعدد الثقافات، أكان ذلك بهدف التصدي لتدفق منتجات الصناعة الثقافية ذات النمط الواحد أم بهدف مواجهة هيمنة الإنجليزية كلغة اتصال. وإذا كان ذلك كذلك، فكيف يمكن لاحترام التعدد الثقافي أن يقتصر على التعدد اللغوي للغات الرسمية للدول ؟ وإذا كان من الوارد أن يؤدي شكل حقيقي للاندماج السياسي إلى أن يجعل من الجماعة الأوروبية ساحة جديدة للمواطنة، فعندئذ تنطرح مسألة معرفة ما هي الوضعية الحقوقية التي يمكن تحديدها في هذه الساحة لتنوع الانتماءات الثقافية التي يتعرف الأفراد فيها على أنفسهم، بما في ذلك في تكويناتهم القومية القائمة. وفي أفق كهذا، هل سنبقى كلنا جد مقتنعين بأنه على المستوى الأوروبي أيضاً سوف يكون منح حقوق متساوية للمواطنين متعارضاً تعارضاً صارماً مع الاعتراف بحقوقهم في احترام هويتهم الثقافية المتميزة في تنوع أشكال التعبير عنها ؟ وباختصار، إذا كنا نأمل في ألاّ يؤدي البناء الأوروبي [الموحَّد] غداً إلى منع أشكال الحياة الثقافية والإثنية والدينية التي تضمها الجماعة الأوروبية من التعايش وإذا كنا نأمل في ألاَّ يؤدي إلى منع الأفراد من تطوير هذه الأشكال بحرية، فلماذا لا تنطبق القناعة نفسها منذ اليوم في داخل الدول-الأمم أنفسها، ولو لمجرد التمهيد لهذا الانتقال الأعظم شأناً من الانتقال إلى عملة موحَّدة ؟ ومن ثم فإن أهمية اعترافٍ ممنوحٍ للتنوع اللغوي الداخلي لا تقاس بعدد الأفراد المعنيين: فأن تتابع نسبة أقل من 3% من التلاميذ الدروس المقترحة بهدف تعليمهم لغة إقليمية، فهذا معطى دال على الحالة التي توجد فيها الآن اللغات المحلية بعد قرون من المركزة اللغوية؛ ومع ذلك فإن هذا المعطى لا يمكنه رهن الثقل الرمزي الذي يمكن أن يكون له في تعزيز الضمانات المكفولة للتعددية اللغوية عبر برنامج تعليمي باحترامٍ لتنوع اللغات والثقافات سوف يكون ضرورياً بشكل متزايد باطراد وذلك بقدر ما أن أوروبا السياسية [الموحَّدة] سوف تصبح واقعاً.
ـ ومن المؤكد أن قرار المجلس الدستوري يتماشى تماشياً تاماً مع التعديل الدستوري لعام 1992 والذي جعل من الفرنسية «لغة الجمهورية»: على أن المشكلة التي طرحها التصديق على الميثاق، بدلاً من أن تجد تسوية لها عبر مراعاة لهذا المنطق، ألاَ يجب النظر إليها بالأحرى على أنها المؤشر على أن التعديل قد شهد على انحراف مزعج في مفهوم الهوية الجمهورية عينه ؟ فالواقع أن المشروع قد تحمل بذلك المسئولية عن وضع علامة هوية ثقافية على قدم المساواة مع هذه المبادئ الرئيسية للجمهورية والمتمثلة في حكم الشعب بالشعب أو شعار «الحرية والمساواة والإخاء». والحق أن هذه الإضافة [أي التعديل المذكور] التي جرى إدخالها بمناسبة هَبَّةٍ قوميةٍ ضد اتساع استخدام الإنجليزية، قد محت مفهوماً للأمة يرجع إلى قرنين: فمحل الأمة المدنية، المبنية على المواطنة وعلى إرادة العيش المشترك، ظهر بذلك ميل إلى إحلال أمة إثنية، مبنية على مشاطرة تراث ثقافي يجد تربته في وحدةٍ للُّغة. ولأول مرة وبشكل جد مهيب، فإنه يبدو أن قيم الانتماء قد انتصرت، في فرنسا، من ثم على قيم حقوق الإنسان. فبذريعة إنقاذ الهوية، بل