كيف نقوم الديموقراطية في مجتمع ما؟


هشام غصيب
2011 / 8 / 27 - 17:53     


لعل أخطر مصير يحل بلفظة ما هو أن تتحول إلى صنم فارغ المضمون والمعنى. هذا ما أصاب لفظة الاشتراكية في يوم من أيام الماضي القريب فباتت شعاراً أجوف تردده أكثر القوى يمينية وتحالفاَ مع الرأسمالية. وها نحن نشهد اليوم تحول الديموقراطية إلى صنم أو وثن تخر له الدول والأمم ساجدة ومبتهلة ويتشدق به العرفيون والمستبدون والعنصريون من كل صنف ولون، فيقصفون مجالس شعبهم ويحطمون مؤسساتهم ويبيدون الشعوب الأخرى باسم صنم العصر ذاك.







لذلك كله ما عاد بالإمكان استعمال هذه اللفظة – الصنم ببراءة وعفوية باعتبار معناها معروفاً أو على الأقل محدوساً. كلا! بل بات من الملح حقا إعمال النظر فيها من جديد والحفر في قلبها والبحث في أصولها وجذورها وتطهيرها من اغترابها حتى يتسنى لنا أن نستعملها عنصرا مفهوماً في خطابنا وأداة فعالة في معرفة الواقع الذي نعيشه ومرشداً واضحاً في ممارساتنا العامة، أي حتى يتسنى لنا أن نحدد معناها المستمد من التاريخ وإمكاناته الكامنة. وإلاّ فأنى لنا أن نميز بين الشكل الزائف والمضمون المستتر! أنى لنا أن نميز بين الديموقراطيات الفعلية الحقيقية وبين الدول البوليسية الاستبدادية التي تخفي عوراتها المظلمة بالقشور الديموقراطية وأشكال الزينة الديموقراطية! ليس هناك مفرّ إذاً من تشريح هذه اللفظة وإعادة النظر فيها، لا بالتحليل اللفظي اللغوي العقيم الذي يغرم به كثير من العرب، وإنما بالتحليل التاريخي السياسي الموضوعي لواقع تاريخي متشعب.



لكننا لن نبدأ بوضع تعريف ذاتي أخلاقي للديموقراطية من أجل قولبة الواقع التاريخي وفقه وحشره حشراً في قوالبه الضيقة، وإنما سنبدأ تشريحنا بالسؤال عن كيفية تقويم الديموقراطية في مجتمع ما، أي كيفية الاستدلال عليها وقياس مدى وجودها وفاعليتها في المجتمع، وذلك ارتكازاً إلى النماذج التاريخية التي اصطلح على تسميتها بالديموقراطية وقياساً عليها. وفي ضوء هذا القياس والاختبار سأضع تعريفا موضوعيا للديموقراطية يلخص واقعها التاريخي وكوامنها التاريخية ويحددها في آن.



ويتمثل قياسنا بالأسئلة الثلاثة الآتية:

(1) إلى أي مدى تتاح ممارسة الحريات الديموقراطية في المجتمع، أي إلى أي مدى تفرض القيود السياسية والقانونية والبوليسية المباشرة على ممارستها؟ ونعني بالحريات الديموقراطية هنا: حق الانتخاب والترشيح في المجالس، وحرية الرأي والقول والعقيدة، وحق التجمع والتظاهر، وحق تشكيل الأحزاب والهيئات والجمعيات والمجالس العامة والانخراط فيها، وحق تشكيل النقابات والاتحادات، وحق الإضراب عن العمل، وما إلى ذلك.

(2) إلى أي حدّ تملك الغالبية الكادحة وسائل ممارسة الحريات الديموقراطية؟ فهناك شروط مادية ومعنوية أساسية لممارسة هذه الحريات، وإلا كانت مجردّ حريات شكلية. وفي هذا المقام تبرز أسئلة كالآتية: أي فئات اجتماعية تتحكم بالموارد المالية وأماكن التجمع والخبرات القانونية وأجهزة القمع والوسائل التربوية والإعلامية والثقافية والمؤسسات الاقتصادية؟ وكيف تحد الظروف المعيشية من قدرة الفئات الشعبية على ممارسة الحريات حتى لو أتيحت لها ممارستها؟ هل يمكن للكادحين وأحزابهم وهيئاتهم ممارسة الحريات الديموقراطية في غياب أماكن واسعة للتجمع، وموارد مالية تضمن تفرغ بعضهم للعمل العام وتضمن تأمين حد أدنى من الاتصال مع بعضهم ومع المجتمع، وفي غياب ظروف معيشية تتيح الوقت والمجال والمعرفة اللازمة للممارستها؟



