علم الكون الحديث وقصة الخلق الدينية


هشام غصيب
2011 / 8 / 9 - 09:18     

بدأ الإنسان يفكر في الكون، أي مجمل الوجود والموجودات من مادة وطاقة ومكان وزمان، مذ تبلر الدماغ البشري وبدأ العمران الاجتماعي. لكن تصورات الإنسان الكونية اتسمت بطابع أسطوري ثم فلسفي تأملي لآلاف السنين، أي إنها ارتكزت إلى المنطق الأسطوري والمبادئ الفلسفية والأخلاقية والجمالية، وعبرت عن ذاتيات اجتماعية ونفسانية أكثر منها عن واقع كوني فعلي. فنخرتها التناقضات القاتلة وافتقدت إلى الترابط الفكري وكانت مزاجية غير قابلة للاختبار.

لكن القرن العشرين شهد تطورات بركانية مذهلة لم تكتف بسحب البساط من تحت أقدام التصورات الكونية القديمة، وإنما أفلحت في تحويل دراسة الكون إلى علم دقيق يقارن بالعلوم الدقيقة الراسخة كفروع الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والجيولوجيا المتنوعة.

ولندقق النظر في هذه المقولة حتى نتبين مدى مشروعية علم الكون.

ولنبدأ بمقارنة نظريات الكون الحديثة بالتصورات الكونية القديمة.

إن النظريات الكونية الحديثة تتميز آولا بأدواتها الفكرية والنظرية المستمدة بصورة أساسية من فيزياء القرن العشرين. وهي أدوات رياضية محكمة ومترابطة فكريا وقابلة للاختبار ومختبرة جيداً في جلها. آما التصورات الكونية القديمة، فهي تستخدم أدوات حسية حدسية مؤسطرة (من أسطورة) ومن مبادئ فلسفية وأخلاقية وجمالية تجريدية ومشتقة من الفكر البحت. فأفلاطون مثلا يشتق تصوره الكوني المفصل الوارد في كتابه “الطيماوس” بأدواته الفلسفية والفكرية العامة الواردة في حواراته المتعددة. أما تصور أرسطو الكوني فهو تجسيد لفلسفته في الوجود والمعرفة. وبالمقارنة، فإن نظريات الكون الحديثة تستخدم أدوات نظرية متطورة كنظرية النسبية الخاصة ونظرية النسبية العامة والفيزياء النووية وميكانيكا الكم ونظرية المجال الكمي والأنموذج المعياري للمادة والجسيمات الأولية ونظرية الخيوط الفائقة والجاذبية الكمية. وجميعها نظريات رياضية محكمة ومترابطة وجلها قابل للاختبار ومختبر جيداً. وقد قاد استخدام هذه الأدوات إلى نتائج مذهلة ما كان ليحلم في عشرها أعتى التطوارات الأسطورية والتحليلات والتركيبات الفلسفية، بل والخزعبلات السحرية. إنها بالفعل أغرب من الخيال.

وتتميز النظريات الكونية الحديثة، ثانيا، في أنها نظريات رياضية متطورة قابلة للاختبار وقادرة على التفسير والتنبؤ الدقيقين. ألم تتنبأ نظرية النسبية العامة بأن المكان يتمدد بكيفية معينة قبل اكتشاف هذا التمدد رصديا ؟ وألم تتنبأ نظرية الانفجار الكوني Big Bang Theory بأن مادة الكون تسبح في محيط متجانس جداً مما يسمى إشعاع الخلفية (إشعاع ميكرويف Microwave)، وأن هذا الإشعاع هو إشعاع جسم أسود درجة حرارته حوالي ثلاث درجات مطلقة؟ وأخيراً، ألم تفلح هذه النظرية في تفسير نسب العناصر في الكون (75% هيدروجين، حوالي 24%هيليوم، أقل من 1% باقي العناصر) بدقة كبيرة؟ وهذه لعمري إنجازات كبيرة ترسي هذه النظرية على قاعدة معرفية صلبة.

