الفاشية ما هي؟ كيف نهزمها؟ - ليون تروتسكي


بشير السباعي
2020 / 8 / 25 - 09:51     

الفاشية

ما هي؟
كيف نهزمها؟

ترجمة / بشير السباعي

المحتويات

• الفاشية - ما هي ؟
• كيف انتصر موسوليني؟
• الخطر الفاشي يلوح في ألمانيا.
• حكاية أيسوبية.
• البوليس والجيش الألمانيان.
• البورجوازية والبورجوازية الصغيرة والبروليتاريا.
• انهيار الديموقراطية البورجوازية.
• هل تخاف البورجوازية الصغيرة من الثورة؟
• الميليشيا العمالية وخصومها.
• الأفق في الولايات المتحدة.
• لنبنِ الحزب الثوري!
• إشارات.


الفاشية - ما هي ؟

لقد نشأ الاسم في إيطاليا. فهل كانت كل أشكال الدكتاتورية المضادة للثورة فاشية أم لا (أعني، قبل مجيء الفاشية في إيطاليا)؟
يسمِّي الكومنترن ديكتاتورية بريمو دي ريبيرا السابقة في إسبانيا (1923 – 1930)، دكتاتورية فاشية. فهل هذه التسمية صحيحة أم لا؟ نحن نعتقد أنها غير صحيحة.
لقد كانت الحركة الفاشية في إيطاليا حركة عفوية لجماهير واسعة، صعد قادتها الجدد من القاعدة. إنها حركة عامية من حيث النشأة تُوَجِّهها وتُمَوِّلها قوى رأس المال الكبير. وقد انبثقت عن البورجوازية الصغيرة والبروليتاريا الرثة، بل وإلى حد معين عن الجماهير البروليتارية؛ وموسوليني، الاشتراكي السابق، هو رجل "عصامي" ظهر من هذه الحركة.
أما بريمو دي ريبيرا فقد كان أرستقراطيًّا. وقد شغل منصبًا عسكريًّا وبيروقراطيًّا رفيعًا وكان حاكمًا رئيسيًّا لكاتالونيا. وقد حقق انقلابه بمساعدة قوات حكومية. إن دكتاتوريتي إسبانيا وإيطاليا شكلين للدكتاتورية مختلفين كليًّا. ومن الضروري التمييز بينهما. لقد وجد موسوليني صعوبة في توفيق مؤسسات عسكرية عتيقة كثيرة مع الميليشيا الفاشية. ولم تكن هذه المشكلة موجودة بالنسبة لبريمو دي ريبيرا.
أما الحركة الموجودة في ألمانيا فهي شديدة الشبه بالحركة الإيطالية. إنها حركة جماهيرية، يستخدم قادتها قدرًا موفورًا من الديماجوجية الاشتراكية. هذا ضروري لخلق حركة جماهيرية.
إن الأساس الحقيقي (للفاشية) هو البورجوازية الصغيرة. وهى تتمتع في إيطاليا بقاعدة جد واسعة – البورجوازية الصغيرة في المراكز والمدن والفلاحين. وتوجد في ألمانيا، بالمثل، قاعدة واسعة للفاشية ...
وقد يقال، وهذا صحيح إلى حد معين، إن الطبقة المتوسطة الجديدة، موظفي الدولة، المديرين الخاصين، إلخ، من الممكن أن تشكل قاعدة كهذه. ولكن هذه مسألة جديدة ينبغي تحليلها...
لكي نتمكن من التكهن بأي شيء يمت للفاشية بصلة، من الضروري امتلاك تعريف لهذه الفكرة. ما الفاشية؟ ما قاعدتها وشكلها وخصائصها؟ كيف تتطور؟ من الضروري البدء بداية علمية وماركسية.
(مقتطفات من رسالة إلى رفيق إنجليزي، 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 1931؛
نشرت في ذي ميليتانت، 16 يناير/ كانون الثاني 1932)

كيف انتصر موسوليني؟
عندما تكف الموارد البوليسية والعسكرية "العادية" للديكتاتورية البورجوازية، هي وستائرها البرلمانية، عن أن تكون كافية لحفظ توازن المجتمع – يأتي دور النظام الفاشي. وعن طريق الوكالة الفاشية، تحرك الرأسمالية جماهير البورجوازية الصغيرة المسعورة وعصابات البروليتاريا الرثة المنحلة طبقيًّا والمتفسخة – كل الكائنات البشرية التي لا تحصى والتي جرَّها رأس المال الماليّ نفسه إلى اليأس والسعار.
وتطلب البورجوازية من الفاشية عملاً دؤوبًا؛ فبمجرد لجوئها إلى أساليب الحرب الأهلية، تحرص على التمتع بالسلم لفترة تمتد سنوات. والوكالة الفاشية، باستخدامها البورجوازية الصغيرة كقوةٍ صِدَامِيَّة، وبتغلبها على كل العقبات التي تعترض طريقها، تقوم بعمل دؤوب. وبعد انتصار الفاشية، يجمع رأس المال الماليّ مباشرة وفورًا بين يديه، كما في ملزمة من الصلب، كل أجهزة ومؤسسات السيادة، السلطات التنفيذية والإدارية والتعليمية للدولة، مجمل جهاز الدولة والجيش والبلديات والجامعات والمدراس والصحف والنقابات والتعاونيات. وعندما تتحول دولة إلى دولة فاشية، فإن ذلك لا يعني مجرد تغيير أشكال وأساليب الحكم وفقًا للنماذج التى وضعها موسوليني – فالتغيرات في هذا المجال لا تلعب في نهاية المطاف غير دور ثانوي - بل يعني أولاً ومن حيث الجوهر إبادة المنظمات العمالية؛ وإنزال البروليتاريا إلى درك انعدام التنظيم؛ وخلق نظام إداري يتغلغل تغلغلاً عميقًا بين الجماهير ويساعد على إحباط التبلور المستقل للبروليتاريا. وفي هذا بالتحديد يكمن لب الفاشية ...
***
لقد كانت الفاشية الإيطالية النتيجة المباشرة لخيانة الإصلاحيين لانتفاضة البروليتاريا الإيطالية. فمنذ نهاية الحرب {العالمية الأولى}، كان هناك تيار صاعد في الحركة الثورية في إيطاليا، وقد أسفر في سبتمبر/ أيلول 1920 عن استيلاء العمال على المصانع والصناعات. وكانت ديكتاتورية البروليتاريا واقعًا فعليًّا؛ أما ما كان غائبًا فهو تنظيمها واستخلاص كل الاستنتاجات الضرورية منها. وقد ارتعدت الاشتراكية الديموقراطية وارتدت إلى الخلف. وبعد جهودها الجسورة والبطولية، تركت البروليتاريا لمواجهة الصراع. وتحول تخريب الحركة الثورية إلى أهم عامل في نمو الفاشية. وفي سبتمبر/ أيلول، توقف التقدم الثوري، وشهد نوفمبر/ تشرين الثاني بالفعل المظاهرة الكبرى الأولى للفاشيين (الاستيلاء على بولونيا).

صحيح أن البروليتاريا، حتى بعد كارثة سبتمبر/ أيلول، كانت قادرة على خوض معارك دفاعية. لكن الاشتراكية الديموقراطية كانت مهمتها متمثلة في شيء واحد فقط: سحب العمال من الحركة بتقديم تنازل إثر آخر. وكانت الاشتراكية الديموقراطية تأمل في أن سلوك العمال الخانع سوف يحول "الرأى العام" البورجوازي ضد الفاشيين. بل إن الإصلاحيين، علاوة على ذلك، كانوا يراهنون بشدة على مساعدة الملك فيكتور إمانويل. وحتى الساعة الأخيرة، كانوا يثنون العمال بكل ما أوتوا من قوة عن محاربة عصابات موسوليني. ولم يفدهم ذلك بشىء. فقد انحاز الملك هو والشريحة العليا من البورجوازية إلى صف الفاشية. وعندما تيقن الاشتراكيون الديموقراطيون في اللحظة الأخيرة من أن الخنوع لن يوقف الفاشية، أصدروا نداءً إلى العمال للقيام بإضراب عام. لكن نداءهم ذهب أدراج الرياح. وكان الإصلاحيون قد سكبوا سيلاً مدرارًا من الماء على البارود، خوفًا منهم من أن ينفجر، بحيث إنهم عندما مدوا إليه بيد مرتعشة أخيرًا فتيل اشتعال، لم يشتعل البارود.
وبعد سنتين من انبثاقها، صعدت الفاشية إلى السلطة. وقد حصنت نفسها بفضل تزامن الفترة الأولى لهيمنتها مع ظرف اقتصاديٍّ مؤات، أعقب ركود 1921 – 1922. وسحق الفاشيون البروليتاريا المتقهقرة على أيدي قوى البورجوازية الصغيرة المندفعة. لكن ذلك لم يتحقق بضربة واحدة. فحتى بعد توليه السلطة، سار موسوليني على دربه بحذر واجب: إذ كان مازال يفتقر إلى نماذج جاهزة. وخلال السنتين الأوليين، لم يغير حتى الدستور. واتخذت الحكومة الفاشية طابع ائتلاف. ومن ناحية أخرى، كانت العصابات الفاشية منهمكة في العمل بالهراوات والسكاكين والمسدسات. وهكذا فقط خُلِقَت الحكومة الفاشية ببطء. وهو ما عنى الخنق الكامل لكل المنظمات الجماهيرية المستقلة.
وقد كلف تحقيق ذلك موسوليني بَقْرَطَة الحزب الفاشي نفسه. فبعد استخدام القوى المندفعة للبورجوازية الصغيرة، خنقتها الفاشية في ملزمة الدولة البورجوازية. ولم يكن بوسع موسوليني التصرف بطريقة أخرى، لأن خيبة أمل الجماهير التي وَحَّدَهَا كانت تتحول بعنف إلى أقرب خطر قادم. وعندما تَتَبَقْرَط الفاشية، فإنها تصبح جد شبيهة بالأشكال الأخرى للديكتاتورية العسكرية والبوليسية. إنها تكف عن التمتع بدعمها الاجتماعي السابق. فالاحتياطي الرئيسيّ للفاشية – البورجوازية الصغيرة – يتفصد. والقصور الذاتي التاريخي وحده هو الذي يمكن الحكومة الفاشية من إبقاء البروليتاريا في حالة التشتت والعجز ...
وفى سياستها إزاء هتلر، لم تتمكن الاشتراكية الديموقراطية الألمانية من إضافة كلمة واحدة: فكل ماتفعله هو تكرارها الأشد إضجارًا لكل ما فعله الإصلاحيون الإيطاليون في أيامهم مع انفلاتات أشد في المزاج. لقد فسر الأخيرون الفاشية على أنها ذُهان ما بعد الحرب، ويرى الاشتراكيون الديموقراطيون الألمان فيها ذُهانًا "فيرسايويًّا"(1) أو ذُهانًا لفترة الأزمة. وفي كل من الحالتين، يغلق الإصلاحيون أعينهم عن الطابع العضوي للفاشية كحركة جماهيرية منبثقة عن انهيار الرأسمالية.
ولخوفهم من التعبئة الثورية للعمال، علق الإصلاحيون الإيطاليون كل آمالهم على "الدولة" وكان شعارهم "النجدة! يا فكتور إيمانويل مارس ضغطًا!" أما الاشتراكية الديموقراطية الألمانية فهي تفتقر إلى حصن ديموقراطيٍّ كهذا الذي يجسده ملك مخلص للدستور ومن ثم فعليهم أن يقنعوا برئيس – "النجدة! يا هندنبرج(2)، مارس ضغطًا!".
أثناء خوضه المعركة ضد موسوليني، أي، أثناء تقهقره أمامه، أطلق توراتي(3) شعاره الباهر: "ينبغي أن تكون لدى المرء الرجولة ويجبن". لكن الإصلاحيين الألمان أقل مجونًا في شعاراتهم. فهم ينادون بـ "الشجاعة فى ظل اللاشعبية" (Mut zur Unpopularitaet) – وهو ما يَؤُول إلى الشيء نفسه. لا ينبغي للمرء أن يخاف من اللاشعبية الناجمة عن مهادنته الجبانة للعدو.
إن الأسباب الواحدة تؤدي إلى نتائج واحدة. وإذا كان مسار الأحداث متوقفًا على قيادة الحزب الاشتراكي – الديموقراطي، فإن نجاح هتلر سيكون أكيدًا.
لكن ينبغي لنا الاعتراف بأن الحزب الشيوعي الألماني لم يتعلم هو الآخر الكثير من الخبرة الإيطالية.
لقد انبثق الحزب الشيوعي الإيطالي إلى الوجود بصورة تكاد تكون متزامنة مع انبثاق الفاشية. لكن ظروف الجذر الثوري نفسها، والتى حملت الفاشيين إلى السلطة، قد ساعدت على لجم تطور الحزب الشيوعي. إنه لم يتعرف على قوة الاندفاع الكاملة للخطر الفاشي، وقد خدع نفسه بالأوهام الثورية؛ وكان معارضًا بلا هوادة لسياسة الجبهة المتحدة؛ وباختصار، فقد كان مصابًا بكل العلل الطفولية. ولا عجب! فلم يكن قد مر على انبثاقه غير سنتين. ولم تكن الفاشية تمثل في نظره غير "رجعية رأسمالية". أما السمات الخاصة للفاشية والمنبثقة من تعبئة البورجوازية الصغيرة ضد البروليتاريا، فقد كان الحزب الشيوعي عاجزًا عن تمييزها. ويبلغني الرفاق الإيطاليون أنه، باستثناء جرامشي وحده، لم يكن الحزب الشيوعي يتصور مجرد إمكانية استيلاء الفاشيين على السلطة. فمع إنزال هزيمة بالثورة البروليتارية، ومع صمود الرأسمالية وانتصار الثورة المضادة، كيف يمكن أن يوجد أي نوع آخر لانقلاب مضاد للثورة؟ كيف يمكن للبورجوازية أن تنتفض ضد نفسها! ذلك ماكان لب التوجه السياسي للحزب الشيوعي الإيطالي. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه لا ينبغي للمرء إغفال أن الفاشية الإيطالية كانت آنذاك ظاهرة جديدة، لا تزال في سيرورة التشكل؛ وماكان تمييز سماتها المحددة ليكون مهمة سهلة حتى بالنسبة إلى حزب أوفر خبرة.
وقيادة الحزب الشيوعي الألماني تستنسخ اليوم بصورة تكاد تكون حرفية الموقف الذى اتخذ منه الشيوعيون الإيطاليون نقطة انطلاقهم: الفاشية ليست غير رجعية رأسمالية؛ ومن وجهة نظر البروليتاريا، فإن الاختلافات بين الأنماط المختلفة للرجعية الرأسمالية عديمة المعنى. وهذه الراديكالية المبتذلة أقل استحقاقًا للعذر لأن الحزب الألماني هو أكبر سنًّا بالمقارنة مع الحزب الإيطالي في فترة مماثلة؛ وبالإضافة إلى ذلك، فقد اغتنت الماركسية الآن بالخبرة المأساوية في إيطاليا. إن التأكيد على أن الفاشية قائمة بالفعل، أو إنكار مجرد إمكانية وصولها إلى السلطة، إنما يَؤُول سياسيًّا إلى الشيء عينه ونفسه. فبإنكار الطبيعة المحددة للفاشية، لابد من أن تصاب إرادة النضال ضد الفاشية بالشلل.
وطبيعي أن قيادة الكومنترن هي التي يجب أن تتحمل عبء اللوم. وكان على الشيوعيين الإيطاليين قبل سواهم أن يرفعوا أصواتهم محذرين. لكن ستالين، هو ومانويلسكي(4)، قد أرغماهم على التنصل من أهم دروس إبادتهم.
وقد رأينا بالفعل بأي رشاقة متقنة انتقل إيركولي(5) إلى موقف الاشتراكية الفاشية، أي، إلى موقف الانتظار السلبي للانتصار الفاشي في ألمانيا.
(من ثم ماذا؟ مسائل حيوية أمام البروليتاريا الألمانية، 1932)


الخطر الفاشي يلوح في ألمانيا
تصور الآن صحافة الكومنترن الرسمية نتائج انتخابات {سبتمبر/ أيلول 1930} الألمانية كانتصار مذهل للشيوعية، يضع في جدول الأعمال شعار ألمانيا سوفييتية. ولايود المتفائلون البيروقراطيون التأمل في دلالة علاقة القوى التي تفصح عنها الإحصاءات الانتخابية. إنهم يفحصون رقم الأصوات الزائدة المؤيدة للحزب الشيوعي بشكل مستقل عن المهمات الثورية التي خلقها الوضع والعقبات التي يضعها. لقد حصل الحزب الشيوعي على حوالي 4,600,000 صوت في مقابل 3,300,000 في عام 1928. ومن زاوية الآليات البرلمانية "العادية"، فإن كسب 1,300,000 صوت هو كسب ملحوظ، حتى لو أخذنا في حسابنا الازدياد في العدد الإجمالي للناخبين. لكن كسب الحزب يشحب بالكامل إلى جانب قفزة الفاشية من 800,000 إلى 6,400,000 صوت. وليس بأقل أهمية عند تقييم الانتخابات أن الاشتراكية الديموقراطية، رغم خسائرها المهمة، قد احتفظت بكوادرها الأساسية ولا تزال تحصل على عدد من أصوات العمال {8,600,000}أكثر بكثير من عدد الأصوات التي حصل عليها الحزب الشيوعي.
والحال أننا لو سألنا أنفسنا، "أيّ تركيب للظروف الدولية والمحلية يمكنه تحويل الطبقة العاملة في اتجاه الشيوعية بسرعة أكبر؟" لما وجدنا مثالاً لظروف أكثرمواتاه لتحول كهذا من الوضع في ألمانيا الحاضرة: مشنقة يونج(6)، الأزمة الاقتصادية، تفكك الحكام، أزمة البرلمانية، الانفضاح المذهل للاشتراكية الديموقراطية في السلطة. ومن زاوية هذه الظروف التاريخية الملموسة، فإن الثقل المحدد للحزب الشيوعي الألماني في الحياة الاجتماعية للبلاد، على الرغم من كسب 1,300,000 صوت، يظل متواضعًا نسبيًّا.
إن ضعف مواقع الشيوعية، المرتبط ارتباطًا لا ينفصل بسياسة ونظام الكومنترن، يتكشف بشكل أشد وضوحًا إذا ما قارنا الثقل الاجتماعي الحالي للحزب الشيوعي بالمهمات الملموسة والتي لا تقبل تأجيلاً، التي تطرحها الظروف التاريخية الراهنة عليه.
صحيح أن الحزب الشيوعي نفسه لم يكن يتوقع كسبًا كهذا. لكن هذا يثبت أنه تحت ضربات الأخطاء والهزائم، أصبحت قيادة الأحزاب الشيوعية غير معتادة على الأهداف والآفاق الكبيرة. وهي إذا كانت قد قللت أمس من إمكانياتها، فإنها تقلل اليوم مرة أخرى من المصاعب. وبهذه الطريقة يُضَاعَفُ الخطرُ بخطرٍ آخر.
والحال أن الخاصية الأولى للحزب الثوري فعلاً هي - قدرته على مواجهة الواقع.
***
ولكي يكون ممكناً للأزمة الاجتماعية أن تؤدي إلى الثورة البروليتارية، فمن الضروري، إلى جانب شروط أخرى، أن يحدث تحول حاسم للطبقات البورجوازية الصغيرة في اتجاه البروليتاريا. ذلك يمنح البروليتاريا فرصة لكي تترأس الأمة بصفة القائد لها.
وقد كشفت الانتخابات الأخيرة – وفي ذلك تكمن دلالتها الرمزية الرئيسية – عن تحول في الاتجاه المعاكس. فتحت ضربة الأزمة، مالت البورجوازية الصغيرة، لا في اتجاه الثورة البروليتارية، وإنما في اتجاه الرجعية الإمبريالية الأشد تطرفًا، ساحبة خلفها أقسامًا مهمة من البروليتاريا.
إن النمو الهائل للاشتراكية القومية [النازية] هو تعبير عن عاملين: أزمة إجتماعية عميقة، تُفقد البورجوازية الصغيرة صوابها، وغياب حزب ثوري تعتبره جماهير الشعب قائدًا ثوريًا معترفاً به. وإذا كان الحزب الشيوعي هو حزب الأمل الثوري، فإن الفاشية، كحركة جماهيرية، هي حزب اليأس المضاد للثورة. وعندما يستوعب الأمل الثوري مجمل الكتلة البروليتارية، فإنه يسحب خلفه، لا محالة، على طريق الثورة، أقسامًا مهمة ومتزايدة من البورجوازية الصغيرة. وفي هذا المجال بالتحديد، كشفت الانتخابات عن الصورة المعاكسة: لقد استوعب اليأسُ المضادُّ للثورة الجمهورَ البورجوازيَّ الصغير بقوة كبيرة، بحيث إنه سحب خلفه أقسامًا كثيرة من البروليتاريا ...
لقد أصبحت الفاشية في ألمانيا خطرًا فعليًّا، كتعبير حاد عن الوضع اليائس للنظام البورجوازي والدور المحافظ للاشتراكية الديموقراطية في هذا النظام والعجز المتراكم للحزب الشيوعي عن إزالته. وكل من ينكر ذلك إما أن يكون أعمى أو متبجحًا ...
ويكتسب الخطر حدة خاصة فيما يتعلق بمسألة درجة سرعة التطور التى لا تتوقف علينا وحدنا. إن الطابع المالارياوي للمنحنى السياسي الذى كشفت عنه الانتخابات إنما يشهد على أن درجة سرعة تطور الأزمة القومية قد تتكشف عن درجة جد سريعة. وبعبارة أخرى، فإن مجرى الأحداث في المستقبل القريب للغاية قد يبعث في ألمانيا، على مستوى تاريخي جديد، التناقض المأساوي القديم بين نضج ظرف ثوري، من ناحية، وضعف الحزب الثوري وعجزه الاستراتيجي، من الناحية الأخرى. هذا ينبغى قوله بوضوح ودون مواربة، وعلى الأخص، فى الوقت المناسب.
***

لقد أُطلقت الإشارة من موسكو بالفعل لسياسة هيبة "بيروقراطية" تغطي أخطاء الأمس وتُعِدُّ لأخطاء الغد بصيحات زائفة عن الانتصار الجديد للخط. إن برافدا، إذ تبالغ مبالغة فظيعة في الحديث عن انتصار الحزب، وإذ تقلل تقليلاً فظيعًا من المصاعب، مفسرة نجاح الفاشية نفسه كعامل إيجابي بالنسبة إلى الثورة البروليتارية، توضح مع ذلك بإيجاز: "إن نجاحات الحزب لا ينبغي لها أن تدير رؤوسنا". إن السياسة الغادرة للقيادة الستالينية مخلصة لنفسها حتى هنا. إذ يجري تقديم تحليل للوضع في روح نزعة يسارية متطرفة غير انتقادية، وبهذه الطريقة يُدفع الحزب دفعًا واعيًا في طريق المغامرة. وفي الوقت نفسه، يُعِدُّ ستالين دليل براءته مقدمًا بمساعدة الجملة الطقسية التي تتحدث عن "دوران الرؤوس". وهذه السياسة بالتحديد، قصيرة النظر والخرقاء، هي التي تخرب الثورة الألمانية.
***

هل يمكن حساب قوة المقاومة المحافظة لدى العمال الاشتراكيين – الديموقراطيين بصورة مسبقة؟ إنه غير ممكن. وفي ضوء أحداث السنة الماضية، فإن هذه القوة على مايظهر هائلة. لكن الحقيقة هي أن ما ساعد أكثر من غيره على تماسك الاشتراكية الديموقراطية إنما هو السياسة الخاطئة للحزب الشيوعي، والتي لقيت تعميمها الأعلى في النظرية الخرقاء عن الاشتراكية الفاشية. ولقياس المقاومة الفعلية للصفوف الاشتراكية الديموقراطية، لابد من وسيلة قياس مختلفة، أي لابد من تكتيك شيوعي صحيح. وبهذا الشرط – وهو ليس شرطًا هينًا – يمكن لدرجة الوحدة الداخلية للاشتراكية الديموقراطية أن تتكشف في فترة قصيرة نسبيًّا.
وبشكل مختلف، فإن ما قلناه سلفًا ينطبق أيضًا على الفاشية: لقد انبثقت، إذا تركنا الشروط الأخرى الماثلة جانبًا، عن ارتعاشات استراتيجية زينوفييف – ستالين. ما قوتها على الهجوم؟ هل بلغت ذروتها، كما يؤكد لنا المتفائلون بحكم وظيفتهم {الكومنترن ومسئولو الحزب الشيوعي}، أم أنها لا تزال عند الدرجة الأولى من السلم؟ لا يمكن التنبؤ بذلك على نحو ميكانيكي. لا يمكن تحديد ذلك إلا من خلال الفعل. وفيما يتعلق تحديدًا بالفاشية، التي هي سكين في أيدي العدو الطبقي، فإن السياسة الخاطئة للكومنترن قد تؤدي إلى نتائج قاتلة في فترة وجيزة. ومن الناحية الأخرى، فإن السياسة الصحيحة – ليس في فترة وجيزة كهذه، هذا صحيح - يمكنها أن تقوض مواقع الفاشية....
وإذا كان الحزب الشيوعي، على الرغم من الظروف المؤاتية بشكل غير عادي، قد ظهر عاجزًا عن أن يزعزع بشكل جاد هيكل الاشتراكية الديموقراطية بمساعدة صيغة "الاشتراكية الفاشية،" فإن الفاشية الفعلية تهدد الآن هذا الهيكل، ليس بعدُ بالصيغ الكلامية للراديكالية المزعومة وإنما بالصيغ الكيميائية للمتفجرات. ومهما كان صحيحًا أن الاشتراكية الديموقراطية قد مهدت بمجمل سياستها لازدهار الفاشية، فإنه ليس أقل صحة أن الفاشية تهدد بالموت أول ما تهدد هذه الاشتراكية الديموقراطية عينها، التي ترتبط كل فخامتها ارتباطًا لا ينفصل بأشكال وأساليب الحكم البرلمانية الديموقراطية – السلامية....
وتنبثق سياسة الجبهة العمالية المتحدة ضد الفاشية عن هذا الوضع. إنها تتيح إمكانيات هائلة للحزب الشيوعي. لكن أحد شروط النجاح هو نبذ نظرية وممارسة "الاشتراكية الفاشية" التى يصبح ضررها تهديدًا واقعيًّا في ظل الظروف الراهنة.
إن الأزمة الاجتماعية سوف تنتج حتمًا انقسامات عميقة داخل الاشتراكية الديموقراطية. وسوف يؤثر تجذر الجماهير على الاشتراكيين االديموقراطيين. وسوف يتعين علينا لا محالة عقد اتفاقات مع مختلف المنظمات والفصائل الاشتراكية الديموقراطية، طارحين شروطًا محددة في هذا الصدد على القادة، أمام أعين الجماهير.... وينبغى لنا التحول عن الجملة الرسمية الفارغة عن الجبهة المتحدة إلى سياسة الجبهة المتحدة كما صاغها لينين وطبقها البلاشفة على الدوام فى عام 1917.
(من التحول في الأممية الشيوعية والوضع في ألمانيا، 1930)
حكاية أيسوبية
ذات مرة ساق تاجر ماشية بعض الثيران إلى المجزر. واقترب منها الجزار بسكينه الحاد. فقال ثور من الثيران مقترحًا: "فلنتكاتف ولنرفع هذا الجزار على قروننا".
فردت عليه الثيران التي تلقت تعليمها السياسي في معهد مانويلسكي(7): "لو سمحت، في أيِّ شىء يختلف الجزار عن التاجر الذى ساقنا إلى هنا بهراوته؟".
"لكننا سوف نتمكن من التعامل مع التاجر أيضًا فيما بعد!".
فردت الثيران، متمسكة بمبادئها، على ناصحها: "لن يجدي ذلك شيئًا. إنك تحاول، من الجانب الأيسر، تغطية أعدائنا – وأنت نفسك اشتراكي جزار."
وأبت أن تتكاتف.
(من ثم ماذا؟ مسائل حيوية أمام البروليتاريا الألمانية، 1932)


البوليس والجيش الألمانيان

في حالة خطر فعلي، لا تراهن الاشتراكية الديموقراطية على "الجبهة الحديدية"(8) بل على البوليس البروسي. وهي تخطط دون أن تستشير الجانب الرئيسي المعني! إن واقع أن البوليس قد جُنِّدَ من حيث الأصل بأعداد غفيرة من بين صفوف العمال الاشتراكيين الديموقراطيين لا أهمية له على الإطلاق. فالوعي تحدده البيئة حتى في هذه الحالة. والعامل الذى يتحول إلى شرطي في خدمة الدولة البورجوازية، هو شرطي بورجوازي، وليس عاملاً. وقد اضطر رجال الشرطة هولاء خلال السنوات الأخيرة إلى خوض معارك مع العمال الثوريين أكثر بكثير من تلك التي اضطروا إلى خوضها مع الطلاب النازيين. وهذا التدريب لا مفر من أن تكون له نتائجه. وأساسًا: فإن كل شرطي يعرف أنه مع أن الحكومات قد تتغير، فإن الشرطة تبقى.

وفي عددها الصادر بمناسبة رأس السنة، تنشر Das Freie Wort ، المجلة النظرية للاشتراكية الديموقراطية (ويالها من مجلة بائسة!) مقالاً تعرض فيه سياسة "التسامح" على أكمل نحو ممكن. فهتلر، على ما يظهر، لا يمكنه أبدًا الوصول إلى السلطة ضد البوليس والـ Reichswehr {الجيش الألماني}. لأن الـ Reichswehr ، وفقًا للدستور، تحت قيادة رئيس الجمهورية. وينجم عن ذلك أن الفاشية، لهذا السبب، لا تشكل خطرًا مادام رأس الحكومة رئيسًا مخلصًا للدستور. لذا ينبغى تأييد نظام براوننج(9) إلى حين إجراء انتخابات الرئاسة حتى يتم انتخاب رئيس دستوري، عن طريق تحالف مع البورجوازية البرلمانية. وهكذا يُسَدُّ طريقُ هتلر إلى السلطة سبع سنوات أخرى...
إن سياسيي الإصلاحية ، هؤلاء المحركون البارعون للعرائس، هؤلاء الدساسون والوصوليون الدهاة، هؤلاء المتآمرون البرلمانيون والوزاريون الحاذقون، ما أن يخرجهم مسار الأحداث عن مجالهم المألوف، وما أن يواجهوا طواريء جسيمة حتى يتكشفوا عن – وليس هناك تعبير أخف لقول ذلك – مغفلين حمقى.
إن الاعتماد على رئيس ليس غير اعتماد على "الحكومة" ! وفى مواجهة الصدام الوشيك بين البروليتاريا والبورجوازية الصغيرة الفاشية – وهما معسكران يشكلان معًا الغالبية الساحقة من الأمة الألمانية – فإن هولاء الماركسيين من Vorwärts (10) ينبحون منادين الحارس الليلي إلى نجدتهم، "النجدة! يا حكومة، مارسي ضغطًا!" ( Staat, greif zu! )
(من ثم ماذا؟ مسائل حيوية أمام البروليتاريا الألمانية، 1932)


البورجوازية والبورجوازية الصغيرة والبروليتاريا

ينبغي لأيِّ تحليل جاد للوضع السياسيِّ أن يتخذ كنقطة انطلاق له العلاقات المتبادلة بين الطبقات الثلاث: البورجوازية والبورجوازية الصغيرة (شاملة الفلاحين) والبروليتاريا.
فالبورجوازية الكبيرة القومية لا تمثل، فى حد ذاتها، من الناحية الاقتصادية، غير أقلية تافهة من الأمة. وهي لكي تملي سيطرتها، لابد لها من أن تضمن علاقة متبادلة محددة مع البورجوازية الصغيرة، و، عبر واسطتها، مع البروليتاريا.
لكي نفهم جدل العلاقة بين الطبقات الثلاث، ينبغي لنا تمييز ثلاث مراحل تاريخية: عند فجر التطور الرأسمالي، عندما كانت البورجوازية بحاجة إلى أساليب ثورية لحل مهماتها؛ وفي فترة ازدهار ونضج النظام الرأسمالي، عندما أكسبت البورجوازية سيطرتها أشكالاً منظمة، سلامية، محافظة، ديموقراطية؛ وأخيرًا، عند أفول الرأسمالية، إذ تضطر البورجوازية إلى اللجوء إلى أساليب الحرب الأهلية ضد البروليتاريا من أجل حماية حقها في الاستغلال.
والبرامج السياسية المميِّزة لهذه المراحل الثلاث – اليعقوبية والديموقراطية الإصلاحية (بما فيها الاشتراكية الديموقراطية) والفاشية – هي من حيث الأساس برامج تيارات بورجوازية صغيرة. وهذه الحقيقة وحدها، أكثر من أيِّ شيء آخر، تبين أي أهمية هائلة – بالأحرى، أى {أهمية} حاسمة – يمثلها تقرير مصير جماهير الشعب البورجوازية الصغيرة بالنسبة إلى مجمل مصير المجتمع البورجوازي.
ومع ذلك، فإن العلاقة بين البورجوازية وسندها الاجتماعي الأساسي، البورجوازية الصغيرة، لا ترتكز أبدًا على الثقة المتبادلة والوفاق السلمي. فالبورجوازية الصغيرة، في جمهرتها، هي طبقة مستغَلَّة ومسلوبة الحقوق. إنها تنظر إلى البورجوازية بغيرة وغالبًا بكراهية. والبورجوازية، من ناحية أخرى، وإن كانت تستخدم دعم البورجوازية الصغيرة، فإنها لا تثق بها، لأنها تخشى، محقة تمامًا، من اتجاهها إلى أن تكسر الحواجز الموضوعة أمامها من أعلى.
وبينما كان اليعاقبة يرسون ويمهدون السبيل للتطور البورجوازي، فإنهم قد دخلوا، عند كل خطوة، في صدامات حادة مع البورجوازية. لقد خدموها في نضال متشدد ضدها. وبعد أن أدى اليعاقبة دورهم التاريخى المحدود، سقطوا عن سدة الحكم، إذ كانت سيطرة رأس المال مقررة سلفًا.
وخلال سلسلة كاملة من المراحل، حَصَّنَتْ البورجوازية سلطتها تحت شكل الديموقراطية البرلمانية. وحتى آنذاك، فإنها لم تفعل ذلك سلميًّا ولا من تلقاء نفسها. لكنها، في نهاية الأمر، نجحت بمساعدة توليفة من التدابير العنيفة والتنازلات، من الحرمانات والإصلاحات، في أن تُخضع ضمن إطار الديموقراطية الشكلية لا البورجوازية الصغيرة وحدها وإنما بقدر ملحوظ أيضًا البروليتاريا عن طريق البورجوازية الصغيرة الجديدة – الأرستقراطية العمالية. وفي أغسطس/ آب 1914، تمكنت البورجوازية الإمبريالية، عن طريق الديموقراطية البرلمانية، من جر ملايين العمال والفلاحين إلى الحرب.
بيد أنه مع الحرب بالتحديد يبدأ أفول مميز للرأسمالية وخصوصًا لشكل سيطرتها الديموقراطي. والحال أن المسألة لا تعود مسألة إصلاحات وصدقات جديدة، بل تغدو مسألة تقليص وإلغاء لتلك السابقة. وعندئذ تصطدم البورجوازية ليس فقط بمؤسسات الديموقراطية البروليتارية (النقابات والأحزاب السياسية) وإنما أيضًا بالديموقراطية البرلمانية التي ظهرت المنظمات العمالية ضمن إطارها. ومن هنا الحملة ضد "الماركسية" من ناحية وضد البرلمانية الديموقراطية من ناحية أخرى.
إلا أنه تمامًا كما أن قمم البورجوازية الليبرالية في زمانها كانت عاجزة، بقوتها وحدها، عن التخلص من الإقطاعية والملكية والكنيسة، فإن أقطاب رأس المال المالي عاجزون، بقوتهم وحدها، عن التغلب على البروليتاريا. إنهم بحاجة إلى مساندة البورجوازية الصغيرة. ولهذا السبب، ينبغي حثها وإيقافها على قدميها وتعبئتها وتسليحها. لكن هذا الأسلوب له مخاطره. والبورجوازية، على الرغم من استخدامها الفاشية، فإنها تخشاها مع ذلك. لقد اضطر بيلسودسكي، في مايو/ أيار 1921، إلى إنقاذ المجتمع البورجوازي عن طريق انقلاب موجه ضد الأحزاب التقليدية للمجتمع البورجوازي، وقد انتهى الأمر إلى حد أن فارسكي، القائد الرسمي للحزب الشيوعي البولندي، والذي انتقل من روزا لوكسمبوج لا إلى لينين وإنما إلى ستالين، اعتبر إنقلاب بيلسودسكي طريق "الديكتاتورية الديموقراطية الثورية" ودعا العمال إلى تأييد بيلسودسكي.
وفي جلسة اللجنة البولندية للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية في 2 يوليو/ تموز 1926، قال كاتب هذه السطور حول موضوع الأحداث في بولندا:
"إن إنقلاب بيلسودسكي، إذا تناولناه في مجمله، هو الأسلوب البورجوازي الصغير، "العامي"، لحل المشكلات الملحة للمجتمع البورجوازي في حالة تحلله وأفوله. إننا نجد هنا بالفعل تشابهًا مباشرًا مع الفاشية الإيطالية.
"ولا شك أن لهذين التيارين سمات مشتركة: إنهما يجندان قواتهما الصدامية من بين البورجوازية الصغيرة أساسًا؛ وقد لجأ بيلسودسكي وموسوليني على حد سواء إلى أساليب خارج برلمانية، إلى العنف السافر، إلى أساليب الحرب الأهلية؛ وقد انصب اهتمام كل منهما لا على تقويض المجتمع البورجوازي وإنما على صونه. وبينما أوقفا البورجوازية الصغيرة على قدميها، فإنهما قد تحالفا على المكشوف، بعد الاستيلاء على السلطة، مع البورجوازية الكبيرة. ولا مفر من مواجهة تعميم تاريخي هنا، مستعيدين تقييم ماركس لليعقوبية بوصفها الأسلوب العامي لتسوية الحسابات مع الأعداء الإقطاعيين للبورجوازية.... لقد كان ذلك في فترة صعود البورجوازية. وينبغي علينا الآن القول، في فترة أفول المجتمع البورجوازى، أن البورجوازية تحتاج مرة أخرى إلى الأسلوب "العامي" لحل مهماتها التي لم تعد بعد تقدمية وإنما رجعية برمتها. وبهذا المعنى، فإن الفاشية هي مسخ لليعقوبية.
"إن البورجوازية عاجزة عن إبقاء نفسها فى السلطة اعتمادًا على وسائل وأساليب الدولة البرلمانية التي خلقتها؛ وهى بحاجة إلى الفاشية كسلاح للدفاع عن النفس، على الأقل فى الأوقات الحرجة. ومع ذلك، فإن البورجوازية لا تحب الأسلوب "العامي" لحل مهماتها. لقد كانت دائمًا معادية لليعقوبية، التى عبدت الطريق لتطور المجتمع البورجوازي بدمها. والفاشيون أقرب بما لا يقارن إلى البورجوازية الآفلة من قرب اليعاقبة إلى البورجوازية الصاعدة. ومع ذلك، فإن البورجوازية غير الثملة لا تنظر بتحبيذ شديد حتى إلى الأسلوب الفاشي لحل مهماتها، لأن الصدمات، وإن كانت تتم من أجل مصلحة المجتمع البورجوازي، مرتبطة بمخاطر تهدده. ومن هنا التعارض بين الفاشية والأحزاب البورجوازية.
"إن البورجوازية الكبيرة تحب الفاشية بالدرجة القليلة نفسها التي يحب بها إنسان تصدعه ضروسه خلع أسنانه. وقد تابعت الأوساط غير الثملة من المجتمع البورجوازي بقلق عمل طبيب الأسنان بيلسودسكي، لكنها، في التحليل الأخير، تصالحت مع المحتوم، وإن كان بتهديدات وتنازلات متبادلة وكل أنواع المقاومة. وهكذا تحول معبود البورجوازية الصغيرة السابق إلى دركي رأس المال".
وفي مواجهة هذه المحاولة لتمييز المكانة التاريخية للفاشية بوصفها البديل السياسي للاشتراكية الديموقراطية، جرى طرح نظرية الاشتراكية الفاشية. وكان من الممكن لها أن تبدو في البداية كمجرد غباوة طنانة، جعجاعة، لكنها غير مؤذية. وقد أثبتت الأحداث التالية أي نفوذ خبيث مارسته النظرية الستالينية عمليًّا على مجمل تطور الأممية الشيوعية.
هل ينجم عن الدور التاريخي لليعقوبية وللديموقراطية وللفاشية أن البورجوازية الصغيرة محكوم عليها بأن تظل أداة في أيدي رأس المال إلى نهاية أيامها؟ لو كانت الأمور كذلك، لأصبحت ديكتاتورية البروليتاريا مستحيلة في عدد من البلدان التى تشكل فيها البورجوازية الصغيرة غالبية الأمة، و،علاوة على ذلك، فإنها تغدو صعبة للغاية في البلدان الأخرى التي تمثل فيها البورجواية الصغيرة أقلية مهمة. ومن حسن الحظ أن الأمور ليست كذلك. وقد أثبتت كومونة باريس أولاً، على الأقل ضمن حدود مدينة واحدة، تمامًا مثلما أثبتت ثورة أكتوبر بعدها على نطاق أوسع بكثير وعلى امتداد فترة أطول بما لا يقارن، أن تحالف البورجوازية الصغيرة والبورجوازية الكبيرة ليس تحالفًا غير قابل للانفصام. وبما أن البورجوازية الصغيرة عاجزة عن انتهاج سياسة مستقلة (وهذا هو أيضًا السبب في عدم إمكانية تحقيق "الديكتاتورية الديموقراطية" البورجوازية الصغيرة)، فليس أمامها من خيار إلا بين البورجوازية والبروليتاريا.
وفي عصر صعود ونمو وازدهار الرأسمالية، نجد أن البورجوازية الصغيرة، على الرغم من تفجرات السخط الحادة، قد سارت سيرًا خانعًا بوجه عام فى النير الرأسمالي. كما لم يكن بوسعها أن تفعل أي شيء آخر. أما فى ظروف التحلل الرأسمالي والمأزق في الوضع الاقتصادي، فإن البورجوازية الصغيرة تجهد وتسعى وتحاول انتزاع نفسها من قيود السادة والحكام العتيقين للمجتمع. وهي قادرة تمامًا على ربط مصيرها بمصير البروليتاريا. وحتى يتحقق ذلك، لا بد من توافر شيء واحد فقط: ينبغي للبورجوازية الصغيرة أن تكتسب الثقة في قدرة البروليتاريا على قيادة المجتمع في طريق جديد. ولا يمكن للبروليتاريا حفز هذه الثقة إلا بقوتها، بحزم أعمالها، بهجوم مرن ضد العدو، بنجاح سياستها الثورية.
لكن الويل، كل الويل، إذا لم يثبت الحزب الثوري أنه على مستوى الموقف! إن النضال اليومي للبروليتاريا يؤدي إلى احتداد عدم استقرار المجتمع البورجوازي. والإضرابات والقلاقل السياسية تُفاقم الوضع الإقتصادي للبلاد. وتستطيع البورجوازية الصغيرة التصالح مع الحرمانات المتزايدة مؤقتًا، إذا ما أيقنت عبر التجربة أن البروليتاريا قادرة على قيادتها في طريق جديد. أما إذا أثبت الحزب الثوري بشكل متكرر، على الرغم من الاشتداد المتصل للصراع الطبقي، أنه غير قادر على توحيد الطبقة العاملة حوله، إذا تذبذب، إذا تشوش، إذا تناقض مع نفسه، فإن البورجوازية الصغيرة سوف ينفد صبرها وتشرع في اعتبار العمال الثوريين المسئولين عن شقائها. وكل الأحزاب البورجوازية، بما في ذلك الاشتراكية الديموقراطية، توجه أفكارها في هذا الاتجاه بالتحديد. وعندما تكتسب الأزمة الإجتماعية حدة لا تحتمل، فإن حزبًا خاصًا يظهر على المسرح هدفه المباشر إثارة البورجوازية الصغيرة إلى أقصى حد وتوجيه حقدها ويأسها ضد البروليتاريا. وفي ألمانيا، فإن هذه الوظيفة التاريخية تنجزها الاشتراكية القومية (النازية)، وهي تيار واسع تتألف إيديولوجيته من كل الأبخرة الفاسدة للمجتمع البورجوازي الآخذ في الانحلال.
(من الطريق الوحيد لألمانيا، كتب في سبتمبر/ أيلول 1932 ؛ نشر في الولايات المتحدة في أبريل/ نيسان 1933)


انهيار الديموقراطية البورجوازية

لقد حدثت بعد الحرب سلسلة من الثورات الظافرة بشكل رائع في روسيا وألمانيا والنمسا – المجر، وفيما بعد في إسبانيا. لكنه لم يحدث إلا في روسيا وحدها أن جمعت البروليتاريا كل السلطة بين يديها، وصادرت المستغِلين وعرفت كيف تخلق وتحفظ دولة عمالية. أما في الأماكن الأخرى، فإن البروليتاريا، على الرغم من انتصارها، قد توقفت في منتصف الطريق بسبب أخطاء قيادتها. والنتيجة أن السلطة قد خرجت من يديها وتحولت من اليسار إلى اليمين وسقطت فريسة للفاشية. وفي سلسلة من البلدان الأخرى، انتقلت السلطة إلى أيدي ديكتاتورية عسكرية. ولم تكن البرلمانات في أي مكان قادرة على تسوية التناقضات الطبقية وتأمين التطور السلمى للأحداث. وقد حُلَّتْ النزاعاتُ والأسلحة في اليد.
وقد تصور الشعب الفرنسي لوقت طويل أن الفاشية لا دخل لها به على الإطلاق. فقد كان لديه جمهورية يتم تناول كل المسائل فيها من جانب شعب ذي سيادة عن طريق ممارسة الحق الانتخابي العام. إلا أنه فى 6 فبراير/ شباط 1934، تمكن عدة آلآف من الفاشيين والملكيين، المسلحين بالمسدسات والهراوات والسكاكين، من أن يفرضوا على البلاد حكومة دوميرج(11) الرجعية، التي تواصل العصابات الفاشية في ظل حمايتها النمو وتسليح نفسها. فما الذي يخبئه الغد؟
بديهي أنه فى فرنسا، كما في بلدان أوروبية أخرى معينة (إنجلترا، بلجيكا، هولندا، سويسرا، البلدان السكندينافية)، لا تزال توجد برلمانات وانتخابات وحريات ديموقراطية أو بقايا لها. لكن الصراع الطبقي في كل هذه البلدان آخذ فى الاحتداد، تمامًا مثلما احتد من قبل في إيطاليا وألمانيا. وكل من يعزي نفسه بعبارة "فرنسا ليست ألمانيا" هو إنسان ميئوس منه. ففي كل هذه البلدان تعمل قوانين تاريخية واحدة، قوانين الأفول الرأسمالي. وإذا ما ظلت وسائل الإنتاج في أيدي عدد صغير من الرأسماليين، فليس من مخرج هناك للمجتمع. إنه محكوم عليه بالانتقال من أزمة إلى أزمة، من العوز إلى البؤس، من السيىء إلى الأسوأ. وقد عبَّرَ تداعي الرأسمالية وتحللها في مختلف البلدان عن نفسيهما بأشكال مختلفة وبإيقاعات متفاوتة. لكن السمات الأساسية للسيرورة واحدة فى كل مكان. إن البورجوازية تقود مجتمعها إلى الإفلاس الكامل. وهي عاجزة عن أن تكفل للناس لا الخبز ولا السلام. وهذا على وجه التحديد هو السبب في أنها لم يعد بوسعها احتمال النظام الديموقراطي. إنها مجبرة على سحق العمال باستخدام العنف المادي. لكن سخط العمال والفلاحين لا يمكن القضاء عليه بالبوليس وحده. وبالإضافة إلى ذلك، فمن المستحيل في أغلب الأحيان دفع الجيش ضد الشعب. إنه يبدأ بالتفكك وينتهي بانتقال قسم واسع من الجنود إلى صف الشعب. وهذا هو السبب في أن رأس المال المالي مضطر إلى خلق عصابات مسلحة خاصة، مدربة على محاربة العمال ، تمامًا مثلما تدرب بعض أنواع الكلاب على القنص. إن الوظيفة التاريخية للفاشية هي سحق الطبقة العاملة وتدمير منظماتها وخنق الحريات السياسية عندما يجد الرأسماليون أنفسهم عاجزين عن الحكم والسيطرة بمساعدة الجهاز الديموقراطي.
ويجد الفاشيون مادتهم البشرية في البورجوازية الصغيرة أساسًا. وقد خرب رأس المال الكبير الأخيرة تمامًا. وليس من مخرج هناك لها في النظام الاجتماعي الحاضر، لكنها لا تعرف مخرجاً آخر. والفاشيون يحولون استياءها وسخطها ويأسها بعيدًا عن رأس المال الكبير وضد العمال. وربما جاز القول أن الفاشية هي فعل وضع البورجوازية الصغيرة تحت تصرف أَلَدِّ أعدائها. وبهذه الطريقة، يخرب رأس المال الكبير الطبقات المتوسطة ثم، بمساعدة الديماجوجيين الفاشيين المأجورين، يثير البورجوازي الصغير اليائس ضد العامل. ولا يمكن صون النظام البورجوازي إلا عن طريق مثل هذه الوسائل الإجرامية. فحتى متى؟ حتى تطيح به الثورة البروليتارية.
(من إلى أين تمضي فرنسا؟، 1934)


هل تخاف البورجوازية الصغيرة من الثورة؟

يحب البلهاء البرلمانيون، الذين يعتبرون أنفسهم خبيرين بالشعب، أن يرددوا: "لا ينبغي إخافة الطبقات المتوسطة بالثورة. فهي لا تحب التطرفات".
وهذا التأكيد، في هذه الصيغة العمومية، تأكيد زائف بصورة مطلقة. طبيعي أن المالك الصغير يؤثر النظام مادام البزنس يسير سيرًا حسنًا ومادام يأمل في أنه غدًا سوف يسير سيرًا أحسن.
بيد أنه عندما يتبدد هذا الأمل، فإنه يحنق بسهولة ويكون مستعدًّا للاستسلام لأشد التدابير تطرفًا. وإلا فكيف أمكنه الإطاحة بالدولة الديموقراطية وحمل الفاشية إلى السلطة في إيطاليا وألمانيا؟ إن البورجوازي الصغير يرى في الفاشية، بشكل رئيسي، قوة مناضلة ضد رأس المال الكبير، ويعتقد أن الفاشية، خلافًا للأحزاب العمالية التي لاتتعامل إلا بالكلمات، سوف تستخدم القوة لإقامة "عدالة" أوفر. إن الفلاح والحرفي واقعيين بطريقتهما. إنهما يفهمان أنه لا يمكن الامتناع عن استخدام القوة.
ومن الزيف، الزيف ثلاثًا، ادعاء أن البورجوازية الصغيرة الحالية لا تذهب إلى الأحزاب العمالية لأنها تخاف من "التدابير المتطرفة". العكس تمامًا. فالبورجوازية الصغيرة الدنيا، جماهيرها الغفيرة، لا ترى في الأحزاب العمالية غير أجهزة برلمانية. وهي لا تثق في قوتها، ولا قدرتها على النضال، ولا في استعدادها هذه المرة لخوض النضال حتى النهاية.
وإذا كان الأمر كذلك، ففيم العناء من أجل استبدال النواب الرأسماليين الديموقراطيين ووضع زملائهم البرلمانيين اليساريين محلهم؟ هكذا يفكر أو يشعر المالك شبه المُستغَل، الذي حل به الخراب، والساخط. ودون هذه السيكولوجية المميزة للفلاحين والحرفين والمستخدمين وصغار الموظفين، إلخ – وهى سيكولوجية تنبثق من الأزمة الاجتماعية – فمن المستحيل صوغ سياسة صائبة. إن البورجوازية الصغيرة تابعة اقتصاديًّا ومفتتة سياسيًّا. وهذا هو السبب في أنها لا تستطيع اتباع سياسة مستقلة. إنها بحاجة إلى "قائد" يمنحها الثقة. وهذه القيادة الفردية أو الجماعية، أي شخصية أو حزب، يمكن أن توفرها لها واحدة أو أخرى من الطبقتين الأساسيتين – إما البورجوازية الكبيرة أو البروليتاريا. والفاشية توحد وتسلح الجماهير المبعثرة. ومن السديم البشري تنظم كتائب قتالية. وهكذا تمنح البورجوازية الصغيرة وهم أنها قوة مستقلة. فتشرع بتصور أنها تقود البلاد فعلاً. ولا عجب في أن هذه الأوهام والآمال تدير رأس البورجوازية الصغيرة!
لكن البورجوازية الصغيرة يمكنها أن تجد قائدًا في شخص البروليتاريا. وقد ثبت ذلك في روسيا وجزئيًّا في إسبانيا. وفي إيطاليا، وفي النمسا، انجذبت البورجوازية الصغيرة في هذا الاتجاه. لكن أحزاب البروليتاريا لم تكن على مستوى مهمتها التاريخية.
وحتى تكسب البروليتاريا البورجوازية الصغيرة إلى صفها، فلا بد لها من أن تكسب ثقتها. وحتى يتحقق ذلك لا بد لها من أن تثق هي في قوتها الخاصة.
ينبغي لها امتلاك برنامج عمل واضح وينبغي لها أن تكون مستعدة للنضال من أجل السلطة بكل الوسائل الممكنة. إن البروليتاريا، التي يُكسبها حزبها الثورى القوةَ لأجل نضال حاسم ولا يرحم، تقول للفلاحين وللبورجوازية الصغيرة المدينية:
"إننا نناضل من أجل السلطة. وهذا هو برنامجنا. ونحن على استعداد لأن نناقش معكم إدخال تغييرات على هذا البرنامج. إننا لن نستخدم العنف إلا ضد رأس المال الكبير وعملائه، أما بالنسبة لكم أيها الكادحون، فإننا نرغب في عقد تحالف معكم على أساس برنامج محدد".
وسوف يفهم الفلاحون هذه اللغة. فقط، ينبغي لهم أن يثقوا بقدرة البروليتاريا على الاستيلاء على السلطة.
لكن ذلك يستلزم تطهير الجبهة المتحدة من كل مراوغة، من كل تردد، من كل الجمل الفارغة. فمن الضرورى فهم الوضع والسير سيرًا جادًّا على الدرب الثوري.
(من إلى أين تمضي فرنسا؟، 1934)


الميليشيا العمالية وخصومها

لأجل النضال، من الضروري صون وتقوية أدوات ووسائل النضال – المنظمات والصحف والاجتماعات، إلخ. والفاشية [في فرنسا] تهدد كل ذلك تهديدًا مباشرًا وحاليًّا. إنها لا تزال جد ضعيفة بالنسبة للنضال المباشر من أجل السلطة، لكنها قوية بما يكفى لأن تحاول كسر المنظمات العمالية شيئًا فشيئًا، وتقوية عصاباتها عبر هجماتها، ونشر اليأس بين صفوف العمال ونشر انعدام ثقتهم بقواهم.
وتجد الفاشية أعوانًا غير واعين في شخص كل أولئك الذين يقولون إن "النضال المادي" غير مسموح به أو لا أمل منه، ويطلبون من دوميرج نزع سلاح حرسه الفاشي. وليس ثمة ما هو أخطر على البروليتاريا، خاصة في الوضع الراهن، من سم الآمال الزائفة المعسول. إذ ليس ثمة ما يزيد من تبجح الفاشيين بهذه الدرجة كـ "المسالمة الرخوة" التي تبديها المنظمات العمالية. وليس ثمة ما يقوض ثقة الطبقات المتوسطة بالطبقة العاملة إلى هذا الحد كالملاينة والسلبية وانعدام إرادة الكفاح.
إن لو بوبيولير [صحيفة الحزب الاشتراكي] وخاصة لومانيتيه [صحيفة الحزب الشيوعي] تكتبان كل يوم:
"إن الجبهة المتحدة هي سد في وجه الفاشية"؛
"إن الجبهة المتحدة لن تسمح .."؛
"إن الفاشيين لن يجسروا"، إلخ.
هذه مجرد جمل. ومن الضروري القول جهرًا للعمال والاشتراكيين والشيوعيين: لا تسمحوا لأنفسكم بالانخداع بجمل الصحافيين والخطباء السطحيين وعديمي المسئولية. إن المسألة مسألة تتعلق برءوسنا وبمستقبل الاشتراكية. وليس ذلك لأننا ننكر أهمية الجبهة المتحدة. فقد طالبنا بها عندما كان قادة كل من الحزبين ضدها. إن الجبهة المتحدة تتيح إمكانيات عديدة. لكن ليس أكثر من ذلك. فالجبهة المتحدة، في حد ذاتها، لا تحسم شيئًا. ونضال الجماهير هو وحده الحاسم. وسوف تظهر الجبهة قيمتها عندما تساعد الكتائبُ الشيوعيةُ الكتائبَ الاشتراكية والعكس بالعكس في حالة هجوم تشنه العصابات الفاشية ضد لو بوبيولير أو لومانيتيه. لكنه لأجل ذلك، لا بد من وجود كتائب قتالية بروليتارية ولابد من تربيتها وتدريبها وتسليحها. أما إذا لم تكن ثمة منظمة للدفاع، أي ميليشيا عمالية، فسوف يكون بوسع لو بوبيولير ولومانيتيه كتابة ما يحلو لهما من المقالات الوفيرة حول جبروت الجبهة المتحدة. إلا أن الصحيفتين سوف تجدان نفسيهما بلا حول ولا قوة أمام أول هجوم معد جيدًا من جانب الفاشيين.
ونحن نعرض إجراء فحص نقدي لـ "حجج" و "نظريات" خصوم الميليشيا العمالية العديدين والمتنفذين بشدة في الحزبين العماليين.
نسمع كثيرًا "إننا بحاجة إلى دفاع ذاتي جماهيري وليس إلى ميليشيا".
ولكن ماذا يكون هذا "الدفاع الذاتي الجماهيري" دون منظمات قتالية ودون كوادر متخصصة ودون أسلحة؟ إن ترك الدفاع ضد الفاشية لجماهير غير منظمة وغير مهيئة متروكة لنفسها إنما يعني لعب دور أخطر بما لا يقارن من دور بونطيوس بيلاطس. فإنكار دور الميليشيا هو إنكار لدور الطليعة. ولماذا إذًا الحزب؟ دون تأييد الجماهير، لا تساوي الميليشيا شيئًا. إلا أنه دون وحداتٍ قتاليةٍ منظمة، سوف تُسحق الجماهير الأكثر بطوليةً شيئًا فشيئًا على يد العصابات الفاشية. وخلق تعارض بين الميليشيا والدفاع الذاتي هو كلام فارغ. فالميليشيا هي جهاز للدفاع الذاتي.
يقول بعض الخصوم الذين، من المؤكد، أنهم الأقل جدية وشرفًا: "إن الدعوة إلى تنظيم ميليشيا هي انخراط في عمل استفزازي".
هذا الكلام ليس حجة بل سبة. إذا كانت ضرورة الدفاع عن المنظمات العمالية تنبثق عن مجمل الوضع، فكيف إذًا يمكن التنصل من الدعوة إلى خلق الميليشيا؟ لعلهم يريدون القول أن الميليشيا "تستفز" هجمات فاشية، وقمعًا حكوميًّا. في هذه الحالة، تكون هذه الحجة حجة رجعية بصورة مطلقة. لقد قالت الليبرالية دائمًا للعمال أنهم بنضالهم الطبقي "يستفزون" الرجعية.
وقد ردد الإصلاحيون هذا الاتهام ضد الماركسيين، وردده المناشفة ضد البلاشفة. وفي التحليل الأخير، فإن هذه الاتهامات تنحصر في الفكرة العميقة التي تقول أنه إذا لم يتحرك المضطهَدون فإن المضطهِدين لن يضطروا إلى قمعهم. وهذه الفلسفة هي فلسفة تولستوي وغاندي لكنها ليست فلسفة ماركس ولينين البتة. وإذا كانت لومانيتيه تريد من الآن فصاعدًا تطوير مذهب "عدم مقاومة الشر بالعنف"، فإن عليها أن تتخذ رمزًا لها لا المطرقة والمنجل، رمز ثورة أكتوبر، بل العنزة الورعة التي تزود غاندي بلبنها.
"لكن تسليح العمال ليس مناسباً إلا في ظرف ثوري، وهو ما ليس له وجود بعد".
إن هذه الحجة العميقة تعني أن العمال يجب أن يسمحوا لأنفسهم بأن يُذبحوا إلى أن يصبح الظرف ثوريًّا. إن أولئك الذين كانوا يدعون البارحة إلى "الفترة الثالثة" (12) لا يريدون أن يروا ما يجري أمام أعينهم. إن مسألة الأسلحة نفسها لم تبرز إلا لأن الظرف "السلمي"، "العادي"، "الديموقراطي"، قد أخلى السبيل لظرفٍ عاصف، حرج، وغير مستقر، يمكن أن يتحول إلى ظرفٍ ثوريّ، كما إلى ظرفٍ مضادٍّ للثورة.
ويتوقف هذا البديل أساسًا على ما إذا كان العمال المتقدمون سوف يسمحون لأنفسهم بأن يتعرضوا لهجوم دون رد وبأن يُهزَموا شيئًا فشيئًا أو ما إذا كانوا سوف يردون الصاع صاعين، مستنهضين شجاعة المضطهَدين وموحدين لهم حول رايتهم. إن الظرف الثوري لا يهبط من السماء. إنه يتخذ شكلاً مع المشاركة النشيطة للطبقة الثورية ولحزبها.
ويحاجج الستالينيون الفرنسيون الآن قائلين إن الميليشيا لم تجنب البروليتاريا الألمانية الهزيمة. وكانوا البارحة فقط ينفون تمامًا أي هزيمة في ألمانيا ويزعمون أن سياسة الستالينيين الألمان كانت صائبة من البداية إلى النهاية. واليوم يرون الشر كله في الميليشيا العمالية الألمانية (Rote Front) (13). وهكذا فإنهم من خطأ يقعون في خطأ مقابل له على طول الخط ليس أقل بشاعة. إن الميليشيا في حد ذاتها لا تحسم المسألة. فمن الضروري أن توجد سياسة صائبة. وفي الوقت نفسه، فإن سياسة الستالينية في ألمانيا (الاشتراكية الفاشية هي العدو الرئيسى) والانشقاق في النقابات، ومغازلة النزعة القومية، والانقلابية، قد أدت بصورة مميتة إلى عزل الطليعة البروليتارية وتدميرها. وعندما تكون الاستراتيجية عديمة القيمة تمامًا فإنه لا يمكن لأي ميليشيا إنقاذ الموقف.
ومن السخف القول بأن تنظيم الميليشيا، في حد ذاته، يقود إلى مغامرات ويستفز العدو ويحل النضال المادي محل النضال السياسى، إلخ. وليس في كل هذه الجمل غير جبن سياسي.
فالميليشيا، بوصفها المنظمة القوية للطليعة، هي، في الواقع، الحماية الأكيدة من المغامرات ومن الإرهاب الفردي ومن الانفجارات العفوية الدموية.
والميليشيا، في الوقت نفسه، هي السبيل الجاد الوحيد لاختزال الحرب الأهلية التي تفرضها الفاشية على البروليتاريا إلى أدنى حد. دعوا العمال، على الرغم من غياب "ظرف ثوري"، يُقوِّمون بين الحين والآخر اعوجاج وطنيي "ابن بابا" بأسلوبهم الخاص، وسوف يصبح تجنيد عصابات فاشية جديدة أشد صعوبة بما لا يقارن.
لكن الاستراتيجيين المتورطين في محاكماتهم الذهنية الخاصة، يشهرون هنا في وجهنا حججًا أشد إثارة للعجب. وإليكم ما يقولونه حرفيًّا:
إذا ما رددنا على طلقات مسدسات الفاشيين بطلقات مسدسات أخرى فإننا بذلك نغفل عن واقع أن الفاشية هي نتاج للنظام الرأسمالي وأننا عندما نناضل ضد الفاشية فإن ما نواجهه هو النظام برمته.
هذا ما كتبته لومانيتيه في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 1934.
من الصعب مراكمة تشوش أعظم أو أخطاء أفدح في سطور قليلة كهذه. من المستحيل أن ندافع عن أنفسنا ضد الفاشيين لأنهم – "نتاج للنظام الرأسمالي". هذا يعني أن علينا التخلي عن النضال كلية، لأن كل الشرور الاجتماعية المعاصرة هي "نتاجات للنظام الرأسمالي".
عندما يقوم الفاشيون بقتل ثوري أو إحراق مبنى صحيفة بروليتارية فما على العمال إلا أن يتنهدوا متفلسفين: "وا حسرتاه! إن أعمال القتل والحرق هي نتاجات للنظام الرأسمالي"، ثم العودة إلى بيوتهم مرتاحي الضمير. وهكذا يستعاض عن نظرية ماركس الكفاحية بالاستخذاء الجبري، وذلك لمصلحة العدو الطبقي فقط. بديهي أن خراب البورجوازية الصغيرة هو نتاج الرأسمالية. ونمو العصابات الفاشية هو بدوره نتاج لخراب البورجوازية الصغيرة. لكن الازدياد في بؤس وتمرد البروليتاريا هو من ناحية أخرى نتاج للرأسمالية أيضًا، والميليشيا، بدورها، نتاج لاحتداد الصراع الطبقي. فلماذا إذًا يعتبر "ماركسيو" لومانيتيه العصابات الفاشية النتاج الشرعي للرأسمالية ويعتبرون الميليشيا العمالية النتاج غير الشرعي لـ التروتسكيين؟ من المستحيل فهم هذا المنطق.
يقولون لنا "إن علينا مواجهة النظام برمته". كيف؟ فوق رءوس الكائنات البشرية؟ لقد بدأ الفاشيون في مختلف البلدان بمسدساتهم وانتهوا بتقويض مجمل "نظام" المنظمات العمالية. فبأي طريقة أخرى يمكن صد الهجوم المسلح للعدو إن لم يكن بدفاع مسلح، لكي ننتقل بدرونا إلى الهجوم؟
تقر الآن لومانيتيه الدفاع كلامًا، لكن في شكل "دفاع ذاتي جماهيري" فقط. فالميليشيا ضارة، لأنها، كما ترون، تفصل الوحدات القتالية عن الجماهير. ولكن لماذا إذًا توجد وحدات مسلحة مستقلة بين الفاشيين غير المنفصلين عن الجماهير الرجعية والذين، على العكس من ذلك، يحفزون شجاعة هذه الجماهير وجسارتها بهجماتهم المنظمة تنظيمًا حسنًا؟ أم لعل الجمهور البروليتاري أحط في خصاله الكفاحية من البورجوازية الصغيرة المنحلة طبقيًّا؟
إن لومانيتيه، المتورطة تورطًا بائسًا، تشرع أخيرًا في التردد: يبدو أن الدفاع الذاتي الجماهيري يتطلب خلق "جماعات دفاع ذاتي" خاصة. وبدلاً من الميليشيا المرفوضة، يجرى اقتراح جماعات أو فصائل خاصة. وقد يبدو لأول وهلة أن الخلاف الموجود هو خلاف في التسمية فقط. ومن المؤكد أن التسمية التى تقترحها لومانيتيه لا تعنى شيئًا. فبوسع المرء أن يتحدث عن "دفاع ذاتي جماهيري" بيد أن من المستحيل الحديث عن "جماعات دفاع ذاتي" لأن هدف الجماعة ليس الدفاع عن نفسها وإنما عن المنظمات العمالية. لكن المسألة، بطبيعة الحال، ليست مسألة تسمية. ذلك أن "جماعات الدفاع الذاتي" وفقًا للومانيتيه، ينبغي أن تتخلى عن استخدام الأسلحة حتى لا تسقط في "الانقلابية". إن هولاء الحكماء يعاملون الطبقة العاملة كطفل لا ينبغي السماح له بأن يمسك سكينًا بيديه. وفضلاً عن ذلك، فإن السكاكين، كما نعلم، هي حكر للـ Camelots du Roi (14) الذين يعدون "نتاجًا" شرعيًّا "للرأسمالية" والذين تمكنوا بمساعدة السكاكين، من الإطاحة بـ "النظام" الديموقراطي. على أي حال، كيف يمكن لـ"جماعات الدفاع الذاتي" الدفاع عن نفسها ضد المسدسات الفاشية؟ "إيديولوجيًّا"، بطبيعة الحال. بعبارة أخرى: كل ما يمكنها هو الاختفاء. فما دامت لا تملك بين يديها ما تحتاجه، فإنها ستبحث عن "حماية نفسها" بالفرار على قدميها. وسوف يتمكن الفاشيون في تلك الأثناء من تسريح المنظمات العمالية دون أن يلحق بهم عقاب. بينما لو تعرضت البروليتاريا لهزيمة رهيبة، فإنها على أي حال لن تكون متهمة بـ"الانقلابية". إن هذه الثرثرة الخادعة، التى تستعرض نفسها تحت راية "البولشفية"، لا تستثير غير القرف والاشمئزاز.
خلال "الفترة الثالثة" ذات الذكرى السعيدة - عندما كان استراتيجو لومانيتيه مصابين بهذيان المتاريس، وعندما كانوا "يستولون" على الشوارع كل يوم ويدمغون كل من لا يشاركهم مبالغاتهم بتهمة "الاشتراكية الفاشية" - تنبأنا قائلين أنه: "عندما تجيء اللحظة التي سيحرق فيها هولاء السادة أطراف أصابعهم فإنهم سوف يصبحون أسوأ انتهازيين". وقد تأكد هذا التنبؤ الآن تمامًا. ففي الوقت الذى تنمو وتتعزز فيه داخل الحزب الاشتراكي حركة مؤيدة للميليشيا، يسارع قادة مايسمى بالحزب الشيوعي إلى الإمساك بخرطوم المياه لإطفاء رغبة العمال المتقدمين في تنظيم أنفسهم في وحداتٍ قتالية. فهل يمكن لأحد أن يتصور عملاً أشد تفسيخًا أو ألعن من هذا العمل؟
نسمع أحيانًا في صفوف الحزب الاشتراكي الاعتراض التالي: "ينبغي تشكيل ميليشيا بيد أنه لا حاجة هناك للصياح حول هذا الموضوع".
ولا يستطيع المرء إلا أن يحيي الرفاق الذين يرغبون في حماية الجانب العملي للموضوع من الأعين والآذان الباحثة عن معلومات. بيد أنه سيكون من السذاجة المفرطة تصور أن بالإمكان خلق ميليشيا دون أن يرى أحد ذلك وسرًّا بين أربعة جدران. إننا بحاجة إلى عشرات الآلآف، ثم إلى مئات الآلآف من المقاتلين. وهؤلاء لن يأتوا إلا إذا أدرك ملايين من العمال والعاملات، ومن ورائهم الفلاحون، ضرورة الميليشيا، وخلقوا حول المتطوعين مناخًا من التعاطف الجسور والدعم النشيط. إن الحرص التآمري لا يمكن ولا يجب أن يشمل غير الجانب التقني للموضوع. أما الحملة السياسية فينبغي تطويرها علانية، في الاجتماعات والمصانع، وفي الشوارع والميادين العامة.
وينبغى للكوادر الأساسية للميليشيا أن تكون مؤلفة من عمال المصانع المنظَّمين وفقًا لأماكن عملهم والمعروفين أحدهم للآخر والقادرين على حماية وحداتهم القتالية ضد استفزازات عملاء العدو بشكل أسهل وأضمن مما هي الحال بالنسبة إلى أعلى البيروقراطيين منصبًا. إن قيادات تآمرية دون تعبئة سافرة للجماهير سوف تظل في لحظة الخطر معلقة في الهواء دون حول أو قوة. لابد لكل منظمة عمالية من الانخراط في العمل. وفي هذه المسألة، لا يمكن أن يكون هناك خط فصلٍ بين الأحزاب العمالية والنقابات. إن عليها سوية تعبئة الجماهير. عندئذ سوف يكون نجاح الميليشيا الشعبية مضمونًا تمامًا.
"ولكن من أين يمكن للعمال الحصول على الأسلحة؟" هكذا يعترض "الواقعيون" الحكماء – أي ضيقو الأفق التافهون المذعورون – "إن لدى العدو البنادق والمدافع والدبابات والغاز والطائرات. بينما لا يملك العمال غير مئات قليلة من المسدسات والمطاوي".
في هذا الاعتراض يجري مراكمة كل شيء من أجل تخويف العمال. فمن ناحية، يخلط حكماؤنا أسلحة الفاشيين مع عتاد الدولة. وياله من منطق رائع! الواقع أن موقفهم زائف في الحالتين. ففي فرنسا، مازال الفاشيون بعيدين عن السيطرة على الدولة. وقد دخلوا في 6 فبراير/ شباط في صدام مسلح مع بوليس الدولة. وهذا هو السبب في أنه من الزيف التحدث عن المدافع والدبابات عندما يكون الموضوع موضوع نضال مسلح مباشر ضد الفاشيين. طبيعي أن الفاشيين أغنى منا. ومن الأسهل بالنسبة لهم شراء الأسلحة. لكن العمال أوفر عددًا، وأشد إخلاصًا، عندما يعون وجود قيادة ثورية حازمة.
وبالإضافة إلى مصادر أخرى، يستطيع العمال تسليح أنفسهم على حساب الفاشيين بنزعهم لسلاحهم بصورة منتظمة.
وهذا هو الآن أحد أشكال النضال الأكثر جدية ضد الفاشية. وعندما تبدأ الترسانات العمالية في الامتلاء على حساب مستودعات الأسلحة الفاشية، فإن البنوك والتروستات سوف تكون أكثر احتراسًا في تمويل تسليح حراسها المجرمين. بل إن من المحتمل في هذه الحالة – ولكن في هذه الحالة فقط – أن تبدأ السلطات المذعورة فعلاً في منع تسليح الفاشيين حتى لا تخلق مصدرًا إضافيًّا لحصول العمال على الأسلحة. ونحن نعرف منذ وقت طويل أن التاكتيك الثوري وحده هو الذي يولِّد، كنتاج فرعيٍّ، "إصلاحات" أو تنازلات من الحكومة.
ولكن كيف يمكن نزع سلاح الفاشيين؟ طبيعي أن من المستحيل عمل ذلك عن طريق المقالات الصحافية وحدها. ولابد من خلق فصائل قتالية. ولابد من إنشاء جهاز مخابرات. إن آلاف المخبرين والآلاف من المساعدين الأصدقاء سوف يتطوعون من كل الجهات عندما يرون أننا نتعامل مع الموضوع تعاملاً جديًّا. إن ذلك يتطلب إرادة فعل بروليتاري.
لكن أسلحة الفاشيين ليست المصدر الوحيد بالطبع. ويوجد في فرنسا أكثر من مليون عامل منظم. وإذا تحدثنا بوجه عام، فإن هذا العدد صغير. لكنه كاف تمامًا للقيام ببداية في تنظيم ميليشيا عمالية. وإذا ما سلحت الأحزاب والنقابات عُشر أعضائها فقط، فإن ذلك سوف يخلق بالفعل قوة قوامها 100.000 رجل. ولا يوجد شك على الإطلاق في أن عدد المتطوعين الذين سوف يجيئون غداة توجيه نداء جبهة متحدة من أجل تشكيل ميليشيا عمالية سوف يتجاوز هذا العدد كثيرًا. إن إسهامات الأحزاب والنقابات والتبرعات والاشتراكات الاختيارية سوف تسمح في غضون شهر أو شهرين بتأمين تسليح عدد يترواح بين 100.000 و 200.000 مقاتل عمالي. وسرعان ما سيرخي الكلب الفاشيُّ ذيله بين قدميه. وسوف يغدو مجمل أفق التطور أكثر مؤاتاة بما لا يقارن.
أما التذرع بغياب الأسلحة واعتبارات موضوعية أخرى لتبرير عدم القيام حتى الآن بمحاولة لخلق ميليشيا فهو خداع للنفس وللآخرين. إن العقبة الأساسية - ولعلها العقبة الوحيدة - إنما تكمن جذورها في الطابع المحافظ لقادة المنظمات العمالية. إن المتشككين الذين هم القادة لا يثقون في قوة البروليتاريا. إنهم يضعون أملهم في كل أنواع المعجزات من فوق بدلاً من تقديم مخرج ثوري للطاقات التي تفيض من تحت. وينبغي على العمال الاشتراكيين إرغام قادتهم على الانتقال فورًا إلى خلق الميليشيا العمالية أو على أن يخلوا مكانهم لقوى نقية وجديدة أكثر.
من المستحيل تصور إضراب دون دعاية ودون تحريض. كما أن من المستحيل تصوره دون مفارز تستخدم الإقناع عندما يكون ذلك بوسعها، وتستخدم القوة عندما ترغم على ذلك. والإضراب هو الشكل الأبسط للصراع الطبقي الذي يجمع دائمًا بمقاييس متفاوتة بين الأساليب "الإيديولوجية" والأساليب المادية. والنضال ضد الفاشية هو أساسًا نضال سياسي يحتاج إلى ميليشيا مثلما يحتاج الإضراب إلى مفارز. ومن حيث الأساس، فإن المفرزة هي جنين الميليشيا العمالية. وكل من يفكر في التخلي عن النضال "المادي" لا بد له من التخلي عن النضال كله، لأن الروح لا تحيا دون جسد.
ومتابعة للجملة الرائعة لكلاوزفيتز، المنظر العسكري العظيم، فإن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى. وهذا التعريف ينطبق بالكامل على الحرب الأهلية أيضًا. النضال المادي ليس غير "وسيلة أخرى" للنضال السياسي. ومن غير المسموح به وضع أحدهما في تعارض مع الآخر لأن من المستحيل وقف النضال السياسي إراديًّا عندما يتحول بقوة ضرورةٍ أصيلة إلى نضال مادي.
إن واجب الحزب الثوري هو أن يستشرف في الوقت المناسب عدم إمكانية تجنب تحول السياسة إلى نزاع مسلح سافر، وأن يستعد بكل قواه لتلك اللحظة تماماً مثلما تستعد لها الطبقات الحاكمة.
ووحدات الميليشيا الدفاعية ضد الفاشية هي الخطوة الأولى على طريق تسليح البروليتاريا، وليست الأخيرة. إن شعارنا هو:
فلنسلح البروليتاريا والفلاحين الثوريين!
إذ ينبغي للميليشيا العمالية، في التحليل الأخير، أن تشمل كل الكادحين. وإنجاز هذا البرنامج كليًّا لن يكون ممكنًا إلا في دولة عمالية سوف تنتقل إلى أيديها كل وسائل الإنتاج، ومن ثم كل وسائل الدمار أيضًا، أي، كل الأسلحة والمصانع التي تنتجها.
بيد أن من المستحيل الوصول إلى دولة عمالية بأيدٍ فارغة. إن المعاقين السياسيين من أمثال رينوديل هم وحدهم الذين يمكنهم التحدث عن طريق سلمي، دستوري إلى الاشتراكية. إن الطريق الدستوري تعترضه خنادق تسيطر عليها العصابات الفاشية. والخنادق التي أمامنا ليست قليلة. ولن تتردد البورجوازية في اللجوء إلى دزينة من الانقلابات، بمساعدة البوليس والجيش، من أجل منع البروليتاريا من الوصول إلى السلطة.
إن الدولة الاشتراكية العمالية لا يمكن خلقها إلا عن طريق ثورة ظافرة.
إن مسار التطور الاقتصادي والسياسى يمهد لكل ثورة لكنها تُقَرَّرُ دائمًا عن طريق صدامات مسلحة سافرة بين طبقات متعادية. ولا يمكن للانتصار الثوري أن يكون واردًا إلا كنتيجة لتحريض سياسي طويل ولفترة طويلة من تربية الجماهير وتنظيمها.
بيد أن الصدام المسلح نفسه لا بد له هو أيضًا من أن يعد له إعدادًا طويلاً.
ولا بد للعمال المتقدمين من أن يعرفوا أنه سوف يتعين عليهم القتال وكسب صراع حياة أو موت. لا بد لهم من أن يمدوا أيديهم لحمل السلاح كضمانة لتحررهم.
(من إلى أين تمضي فرنسا؟، 1934)




الأفق في الولايات المتحدة

تخلف الطبقة العاملة الأمريكية ليس غير مصطلح نسبيٍّ.
فهي من نواحٍ مهمةٍ كثيرة جدًا الطبقة العاملة الأكثر تقدمًا في العالم، تكنيكيًّا وفي مستواها المعيشيّ.
العمال الأمريكيون شديدو النضالية - كما رأينا خلال الإضرابات. وقد قاموا بأشد الإضرابات تمردًا في العالم. أما ما يفتقر إليه العامل الأمريكى فهو روح التعميم، أو التحليل، لوضعه الطبقي في المجتمع ككل. ولهذا النقص في التفكير الاجتماعي أصوله في مجمل تاريخ البلاد....
عن الفاشية.
في كل البلدان التي انتصرت فيها الفاشية، شهدنا، قبل نمو الفاشية وانتصارها، موجة تجذر للجماهير – للعمال والفلاحين والمزارعين الأفقر وللطبقة البورجوازية الصغيرة. ففي إيطاليا، عقب الحرب وقبل عام 1922، شهدنا موجة ثورية ذات مقاييس ضخمة؛ كانت الدولة مشلولة ولم يكن البوليس موجودًا وكان بوسع النقابات أن تفعل كل ما يحلو لها- إلا أنه لم يكن ثمة حزب قادر على استلام السلطة. وكرد فعل جاءت الفاشية.
الشيء نفسه حدث في ألمانيا. لقد شهدنا ظرفًا ثوريًّا في عام 1918؛ إن الطبقة البورجوازية لم تطلب حتى المشاركة في السلطة. وقد أصاب الاشتراكيون الديموقراطيون الثورة بالشلل. وفيما بعد، كرر العمال محاولاتهم في 1922-1923-1924. كان هذا زمن إفلاس الحزب الشيوعي – الذي خضنا في كل جوانبه سلفًا. ثم بدأ العمال الألمان في 1929 – 1930 – 1931 مرة أخرى موجة ثورية. وكانت توجد في الشيوعيين وفي النقابات قوة ضخمة، بيد أن السياسة الشهيرة (من جانب الحركة الستالينية) عن الاشتراكية الفاشية، وهي سياسة ابتدعت من أجل شل الطبقة العاملة، قد أثمرت ثمرتها. وبعد هذه الموجات الضخمة الثلاث فقط أصبحت الفاشية حركة كبيرة. وليس هناك استثناء لهذه القاعدة – إن الفاشية لا تأتي إلا عندما تظهر الطبقة العاملة عجزًا تامًّا عن أخذ مصير المجتمع بين يديها.
وسوف تواجهون الشيء نفسه في الولايات المتحدة. وهناك بالفعل عناصر فاشية، ولديها بالطبع مثالا إيطاليا وألمانيا. ومن ثم فإنها سوف تعمل بإيقاع أسرع. لكنكم أنتم أيضًا تملكون أمثلة بلدان أخرى. إن الموجة التاريخية القادمة في الولايات المتحدة سوف تكون موجة تجذر للجماهير وليس الفاشية. وطبيعي أن بوسع الحرب عرقلة التجذر لبعض الوقت، بيد أنها سوف تكسب التجذر إيقاعًا وحركة أضخم بكثير.
ولا ينبغي لنا الخلط بين الديكتاتورية العسكرية – ديكتاتورية الجهاز العسكري، هيئة الأركان، رأس المال المالي – والديكتاتورية الفاشية. فبالنسبة للأخيرة، لا بد أولاً من وجود شعور باليأس بين جماهير واسعة من الشعب. ويمسي بوسع المزارعين وصغار المستثمرين والعاطلين والجنود، إلخ، تأييد حركة فاشية، عندما يخونهم الحزب الثوري، عندما تُظهر طليعة العمال عجزها عن قيادة الشعب إلى النصر- ولكن عندما يحدث ذلك فقط.
أما الديكتاتورية العسكرية، فهي مؤسسة بيروقراطية خالصة، يعززها الجهاز العسكري وترتكز على فقدان الشعب للاتجاه وخضوعه لها. وهو بعد وقت معين يمكن لمشاعره أن تتغير ويمكن له أن يتمرد على الديكتاتورية.
(من بعض أسئلةٍ حول مشكلات أمريكية،
فورث إنترناشيونال، أكتوبر/ تشرين الأول 1940)


لنبنِ الحزب الثوري !

عند كل نقاش لمسائل سياسية، دائمًا ما يثور السؤال:
هل سننجح في خلق حزب قوي عشية الأزمة؟ ألن تسبقنا الفاشية؟ أليست مرحلة التطور الفاشية حتمية؟
إن نجاحات الفاشية تدفع الناس بسهولة إلى فقدان كل منظور. وتؤدي بهم إلى نسيان الظروف الفعلية التي ساعدت على تعزيز الفاشية وانتصارها. ولكن الفهم الواضح لهذه الظروف يكتسب أهمية خاصة بالنسبة لعمال الولايات المتحدة. ويجوز لنا تقرير ما يلي كقانون تاريخي: إن الفاشية لم تتمكن من الانتصار إلا في البلدان التي حالت فيها الأحزاب العمالية المحافظة دون استخدام البروليتاريا للظرف الثوري والاستيلاء على السلطة. ففي ألمانيا كان هناك ظرفان ثوريان بين عامي 1918 و 1919 وبين عامي 1923 و 1924. وحتى في عام 1929، كان لا يزال بوسع البروليتاريا خوض نضال مباشر من أجل استلام السلطة. والحال أن الإشتراكية الديموقراطية والكومنترن قد قاما في هذه الحالات الثلاث كلها بتخريب إجرامي وأثيم للاستيلاء على السلطة ووضعا المجتمع بذلك في طريق مسدود. وفي هذه الظروف وفي هذا الوضع فقط، أمكن للفاشية تحقيق صعود عاصف وكسب السلطة.
*****
بمقدار ما تظهر البروليتاريا عاجزة، في مرحلة معينة، عن الاستيلاء على السلطة، تبدأ الإمبريالية في تنظيم الحياة الاقتصادية بطرائقها؛ والحزب الفاشي الذي يغدو سلطة الدولة هو الميكانيزم السياسي. إن القوى المنتجة ليست في تناقض تناحري مع الملكية الخاصة فقط وإنما مع حدود الدولة القومية أيضًا. وتسعى الرأسمالية الإمبريالية إلى حل هذا التناقض عن طريق توسيع للحدود والاستيلاء على أراض جديدة وما إلى ذلك. إن الدولة الشمولية، التي تُخضع كل جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية لرأس المال المالي، هى أداة لخلق دولة فوق قومية، إمبراطورية إمبريالية، هيمنة على قارات، هيمنة على العالم كله.
وقد حللنا كل سمات الفاشية هذه، كل سمة في حد ذاتها، وكلها في كليتها، بمقدار اتضاحها أو بروزها.
وقد أثبت كل من التحليل النظري وكذلك الخبرة التاريخية الغنية للربع الأخير من هذا القرن بقوة واحدة أن الفاشية هي في كل مرة الحلقة الأخيرة في سلسلة سياسية محددة تتألف مما يلي: أخطر أزمة للمجتمع الرأسمالي؛ نمو تجذر الطبقة العاملة؛ نمو التعاطف مع الطبقة العاملة وتطلع إلى التغيير من جانب البورجوازية الصغيرة الريفية والمدينية؛ ارتباك البورجوازية الكبيرة؛ مناوراتها الجبانة والغادرة الرامية إلى تحاشي الذروة الثورية؛ استنزاف البروليتاريا؛ تشوش وعدم مبالاة ناميان؛ احتداد الأزمة الاجتماعية؛ يأس البورجوازية الصغيرة؛ تطلعها إلى التغيير؛ الذهان الجماعي للبورجوازية الصغيرة؛ استعدادها للإيمان بالمعجزات، استعدادها للتدابير العنيفة؛ نمو العداء للبروليتاريا، التي خيبت توقعاتها. تلك هي المقدمات لتشكيل سريع لحزب فاشي وانتصاره.
ومن الواضح بذاته تمامًا أن تجذر الطبقة العاملة في الولايات المتحدة قد اجتاز مراحله الأولية فقط، في مجال الحركة النقابية (الـCIO )، بشكل شبه حصري. والفترة السابقة على الحرب، ثم الحرب نفسها، قد تقطع عملية التجذر هذه بصورة مؤقتة، خاصة إذا ما جرى استيعاب عدد ملحوظ من العمال في الصناعة الحربية. لكن هذا الانقطاع لعملية التجذر لا يمكن أن يدوم طويلاً. وسوف تكتسب المرحلة الثانية للتجذر طابعًا تعبيريًّا أكثر حدة. وسوف تكون مشكلة تشكيل حزب عمالي مستقل مدرجةً في جدول الأعمال. وسوف تكتسب مطالبنا الانتقالية شعبية ضخمة. ومن ناحية أخرى، فإن الاتجاهات الفاشية الرجعية سوف تتراجع إلى الخلف، متخذة موقفًا دفاعيًّا، تحينًا للحظة أكثر مؤاتاة. ذلك هو الأفق الأقرب. ولا يوجد شاغل أحقر من الاستغراق في تأملات حول ما إذا كنا سننجح أم لا في خلق حزب – قائد ثوري قوي. فأمامنا يكمن أفقٌ مناسب، يتيح كل مبرر للفعالية الثورية. ومن الضرورى استخدام الفرص الملائمة وبناء الحزب الثوري.
(من المقال الأخير لليون تروتسكي، فورث إنترناشيونال، أكتوبر/ تشرين الأول 1940)



إشارات

1. المقصود هو معاهدة فرساي، التى فُرضت على ألمانيا عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى. وأزمة 1929.
2. الفيلد مارشال بول فون هندنبرج (1847-1934)، رئيس جمهورية فايمار.
3. فيليبُّو توراتي (1857-1937)، منظر إصلاحي بارز للحزب الاشتراكي الإيطالي.
4. دميتري مانويلسكي (1883-1952). ترأس الكومنترن من عام 1929 إلى عام 1934.
5. إركولي، اسم مستعار في نشرات الكومنترن لبالميرو تولياتي (1893-1964) الذي قاد الحزب الشيوعي الإيطالي بعد سجن جرامشي.
6. "مشنقة يونج"، إشارةً إلى مشروع أوين د. يونج، وهو رجل أعمال أمريكى كبير ترأس فى صيف 1929 مؤتمرًا أقر مشروعه الخاص بـ "تسهيل" دفع ألمانيا لتعويضاتها المنصوص عليها فى معاهدة فرساي.
7. معهد مانويلسكي؛ المقصود هو الكومنترن.
8. الجبهة الحديدية؛ تكتل بين عدد من النقابات الكبيرة وجماعات "جمهورية" بورجوازية لا تملك نفوذًا أو هيبة واسعة بين الجماهير. وقد تشكلت على أيدي الاشتراكيين الديموقراطيين في أواخر 1931.
9. هينريش براوننج، مستشار ألمانيا بين 1930 – 1932.
10. فورفارتس، الصحيفة الرئيسية للاشتراكيين الديموقراطيين.
11. جاستون دوميرج، رئيس وزراء فرنسا البونابرتي. خَلَفَ إدوار دالادييه.
12. "الفترة الثالثة"، وفقًا للمخطط التصوري الستاليني، هي الفترة النهائية للرأسمالية، فترة زوالها الوشيك وحلول السوفييتات محلها. وقد تميزت بتاكتيكات الشيوعيين اليسارية المتطرفة والمغامرة وخصوصًا مفهوم الاشتراكية الفاشية.
13. Rote Front ، جبهة المقاتلين الحمراء: ميليشيا تحت الهيمنة الشيوعية حظرتها الحكومة الاشتراكية الديموقراطية بعد اضطرابات أول مايو/ أيار 1929 في برلين.
14. Camelots du Roi ، الملكيون الفرنسيون الملتفون آنذاك حول صحيفة شارل موراس أكسيون فرانسيز، ذات الآراء شديدة العداء للديموقراطية.
15. بيير رينوديل (1871-1935)، اشتراكي إصلاحي فرنسي.