(3) إلى أي حدّ تدخل عملية ممارسة الحريات الديموقراطية، إن وجدت، في عملية اتخاذ القرار السياسي والاقتصادي والثقافي؟ أي، إلى أي مدى تترجم العملية الأولى إلى العملية الثانية، ومن ثم تكتسب معناها الفعلي؟ هل هناك آليات سياسية وقانونية تحول دون ترجمة هذه إلى تلك، أي تحول دون مشاركة الأغلبية في صنع القرارات الوطنية الحاسمة؟



هذه الأسئلة تتعلق جميعا بصورة جوهرية وضرورية ببنية الدولة السائدة وطبيعتها. إنها تنطلق من التمييز بين الجوهري والعرضي في الظاهرة الديموقراطية، أي بين المقوّمات الجوهرية وبين الأشكال والقشور السطحية. وبمعنى آخر، فهي تحدد المقومات الجوهرية للظاهرة الديموقراطية انطلاقاً من أسسها ومقاصدها وآليات تحقيقها. وهي تنطوي على الرأي بأن جوهر الديموقراطية يكمن في ممارسة الحريات الديموقراطية والمشاركة في صنع القرار على نطاق واسع إلى هذا الحد أو ذاك. فإذا غاب هذان الشرطان، كانت الديموقراطية المعنية زائفة وشكلية حتى لو كان هناك برلمان وانتخابات برلمانية.



ويقودنا ذلك كله إلى التعريف الشامل الآتي للديموقراطية: إن الديموقراطية هي في جوهرها بنية معينة لاتخاذ القرارات العامة (أي لتجسيد الإرادة العامة) على الصعد الاجتماعية كافة (السياسية والاقتصادية والثقافية) تستلزم عملياتها ممارسة الحريات الديموقراطية بفاعلية ونشاط. وتفترض هذه البنية حق كل مواطن أو فرد في المجتمع في المشاركة في عمليات اتخاذ القرارات العامة وتتضمن بالفعل مشاركة كل من يملك أدوات اتخاذ القرار وممارسة الحريات الديموقراطية فيها، وفي مقدّمة هذه الأدوات والوسائل: عناصر القوة الاقتصادية، والوسائل والمنابر التربوية والإعلامية والثقافية، ووسائل القمع والردع. فهل تتحكم في هذه الوسائل الأقلية أم الأكثرية؟ ومن هذا الباب ندخل مسألة الملكية وعلاقات الإنتاج في مسألة الديموقراطية. ومنه أيضا ندخل مقولة أن الديموقراطية لا تكتمل إلا بالاشتراكية، بمعنى أن الممارسة الفعلية للديموقراطية لا تتطابق مع فكرتها ومقاصدها ومثالها إلا في الاشتراكية.



والآن، إذا طبقنا هذه الأسئلة والتعريفات على المجتمعات الغربية المتقدمة، قادنا ذلك إلى بنية الدولة الغربية النمطية،أي إلى الديموقراطية الليبرالية الكلاسيكية. ففي جل الأقطار الغربية النمطية، تتوافر فرص حقيقية لممارسة الحريات الديموقراطية، حيث إن هناك ضمانات قانونية ومؤسساتية وطبقية لممارستها. فأي محاولة مباشرة من طرف الأجهزة الأمنية للحد منها تجابهها عاصفة من الاستنكار على عدة صعد. أما أدوات ممارستها، فتملكها إلى هذا الحد أو ذاك قطاعات واسعة من البرجوازية الكبيرة والمتوسطة، وقطاعات محدودة من البرجوازية الصغيرة والأرستقراطية العمالية. أما عملية اتخاذ القرار، فتتفاوت المشاركة فيها من قطاع إلى آخر. فهناك قطاعات تحتكرها طغم من علية القوم. وهناك قطاعات تشارك فيها شرائح واسعة من البرجوازية، بل وحتى الشرائح العليا من الطبقة العاملة. ويمكن القول بصورة عامة إن شرائح واسعة من البرجوازية الغربية تشارك فعليا بصورة أو بأخرى وعلى مستويات شتى في عملية اتخاذ القرار على الصعيدين السياسي والاقتصادي، الأمر الذي يبرر القول بأن الديموقراطية الغربية النمطية تمثل دكتاتورية البرجوازية، أي حكم الطبقة البرجوازية بوصفها طبقة. ويمكن تعميم ذلك بالقول إن كل ديموقراطية هي بالضرورة، وبحكم تعريف الديموقراطية، دكتاتورية طبقة. وهنا ينبغي أن نفرق جيداً بين حكم الطبقة وبين حكم الفئة أو الطغمة أو العصابة أو الطائفة أو العائلة أو العشيرة. فالنمط الأول يمكن أن يكون ديموقراطية، كما هو الحال مع أحرار أثينا في الحضارة الإغريقية ومع البرجوازية الغربية في الحضارة الحديثة. أما النمط الثاني، فهو في جوهره حكم استبدادي معاد للديموقراطية، ومن ثم فلا يمكن أن يكون ديموقراطيا. وهذه الفكرة تقودنا بصورة طبيعية إلى طبيعة النظم السياسية السائدة في أقطار الوطن العربي، بما في ذلك ديموقراطياته الناشئة. ولنطبق قياسنا وتعريفنا على هذه النظم التي توصف بأنها تجارب ديموقراطية عربية ناشئة.



