إطروحات حول معنى اليسار ودوره في عصرنا


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 3567 - 2011 / 12 / 5 - 19:11
المحور: ملف - حول دور القوى اليسارية والتقدمية ومكانتها في ثورات الربيع العربي وما بعدها - بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن 2011     

تغمض كثير من الحركات السياسية، يمينية كانت أم يسارية، أعينها عن التطورات الجلية الحاصلة عالميا وإقليميا ومحليا حتى تستفيق على صدمة أو صدمات تنزلها عن عليائها وتجبرها على مواجهة الواقع كما هو لاكما تتمنى.
ولكن، ككل جسم عضوي، لا تستطيع كل تلك القوى أن تلحق بموجات التغير. فثمة أجسام هدّها المرض وباتت عديمة المناعة تقتلها أبسط "المكروبات" التي تتعرض لها، فيما تتعامل أجسام صحيحة أخرى مع هذا المكروب كلقاح يزيد من مناعتها ويقويها. وليست الشيخوخة بالمعنى الزمني هي ما يفقد الحركات السياسية مناعتها بل إن جملة من العناصر المركّبة تلعب دورا جوهريا في الوصول إلى هذا المآل ليس أقلها المصالح التي يراكمها القادة والإنخراط بهذا الشكل أو ذاك في مؤسسات حاكمة يرى فيها بسطاء الناس عدوا لهم.
وعليه، فبعكس الرأي السائد المتضمن في سؤال الحوار المتمدن، ليس القمع هو ما يفسر انحسار شعبية اليسار في منطقتنا. ولنكن أكثر أنصافا، فنقول إن القمع وحده لايفسر أسباب ذلك الإنحسار لسببين رئيسين. أولهما، إن اليسار الشيوعي، مع الإستثناء البارز للحزب الشيوعي العراقي والإيراني، لم يتعرض لأي قمع وحشي في منطقتنا منذ أواخر الستينات بل تم احتواؤه في "جبهات وطنية: كما هو الحال في سوريا، أو إدخال عناصره "التائبة" في مؤسسات غير مؤثرة مثل مصر وبعض بلدان الخليج، مع ترك من استعصى على الإحتواء مهمشا غير ذي فاعلية مما يدل على إن الأنظمة الحاكمة أدركت إن اليسار الشيوعي لم يعد ذا تأثير على الشارع أصلا. ولعل المثال شديد القرب زمنيا هو حزب التقدم والإشتراكية المغربي الذي لم يتعرض لأي قمع ذي بال طوال تاريخه ومع ذلك لم يحصل على أكثر من أربعة بالمئة من أصوات الناخبين.
والسبب الثاني لرفض تفسير أسباب انحسار اليسار بالقمع، يتجلى من خلال مقارنة حالتها الراهنة بتصاعد شعبيتها في العراق إثر موجات القمع التي تعرضت لها في أعوام 1948 و1963، وفي لبنان إثر قيام مخابرات النظام الناصري بجريمة قتل بشعة بحق زعيم الحزب الشيوعي اللبناني آنذاك فرج الله الحلو. بل لنسأل: لماذا أحست غالبية الشعب العراقي بالتعاطف مع الشيوعيين حين تعرضوا لمجازر 1963 في حين أن كثيرا منهم لم يعرف أصلا بأن الحزب يتعرض للملاحقة عام 1968 و1969 أو إنهم تعاملوا مع الأمر بلا مبالاة؟
إذن، عوض الحديث المطمئن للنفس لنطرح سؤالا قد يكون جارحا للبعض هو: لماذا لم تعد الأنظمة الحاكمة في المنطقة تطارد الشيوعيين أو اليساريين عموما أو تضطهدهم؟ ولنعترف بإن قوى الإسلام السياسي التي يخشى اليسار والعلمانيون من صعودها هي التي تتعرض للإضطهاد منذ السبعينات على الأقل ولم يؤد ذلك إلى تراجع شعبيتها، بل ربما كان هذا الإضطهاد سببا للعكس إذ يرى فيها قطاع واسع من الجمهور متحدية لدولة يشعر بالحقد تجاهها.