لكنها، برغم ذلك، تبقى نظرية، أي ملخصا مكثفا لمعارف سابقة ومرشداً لأفعال ومعارف لاحقة. وبهذا المعنى، فإن النظرية، حتى الراسخ منها، ليست حقيقة مطلقة ولا صورة نهائية لواقع نهائي. فالنظرية، بصورة عامة، تتسم بالإنجازات، ولكن بالإشكالات المعرفية والمفاهيمية أيضا. وهذه الإشكالات تضع حدوداً على مدى انطباق النظرية على الواقع، ويمكن أن تعوق تقدم النظرية، لكن يمكن أيضا أن تكون محركاً لارتقاء النظرية وتطورها. ويمكن القول إن النظرية العلمية بصورة عامة لا تخلو من الإنجازات ولا من الإشكالات والتناقضات. وهي تظل قائمة وفعالة ما ظلت تحقق الإنجازات وتتخطى إشكالاتها. لكن ذلك يغيرها باستمرار. وقد تتراكم التغيرات المقدارية حتى تتحول إلى تغير كيفي ينسف النظرية من أساسها ويعيد تشكيلها على أسس جديدة. فعندما تتراكم الإشكالات غير المحلولة، تتراكم الإخفاقات وتقل الإنجازات. عند ذاك تندلع الثورات التي تقلب الأمور رأسا على عقب، وتكون نتيجتها ولادة نظريات جديدة تحافظ على الإنجازات القديمة وتتخطى الإخفاقات. هكذا تتجدد المعرفة وتتطور.



وينطبق هذا التوصيف بدقة على نظرية الانفجار الكوني العظيم. فالنظرية قامت وسيطرت وقهرت منافساتها على أساس عدد من الإنجازات. لكن هذه الإنجازات لم تلغِ إشكالاتها وتناقضاتها، وإنما ساعدت في تعظيم الجهود التي انبرت لحلها وتخطيها. ولنوضح ذلك باستعراض المحطات الرئيسية في تطورها. وضع آينشتاين (والرياضي الألماني هلبرت في الوقت ذاته) نظرية في الجاذبية والمكان والزمان (ما يسمى نظرية النسبية العامة) عام 1915. والفكرة الجوهرية في هذه النظرية هي أن المكان والزمان لا ينفصلان عن بعضهما هندسيا، بمعنى أنها يشكلان كيانا هندسيا واحداً موحداً، وأن المكان مرن مطاط يمكن أن يتقلص وأن يتمدد، وأن الجاذبية هي خاصية هندسية للزمكان (الكيان الهندسي الذي يوحد المكان بالزمان) . وبرغم ما توحيه هذه الفكرة من إمكانيات بصدد حالة تمدد الكون، إلا أن آينشتاين ظل متمسكا بالفكرة التقليدية أن المكان بصورة عامة (أي على الصعيد الكوني) سكوني لا يتقلص ولا يتمدد. لذلك، عمد إلى تعديل معادلاته المجالية بإقحام حد رياضي جديد فيها أسماه الثابت الكوني، حتى يتسنى له بناء أنموذج سكوني للكون، مع أنه تبين لاحقا أنه حتى الثابت الكوني لا يضمن سكونية المكان الكوني.

لكن تحيز آينشتاين السكوني لم يصمد طويلاً. إذ سرعان ما طور الفيزيائي الروسي، إسكندر فريدمان، أنموذجا كونيا (عام 1922) ارتكازاً إلى معادلات آينشتاين المجالية غير المعدلة ينطوي على فكرة أن المكان الكوني إما يتقلص وإما يتمدد باستمرار وبكيفية محددة. وفي عام 1927، طور الكاهن البلجيكي، ليميتر ، أنموذجا مشابها لأنموذج فريدمان، ولكن بالارتكاز إلى معادلات آينشتاين المجالية المعدلة. وجاءت رصدات الفلكي الأميركي، إدوين هابل، عام 1929، داعمة بشدة أنموذجي فريدمان وليمير. وكان ذلك إيذانا بانطلاقة نظرية الانفجار الكوني وأول إنجاز فعلي لهذه النظرية. لكن هذا الإنجاز الكبير لم يكن كافيا لتبديد قلق علماء الكون والفيزياء بصدد جوانب أساسية في النظرية تنخرها المفارقات والتناقضات. ومن هذه الجوانب:

(1) أن المكان ليس أزليا، بمعنى أنه محدود العمر (عمرة 13.7 مليار سنة وفق أحدث القياسات)، وأنه انبثق منذ مدة محدودة من الصفر، أو بالأحرى من حالة كونية يطلق عليها الرياضيون لفظة “النقطة المنفردة” Singularity . وبالطبع، فإنه من الصعب أن يتصور المرء الوجود من دون مكان، ومن الصعب أيضا تصور انبثاق المكان من حالة منفردة تعجز كثير من النظريات عن تحديدها وتوصيفها.