ونورد في هذا المقام ثلاث ملاحظات تناظر الأسئلة القياسية الثلاثة التي طرحناها:



أولا، إن العملية الديموقراطية في أقطار الوطن العربي التي تدعي أنها ديموقراطية لم تمس الأجهزة الأمنية، لا من حيث البنية ولا من حيث الصلاحيات والوظائف ولا من حيث الموازنة. فهذه الأجهزة تظل سيفا مسلطا على رقاب العباد يمكن أن يستعمل في أي لحظة. فليس هناك ما يقيدها بالفعل سوى مشيئة الحاكم، الأمر الذي يجعل منها قيداً فولاذيا دائما على ممارسة الحريات الديموقراطية وسقفاً عليها يميل إلى التحرك إلى الأسفل دوماً. وهي قد تواكب العصر بتحديث طرقها القمعية، لكن النتيجة واحدة من حيث وظيفتها في لجم المواطن وتقييد ممارسته للحريات الديموقراطية.



ثانيا، ما زالت هذه الأقطار محكومة من قبل أرستقراطيات بيروقراطية، هي أقرب إلى العصابات منها إلى الطبقات الاجتماعية، شأنها في ذلك شأن الأقطار العربية الأخرى التي لم تدخل بعد في ما يسمى تجربة الديموقراطية. وتميل هذه الأرستقراطيات بحكم تركيبها إلى التوتاليتارية أو الشمولية. فهي تسيطر على المؤسسات العامة الرسمية وشبه الرسمية، لكنها تسعى باستمرار أيضا إلى توسيع سيطرتها على المؤسسات الشعبية كالبرلمان والنقابات وعلى المؤسسات الاقتصادية الرئيسية لتكون مصادر جديدة للريع الذي تجنيه من المجتمع. وعليه، فإذا أردنا تعريف النظام السياسي العربي النمطي، قلنا إنه يمثل دكتاتورية الأرستقراطية البيروقراطية. وفي ضوء هذا التوصيف، فإنه من الواضح أن الغالبية الساحقة من المواطنين في الديموقراطيات العربية الناشئة لا تملك أدنى شروط ممارسة الحريات الديموقراطية. فالارستقراطية البيروقراطية تحتكر جزءاً من هذه الشروط، والجزء المتبقي تحتكره فئات البرجوازية الطفيلية السائدة في القطاع الخاص. وهذا الوضع ينعكس بدقة في برلمانات الديموقراطيات العربية الناشئة.



