ملاحظات رفاقية حول وضع وآفاق الثورة المصرية


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 3597 - 2012 / 1 / 4 - 07:43
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان     


إن مصر، وبالرغم من عظمة إنتفاضتها الشعبية، هي بين البلدان العربية الثلاثة التي جرى إسقاط الطاغية فيها حتى الآن، أي تونس ومصر وليبيا، البلد الذي يتميّز بأعلى درجة من إستمرار النظام القديم. وقد تجلّت حدود الثورة المصرية على مستوى الإدراك السياسي في الأوهام العظيمة التي رافقت الإنقلاب العسكري الذي من خلاله سلّم حسني مبارك السلطة لقيادة الجيش مساء الحادي عشر من فبراير، سواء فعل ذلك طوعياً أو مكرهاً. وقد توهّمت الملايين بأن قيادة الجيش تدخّلت نصرةً للإرادة الشعبية في "اسقاط النظام" في حين أن الجيش، الذي شكّل ويشكّل العمود الفقري للنظام في مصر، لم تحلّ قيادته محلّ حسني مبارك إلا لإنقاذ النظام من السقوط.

والأمر الذي ساهم أكبر إسهام في جعل الحيلة تنطلي على الحركة الجماهيرية هو خاصيّة أخرى ميّزت الحراك المصري عن الحالتين الأخريين، ألا وهي وجود حركة سياسية منظّمة ضخمة ذات طبيعة بورجوازية، هي جماعة الإخوان المسلمين، إلتحقت بالحراك الثوري بعد إنطلاقه وبعد أن لعبت طيلة سنوات عديدة دور "المعارضة الطيّعة" للنظام، تتفادى كل ما يستطيع أن يستفزّه وتنصاع له كلما إحتدّت الأمور. وقد روّجت الجماعة للأوهام حول الجيش ناصبةً نفسها مدافعة عنه وسط الحراك الجماهيري، وهي تلتقي مع واشنطن في تمنّي "إنتقال منظم" للسلطة – من نظام بورجوازي إستبدادي تسود فيه المؤسسة العسكرية الى نظام بورجوازي برلماني تسود فيه مؤسسة حزبية، هي الجماعة عينها، وذلك في عملية تختزل في بضعة شهور مسار العقدين الذي أدّى بتركيا الى الإنتقال من حكم عسكري الى حكم حزب إسلامي المنشأ.

والحال أن جماعة الإخوان المسلمين دخلت ميدان الثورة منذ 28 يناير كي تمسك بزمام الأمور وتجيّر الحراك الجماهيري في اتجاه صفقة مع النظام العسكري سعت لتحقيقها من خلال التفاوض مع عمر سليمان أولاً، وانتهت الى عقدها مع المجلس العسكري بعد تنحّي مبارك. وقد تحولّت الجماعة بعد التنحّي من حزب يشارك الجماهير في سعيها لإسقاط النظام الى "حزب حفظ النظام" (هنا بعكس "الفوضى")، بمعني "الإنتقال المنظّم" للسلطة الى مؤسسة برلمانية مستجدّة، وذلك بلجم ميول الحراك الجماهيري الى التجذّر – ولا سيّما تلك المتمثّلة بصعود النضالات العمّالية – وإعطاء الأولوية المطلقة لتسريع العملية الإنتخابية. ولم تعارض الجماعة المجلس العسكري إلا في الأحيان التي بدا لها أنه يحاول تشريع وصايته على المؤسسات السياسية على طريقة ما فرضه الجيش التركي بعد الإنتقال الى النظام البرلماني في أوائل الثمانينات. وقد سمح ذلك للعسكريين الأتراك إقالة حكومة حزب أربكان الإسلامي سنة 1997، ولم يتم تخطّي العقبة العسكرية من قبل حزب أردوغان المنشق عن الحزب سالف الذكر سوى في السنوات الأخيرة.

ومثلما أيّدت واشنطن حزب أردوغان في هذه العملية الإنتقالية نراها اليوم تنحاز الى الإخوان المسلمين في التنافس بينهم والمؤسسة العسكرية في السيطرة على مصادر القرار في مصر. والحال أن الإمبريالية الأمريكية، إزاء العاصفة الثورية التي هبّت على المنطقة العربية والتي أظهرت أن الجماهير دخلت ميدان السياسة بعد طول عزل عنه، إرتأت أنه لا بدّ لها من التعويض عن إفتقاد أزلامها التقليديين للشرعية الديموقراطية بعقد تحالف مع القوة الوحيدة التي تحوز على قاعدة شعبية في عموم المنطقة العربية والمؤهلة لمثل ذاك التحالف، ألا وهي جماعة الإخوان المسلمين التي سبق لها أن تحالفت مع واشنطن منذ الخمسينات ضد عبد الناصر والمدّ القومي العربي ومن ثمّ ضد التجذّر اليساري في السبعيانت. وقد توسّطت في تجديد التحالف إمارة قطر التي إحتضنت الجماعة وموّلتها بعد طلاقها مع المملكة السعودية في مطلع التسعينات، وكرّست محطة "الجزيرة" لخدمتها.

ومثلما أغرقت الرجعية الخليجية اليمين الفلسطيني بالدولارات النفطية بعد هزيمة 1967 بغية التصدّي للتجذّر اليساري، نراها اليوم تسخى على التيارات الإسلامية المتزمّتة درءًا لتطور السيرورة الثورية العربية في إتجاه يشكّل تهديداً لإستقرار مصالحها. فبينما تموّل قطر جماعة الإخوان المسلمين، أخذ السعوديون يموّلون التيارات السلفية. والنتيجة المرجوّة تحققت: فإن الدعوة الى إنتخابات "حرّة" بعد أشهر قليلة من الإطاحة بأنظمة إستبدادية ما كان بإمكانها سوى أن تنتج فوزاً للحركات الإسلامية التي تصدّرت مشهد المعارضة طوال عقود – أو شجّعتها السلطات على النشاط بوصفها قوة محافظة، كما هي حال السلفيين في مصر – لا سيّما وأن هذه القوى حازت على العنصرين الرئيسيين في اللعبة الإنتخابية البورجوازية العصرية، ألا وهما المال والتلفزيون، وحصدت بالتالي ثمار ثورة لم تُطلقها.

أما القوتان اللتان بادرتا الى الإنتفاضة الثورية واللتان شكّلتا رأس حربتها، وهما الحراك الشبابي والحركة العمّالية، فكانتا غائبتين تماماً عن الساحة الإنتخابية لعدم وجود تمثيل سياسي لهما. وإذا صحّ أنه يصعب تمثيل الحراك الشبابي لشدّة تنوّعه ولطبيعته التعدّدية، فإن الحركة العمّالية قادرة تماماً على التمتّع بتمثيل سياسي جماهيري مثلما يشهد التاريخ العالمي عليه بإستفاضة. فإن مهمة اليسار الجذري في مصر اليوم يمكن تلخيصها في مواجهة الشرعيتين البورجوازيتين – شرعية النظام البائد المتمثّلة بالقيادة العسكرية وشرعية النظام الجديد المتمثّلة بجماعة الإخوان المسلمين، وهما محكومتان بالتعاون على رأس الدولة البورجوازية وتحت رعاية واشنطن – بشرعية الثورة، القائمة على تحرير إرادة الجماهير من كافة القيود وتمكينها من إبداء آرائها ورفع مطالبها مباشرة، في الشوارع والميادين، بدون أية وصاية – سواء كانت إستبدادية عسكرية أو إدّعت إحتكار تمثيل الشعب بحجة إنتخابات، إذا صحّ أنها كانت "حرّة" فانها لم تكن "عادلة" على الإطلاق!

أما المحور الإستراتيجي لنشاط اليسار الجذري فلا بدّ أن يكون الإسهام في بناء الحركة العمّالية النقابية والترويج لفكرة حزب العمّال الجماهيري المستند الى الحركة النقابية، على طريقة ما شهدته بلدان كالبرازيل وأفريقيا الجنوبية وبولندا إنبثقت فيها حركة عمّالية قوية بعد عقود من الدكتاتورية. فالحركة العمّالية هي الوحيدة التي تتمتّع بجذور شعبية واسعة وعميقة، تستطيع أن تنافس سطوة الأحزاب الدينية على المشهد السياسي وأن ترتفع الى مقام قائدة أمة الكادحين نحو التغيير الإجتماعي الذي كان ولا يزال هو السبب الرئيسي لإندلاع اللهيب الثوري.