ربيع عربي – صيف أوروبي – خريف أميركي أتناقض ثان للرأسمالية ؟


ثامر الصفار
الحوار المتمدن - العدد: 3567 - 2011 / 12 / 5 - 19:50
المحور: ملف - حول دور القوى اليسارية والتقدمية ومكانتها في ثورات الربيع العربي وما بعدها - بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن 2011     

أود اولا تقديم الشكر للحوار المتمدن على دعوتها لي للمشاركة في هذا الملف الهام. وثانيا استميح القارئ عذرا لكوني سأبدء بطرح بعض الاساسيات، المعروفة:

1- تتميز الماركسية بأنها عملية وعلمية في آن واحد. وكانت قد انطلقت من جدلية هيغل وتطبيقها على التاريخ والطبيعة لتقول بأن كل كائن حي ينطوي في داخله على عوامل تغييره. ففُسر التاريخ وحركته كسلسلة من التناقضات يولد الواحد منها ما يليه عبر سيرورة الميلاد والنمو والفناء، لنصعد بحيواتنا من الادنى الى الاعلى.
2- ثم ظهر الخلاف مع هيغل لقوله بأن «الفكرة» موجودة منذ الازل وجرى تجسيدها في الطبيعة كنقيض، لتدخل بعد ذلك في وعي الانسان المفكر ليتولد عنها تركيبة او جميعة جديدة. أي، ان الفكرة أو الانسانية المفكرة هي التي تصنع التاريخ.
3- عندها قال ماركس بأن هيغل » أوقف الإنسانية على رأسها« وأكد بأن الواقع المادي (الاقتصادي) للحياة هو الذي يولد وعي البشر ويحكم بالتالي مايختارونه من بنية فوقية يجب ان تنسجم مع ذلك الواقع وإلا وقع التناقض الذي يتوجب تصحيحه.
4- وعند تفسيرالتاريخ على اساس مادي (اقتصادي) يتميز امامنا جانبان: الاول، هو وجود بنية تحتية تمثلها قوى الانتاج، وبنية فوقية تمثلها مختلف جوانب الحياة الانسانية ( علاقات الانتاج). والجانب الثاني، ظهور تناقض بين البنيتين وممثليها ( تناقض بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج)، ويعرف عند الماركسيين بأنه التناقض الرئيسي، ويولد هذا التناقض أزمة تعجل بالانتقال الى شكل أرقى في اسلوب الانتاج. وهذا الانتقال بحاجة الى من يقوم به أي حامل اجتماعي يكون له المصلحة الاساسية في التحول.
5- في المراحل المتأخرة من الرأسمالية ، وحسب التناقض الرئيسي لها تكون الطبقة العاملة هي صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير، إذ « لن تخسر سوى قيودها».

مقابل ذلك كان لابد من وجود الطبقة الرأسمالية صاحبة المصلحة الحقيقية في عدم التغيير. ولهذه الطبقة مفكريها ايضا، خصوصا الذين استوعبوا الماركسية وفهموا التناقض الرئيسي ذي الطبيعة المتأصلة والثابتة، وادركوا ضرورة التعامل مع الحامل التاريخي، الطبقة العاملة، باعتبارها المتغير الوحيد الموجود امامهم.