ولكن، لابد من الإشارة هنا إلى سبب رئيس لعله الأهم في في قدرة القوى الإسلامية على تحدي اليسار وإزاحته من المشهد السياسي المؤثر. ومن المؤكد إنني لا أقصد من الإشارة إلى هذا العامل أو غيره الوصول إلى حالة من الإحباط قدر ما أسعى إلى تحديد النقاط التي يمكن للأخير تعلمها من القوى الإسلامية من جهة، ولكي لايتنافس معها على أرضيتها هي فيضمن خسارته سلفا في الوقت الذي يمكن له اختيار برامج عمل وأساليب نضال وشعارات لايمكن للإسلاميين منافسته عليها. كما إنني لا أقصد تبني منهج ذاتي في دراسة الظواهر تتبناه معظم القوى السياسية ملقية اللوم على قمعها أو صعود تيارات أخرى "سرقت" منها جماهيرها، فمثل هذا المنهج يفترض إن الجماهير التي يعلن (أو يتخيل) أنه يمثلها هي ملك له لولا ظروف عرضية ما.
لماذا صعدت القوى الإسلامية في السبعينات وليس قبلها مع إن الكثير منها، مثل الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي، كانوا موجودين قبل ذلك بعقود؟ ولماذا أدى القمع الشرس الذي تعرض له الأخوان في مصر منذ محاولتهم اغتيال جمال عبد الناصر عام 1954 إلى تشرذمهم وغياب التعاطف الشعبي مع محنتهم، مثلما غاب التعاطف الشعبي مع الشيوعيين المصريين الذين ابتدأت الثورة المصرية عهدها بإعدام قائدين منهم هما الخميسي والبقري لقيادتهما إضرابا عماليا، ثم تتالى دوران طاحونة القمع بحقهم حتى منتصف الستينات.
أيا يكن تقييمنا للنظام الناصري، فعلينا الإعتراف بأنه مارس القمع المنهجي ضد من اعتبرهم خطرا عليه وهو ورئيسه يحظيان بشعبية هائلة لم يسبق لأي قائد عربي أن تمتع بها في التاريخ الحديث. ولم تأت هذه الشعبية من فراغ، بل لأن عبد الناصر قدم للمصريين خدمات أساسية لم تكن في متناول ايديهم ولم يحلموا بالحصول عليها: تعليم مجاني، خدمات صحية مجانية، وظائف استوعبها الجسم الطفيلي للدولة وقواتها المسلحة والأمنية لكنها خلقت فرص عمل للملايين، إصلاح زراعي وزع الأرض على الفلاحين المعدمين وزاد من مساحة الأرض الصالحة للزراعة بإنشاء السد العالي وكثير من المنجزات الإجتماعية الأخرى. حقا إن تلك المنجزات جاءت على حساب إفساد قطاعات شعبية واسعة وإفقار الثقافة السياسية للمصريين وعسكرة المجتمع، والأهم إقامة نظام بوليسي شرس إلا إن تلك البشاعات لم تكن ذات أهمية إلا للفئات المتعلمة والمسيّسة.
فما الذي قلب الآية منذ السبعينات؟ ليست الحركات السياسية هي التي تغيرت، مع إنها راجعت كثيرا من مواقفها وأجرت تعديلات على سياساتها بعضها جوهري بالطبع، إلا أن التغير الأهم حصل في الإطار الذي عملت في ظله تلك الحركات، يسارية كانت أم يمينية، علمانية أم دينية.
لم يكن دخول دول المنطقة ( في فترات متباينة لكنها متقاربة) في عصر الإنفتاح والخصخصة انتقالا إلى نظام السوق الحر بالمعنى الدقيق للكلمة. فقد هجمت رأسمالية وحشية مكونة من طغم قليلة العدد لتغرف ثروات البلد مستغلة علاقاتها العائلية ومواقعها السياسية وتضامناتها المناطقية أو الطائفية أو الدينية. كانت تلك الطغم قد نشأت في أحضان النظم "التقدمية" السابقة. فبسط الدولة نفوذها على المواقع الإقتصادية الأساس ولّد نقيضه الجدلي: مكاسب للفئات الشعبية من جهة ولصوصية فرخّت ما كان يسمّى بالقطط السمان شارك فيها كل قادة الدولة عمليا, وهم الذين شكلوا نواة "الحيتان" فيما بعد.