ثالثا، إن عملية اتخاذ القرارات الرئيسية والحاسمة في الديموقراطيات العربية الناشئة ما زالت حكراً على النخبة التي تشكل قلب الارستقراطية البيروقراطية. وقد تركت مساحة ضيقة من القرارات لمشاركة الأجنحة الأخرى من البرجوازية التابعة الطفيلية. وهذا ما تفرضه بنية النظام السياسي والدستور والقوانين القائمة. فممارسة الحريات الديموقراطية، حتى في شكلها الممسوخ المقيد، لا تدخل إلا بطريقة بعيدة وغير مباشرة في عملية اتخاذ القرار. فالنخبة الحاكمة هي التي تتخذ القرارات ارتكازاً إلى سياسات عامة سياسية واقتصادية وثقافية تضعها قوى خارجية متنفذة، وفي مقدمتها: الإمبريالية الأميركية والصهيونية العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي والغات. وعلى هذا الأساس، فإنه يمكن وسم الديموقراطية العربية القائمة في بعض الأقطار العربية بأنها الوصفة السياسية لهذه القوى العالمية. وهي لا تمت إلا بصلة شكلية إلى الديموقراطية الفعلية الحقيقية التي فصلنا معالمها. فهي في جوهرها شكل جديد محدّث لدكتاتورية البيروقراطية. إنه شكل أكثر فاعلية وذكاء وقبولا من الرأي العام العالمي للتعامل مع المعارضة واحتوائها والحد من اتساعها. ففي ظل التغيرات العالمية الأخيرة، وفي مقدّمتها انتهاء الحرب الباردة وتفاقم مديونية أقطار العالم الثالث إلى حافة الانهيار، وفي ظل ما صاحب هذه من اضطرابات وانتفاضات، وجدت بعض النخب العربية الحاكمة نفسها مضطرة إلى تقديم بعض التنازلات للقوى الاجتماعية الأخرى، وإلى تحديث أساليب إدارة المجتمع وترشيدها لإدامة احتكارها السلطة بأقل كلفة ممكنة. لكن هذه الإجراءات لم تلغِ حقيقة احتكارها السلطة في شتى المجالات، وبخاصة احتكارها اتخاذ القرارات الحاسمة والمصيرية. وما دام الأمر كذلك، فإن المهمة التي تجابهنا اليوم لا تتمثل في تحديث مؤسساتنا التربوية وغيرها بما ينسجم والتحولات التي شهدناها مؤخراً على الصعيد السياسي. فنحن لم نحقق الديموقراطية على الصعيد السياسي حتى نضع نصب أعيننا تعميمها على مؤسساتنا وجماهيرنا، وكأن الديموقراطية نعمة أو مكرمة تهبط علينا من عل، وكأن العقبة الوحيدة أمامنا هي جماهيرنا التي تأبى أن تنضج وتتعلم كيف تنعم بهذه المكرمة وتسير على هديها. إذاً، فإن المهمة التي تجابهنا اليوم هي تحقيق الديموقراطية بكسر احتكار الارستقراطية البيروقراطية وحلفائها من البرجوازيين الطفيليين للسلطة على شتى الصعد وكسر القيود التي فرضتها علينا المؤسسات المالية الدولية والإمبريالية الأميركية والصهيونية العالمية، أي تحرير القرار الوطني من هذا الاحتكار ومشاركة القوى الشعبية الديموقراطية في صنع القرار الوطني. وهذا لا يتم إلا بتغيير علاقات القوى الداخلية في إطار تغيير علاقات القوى الخارجية. من ثم فإن قضية الديموقراطية في الديموقراطيات العربية الناشئة ليست قضية واقع نريد ترسيخه، وإنما هي قضية نضالية كبرى، نضال كبير في مجابهة قوى الاستبداد المحلية والعالمية. لذلك، فإن قضية الديموقراطية لا يجوز فصلها مطلقاً عن قضية التحرر القومي المتمثل في وحدة الأمة العربية وتحرير الإرادة والموارد العربية، بما في ذلك الأرض، من قوى الاستبداد والقوى الاستعمارية الغربية. فلا معنى للديموقراطية في الوطن العربي إذا لم تتم في سياق التحرر القومي والنضال ضد المستبدين والمستعمرين. إن قضية الديموقراطية في وطننا هي هي قضية التحرر القومي فيها. وهذا القول ينطبق على جميع الصعد، بما في ذلك الصعيد التربوى. وفي مجال التربية بالتحديد، فإن الخطوة الأولى على درب دمقرطة مؤسسات هذا المجال، أي كسر احتكار النخبة، تتمثل في تشكيل نقابة حرة للمعلمين واتحاد عام للطلبة يسعيان بجدية إلى تحطيم الجدران الكثيرة التي تفصل هذه المؤسسات عن المجتمع، والمشاركة الفعالة في اتخاذ القرار التربوي ورسم السياسة التربوية صوب تحسين وضع المعلم، ورفع كفاءة التعليم، وترسيخ قيم التحرر القومي النضالية النقدية، ودمقرطة الأجواء الطلابية والعلاقات القائمة بينهم وبين الجهاز التعليمي، وإزالة القيود التي تقتل روح المثابرة والإبداع والثقة بالنفس لدى الطالب، وتشريب نفوس الطلبة بحب الحق والخير والجمال وبقيم الرفض العقلاني، وتحريرها من قيود الخوف والطاعة العمياء والخرافة والتزوير واللاعقل، ومجابهة التطبيع بكل أشكاله مع العدو الصهيوني العنصري، وتعزير قيم التضامن والحوار العقلاني في مجابهة الاستبداد والاستعمار. وبالطبع فإن هذا الصراع على الصعيد التربوي ينبغي أن يتم بوصفه جزءاً عضويا من الصراع العام من أجل الديموقراطية.



هكذا أفهم الديموقراطية وهكذا أفهم علاقتها الفعلية مع التربية ومؤسساتها