(2) أن الزمان محدود ماضيا، بمعنى أنه إذا عدنا أدراجنا إلى الماضي، نصل (قبل13.7 مليار سنة وفق أحدث الرصدات) إلى لحظة يتلاشى قبلها الزمن. فالزمن ابتدأ وانبثق من النقطة المنفردة قبل المدة المكورة، ولم يكن هناك زمان قبل ذلك. وبالطبع، فإنه من الصعب أن يتصور المرء الوجود من دون زمان، ومن الصعب أيضا تصور انبثاق الزمان من حالة منفردة غير قابلة للتحديد والتوصيف.

(3) من أين جاءت النقطة المنفردة؟ وهل هناك أي معنى فيزيائي لها؟ فهي لامتناهية الصغر من حيث الأبعاد المكانية، لكنها لانهائية الكبر من حيث كثافة الطاقة والانحناء المكاني ودرجة الحرارة. كذلك، فإن مبدأ السببية لا ينطبق عليها، حيث إن هذا المبدأ يفترض وجود الزمن، والزمن كما رأينا يبدأ من النقطة المنفردة وينبثق منها. إن النقطة المنفردة إذاً هي خارج المكان والزمان لأنها مصدرهما.

وهناك جوانب أخرى في نظرية الانفجار الكوني مليئة بالمفارقات، لكن لا مجال لذكرها هنا لطابعها المتخصص.

وقد جرت محاولات مهمة، وخصوصاً في ستينيات القرن الماضي في الاتحاد السوفييتي، لتفادي مشكلة النقطة المنفردة وما يترتب عليها، لكنها أصيبت بنكسة كبرى حين برهن العالمان الإنجليزيان، روجر بنروز وستيفن هوكنغ، أن نظرية النسبية العامة تقود بالضرورة إلى النقطة المنفردة بصرف النظر عن تفصيلات الأنموذج الكوني. وعليه، فلا مجال لتفادي هذه المشكلة ضمن إطار هذه النظرية.



وقد دفعت هذه النتائج عدداً من أتباع الديانات إلى فكرة مفادها أن النقطة المنفردة تمثل لحظة الخلق الإلهي وأن العلم يعجز عن تملكها وتوصيفها، الأمر الذي يفرض علينا تخطي العلم إلى الدين واللاهوت للتعامل مع تلك اللحظة.

لكني أرى أن هذه الفكرة الشائعة مغلوطة تماماً للسببين الآتيين:

(1) هناك غياب تام لمفهوم الخلق الديني في العلم. إن خطاب العلم يخلو تماماً من هذا المفهوم، أي إن هذا المفهوم يقع خارج فضاء العلم. وهذا لا يعني أنه مفهوم غير مشروع. كل ما في الأمر أنه مفهوم غير علمي ويشغل حيزاً مهما في الدين واللاهوت والفلسفة. والذي يبحث عن معناه عليه أن يبحث عنه في الفلسفة واللاهوت. أما العلم الطبيعي، فلا يستخدم (ولا يستطيع أن يستخدم) هذا المفهوم البتة لفهم العالم علميا. إن العلم الطبيعي يسعى إلى تحديد الحالات المادية والكونية وتوصيفها ومعرفة أسسها وقوانين حركتها وآليات انبثاق حالة من غيرها من الحالات. فالعلم الطبيعي لا يقول إن المكان والزمان والمادة خلقت قبل 13.7 مليار سنة ، وإنما يقول فقط إنها انبثقت من حالة مادية تعجز نظرية النسبية العامة عن تحديدها وتوصيفها. إنها لحظة نشوء حالات مادية وكونية وانبثاقها من حالة مادية كونية مغايرة. بذلك يصبح التحدي الذي يجابه العلم هو : كيف يقتحم العلم هذه الحالة ويتملكها عقليا؟

(2) لئن عجزت نظرية النسبية العامة عن تفسير حالة الانبثاق (النقطة المنفردة) وتوصيفها، فإن ذلك لا يعني البتة أن العلم يعجز نهائيا عن ذلك. كلا! فالنظرية العلمية تتطور بفعل مفارقاتها وتناقضاتها وإشكالاتها، ولا تبقى نهائيا على حالها. ويمكن القول إن نظرية النسبية العامة، بنقطتها المنفردة، تومئ إلى حدودها وضرورة تخطيها. إنها تضع حدوداً لنفسها وتدعو العلماء إلى تخطيها صوب إطار نظري أكثر قدرة على تملك لحظة انبثاق كوننا . ولندقق النظر في هذه الأفكار.