لسنا في معرض تحليل تركيب تلك النظم وما تلاها، بل نريد أن نرصد تأثيراتها الإيجابية أو السلبية على الحركات السياسية المختلفة. فمن الناحية النظرية كان مفترضا أن تتقدم القوى اليسارية، وهي المنادية بالإشتراكية، لتتصدر الهجوم على نظم لم تنتقل إلى السوق الحر بالمعنى الدقيق (كما فعلت دول ساهم انتقالها في توفير مكاسب هائلة للفقراء كالبرازيل والهند) بل إنها تخلت عن أبسط واجبات الدولة ولم توفر شبكات حماية اجتماعية لملايين العاطلين والمعدمين.
كيف نظر رجل الشارع (والمرأة) العادي إلى طرفي المعادلة السياسية في ظل نظم الإنفتاح الوحشي؟
عاد منفيو الإسلام السياسي من دول الخليج والسعودية وإيران محملين بملايين، بل بمليارات، الدولارات التي انصبت عليهم من الدول نفسها أو من متمولين وجدوا أن من مصلحتهم نسج علاقات مع تلك القوى. ومع أن كثيرا من تلك الأموال ذهبت إلى جيوب القادة كما يعرف كل من تابع أوضاع مصر وتونس والعراق عن قرب، إلا أنهم نجحوا في إقامة دولة ظل أو دولة موازية في الوقت المناسب تماما، مقدمين الخدمات والإعانات للمحتاجين، ومؤسسين لمدارس ومستوصفات، ولم ينسوا في الوقت ذاته تعظيم مكاسبهم عبر إقامة مصارفهم الإسلامية وشركاتهم التي خلقت فرص عمل للآلاف. ومن الطبيعي ألا تتحقق كل تلك الخدمات من دون ثمن مفروض بالقوة أو بحكم العادة أو لكسب رضا قادة هذه الدولة الموازية، وأقصد بهذا الثمن الإذعان الآيديولوجي لهم والتبني التدريجي لأفكارهم، أو على الأقل، النظر إليهم كقوة تقدم لهم قدرا من الحماية في الوقت الذي ألقت بهم الدولة في الشوارع. وفوق كل هذا قدم هؤلاء أنفسهم باعتبارهم المحاربين للفساد والظلم للنظم الدولتية السابقة ونظم الإنفتاح الوحشي، مع إنهم من أكثر المستفيدين من الأخيرة.
ما الذي قدمه اليسار في هذا الظرف؟ سيكون من الظلم أن يطالب أحد اليسار بتقديم ولو جزء بسيط من خدمات "الدولة الموازية" الغارقة بأموال تتدفق عليها من عشرات الجهات. ولكن ليس من الظلم التذكير بجوانب من نشاط الأخير وطرائقه في التعامل والعيش لم تكن تخطؤها أعين البسطاء. فقد التصق الشيوعيون بأنظمة دكتاتورية وراحوا يبررون وحشيتها تحت مسميات ملفقة من نوع "لاديمقراطية لأعداء الشعب" و"بلدان التطور اللارأسمالي" و "بلدان التوجه الإشتراكي "تاركين تعريف الأعداء لأهواء الأنظمة وأهوائهم، وهنا يقدم الحزب الشيوعي السوري المثال الأكثر جلاءا على ظاهرة العيش على فتات أنظمة لايكن لها شعبها غير الكراهية. وذهب هذا الإلتصاق حدا حل معه الحزب الشيوعي المصري نفسه ليندمج في اتحاد عبد الناصر الإشتراكي أو دخل طرفا تابعا في جبهات كارتونية مع أحزاب السلطة. وأغمض الشيوعيون أعينهم عن النهب والفساد المستشريين في القطاعات الإقتصادية التابعة للدولة باسم الدفاع عن مكتسبات الشعب مكتفين بانتقادات خجولة لبعض المظاهر الثانوية. غير إنه لابد أن نذكر هنا إن يساريين وماركسيين وشيوعيين في معظم، إن لم يكن كل، دول المنطقة ظلوا يتبنون مواقف نقدية معارضة للأنظمة الحاكمة وللشيوعيين الرسميين في آن واحد ودفعوا ثمنا باهظا بسبب مواقفهم تلك، لكن رؤية الشارع ظلت تساوي بين اليسار والأحزاب الشيوعية الرسمية.