قُسمت الطبقة العاملة الى قسمين يعيش الاول منها في بلدان المركز والثاني في بلدان الاطراف. جرى التعامل مع القسم الاول على اساس مخطط مدروس بعناية أبتدء العمل به منذ ستينيات القرن الماضي وامتد الى نهاية التسعينيات. من أهم نقاطه:
• فسح المجال لنيل الكثير من الحقوق: 8 ساعات عمل، حق الاضراب، مخصصات اجور عالية، تأمينات صحية وغيرها.
• دفع الحوافز الانتاجية على شكل أسهم في نفس الشركات والمصانع التي يعملون فيها.
• تسهيل إجراءات تمليك البيوت والسيارات حتى للذين يعملون بدوام جزئي.
• تفريغ قيادات النقابات للعمل النقابي مع تخصيص رواتب واجور عالية تضاهي ما يحصل عليه المدراء وكبار موظفي الدولة.
• التساهل والمرونة عند تلبية مطالب العمال في زيادة الاجور وغيرها.
والى جانب ذلك:
• ابقاء حق انهاء الاضراب بيد الحكومات حيث يمكن الادعاء بان الاضراب في هذا القطاع او غيره يضر بالمصالح العليا للبلد او للمواطنين.
• وفي حالة الرفض او محاولة العصيان يجري استخدام اشد وسائل العنف من قبل الحكومات لانهاء ذلك.
• التقليل شيئا فشيئا من وزن الصناعات الاولى لجهة الصناعات الثانية ( التحويلية) ومن ثم الثالثية ( المعلوماتية، الخدمات والبيع بالتجزأة ).
• الانتقال الى صيغة نقد – نقد لتحقيق الارباح بدلا من الصيغة التقليدية نقد – بضاعة – نقد. أي توليد الارباح عبر القروض وبطاقات الائتمان دون الحاجة الى العمالة الانتاجية.
• اتباع اسلوب العمل 24 ساعة يوميا خصوصا في قطاع الخدمات والبيع بالتجزأة فتم بذلك تشغيل الكثير ولكن بالحد الادنى للاجور وبدون اي فوائد او ضمانات، وفي نفس الوقت فتح المجال امامهم للاستدانة اكثر فاكثر عبر تسهيل حصولهم على بطاقات الائتمان بفوائد عالية مما يحقق للرأسمالية ارباحا هائلة دون عناء عملية الانتاج .
وهكذا اصبح للعمال ما يخسرونه في حال رفضهم للواقع المادي (الاقتصادي).

أما بالنسبة للقسم الثاني منهم، ممن يعيشون في بلدان الاطراف، حيث تكشف الرأسمالية عن وجهها القبيح فقد وضعت خطة أخرى كان من اهم بنودها:
• ربط اقتصاد هذه البلدان باقتصاد المركز لجهة استغلال مواردها الطبيعية وكمستهلك لما ينتجه المركز.
• السكوت واعطاء الضوء الاخضر لحكومات هذه البلدان لممارسة اقصى درجات العنف والبطش وقمع الحريات عبر العمل بالاحكام العرفية لاربعين سنة تقريبا مع التركيز على قمع الطبقة العاملة واحزابها وكل القوى الديمقراطية لابعادهم عن التماس المباشر مع شعوبهم.
• خلق الحروب والصراعات بين هذه البلدان لتصبح شعوبها وطبقتها العاملة وقودا لها.
• أغراق الاسواق بالمنتجات الاستهلاكية لتعزيز النزعة الاستهلاكية لشعوبها.
• الاستفادة من انهيار (التجربة الاشتراكية) في شن حملة دعائية وفكرية تؤكد على فشل المشروع الاشتراكي وفشل الماركسية كمشروع مستقبلي.
• فسح المجال امام تيارات الاسلام السياسي، بهذا القدر او ذاك، بحسب ما تقتضيه الظروف لمواجهة قوى اليسار، وبالتالي تقديم بديل خيالي، سمائي، بدلا من البديل الواقعي، الارضي.
• ربط مفهوم العلمانية بكل مظاهر التردي والسوء التي تعيشها شعوب المنطقة، فأنظمة تونس ومصر والعراق وسوريا لم تكن دينية. ويمكن القول بأن ما يجري في بعض البلدان الاوروبية من محاربة بعض المظاهر الاسلامية المتطرفة ( الحجاب والنقاب مثلا) تحت شعار علمانية هذه البلدان، يصب ايضا في خدمة هذا الهدف: العلمانية = الالحاد.
نتائج هذه الخطط تمثلت في:
1- إضعاف أو تلاشي فكرة التضامن الاممي.
2- تماهي الطبقة العاملة – البروليتاريا – بين قطاعات التحويلية والاتمتة والخدمات بحيث لم يعد هناك ثمة حاجة الى تجمعهم في مكان واحد للقيام بالعملية الانتاجية؛ فالعمل يمكن ان ينجز في اماكن مختلفة بما فيها المنزل خصوصا في مجال المعلوماتية.
3- مع بداية التسعينات والعقد الاول من القرن الحالي بدأت عملية استرجاع كل ما حصلت عليه الطبقة العاملة خلال العصر الذهبي.
4- نشوء حالة من اليأس عند شعوب بلدان الاطراف عموما والقوى اليسارية خصوصا – وهذا ما ادى الى تشتتها – من امكانية احداث تغيير سيما ونحن نعيش حالة القطب الواحد.
5- انفتاح شهية الرأسمالية بعد ان ( انتهى التاريخ) حسب قول مفكريهم، للمزيد من الاستغلال البشع سواء للانسان او للطبيعة ومواردها.
وغير ذلك الكثير مما لا يسمح المجال لتعداده لكننا نعيشه يوميا سواء في المركز او في الاطراف.