إن نظرية النسبية العامة نظرية عظيمة بحق. لكنها ليست نظرية مكتملة. فهي نظرية في المكان والزمان والجاذبية، وليسلت نظرية في المادة أيضا. ولعل أكثر من أدرك هذه الحقيقة هو واضعها الرئيسي، ألبرت آينشتاين. لذلك سعى بعد وضعها وحتى مماته عام 1955 إلى بناء نظرية شاملة تشكل إطاراً نظريا موحداً للمكان والزمان والمادة والجاذبية والكهرمغناطيسية. لكنه أخفق في ذلك. ومع ذلك فإن سعيه ذاك لم يكن عبثيا، وإنما كان نابعاً من إدراكة الممض لقصور نظرية النسبية العامة وعدم اكتمالها.

والأنكى من ذلك أن نظرية المادة تحكمها ميكانيكا الكم (الكوا نتم)، التي دشنها الفيزيائي الألماني، ماكس بلانك، عام 1900. وهذه الميكانيكا تتعارض بشدة وعلى عدة صعد مع نظرية النسبية العامة. وهذا يعني أن النسبية العامة ليست فقط غير مكتملة وجزئية لأنها ليست نظرية في المادة، وإنما أيضا تتناقض مع نظرية المادة. لذلك جرت المحاولات منذ نشوء نظرية النسبية العامة وميكانيكا الكم للتوفيق بينهما ودمجهما أو توحيدهما. ويمكن القول إن تاريخ علم الكون تحديداً يعكس بدقة هذه المحاولات. أو قل إن هذه المحاولات شكلت الدافع الرئيسي لتطور علم الكون وحددت مراحل تطوره.

لقد ارتكزت نماذج آينشتاين ودي سيتر (عالم هولندي) وفريدمان وليميتر إلى نظرية المادة الكلاسيكية ما قبل الذرية وما قبل النووية، وقادت إلى نتائج مهمة كتمدد المكان بكيفية معينة ومحدودية عمر المكان والزمان. وكانت هذه هي المرحلة الأولى في تطور علم الكون الحديث. وفي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، نشأت الفيزياء النووية وتطورت، وعلى أساسها بنيت المرحلة الثانية في تطور علم الكون، على أيدي جورج غامو (الروسي) وفرد هويل (الإنجليزي) وغيرهما. وقاد هذا التزاوج بين نظرية النسبية العامة والفيزياء النووية إلى إنجازات باهرة، مثل تفسير نسب العناصر في الكون والتنبؤ بإشعاع الخلفية، وهو إشعاع مايكرويف درجة حرارته حوالي ثلاث درجات فوق الصفر المطلق. وهو التنبؤ الذي تحقق عام 1964 على يدي الأميركيين ويلسون وبنزياس.

وشهدت الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي نشوء نظرية الجسيمات الأولية، كالإلكترون والبروتون والنيوترون والكوارك والفوتون. وعلى أساسها بنيت المرحلة الثالثة من تطور علم الكون واستطاعت هذه المرحلة أن تفسر كثيراً من الافتراضات التي بدت اعتباطية في نظرية الانفجار الكوني.

لكن هذه التطورات الكبيرة لم تمكن نظرية الانفجار الكوني من التغلب على مشكلة النقطة المنفردة وانبثاق المكان والزمان والمادة منها. فظلت هذه الصعوبات تؤرق بال علماء الكون برغم النجاحات الكبيرة التي أحرزتها نظرية الانفجار الكوني. فهي تشير إلى حدود مطابقة هذه النظرية للواقع وضرورة تخطيها صوب نظرية أكثر انسجاما مع نفسها ومطابقة للواقع المادي.

ومنذ بدء ثمانينيات القرن الماضي، حدثت تطورات على الصعيدين النظري والرصدي دشنت مرحلة جديدة (المرحلة الرابعة) في تطور نظرية الانفجار الكوني. وتلوح في هذه المرحلة فرصة حقيقية لتجاوز مشكلة النقطة المنفردة وانبثقاق المكان والزمان.