ومع إن افتقار اليسار للموارد المادية أمر جلي للعيان، إلا أن القليل الذي توافر للشيوعيين كان كفيلا بتقديم صورة عن طرقه في استغلال تلك الموارد. فقبل سقوط نظم اشتراكية الدولة (على حد تعبير الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس) كان الشيوعيون يتمتعون بامتيازات أثارت حقد سكان تلك البلدان أنفسهم، إذ كان يقال لهم إن الأموال المقتطعة من دخول المواطنين تذهب لمساعدة حركات التحرر في البلدان الفقيرة فإذا بهم يرون بأم أعينهم قادة تلك البلدان "الفقيرة" يأتون إلى موسكو وغيرها من عواصم بلدان النظم الشيوعية مرتدين أكثر الملابس أناقة ويتمتعون بالعلاج في مصحات ومستشفيات لايحلمون بدخولها، وتنفتح أمامهم مخازن اللجان المركزية التي تبيع أرقى البضائع المحرم عليهم دخولها وتقدم لهم ولأبنائهم وأزلامهم والمحسوبين عليهم المنح الدراسية. وإذ يعود أولئك "المناضلون" إلى ديارهم فإنهم يأنفون من السكن في أحياء من يدعون تمثيلهم ويختارون المواقع المتميزة في العواصم لتكون مقرات لأحزابهم.
في ظل هذه الظروف نجحت القوى الإسلامية في أن تكون طبقة هيمنية بالمعنى الغرامشي للكلمة، أي إن قادتها وقواعدها باتوا يشتركون في القيم والمعايير ذاتها و في أماكن السكن ذاتها، ويمارسون الطقوس والعادات ذاتها لدرجة صار من الممكن الحديث لا عن دولة ظل أقامتها تلك القوى فحسب، بل عن مجتمع ظل متماسك ومتضامن كذلك. ودفعا لأي التباس، لابد من القول هذا التشارك لا يعني أن القادة لا يعيشون حياة باذخة يعرف أتباعهم بعض تفاصيلها، لكنهم يبررون ذلك كما يبرر أفراد العشيرة تميز قادتهم بوصفه ضرورة لإضفاء الهيبة على الجماعة كلها. أضف إلى ذلك إن هؤلاء الأتباع لايرون حكام دولة ظلهم يعيشون على حساب إفقارهم كما هو الحال بالنسبة للدولة الرسمية. فالأموال التي تنهال على الجماعات الإسلامية، من وجهة نظرهم، هبات وزكاة تدفعها مصادر خارجية، ويتكفل القادة بتحويل قسم منها كمكرمة لاكحق للأتباع. من هنا، وليس من تعاليم إسلامية مزعومة، يعارض قادة الجماعات الإسلامية أي دعوة للديمقراطية على مستوى المجتمع وفي داخل تنظيماتهم.
لننتقل من كل ما سبق إلى أسئلة الحاضر والمستقبل، من دون ادعاء بأن الكاتب قادر، أو طامح، للتنبؤ بمصائر الثورات الراهنة.
إن للثورات منطقها الخاص بها والثوري الذي يتظاهر أو يعتقد أنه قادر على تغيير هذا المنطق بالوجهة التي يريد سيدفع الثمن غاليا بعزل حركته عن مجرى الأحداث وعن الجمهور الذي يزعم تمثيله، كما إن شكل الثورات وأهدافها ليسا كافيين لتحديد مصائرها. والمثال الأبرز على هذه الإطروحة هو أول الثورات السلمية في العصر الحديث على نطاق العالم كله: أقصد الثورة الإيرانية التي سبقت ثورات أوربا الشرقية بعقد من الزمن وكانت تهدف إلى إسقاط نظام دكتاتوري فاسد. وكلنا يعرف مصير تلك الثورة التي لعبت فيها قوى اليسار من حزب توده إلى منظمة فدائيي الشعب مرورا بحركة بيكار التروتسكية أدوارا بطولية.