على اساس ما تقدم اجد نفسي ميالا الى رفض تسمية او تعبير الربيع العربي الذي انتجته وسائل الاعلام الغربية اولا ثم تلاقفه الجميع. والهدف من هذا التعبير هو حصر ما جرى ويجري من احداث في المنطقة العربية وعدم لفت الانظار الى الصفة العالمية للاحداث. وحسبي التذكير بما حصل ويحصل في اوروبا وامريكا. بمعنى آخر ان ما يحدث يرتدي سمة عالمية ولا يقتصر على منطقة معينة. وبالتالي يتوجب علينا معاينة المشتركات في تجلياتها المنطقية الامر الذي يمكن او يوصلنا الى فهم الاساس النظري لها:

كان اندلاع الاحداث على يد الشباب، المتعلم منهم خصوصا والقادر على الاستفادة من تقنيات المعلوماتية. بيد ان مشاركة بقية فئات الشعب كانت هي العامل الاساسي في استمرارها وحتى نجاحها. وميزة هذه المشاركة انها جرت على اساس مطالب عامة لا تخص الطبقة العاملة لوحدها بل جميع فئات الشعب باستثناء الرأسماليين ومن ارتبط مصيرهم بهم وبالسلطات الحاكمة.
ولم تكن هذه الجماهير (الاغلبية) صاحبة ايديولوجية معينة او متحزبة، لكن ذلك لا ينفي الدور الذي لعبته الاحزاب السياسية المتواجدة في كل بلد خلال السنين السابقة.
كما امتازت حركة الجماهير بشعارات ذات طبيعة قطرية، ولكن بسبب تشابه الحالة في العديد من البلدان جعل الشعارات تتشابه ( حرية، عدالة، كرامة انسانية، توزيع عادل للثروات، القضاء على الفساد الحكومي، والحريات الديمقراطية).
وكانت هذه الجماهير اللاحزبية معادية للرأسمالية سواء عرفت ذلك (اوروبا واميركا) ام لا (البلدان العربية) لان السبب في اوضاعهم وظروف معيشتهم المزرية التي دفعتهم للانتفاض ضدها ومحاولة تغييرها كان النهج الرأسمالي الذي مكن كبار الرأسماليين من التحكم بمقاليد الحكم وجعل الدولة ومؤسساتها وشعبها في خدمتهم (تونس، مصر، سوريا، ايطاليا، اليونان وغيرها).

وعلى اساس ما تقدم يمكن القول ايضا بأن النتائج التي صبت في صالح تيارات الاسلام السياسي مفهومة في منطقتنا استنادا الى الاسباب التي ذكرناها آنفا، بيد ان هذه الظاهرة لا تقتصر على منطقتنا فقط فهذه شعوب بعض الدول الاوروبية تتجه لانتخاب احزاب اليمين بعد فشل احزاب الاشتراكية الديمقراطية في تقديم الحلول وضعف القوى اليسارية الحقيقية في تقديم خطاب متطور ينسجم مع حركة التاريخ وتطوراته.