ويتمثل التطور الرصدي الرئيسي في هذه المرحلة في القياسات الدقيقة جداً التي أجريت على المجرات البعيدة جداً وإشعاع الخلفية. وقادت هذه القياسات إلى اكتشاف أن تمدد المكان اليوم يتسارع، لا يتباطأ كما افترض العلماء طوال القرن العشرين، وأن جل مادة كوننا مكون من صنفين غير مألوفين في بيئتنا الإنسانية، ويختلفان كيفيا عن المادة المألوفة المكونة منها أجسامنا وأرضنا وشمسنا ومجرتنا والمجرات الأخرى. ويسمى هذان الصنفان المادة الداكنة (22% من طاقة مادة الكون) والطاقة الداكنة (74% من طاقة مادة الكون). وهما داكنان لأنهما غير مرئيين، أي لا يبثان إشعاعات كهرمغناطيسية.

ويتمثل التطور النظري الرئيسي في بروز أكثر من برنامج لتوحيد نظرية المادة (أو ميكانيكا الكم) مع نظرية المكان والزمان والجاذبية (أو نظرية النسبية العامة ) . وتشير هذه البرامج إلى أن هناك طولاً أدنى محدوداً للأبعاد المكانية وبرهة زمنية دنيا محدودة للزمان، الأمر الذي يحول دون وجود نقطة كونية منفردة . كما تشير إلى أن المكان والزمان لم يبدآ مع الانفجار الكوني. وبالتحديد، فإن الزمان يمتد في الماضي إلى ما قبل الانفجار الكوني، وربما إلى ما لانهاية (الأزل)، وأنه يمتد في المستقبل إلى ما لا نهاية (الأبد) أيضا. وهذا يعني أن الانفجار الكوني مجرد حدث من أحداث الكون في الزمان، وليس نقطة بداية الوجود أو مبعث الزمان ومصدره. بل إن جل المؤشرات تدل على أن الانفجار الكوني يتكرر كل مدة طويلة (ربما تمتد تريليونات السنين) إلى ما لانهاية . وهذا يعنى أن لدينا كونا دوريا يتكرر في دورات متعاقبة منذ الأزل وإلى الأبد.

بيد أن هذه المرحلة والنماذج الكونية الجديدة ما زالت في بدايتها. وقد يستغرق الأمر بعض الوقت حتى تتضح الصورة بطريقة مقنعة. لكنها نماذج واعدة بالتأكيد، حيث إنها تعيد الأمور إلى نصابها وتزيل ما علق بنظرية الانفجار الكوني من مفارقات وألغاز وهالات ضبابية مربكة للعقل.

إن ما تقدم ليشير بوضوح إلى أن نظرية الانفجار الكوني في صورتها التقليدية تتضمن الكثير من الحقائق الراسخة، لكنها تتضمن أيضا الكثير من الأفكار اللايقينية والمبهمة والمتناقضة داخليا. وقد تبدت هذه الصعوبات في النظرية منذ نشوتها . وبرغم تقبلها بصورة عامة من جانب كثير من العلماء بفضل نجاحاتها وإنجازاتها، إلا أن محاولات حل إشكالاتها وتناقضاتها العديدة لم تتوقف منذ ولادتها. إنها ، في الواقع، لم تشهد أي حالة استقرار مذاك. وقد بينت في تحليلي أعلاه أنه ليس هناك أي علاقة بين هذه النظرية وقصة الخلق الدينية، التي تنتمي إلى فضاء فكري آخر مغاير تماماً لفضاء العلم، وهو فضاء الفكر الفلسفي واللاهوتي. بل إنه لا يمكن أن يكون هناك مثل هذه العلاقة من حيث المبدأ.

ويمكن القول إن نظرية الانفجار الكوني ناجحة بصفتها نظرية في تطور الكون. لكنها فاشلة بصفتها نظرية في نشوء كوننا. وهذا يفسر كثرة محاولات تخطي هذه النظرية في هذا الشأن. لذلك علينا أن نميز بين الحقائق والتأويلات آو التكهنات في هذه النظرية، وألا نستغل نقاط ضعفها من أجل تمرير أفكار ومعتقدات تقع خارج نطاق العلم ومنطقه وفضائه. فالنظرية، في جوانب عديدة منها، غير مستقرة بصورة لافتة، وقد يأخذ وصولها إلى نوع من الاستقرار مدة طويلة. وكما رأينا، فها قد بدأت تخطو خطوات حثيثة صوب العودة إلى فكرة أزلية الكون وأبديته ودورية تجدده ( كما لدى الهندوس والبوذيين القدماء).