ليس فيما أقول دعوة للتشاؤم غلى الإطلاق، بل هو اتباع لنصيحة غرامشي الذي أستشهد به ثانية: أن تبني تحليلك على "تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة". أعرّف اليسار في عصرنا بأنه الحركة أو الحركات التي تتبنى قيم الديمقراطية والعدالة الإجتماعية والحرية والعلمانية والساعية إلى إطلاق المبادرات الذاتية الجماعية في مواجهة تحكم الدولة وممارستها دورا أبويا على شعوبها. إن تعريفا كهذا يفصل الإلتباس بين اليسار واللبرالية (وقد شاع التغني بها منذ تراجع اليسار التقليدي) لأن الأخيرة لاتتبنى مبادئ العدالة الإجتماعية (وإن رفعت شعاراتها) كما إنها تعارض المبادرة الجماعية لصالح سعي الأفراد لتعظيم مكاسبهم حتى وإن كانت على حساب المصالح الإجتماعية. وفي الوقت نفسه، فإن هذا التعريف يمثل قطعا مع اللينينية التي أغامر بالقول أنها ألحقت ضررا فادحا بالمفهوم المادي للتاريخ في مساواتها بين الإشتراكية والدولتية التي لابد أن تولد الفساد وإعادة إنتاج مجتمع طبقي وتبسط قبضتها البوليسية على شعوبها وتحيلهم إلى قطيع خاضع لسلطة حزب حاكم أو قائد فرد.
وفقا لهذا التعريف، بوسعنا القول أن اليسار لعب أدوارا بارزة في الثورتين التونسية والمصرية وكان المبادر في إطلاق شرارتها ، غير إن القوى الإسلامية استفادت من نقاط قوتها التي أشرنا لها أعلاه لتركب الموجة الثورية لاحقا. ومع هذا فقد أثبتت قوى اليسار قدرتها على تحريك الشارع حتى حين امتنع الإسلاميون عن المساهمة في الفعاليات الجماهيرية. أما في سوريا واليمن وليبيا فلا يبدو حتى الآن إن الإسلاميين يلعبون أدوارا قيادية في ثورات بلدانهم، وإن كانت الحالة الليبية تنطوي على بعض الإلتباس. لكننا إذ عرّفنا اليسار على النحو أعلاه، لابد وأن نشير إلى أن الأشكال التي تتخذها الحركات التقدمية وأساليب عملها وشعاراتها وبرامجها لن تكون وليس مطلوبا أن تكون متماثلة، وهنا يبرز اختلاف آخر عن الحركة الشيوعية السوفييتية التي كانت تفرض على كل أتباعها قوالب متماثلة أدّت إلى كوارث. فمستوى التطور الإجتماعي- الإقتصادي والإرث الحضاري ومستوى التعليم في كل بلد تجعل من مهمات اليسار والأهداف التي يناضل من أجلها، وحتى الشكل الذي يتخذه مختلفا في مصر وسوريا وتونس عما هو عليه في اليمن أو ليبيا. من هنا فإن العمل على تثبيت أسس دولة علمانية في تونس سيكون اسهل مما هو عليه في بلدان أخرى.
لكن الأمر المشترك الذي كان محسوسا منذ أكثر من عقد وأثبتته الثورات الراهنة يتمثل في موت الحزب السياسي التقليدي (يمينيا كان أم يساريا) ذي الطابع الهرمي والإنضباط الخانق للممارسة والحرية الفردية والإلتزام بتعليمات القيادة. والأهم من ذلك كله موت مفهوم الطليعة التي تنوب عن الشعب في تحديد مصالحه وتزعم إدخال الوعي إلى حركته العفوية وتقوم بدور الجسر الرابط بين الأفراد والمناضلين لتنسيق النشاط الثوري، أي باختصار، موت اللينينية كمفهوم وطريقة للعمل الحزبي.
ومع إن علينا أن نتذكر بأن الإنترنيت ووسائل التواصل الإجتماعي لاتزال بعيدة عن متناول قطاعات واسعة من أبناء منطقتنا من الفقراء وسكان المناطق النائيةـ إلا أن هذه الوسائل لعبت وتلعب منذ الآن دور الجسر الرابط الذي كانت الأحزاب التقليدية تقوم به. لكن هذه الوسائل تقوم بهذا الدور بشكل أكثر ديمقراطية بكثير إذ أنها لاتنقل تعليمات وأوامر القادة إلى القواعد بل تتبادل آراءا ومواقف مختلفة للوصول إلى قاسم مشترك يجمع بين أفراد الجماعة الواحدة من دون قسر الأعضاء على تبني موقف الأغلبية بشكل حرفي. وبهذا فإلى جانب نزع تلك الوسائل دور الجسر عن الحزب السياسي، فإنها تضيف مسمارا آخر إلى نعش مفهوم الطليعة الحزبية، أو طليعة الطبقة.