المشكلة إذن تكمن في خطابنا وطريقة التعاطي مع الاحداث وفهم القوى المحركة للثورات وتمسكنا الجامد بحتمية الانتصار على اساس التناقض الرئيسي للرأسمالية وبأن الطبقة العاملة هي صاحبة المصلحة الحقيقية، الوحيدة، في التحول الى المجتمع الجديد. ونسينا ان ماركس نفسه وبرغم تأكيده على حتمية التناقض الرئيسي إلا انه لم يقل انه التناقض الوحيد وفسح المجال للمزيد من الابحاث حسب تطور التاريخ لاكتشاف تناقض ثان يصب في مصلحة التحول الى المجتمع الجديد.

إن ما اطرحه هنا ليس جديدا فقد سبق وان طرحه الباحث الماركسي جيمس أوكونور، استاذ علم الاجتماع والاقتصاد في جامعة كاليفورنيا، عام 1988. وسأحاول هنا تقديم ملخص موجز لاهم افكاره على امل ان ان اتمكن في القريب العاجل من توضيحها بشكل مفصل.

يقدم لنا مؤلف البحث طريقته ومنهج بحثه التفصيلي لتطوير ماركسية ايكولوجية يعتبرها خطوة ضرورية لتطوير الماركسية التقليدية. والواقع انه يقدم نظرية عامة عن تطور الراسمالية وامكانية تجاوزها الاشتراكي عبر تعاون وثيق بين الازمات الايكولوجية والحركات الاجتماعية. وقد صيغ البحث على درجة عالية من التجريد لكنه يدرك بوضوح اهمية البيئة المحلية وكذلك دور الصدفة في عمليات التطور الفعلية، ولهذا نجده يدعو جهارا ً الى ضرورة القيام بتطبيقات عملية لاختبار صحة افكاره. فهل ما نشهده اليوم هو تلك التطبيقات؟

يتمحور البحث على فكرة ان الحكاية الماركسية التقليدية حول التناقض الرئيسي والمركزي للراسمالية: تناقض بين قوى وعلاقات الانتاج الراسمالية، يجب تكملته بفهم جيد لتناقض ثانٍ: بين قوى وعلاقات الانتاج من جهة وبين ظروف الانتاج من جهة اخرى

قوى الانتاج  علاقات الانتاج   ظروف الانتاج

يتولد عن التناقض الاول ازمات فيض الانتاج وحركة عمالية واسعة، ولا ينتهي هذا التناقض الا بقيام علاقة جديدة بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج من خلال اعادة تشكيل نفسها باتجاه المزيد من جتمعة قوى الانتاج. وخلال هذه العملية تكون الحركة العمالية بمثابة الوسيط اللازم للانتقال الى المجتمع الجديد. بيد ان هذا الانتقال ليس مسألة مضمونة مقدما لكنه على الاقل قابل للتصور او الخيال بفعل تأثيرات الازمة الراسمالية وبفعل تنامي الطابع الاجتماعي للانتاج الراسمالي نفسه.

التناقض الثاني الذي يطرحه أوكونور يختلف عن الاول الا انه يحاكيه في ميله الى توليد الازمات وحركة اجتماعية عريضة (منظمات بيئية، حقوق انسان، وغيرها) تصبح هي الاخرى عائقا آخربوجه التراكم الراسمالي، وستطالب باعادة تشكيل ظروف الانتاج باتجاه اضفاء طابع اكثر اجتماعية عليها. وعليه فحسب رأيه ثمة طريقان الى المجتمع الجديد، الاشتراكي: طريق العمال وفق التناقض الاول، وطريق الحركات البيئية وغيرها من الحركات الاجتماعية في اطار التناقض الثاني. ويشير أوكونور الى ان هذا يترك فضاءا رحبا لمزيد من الابحاث في موضوعة التفاعل بين التناقضين والنتائج التي تتمخض عنهما، وفي علاقة التعاون والمشاركة بين قوى التناقض الاول وقوى التناقض الثاني.

