ابراهيم أصلان - بساطة الأعماق


صلاح السروى
الحوار المتمدن - العدد: 3602 - 2012 / 1 / 9 - 15:32
المحور: الادب والفن     


رحل عن عالمنا واحد من ألمع وأهم كتاب القصة والرواية فى مصر والعالم العربى, بعد رحلة طويلة وممتدة مع الكتابة والابداع الأدبى. انه الكاتب الكبير ابراهيم أصلان, صاحب "بحيرة المساء", و"يوسف والرداء" و"مالك الحزين", و"وردية ليل" و"عصافير النيل" و"خلوة الغلبان".. وغيرها.
لقد تميزت كتابة ابراهيم أصلان بالاكتناز والكثافة السردية الشديدة , رغم بعض التفاصيل الضرورية فى وصف الشخصيات والأماكن. وربما بسبب ذلك تميزت معظم أعماله بالقصر والايجاز. ويتركز السرد عنده على الجدل بالغ العنف والاصطخاب بين تحولات العوالم الخارجية السياسية والاقتصادية, والعالم الداخلى لدى شخصياته. وكان الهدف دائما هو ابراز أثر هذا الخارج الملىء بالتحولات القاسية والعنيفة, دائما, على الداخل الحساس والملىء بالخيبات وألوان البؤس الروحى رغم أى مظهر خارجى غير موح بذلك.
وتميزت شخصياته بعاديتها ويوميتها المألوفة التى نجعلنا نظن أننا قد التقيناها من قبل, والتى تمتلىء بها البيئات الشعبية والفقيرة. فهناك تاجر الدجاج المتطلع الى بناء برج سكنى, والعامل السابق فى كامبات الانجليز والمتبرم من الأنماط التى يراها منحطة من جيرته, والشيخ الكفيف الذكى المتمرد على وضعيته العاجزة, والأم الريفية الهرمة المشرفة على الموت, والزوجة اللعوب, والأرملة التى تعانى الحرمان الخ. وغالبا ما تتكون هذه الشخصيات من سكان المناطق الهامشية الذين نزحوا حديثا, أو قبل جيل أو جيلين, من القرى والمراكز البعيدة. والتى اضطرتها أوضاعها المادية التعيسة الى اللجوء الى العاصمة الكبيرة القاسية, بحثا عن فرص العمل والرزق. حيث مثل هذا الحشد, من البشر, بانوراما هائلة تمور بالنماذج البشرية بالغة التنوع والتباين والتعدد فى المشارب والتناقض فى الرؤى والأحلام. الا أن ما يجمعهم ويوحد بينهم جميعا هو تلك المسحة الدفينة من الأسى التى تملأ كياناتهم وتلف عالمهم النفسى, والتى كثيرا ما يحاولون التغلب عليها باصطناعهم للفكاهة والعشق المفرط لملذات الحياة ومسراتها الفجة والحميمة, التى يتناولونها, غالبا, بلغتهم المكشوفة والسوقية دون تزويق أو تهذيب. ان شخصيات ابراهيم أصلان هذه تبدو وكأنها ليست من خلقه وابتداعه, بل تكاد تنطق بأنها تلك الشخصيات الحقيقية والواقعية المكتسية باللحم والتى يجرى فى عروقها الدم, ولتى تملأ هذا العالم الذى انتمى اليه وأولع به وارتمى فى أحضانه. ولذلك فاننا نلاحظ تعاطفه الخفى مع - بل ولعه وعشقه ل -هذه الشخصيات التى تملأ هذا العالم وتمنحه مدلوله الانسانى الزاخر والمعقد. وربما يفسر ذلك ما نلاحظه من كثرة الشخصيات وازدحامها فى معظم أعماله, فيبدو ابراهيم أصلان وكأنه يحرص على ألا يفلت أحدا منها دون ذكره والاتيان على سيرته والخوض فى مكنوناته ورصد علاقاته المتشابكة مع غيره من الشخصيات.
واتساقا مع هذه النوعية المحددة من الشخصيات فقد تركزت أعماله كلها فى مكان واقعى وشعبى تماما, يتمثل فى حى امبابة وميدان الكيت كات المعروفين, والمناطق والشوارع المتفرعة منهما, مثل شارع فضل الله عثمان, ذلك الشارع الواقعى الذى نجده ماثلا باسمه ومكوناته المكانية والعمرانية وعوالمه الانسانية, فى كل أعماله تقريبا. خالقة عالما شعبيا وانسانيا بسيطا للغاية, بمثل ساطة عم مجاهد بائع الفول الذى يموت فى دكانه الفقير, والذى يتخذ منه سكنا فى الوقت ذاته, دون أن يدرى به أحد, فى رواية مالك الحزين.
لقد رسم ابراهيم أصلان مكانا روائيا بالغ البساطة والفقر والعادية, موارا بالحكايات والأحداث ومليئا بالهواجس والتفاصيل والأحلام المجهضة, خاصة بعد هزيمة 1967, والتحولات الاجتماعية والسياسية التى نجمت عن مرحلة مابعد عبدالناصر, والتى ملأها تجار السوق السوداء والمقاولون واللصوص. ولكنه أيضا ورغم ذلك, مكان بالغ الجمال, من حيث انسانيته المفرطة وأعماقه الدفينة الأخاذة. انه تلك المنطقة التى يقدمها ابراهيم أصلان وكأنه لامكان آخر غيرها الا العدم. فهو يكاد ينبئك بأنها هى العالم بكليته ومبناه, وأن حدودها المكانية هى حدود الوجود الدنيوى المعروف بتفاصيله الحميمة وحدوده الضيقة والمترامية فى ذات الآن. انها ذلك المكان المختزل الذى يكاد يلخص العالم الصغير الغنى بتفاصيله العمرانية والانسانية المتداخلة على نحو بالغ الحميمية والتشابك والتعقيد. وهى تلك المنطقة التى تفضى دائما الى البحر أو الميادين الواسعة التى تمثل العالم الآخر اللا نهائى, فيصبح ذلك العالم الخارجى هو عالم التيه والضياع (وهذا ما يصدقه بالفعل واقع المدن الكبرى بوحه عام) الذى اذا خرجت اليه الأم العجوز هائمة على وجهها وقد اكتسى وجهها باللون الأخضر, فى رواية عصافير النيل, فهمنا أنها قد خرجت من الحياة كلها الى العالم الآخر.
لقد بدأ ابراهيم أصلان حياته الأدبية كاتبا للقصة القصيرة, فأبدع فيها واعتبر واحدا من أساطينها وكتابها الكبار رغم قلة انتاجه بصفة عامة. الا انه عندما كتب الرواية, فى بداية السبعينيات, ظل وفيا لمنهجه الولوع بالجزئيات والتفاصيل, ذى المنحى الغنائى الذى يميز الكتابة القصصية. ومن ثم جاءت أعماله الروائية على شكل "الحلقات القصصية" التى تأخذ كل منها بخناق الأخرى وتتطور بها, والتى يمكن لكل حلقة منها أن تصبح بذاتها قصة قصيرة مستقلة, الا أنها ترتبط جميعها برباط الاشتباك والتداخل الحدثى, ومن ثم النهاية التى تفضى اليها مصائر الشخصيات ونهايات الأحداث. وهو الأمر الذى يمكن تلمسه على نحو معين فى "مالك الحزين", والمتجسد بوضوح أكبر فى "وردية ليل".
ان أعمال ابراهيم أصلان لاتختلف كثيرا عن شخصيته , فهى حميمة ودافئة دون افتعال, ولغتها بسيطة ودالة دون زركشة, وشخصياتها يومية وواقعية دون تفلسف, وحدثها لايخلو من طرافة وميل الى الفكاهة دون هزل. ولكن أعمال ابراهيم أصلان وشخصيته, معا, تنطويان فى كل ذلك على أعماق بالغة الغنى والثراء, ورؤى بالغة القوة والنفاذ, ووعى بالغ الحدة والنصوع بصيرورتنا المجتمعية ووضعيتنا الانسانية.

المجد لك أيها الكاتب الكبير .. وألف دمعة حزن على فراقك