لقد خرج من هذه الثورات يسار جديد تحدثت عنه في مقال سابق ( نشر في صحيفة الحياة وتفضل موقع الحوار المتمدن بإعادة نشره). إنه يسار يمثل قطعا مع اليسار الشيوعي كتنظيمات لكنه استوعب اليسار الذي لعب أدوارا بارزة في بلدانه حين عارض الأنظمة الحاكمة والشيوعية التقليدية وحورب من كليهما: رابطة العمل الشيوعي وأنصار رياض الترك في سوريا وحزب العمال الشيوعي وحزب الشعب في مصر وغيرهم كثيرون. هذا اليسار مكون في الأساس من قوى شبابية تعيش وسط الناس سواء كانوا من أبناء الطبقات الوسطى أو الفقيرة، فليست العبرة في كون المناضلين فقراء بل في عيشهم بين الناس وتفهم همومهم. ولأن هذا اليسار يتبلور الآن فعلينا ألا نتوقع أن يحتل موقع الصدارة في الأمد القصير، كما إن بعض المبادئ التي اعتدنا الحديث عنها تصلح لأن يتم الترويج لها عبر العمل الفكري الذي يستفز العقول بالمعنى الإيجابي، ووسيلة لتجميع قوى قادرة على الوقوف بوجه الإسلام السياسي لكن علينا ألا نرفع سقف توقعاتنا إذ أن معركة كهذه ستستفز قوى متخندقة تدرك أن الدولة المدنية أو العلمانية تهدد أساس مصالحها وتنزع عنها مشروعيتها وتحرر الناس من سلطتها. وغالبا ما ننسى إن الثورة الفرنسية التي ارتبطت في أذهاننا بالعلمانية لم تكن كذلك، ولم تتبن فرنسا العلمانية إلا في عام 1905، أي بعد مئة وستة عشر عاما من الثورة. وما أريد قوله هنا هو أن العلمانية والوصول إلى أن يكون للمرأة موقعا متساويا تماما مع الرجل وغيرها من المبادئ والطموحات المشروعة التي يتبناها ويؤمن بها التقدميون ليست قرارات تتخذها سلطة ما بل هي عمليات تاريخية لن تتحقق إلا بجر غالبية المجتمع إلى الإيمان بها وتبنيها. ولن يتحقق ذلك إلا عبر خطوات تراكمية قد لاترضينا، وهي لاترضينا بالفعل، ولكن لو كان النضال الدؤوب يتحقق بقرارات لما كان يستحق تسميته نضالا.
القضية إذن ليست في مشاركة المرأة فقط، بل في أي قطاع من النساء يشارك في هذه العملية التاريخية. وأشير هنا إلى مثال أظنه ذي مغزى حين كان كاتب هذه السطور المستشار العراقي المتفرغ للعمل مع السيد الأخضر الإبراهيمي مندوب الأمين العام للأمم المتحدة في مهمة نقل السلطة من الإدارة الأمريكية إلى قيادات عراقية. كان هناك إصرار من جانبنا على تمثيل المرأة بما لايقل عن ربع المقاعد في البرلمان والوزارات (وطالبت كذلك بأن تحتل امرأة منصب نائب لرئيس الوزراء) رضخت له الأحزاب الدينية بعد ممانعة. لكن النتيجة كانت صعود كثير من النساء اللواتي يرين أن الرجال قوّامون عليهن وإن الولاية، أي المراكز القيادية، لا يمكن أن تكون إلا للرجال!!! وفي المقابل نرى أن الحزب الشيوعي العمالي التونسي يفتخر بأن امرأة تقوده وإن الناطق الرسمي باسم المجلس الإنتقالي السوري امرأة وإن اليمنية توكّل كرمان حصلت على جائزة نوبل للسلام عن دورها القيادي في الثورة اليمنية وإن ثمة قيادات نسائية بارزات يدافعن عن حقوقهن في العراق.
ولكن علينا الإعتراف هنا بأن هذه تبقى حالات فردية متفرقة. فلا الشباب ولا النساء حصلوا على ما يتناسب مع أدوارهم في مراكز صنع القرار الحزبية حتى في داخل الحركات التقدمية ولاتزال وجوه الشيوخ المتكلسة الباردة تطالعنا في كل لقاء رسمي مهم سواء داخل التنظيمات التقدمية أو بينها وبين حركات أخرى أو بينها وبين السلطات الحاكمة. ولعل هذا الجمود يفسر أسباب قيام الشباب بتشكيل حركات جديدة مثل 6 أبريل في مصر.