أثار البحث بعيد نشره عام 1988 سلسلة من ردود الافعال والسجالات النظرية حول موضوعة التناقض الثاني. فمن الباحثين من اعترض على طرح أوكونور من ان التدهور البيئي محصور باطار العلاقات الاقتصادية الراسمالية ( المكسيكي فيكتور توليدو) مؤكدا على ضرورة فهم التدهور بصفته سمة عرضية لحضارة الحاضر او نمط الحياة، فالصين مثلا خير دليل على استمرار التدهور البيئي برغم اختلاف النظام. لكن قراءة البحث تجعل من الواضح ان اوكونور كان يؤكد فعلا على ان الازمات الايكولوجية من السمات الملازمة للنظام الراسمالي لكنه لم يطرح ابدا ان الراسمالية هي السبب الوحيد.

كما يعيب توليدو على اوكونور ايضا ما شاب بحثه من حتمية اقتصادية رغم ان اوكونور كان واضحا في تعامله مع مفهوم الراسمالية بانه لا يختزلها الى مجموعة من العلاقات الاقتصادية بل ثمة تأثير كبير للثقافة والحضارة بشكل عام على قوى وعلاقات الانتاج، وبالتالي فان تعريف " ظروف الانتاج" الذي استخدمه ينطوي على جملة من العلاقات الاجتماعية والسياسية، بما في ذلك اشكال العائلة، العمليات المدينية، وسائل الاتصال، مؤسسات الدولة خصوصا تلك المعنية بتهيئة ظروف الانتاج.

فسياسات الدول يمكن ان تكون مصدرا لاعظم المشاكل البيئية التي يمكن ان يكون لها صلات غير مباشرة بعملية تراكم رأس المال، مثالنا على ذلك: التطوير اللاعقلاني، اقتصاديا، للطاقة النووية والصناعات التحويلية، وربطهما بالاحتياجات العسكرية لمادة البلوتونيوم. كما ان لعمليات الاستهلاك للبضائع المنتجة اهمية هي الاخرى ومثالنا: استعمال السيارة الخاصة وما يصاحبها من بنية تحتية تنسجم مع هذا الاستخدام وتأثير ذلك على تلوث البيئة ودمارها. وهذا لا يعني بتاتا ان علينا معاينة الاستهلاك بمعزل عن الانتاج، ولكن من اجل فهم سياسات حركات البيئة علينا معاينة الاستهلاك " كلحظة " متميزة من النشاط الاجتماعي – الاقتصادي.

كما يطرح أوكنور ان النتائج الايكولوجية للتناقض الثاني لا تؤثر على عملية التراكم الرأسمالي فقط بل ان لها اهمية اخرى، فنشاطاتنا وممارساتنا اليومية، كبشر، خارج نطاق عملية الانتاج، لها " ظروفها" ايضا كما هو حال الانتاج وظروفه: الشوارع الامينة والهادئة والخالية من التلوث، توفر الاماكن للعب الاطفال خارج المنازل، حرية الحركة للنساء داخل المدينة، توفر فرص للجيران كي يلتقوا ببعض في اماكن عامة، توفر اماكن التنزه للعوائل. بمعنى آخر ان اهمال رأس المال لظروف الانتاج يمكن ان يجر ايضا الى اهمال الممارسات الاجتماعية اللاانتاجية الاخرى، وغالبا ما تشكل هذه التأثيرات غير المباشرة ،للتناقض الثاني، على حياة الناس " المادة الخام" لقضايا البيئة والصراع.

ويوجز الباحث تيد بينتون الامر بالقول: ان الحركات الاجتماعية التي تنشأ ارتباطا بالتأثيرات يمكن ان تحدد معنى لنشاطها وتعين اهدافا جديدة لها سواء كانت " الاسباب" تكمن في الانتاج الراسمالي ام لا. وطالما ان طبقات وشرائح اجتماعية مختلفة تتأثر بهذا الشكل او ذاك، وطالما ان لها مصادرمادية وثقافية متنوعة للرد على ما تواجهه، فان الحصيلة لن تكون مادة صلبة، بل مادة متجزأة ومنقسمة سياسيا، وهو ما يجعله يميل الى ماطرحه الباحث ميشيل ليوبنتز في سياق نقده لمبحث أوكونور والقاضي باعتبار كلا التناقضين " الاول" والثاني" بمثابة شكلين لتناقض وحيد بين " احتياجات رأس المال و احتياجات البشر"، وبكلمة اخرى توسيع مفهوم البروليتاريا الى شغيلة اليد والفكر.

ولكن تبقى المسألة الاساسية هي كيفيه وضع صيغة مفاهيمية للتناقض الثاني، وما هو الواجب شرحه وتوضيحه في هذه الصياغة. فطالما ان هذا التناقض الثاني يقدم لنا باعتباره علاقة بين قوى الانتاج (وعلاقاتها) من جهة وبين ظروف الانتاج من جهة اخرى، يتوجب علينا اولا ان نعاين هذا التمايز بحد ذاته.

برغم ان ماركس، نفسه، قد ميز " ظروف الانتاج" الا انه كان يميل ، اكثر من مرة، الى ضمها الى مقولة اكثر اتساعا: " ادوات" الانتاج، اي ضمها الى "القوى". في هذا المجال نجد ان أوكونور يقدم لنا تصنيفا قيما، وتعريفا صلدا من الناحية النظرية لـ " ظروف الانتاج". ففي مسار ماركسي واضح، يميز أوكونور ضمن ظروف الانتاج، "ظروف طبيعية خارجية" ( بضمنها ظروفا تعتبرعادة سمات للـ "البيئة الطبيعية": نظم بيئية، التربة، الهواء، الماء...الخ)، و "قدرة العمل" (بضمنها العمال باعتبارهم عضويات بايولوجية، الصحة النفسية والبدنية ..الخ)، و " ظروف عامة للانتاج الاجتماعي" ( بضمنها وسائل الاتصال، النقل، البنية التحتية ...الخ).

ولكي نجمع كل هذه المقولات المختلفة في كل واحد نسميه " ظروف الانتاج" لابد من القول ان رأس المال يعاملهم وكأنهم سلع، وإن كانوا لم يُنتجوا او يُعاد انتاجهم رأسماليا. وهذه الحقيقة الاخيرة تنطوي على ان السوق لا يمكن الاعتماد عليه لتنظيم مقاديرهم، او اصلاحها واستبدالها وتعديلها وفق الحاجة او الطلب. وستكون ثمة حاجة لتدخل امور غير اقتصادية (يفترض أوكونور انها الدولة او "رأس مال يتصرف كأنه دولة") لضمان المقادير الضرورية لخلق ظروف مناسبة لتراكم رأس المال. ولهذا السبب فان الازمات الناتجة عن تناقض قوى انتاج مع ظروف الانتاج " تربك" وتسيس عملية اعادة بناء ظروف الانتاج. فالدولة، او اذا شئنا بصورة اوسع، العمليات الاجتماعية-الاقتصادية "تتوسط" بين رأس المال والطبيعة.

هذا هو لب ما يطرحه أوكونور، وحجته قوية جدا. لكن الحاجة تتطلب المزيد من التفحص والمعاينة وجهد جماعي نتركه للمستقبل.

صفوة الكلام إذن ان علينا كماركسيين ان ننظر للامر على اساس المنهج التحليلي التركيبي الماركسي، وإن كنا نؤمن بصحة ويقينية التناقض الرئيسي للرأسمالية فهذا لا يعني ابدا التوقف عنده والايمان بحتمية الانتصار فماركس نفسه لم يقل ذلك بل اكد على ضرورة اتباع المنهج ضمن التطورات التاريخية لكي نستطيع ان نطرح خطابا ينسجم مع المعطيات. ان ما نشهده اليوم هو برأي التطبيق العملي لاراء جيمس اوكونور وبالتالي يتوجب علينا اعمال الفكر لايجاد الصياغة المفاهيمية لهذا التناقض الجديد الذي يمثل طريقا اضافيا للوصول الى مجتمع المستقبل، واعمال الفكر ايضا لفهم التبدلات التي حصلت في القوى المحركة للثورات وكيفية التفاعل فيما بينها.
انتهى