والاستثنائية الثقافية لفرنسا، أدى الخيار المنجز في عام 1992 في واقع الأمر إلى تهديد والتضحية بالخصائص المميزة للنموذج الجمهوري الفرنسي والقابلة لأن تكون صالحة لكل البشرية: ففي تعارض مع «جماعة المواطنين» التي تشكلها أمة الجمهوريين في نظر أفضل المدافعين عنها(×)، يبدو من ثم أن هذه الأمة قد اختارت المجازفة بانحراف إثنوي يجعل من فرنسا البلد الوحيد في الاتحاد الأوروبي الذي يكرس دستوره الوضع الانفرادي للغة رسمية دون الالتفات إلى وضعية اللغات الأخرى التي حققت لنفسها، تاريخياً، انغراساً على أرضها. وبهذا المعنى، فإن الخطر الجماعاتي لن يكمن في تشظي المجتمع الفرنسي، هذا التشظي الذي جرى التعبير عن الخوف منه، بقدر ما أنه يكمن في الخيار الذي اتخذه أنصار السيادة الفرنسيون بادئ ذي بدء: فهذا الخيار يخدم انكفاءً قومياً على النفس سوف يؤدي إلى تشظٍ جماعاتي لأوروبا، يحبس الجماعات السكانية في جماعات قومية سوف تلتف كل واحدة منها من جديد حول هوية ثقافية ولغوية متميزة ومتجانسة من الناحية العامة(××).
وبوسعنا أن نسلم، انطلاقاً من المواجهة بين هاتين السلسلتين من الحجج، أننا بإزاء مناقشة محيرة. فمن جهة، لا شك في أن اتساع الأمور محل النقاش اتساع ملحوظ (من مفهوم صاحب الحقوق إلى مفهوم الأمة، ومن مصير الدول ـ الأمم في البناء الأوروبي الموحَّد إلى العلاقة بين الروح الجمهورية والروح الجماعاتية). ومن جهة أخرى، وبسبب عين تعقيد هذه الرهانات، فإن أياً من هذين الموقفين الماثلين ليس قابلاً للتعامل معه باستخفاف، ولا معارضته بالموقف الآخر معارضة الخطأ بالصواب أو الشر بالخير. ويبدو أن الأكثر معقولية هو أننا هنا بإزاء نموذجين يملك كل منهما تماسكاً نسبياً ويتماشى مع خيار يحيل في نهاية الأمر، شأن كل خيار قابل لأن يكون محل حجاج، إلى خيار للقيم: وفيما يتعلق بهذا البعد عينه والخاص بالاختيار بين الموقفيـن الماثليـن، أود أن أطرح أيضاً بعـض الملاحظـات الأخرى التي من شأنها توضيح دوافع خياري الخاص المؤيد لتعددية ثقافيـة معتدلة.

الحقوق في الهوية الثقافية حقوق فردية
قناعتي هي أن سيرورة التصديق على الميثاق الأوروبي يجب إعادة تحريكها بأسرع ما يمكن، ضمن شروط من شأنها أن تجعل دلالتها وأهدافها أكثر وضوحاً.
فالشرط الأول الذي يتعين الوفاء به حتى يتسنى استئناف مسيرة السيرورة هو إدخال تعديل على المادة الثانية من دستور عام 1958. ذلك أن النص الذي يجعل من الفرنسية وحدها، دون مزيد من التحديد، «لغة الجمهورية»، سوف يُعَرِّضُ بلدنا، إن لم يجر تعديل هذا النص أو إن لم يجر استكماله، إلى سلسلة من المصاعب التي ليس من شأن الاعتراض الذي تم على ميثاق اللغات الإقليمية إلاَّ أن يبقى أحد أمثلته. ومن شأن مثالٍ صادمٍ أن يكون كافياً لإعطاء فكرة عن هذه المصاعب. فبموجب تفسير للدستور لم يكن من شأن التعديل الذي تم في عام 1992 بعد ذلك سوى صوغه بشكل قاطع، لم تصدق حكومة بالادور على الميثاق العالمي لحقوق الطفل في أغسطس/ آب 1990 إلاَّ في مقابل تحفظ غريب، يدل على الآثار الوخيمة المترتبة على تمسك الجمهوريين بواحدية اللغة.
فالواقع أن المادة 30 من ميثاق حقوق الطفل الذي اعتمدته منظمة الأمم المتحدة في عام 1989 قد نصت على أنه «في الدول التي توجد فيها أقليات إثنية أو دينية أو أشخاص من أصل إثني محلي، لا يمكن حرمان الطفل المحلي أو المنتمي إلى واحدة من هذه الأقليات من الحق في أن تكون له حياته الثقافية الخاصة وفي أن يعتنق ويمارس ديانته الخاصة أو في أن يستخدم لغته الخاصة في اشتراكٍ مع الأعضاء الآخرين لجماعته». وقد قبلت الحكومة الفرنسية الميثاق محدِّدَةً أن المادة 30 هذه «لا مجال لتطبيقها فيما يخص الجمهورية». والحال أن هذا الرفض لبُعد مهم من حقوق الطفل، وهو رفض أملاه، منذ عام 1990 بالفعل، عزوف عن الاعتراف بالإشارة إلى جماعات ثقافية قد يكون الأطفال أعضاءً فيها، سوف يمليه هذا العزوف نفسه بدرجة أكبر بكثير من خلال إعلان واحدية اللغة الذي جرى إدخاله في عام 1992 في دستورنا. ومن ثم فمن المتوقع أن يقود خيار كهذا فرنسا إلى مصاعب متكررة في كل مرة يتعلق فيها الأمر بالانضمام إلى ميثاق دولي، جاعلةً من حقها في تأكيد هويتها الثقافية، خاصة اللغوية، أحد الحقوق الأساسية للكائن البشري: فهل يمكن لدولة ديموقراطية، تفخر بأهمية إسهامها التاريخي في تكوين وبلورة مفهوم قيم النزعة الإنسانية الحقوقية أن تتمسك تمسكاً مقيمـاً بوضـع نفسهـا على هامش عملٍ قوامه تعميق وإثراء حقـوق الإنسـان ؟
ولذا فمن غير الممكن تصور إصلاح الضرر الذي أصاب اللغات الإقليمية بالموافقة على تهشيشٍ لما كان الوجه المقابل لذلك: فمما لا سبيل إلى إنكاره أن تعليم الفرنسية المقدم لجميع الأطفال قد أسهم في بناء وحدة قومية قادرة على الصمود في وجه أخطار التاريخ. ومن ثم يجب وزن حدود المشكلة: فالمسألة إنما تتمثل في تصحيح الجهر بعقيدة جامدة قوامها واحدية اللغة، والذي جرى إدخاله على الدستور، دون إضعاف الفرنسية وتدمير الوحدة القومية. وقد جرى طرح اقتراحات متنوعة في هذا الصدد. وأود أن أطرح بدوري اقتراحاً من هذه الاقتراحات.
سوف يكون بالإمكان تماماً تصور إعادة صياغة المادة الثانية من الدستور بأن نُدخل فيها، وذلك بموجب روح تعديل فرعي جرى استبعاده خلال مناقشة عام 1992، الإشارة إلى ضرورة «احترام اللغات الإقليمية والجهوية في فرنسا». وسعياً إلى توضيح وضعية كل من الفرنسية واللغات الإقليمية أو الأقلية، لماذا لا ننص في الواقع على أنه، مع أن «الفرنسية هي اللغة الرسمية الوحيدة للجمهورية»، فإن هناك اعترافاً من جهة أخرى بصفة «لغاتٍ قومية» (بمعنى لغات مندرجة في تاريخ أمتنا) باللغات الإقليمية أو الأقلية بحسب معايير محدَّدَة بعناية ؟(×) فالدستور، بكفالته على هذا النحو فارقاً واضحاً بين وضعية اللغة الرسمية ووضعيات اللغات القومية، من شأنه أن يكفل صدارة الأولى، كشرط لا غنى عنه لوجود جماعة مواطنين، والاعتراف بالثانية – وذلك في آن واحد لما كانته، أي من حيث كونها ناقلات تحتوي لحظات من تاريخ هذه المجموعة من الجماعات السكانية التي كوَّنت أُمَّتَنا، كما لما مازالت تمثله بالفعل، أي من حيث هي أبعاد للعالم الثقافي يحدد بعضنا بالإحالة إليه جانباً من هويتهم.
وإذا ما تم الوفاء بهذا الشرط الدستوري، فسوف يبقى احتواء الاعتراض الرئيسي الآخر الذي طرحه القاضي الدستوري: هل يتماشى الميثاق أم لا يتماشى مع عين مفهوم الحق، الموروث من الليبرالية السياسية الحديثة، والذي يجعل من الفرد بوصفه فرداً الصاحب الوحيد والفريد للحق ؟ ألن ينطوي ذكر الجماعات الثقافية أو اللغوية على اعتراف بحقوق، لا تعود مجرد حقوق فردية، بل تكون جماعية ؟ فالاعتراف بحقوق جماعية إنما يتألف من إدخال صاحب حقوق آخر غير صاحب الحقوق الفرد، كما يتألف من وضع الاعتراف بهذا الأخير في تنافس مع الاعتراف بصاحب حقوق آخر(هو جماعة الثقافة أو التقاليد) يصبح بالإمكان، قياساً إليه، إضفاء طابع نسبي على الإعلاء المطلق من قيمة الحريات الفردية: ومن ثم فإنني أعتقد أن كل موقف من هذا النوع هو موقف مغامر بصورة عميقة. وبهذا المعنى، يبدو لي أن من الحكمة عدم تأييد وثيقة من شأنها، في حال قبولها دون مزيد من التحديدات أو مراعاة الفروق في ظلال الأمور، أن تضعف الضمانات المكفولة لحريات ولحقوق الفرد.
ومن هذه الزاوية، من المهم مع ذلك الانتباه إلى التحديدات التي رأت الحكومة الفرنسية، عند توقيع الميثاق، أن من المناسب تقديمها. فالـ«إعلان التفسيري» المؤرخ في 7 مايو/ آيار 1999 ينص على أنه، في قراءة فرنسا للوثيقة، فإن «استخدام مصطلح جماعات الناطقين لا يخلع حقوقاً جماعية على الناطقين باللغات الإقليمية أو الأقلية»: فالجماعات سوف تُفهم هنا على أنها مجرد مجموعات من الأفراد لا ينطوي اعتبارهم «جماعات» على الاعتراف بكيان أعلى للأفراد الذين يكوِّنونها بهذا المعنى، كما أن الإشارة إلى مثل هذه الحقوق في الهوية اللغوية لا تخلع البتة أية حقوق على جماعات أو على أقليات بصفتها هذه، بل على أفراد يجري النظر إليهم من زاوية انتمائهم إلى مجال ثقافي ويعتبرون هم أنفسهم أنهم يتقاسمونه مع آخرين.
ولا يبدو لنا أننا هنا بازاء ذريعة براجماتية، بل أننا بازاء إشارة إلى أن مثل هذه الحقوق اللغوية والثقافية هي، من ثم، ليست حقوقاً جماعية على الإطلاق، بل حقوق للفرد في أن تكون له هوية ثقافية يعتبرها مكوِّنة لجزء منه. ومثل هذا التفسير الذي سوف يستحق جهراً به وإعلاناً سافراً له، من شأنه أن ينطوي على ميزتين على الأقل.
ففي المقام الأول، سوف يندرج في موقف أوسع يسمح بسد ثغرة في إعلانات حقوق الإنسان – بالدعوة إلى تضمينها حقوقاً ثقافية، على شكل حقوق للفرد في اختيار واحترام هويته الثقافية، ضمن تنوع أنماط التعبير عنها(×).
كما أن من شـأن الإشـارة إلى أن الحقوق اللغوية حقوق فردية وليست حقوق جماعات، أن تترتب عليها آثار مباشرة ومهمة على القيمة العملية للاعتراف باللغات الإقليمية. وسوف أقتصر هنا على التوقف أمام اثنين من هذه الآثار.
بحسب المنظور الذي تم الدفاع عنه هنا، سوف يكون بوسع الأفراد إبراز حقوقهم اللغوية كضرورات لها الوضعية ذاتها (أي كحقوق فردية) التي لحقوقهم الأساسية، أي كضرورات يتعين على الدولة أخذها في الحسبان: وهكذا فإن الحقوق اللغوية سوف تفلت لأول مرة من أن تكون مجرد ترتيب تسامح عادي من النوع الموجود في فرنسا منذ اعتماد قانون ديكسون Deixonne (1951). فهذا القانون، المهم بحد ذاته، وإن كان اليوم غير كاف، يتيح إمكانية تعلم للغات الإقليمية لكنه يترك تدشينه، على المستوى المحلي، للمبادرة الحرة من جانب المدرسين. وهنا، بالمقابل، سوف يتمركز الترتيب من جديد على مطالبة الأفراد أنفسهم بحقوقهم الثقافية واللغوية، عندما يودون الإشارة إليها لكي يعبروا عن التمثيل المتوافر لديهم عن أنفسهم: وفي هذا المنظور، سوف تجد الدولة نفسها مدعوة إلى تنظيم تعليم يلبي هذه المطالب المعترف بها على أنها تعبر عن حقوق.
وهناك أثر آخر لمثل هذا التعريف للحقوق اللغوية يُعَدُّ مهماً تماماً هو الآخر لقياس المعنى المحدَّد للترتيب الذي جرى طرحه بهذا الشكل. فمادام الفرد وحده هو الذي سوف يكون صاحب هذه الحقوق، فإن تعليماً للغات الإقليمية (أو تعليماً مُقَدَّماً باللغات الإقليمية)، مفهوماً على هذا النحو، لا يمكن إلاَّ أن يكون اختيارياً: فلا الجماعات ولا المدارس ولا الدولة سوف يكون من حقها فرضه على الأفراد وعلى العائلات – وذلك بما يتماشى مع مفهوم للتعليم يظل مندرجاً في إطار الليبرالية السياسية. ومنذ تلك اللحظة، لن يكون هناك ما يدعو إلى الخوف من أية صدارة لجماعة من الجماعات، لأن مثل هذا التعليم سوف يجري تقديمه خارج المقرَّر الإجباري، دون إلحاق ضرر من أي نوع بتعليم الفرد.

خلاصة
هكذا يشهد مثال الحقوق اللغوية على ما يمكن أن يعنيه الاعتراف بحقوق ثقافية فردية، والذي أعني به برنامج تعددية ثقافية معتدلة. فهذا البرنامج يخلع على الحقوق في الهوية الثقافية عين الوضعية التي تخلعها الدولة على الحقوق الأساسية الأخرى، جاعلةً من احترامها ضرورة قطعية مكوِّنة للمجال السياسي الديموقراطي. ومثلما يعهد إلى الدولة بالاهتمام بكفالة تعايش الحريات الفردية المرتبطة بمثل هذه الحقوق، فإنه يترك للفرد حرية اختيار هويته الثقافية. وهذا المنظور إنما يستبعد كل نظام يمكن فيه للجماعة تنظيم تعليم أعضائها عبر اعتماد تدابير قسرية قد تراها ضرورية لتأمين البقاء الفعلي والفعال للغتها، حتى لو تطلب ذلك الهدف الحد من الحريات الفردية. والحال أن كل ترتيب من هذا النوع إنما يبدو بجلاء متنافياً مع منظور تظل القيمة الأولى بالنسبة له هي قيمة المساواة في الحريات الأساسية. وهذا هو السبب في أنه لا يبدو من المستحيل مراعاة أن فرنسا، بتوضيحها على هذا النحو لقيمة الميثاق، سوف يتسنى لها أن تلعب أحد الأدوار التي تزعم لعبها في العالم: إثراء تمثيل حقوق الإنسان، وفي هذه الحالة عبر تضمين مبادئ الجمهورية نفسها تعدديةً ثقافيةً معتدلة من خلال تأكيد حقوق الفرد.