ختاما، يصعب على أي كاتب مسؤول يرفض فكرة الطليعية أن يلقي مواعظ على شعوب وثوار هم أدرى بمجتمعاتهم. ولكن ثمة مبادئ لم يعد يختلف عليها إثنان مثل سيادة القانون والشفافية والديمقراطية. غير أن بودي طرح فكرتين، أظنهما تستحقان النقاش وهما لاتتعلقان ببلد بعينه بل بمنطقتنا عموما مما يعني أنهما قابلتان للتكيف، ولابد أن تتكيفا، مع ظروف كل مجتمع. أولاهما هي ضرورة أن ترمي القوى الديممقراطية بكل ثقلها للضغط باتجاه إقامة وترسيخ نظم اشتراكية ديمقراطية على غرار نظم أوربا الغربية قبل أن تكتسحها موجة الخصخصة أوائل الثمانينات. مثل هذه النظم تكفل حقوق المواطنين في الحصول على حد معيشي أدنى، كما تضمن لهم الحق في التعليم والضمان الصحي والخدمات الأساس في ظل نظام رأسمالي يمكّن العمال من المطالبة بزيادة إجورهم بالتناسب مع تغير الأسعار ومستوى الأرباح التي يجنيها الراسماليون كما إنه يشجع عملية التطور الإقتصادي والعلمي والثقافي التي تخلفت عنها منطقتنا لعقود طويلة. تنطلق الدعوة لإتباع نظام كهذا لأنه الوحيد القادر على الإستجابة للمطالب التي تبنتها وتتبناها القوى التي أسقطت الأنظمة الفاسدة: الكرامة والديمقراطية. والنظام الإشتراكي الديمقراطي القادر على تحقيق أهداف سامية من دون اللجوء إلى إقامة دولة بوليسية باسم التصنيع والتقدم. كما أن هذا النظام سيكون أداة جبارة لعزل قوى الإسلام السياسي إذ يوفر للمواطنين الحقوق وفرص العمل ومستويات العيش الكريم التي استغل الأخير غيابها ليملأ الفضاء الإجتماعي- السياسي ويتصدره. وهذا ما كنت أعنيه في بداية المقال من أن قوى اليسار ليست مطالبة بخوض الصراع مع القوى الإسلامية على أرضية الأخيرة لا لأنها ستخسر المعركة سلفا إذ هي لاتملك الإمكانات التي يمتلكها الإسلاميون فحسب، بل لإن ما تحصل عليه جماهير الإسلاميين هو أشبه بالصدقة أو المنّة التي تحط من كرامتهم. وليس هذا هو حال الحقوق التي يجب أن يطالب المواطنون بها من دولتهم في ظل الإشتراكية الديمقراطية.
أما الفكرة الثانية فهي تكتيكية تتعلق بالمدى القصير. فقد بات من المسلم به إن القوى الإسلامية حصلت وستحصل على أعلى عدد من الأصوات حيثما جرت انتخابات ديمقراطية في منطقتنا. غير أن ايا منها حتى الآن لم يحصل على عدد من المقاعد يؤهله للحكم منفردا.، كما أن القوى الإسلامية غير متطابقة التوجهات والسياسات لأن المجتمعات التي تنشط فيها مختلفة. فحزبا النهضة التونسي والعدالة والتنمية المغربي يسعيان للسير على طريق حزب العدالة التركي فيما يتخذ الأخوان المسلمون في مصر خطا أكثر انغلاقا وعدوانية. ولعل هذا الواقع المعقد يوفر لليسار فرصة إضافية في تقوية مواقعه والدفاع عن مصالح الشعب برفضه المشاركة في حكومات توافق وطني ترقيعية يتحمل فيها الأخير وزر سياسات تتخذها القوى الإسلامية صاحبة القرار الفعلي وصانعة السياسات الموجّهة للبلد. ولإن قوى اليسار الجديدة لم تتعرض للإفساد (بعد على الأقل) فإن من مصلحتها البقاء في المعارضة على مستوى البرلمان وعلى مستوى الشارع لكي تمضي في ضغطها على أي تجاوز يمس حياة المواطن وكرامته.
فأما الزبد فيذهب جفاءا، وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض.