موضوعات حول مستقبل اليسار في العراق


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 3433 - 2011 / 7 / 21 - 03:53
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق     

صديقاتي وأصدقائي الأعزاء في الحزب الشيوعي العراقي
تشرّفت وسعدت بتوجيهكم الدعوة لي للمساهمة في مناقشة مسوّدات الوثائق المطروحة للمناقشة في مؤتمركم التاسع الذي أتمنى له كل النجاح.
إسمحوا لي أن أطرح بعض أفكاري بشكل افكار لاتتناول مواد أو فقرات بعينها، بل هي قناعات توصلت لها قبل عقدين وتبلورت مع الزمن وكانت أساس قراري بالإستقالة من عضوية الحزب.
سيسعدني أن أستمع لآراء أعضائكم ومندوبي المؤتمر المحترمين تصويبا أو نقدا أو اعتراضا.

1. هوية الحزب
أ‌. رفض كارل ماركس تسمية الفلسفة التي بلورها ب"الماركسية" لسبب بسيط وعميق في آن واحد يتمثل في أن تسمية كهذه تعبّد الطريق لعبادة الفرد وتوحي بأن هذه الفلسفة دين جديد مثل نسبة المسيحية إلى المسيح. وعليه فالمادية الجدلية (الديالكتيكية) والمادية التاريخية هما التعبيران اللذين آن الأوان لإستخدامهما بديلا عن "الماركسية".
ب‌. لم يعد الحزب الشيوعي العراقي أول من أضاف إلى مصادره الفكرية غير "الماركسية" مثل التراث الوطني والمدارس الإشتراكية المتعددة. لكن هذا يثير تناقضا جوهريا، فلا التراث الوطني ولا المدارس الإشتراكية غير المادية التاريخية تؤمن بأن الشيوعية هدف أو مرحلة لابد للبشرية من الوصول إليها. وعليه فلابد للحزب أن يختار ما بين تغيير اسمه، وهي قضية تم طرحها علنا منذ المؤتمر الخامس عام 1993، أو أن يظل متصلّبا فيحذف الإشارة إلى مصادر أخرى يستلهم منها أفكاره.
ت‌. انشق البلاشفة عن التيار الأساس للمادية التاريخية (الأممية الثانية) وأسسوا الأممية الثالثة (الحركة الشيوعية). وليس هنا المجال المناسب لإجراء تقويم لمن أثبت التاريخ صواب افكاره، لكن الأمر المهم يتمثل في أن تلك الحركات جميعا استمدت شرعيتها من مصدر فكري واحد. من المادية التاريخية ظهرت الإشتراكية الديمقراطية، والستالينية والماوية والتروتسكية والجيفارية وعشرات التلاوين الأخرى. ومن العبث لمن يؤمن بتلوين معين أن يصف الآخرين ب"الإنحراف" عن "التعاليم الصحيحة".
ث‌. من كل فلسفة كبرى يمكن اشتقاق مالاحصر له من النظريات والإستنتاجات السياسية، وهذا هو حال المادية التاريخية (والإسلام). لذا تميزت الأحزاب الشيوعية (والإسلامية) بكثرة انشقاقاتها إذ كان كل اجتهاد مغاير للرأي السائد يتهم بالإنحراف، لدرجة أن أعضاء الأحزاب الشيوعية غرقوا لفترات طويلة في فك طلاسم تعابير "المارتوفية" و"التصفوية" و"الطفولية اليسارية" على حساب الإنخراط في التعرف على مشاكل مجتمعاتهم والبحث عن حلول لها.
ج‌. حتى لو اختار الحزب عدم الإشارة إلى مصادر فكرية أخرى غير المادية التاريخية، علينا أن نتساءل عن دلالة كلمة "الشيوعية" التي كانت تسحر الكثيرين من أبناء جيلنا والأجيال التي سبقتنا ولا أظنها تعني الكثير للشباب الباحثين عن حلول واقعية لمشاكل ملموسة لا عن تعابير تخديرية عن جنة موعودة. إن وافقنا على تسمية حزب ما بأهدافه النهائية، فلم نهاجم الأحزاب الدينية إن استخدمت الجنة أو الله تسميات لها؟
ح‌. إن قراءة متأنّية لمشروع البرنامج المطروح للنقاش، ولبرنامج الحزب الحالي، تبين أن الحزب قد اتّخذ بالفعل الخطوة الشجاعة بالتخلي عن الإستناد إلى منظومة فكرية محددة، إذ لم نعد نجد تعابير "دكتاتورية البروليتاريا" و"حلف العمال والفلاحين". وعليه فالأهداف والمطالب المطروحة هي أهداف حزب ديمقراطي تقدمي عصري يمكن أن يجمع عليها جمهور أوسع بكثير ممن يؤمنون بالمادية التاريخية.
خ‌. وهنا إسمحوا لي بأن أعاود طرح فكرة عرضتها وتبنيتها منذ عقدين ولاقت (وستلاقي) معارضة شديدة مفادها إن الشكل السياسي المناسب لبلدان ذات نسبة عالية من المتعلمين وأبناء المدن مثل العراق ومصر وسوريا ولبنان بات الحركة الديمقراطية التقدمية الداعية إلى العدالة الإجتماعية التي تجمع أناسا ينتمون إلى مدارس فكرية متنوعة وقد لايتبنون أي منطلق فكري محدد. إن مانشهده اليوم في بلدنا من وجود جمهرة واسعة من التقدميين والديمقراطيين الذين يفتقدون إلى إطار يجمعهم يمكن أن يجد حلا جزئيا في انتقال الحزب الشيوعي إلى حركة ديمقراطية للعدالة والتقدم، تمثل القوى الصاعدة الحية في المجتمع. قد تخسر هذه الحركة بعضا من المناضلين الذين لن يستطيعوا استيعاب تغير كهذا لكنها تستطيع المضي بثقة إلى المستقبل والتعامل الجاد مع مشكلات العصر.

ولكن، لكي تتبلور حركة كهذه، وتلك عملية لا أظن الحزب مستعدا للمضي بها في الوقت الراهن على الأقل، لابد من أن يكون هناك تصور مشترك حول طبيعة النظام الإقتصادي- الإجتماعي القائم وموقف الحركة منه.

2. الرأسمالية في سياقها التاريخي

قد يبدو من المفارقة القول أن كارل ماركس هو، في رأيي، أهم من قدّم تحليلا علميا دقيقا لآليات عمل النظام الرأسمالي وطبيعته الإستغلالية، لكنه يبقى رأيا شخصيا لايلزم من يريد الإنتماء إلى الحركة المرجوة. لكن إرث الأممية الثالثة والفكر اللينيني تعمّد اجتزاء تحليل ماركس لهذا النظام والتعامل معه بإرادوية فظة قادت إلى نتائج مأساوية. فماركس، وهو الناقد غير المهادن للرأسمالية، تعامل معها من منظور تاريخي يرى فيها تشكيلة تدفع التطور و تلعب دورا ثوريا وتقدميا حتى تستنفد قدرتها على ذلك حين تصل إنتاجية البشر إلى مستويات شديدة الإرتفاع فيغدو مفهوم السلعة، بما فيها قوة العمل كسلعة يعرضها العمال لتأمين عيشهم، نافلة، وهو مالم يصله أي مجتمع متقدم بعد.
من هنا كان تقزيم تحليل ماركس حين عرض لينين فكرة الإنتصار المزعوم للثورة الإشتراكية في الحلقات الأضعف من النظام الرأسمالي، الذي كان في الواقع انتصارا لنظام استغلالي طبقي جديد تتكون طبقته الحاكمة من قادة الحزب والدولة والجيش والمخابرات. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تمادت الحركة الشيوعية في التنظير لأفكار أقرب إلى الكوميديا السوداء عن إمكانية تجاوز بلدان مثل اليمن ومنغوليا والعراق للرأسمالية والشروع في بناء الإشتراكية. ولأن هذا الموضوع بالذات كان موافقا لمصالح قادة شيوعيين في بلداننا وفي المعسكر الشرقي، فإنهم تخلوا عن تجريمهم لكل من يجرؤ على مناقشة المقدّسات (وثمة الكثير مما يستوجب إعادة النظر والنقاش) وساد في الأدبيات الشيوعية الحديث عن أن ماركس أخطأ حين توقع انتصار الثورات الإشتراكية في البلدان المتقدمة. وأرى، في هذه النقطة بالذات، إنه كان مصيبا كل الصواب إذ أن التحول باتجاه مجتمعات أكثر إنسانية هناك أخذ بالتبلور منذ الآن تحت ضغط حركات الرأي العام التي تقيد حكوماتها بشكل متصاعد.
مادلالة هذا كله بالنسبة للعراق؟
مهما كانت رغبتنا في بناء نظام يخلو من الإستغلال، فإن علينا الإعتراف بألا بديل عن قيام اقتصاد رأسمالي منتج يطور القوى المنتجة وفي مقدمتها القوى البشرية. ذلك أن تجارب نظم رأسمالية الدولة قادت إلى فشل ذريع وأضاعت فرصا ثمينة للتطور في بلدنا وبلدان أخرى، وأنتجت فئات طفيلية متربعة على نهبت ثرواتنا باسم حماية مصالح الشعب (وهنا أيضا لعب الحزب الشيوعي دورا في التطبيل لتلك التجارب، برغم تحذير عدد من مناضلي الحزب آنذاك، وفي مقدمتهم الراحل صفاء الحافظ، وفيما بعد كاتب هذه السطور من طبيعة تلك النظم).
ولكن، هل يمكن لحركة تسمّي نفسها ديمقراطية، تقدمية ومدافعة عن العدالة الإجتماعية أن تؤيد التطور الرأسمالي؟

3. هل العراق دولة رأسمالية؟

أشرت في مواضع سابقة إلى أن العراق قد تحول إلى دولة ريعية منذ توقيعه على اتفاقيات مناصفة عوائد النفط عام 1952 مع شركات النفط التي كانت تعمل فيه والقفزات الهائلة في الموارد التي باتت متاحة بيد الدولة منذ ذلك الحين.
ولتعلق هذا الأمر بما أقترح أن تتركز عليه مهمات القوى الديمقراطية في بلدنا، اسمحوا لي بأن أقدم اقتطافا مطولا (مع بعض الإضافات) لما سبق عرضه يبين المقصود بالدولة الريعية بقدر تعلق الأمر بالديمقراطية والنظام السياسي – الإقتصادي.
إن عوائد النفط (ومثلها المساعدات الأجنبية للدول) تذهب مباشرة لخزينة الدولة وهي ليست ناتجة عن النشاط المباشر للمنتجين سواء كانوا مالكين أو مشتغلين يدفعون الضرائب للدولة ويطالبون بثمن مقابل تلك الضرائب يتمثل بأن تكون الدولة، جهازا وقادة وموظفين، مسؤولين أمام دافع الضرائب. بهذا المعنى، يشوّه الريع العلاقة بين الدولة والشعب فيوحي للأخير إنه مدين للأولى، ويوحي للدولة أنها متكرمة على الشعب. فليس مصادفة أن الإنقلابات العسكرية بدأت بالتواتر منذ ذلك الحين إذ تحررت الدولة من حساباتها لردود أفعال القوى المتحكمة في المجتمع .
وبرغم الإعلان الرسمي والتوجه الفعلي إلى تبني اقتصاد السوق منذ عام 2003، فإن الدولة العراقية، وبفضل توافر موارد الريع، هي أكبر رب عمل في البلاد، إذ تشير أرقام أوائل 2010 إلى أن القوات الأمنية والمسلحة فقط تضم 640.000 عنصر، فضلا عن 127.200 عنصر من البيشمركة (90.000 منهم لم يتم الإتفاق بعد على كيفية إدماجهم في النظام العسكري أو الأمني للعراق). ولنضف إلى كل ذلك 70.000 من أبناء الصحوات. وهذا يعني إن 12 بالمئة من قوة العمل من الذكور في العراق تنتمي إلى أجهزة غير منتجة، وكل هذا في بلد لاتتجاوز فيه نسبة السكان النشطين اقتصاديا، اي السكان في سن العمل 26 بالمئة بالمقارنة مع نسبة 38 بالمئة في الدول المتقدمة. باختصار، ماكان للتوظيف غير المنتج أن يتوسع بهذه الدرجة لولا أن الدولة تتوافر على إمكانات لا تحسب فيها حسابا لعواقبه الوخيمة على تطور البلد واستغلال كفاءاته.
لكن الأهم من ذلك كله أن الدولة الريعية في العراق لاتؤمّن الإذعان لها والسكوت على تجاوزاتها لمجرد أنها تشغّل أكبر عدد من العاملين في العراق فحسب، بل في أنها تخرّب كل مفهوم اقتصاد السوق وتحيله إلى نظام مافيا مقنن لإنها هي من يمنح معظم العقود والمقاولات. من هنا فإن فكرة الإرتباط التلقائي بين السوق الحر والديمقراطية التي تبناها الأمريكان في العراق ساذجة في أحسن الأحوال، لإن غالبية رجال الأعمال في ظل نظام كهذا لامصلحة لهم في نظام شفاف يتم فيه منح العقود والمقاولات في جو تنافسي متكافئ.
إلى جانب هذا المصدر للريع، لابد للقوى الديمقراطية من العمل بكل جدية لإخضاع مصادر ريعية أخرى، من المفروض لأي دولة مدنية التعامل معها مثلما تتعامل مع أي مشروع خاص، مخضعة إياها إلى قواعد محاسبية حديثة، بما في ذلك فرض ضرائب الدخل عليها، وأقصد هنا بالضبط موارد المرجعيات الدينية، سنية كانت أن شيعية، مسلمة كانت أم مسيحية. ذلك أن هذه المؤسسات تدير امبراطوريات مالية ضخمة بوسعها تجييش الأفراد والجماعات وشراء ولاءاتهم وإبعادهم عن العمل المنتج وبوسعها، في الوقت نفسه، أن توظف تلك الموارد للأغراض الخيرية التي تبرر وجودها. ومن المهم ان نوضّح هنا أن المقصود بهذا المطلب ليس تقييد تلك المؤسسات بأي حال من الأحوال، ففي الولايات المتحدة الأمريكية، أكثر البلدان اتّباعا لنهج الحرية الإقتصادية، تخضع مؤسسات النفع العام إلى المساءلة والمحاسبة فتعاقب إذا شذّت عن أهدافها المعلنة وتعفى من الضرائب، وقد تمنح إعانات، إذا برهنت على حسن أدائها لوظائفها.
ولعل عناصر الريع الهائلة هذه: موارد النفط للحكومة الإتحادية، ولحكومة الإقليم، وتدفقات الأموال للمراجع الدينية، و للحركات السياسية المختلفة من دون رقيب تفسر جزئيا أسباب التشرذم الإجتماعي المستمر في العراق."
هنا، إذن، على القوى الديمقراطية العراقية أن تركّز على مهمة نزع الطابع الريعي للإقتصاد العراقي، ولكن كيف؟ وبأي اتجاه؟
ثمة دول تمتلك إمكانات ريعية هائلة (لأن الريع في نهاية المطاف يجب أن يقاس بحجم السكان اولا، وبنسبته إلى النشاطات المنتجة الأخرى في البلد ثانيا)، لكن تزايد السكان في العراق وانعدام إمكانية قيام عقد اجتماعي يقوم على بيع السكان حقوقهم السياسية والإجتماعية في مقابل حقوق اقتصادية كما هو الحال في دول مجلس التعاون الخليجي، يتيح للقوى الديمقراطية العراقية أن تنتزع حقوقا لايمكن لشعوب مشرقية أخرى انتزاعها.

4. الرأسمالية، التقدم والعدالة الإجتماعية في ظروف العراق الراهنة


إن المطلب الذي يجب إيلاؤه أقصى درجات الإهتمام يتمثّل في وضع قيود على كيفية تخصيص السلطة التشريعية لموارد النفط وفك العلاقة بين السلطة التنفيذية والتصرف بتلك الموارد. وقد ثبّت الدستور العراقي صراحة مبدأ ملكية الشعب لموارد النفط.
ولكن لكي لايتحول هذا المبدأ الجوهري إلى شعار غوغائي مثل شعار "نفط العرب للعرب" البعثي، لابد من إيجاد آليات ملموسة تكسبه طابعا قانونيا إلزاميا وتلك مهمة تتطلب حشد جهود إختصاصيين وناشطين وسياسيين ومثقفين ورجال قانون، فضلا عن كل الفاعلين والقوى الحية في بلادنا، وحول هذه المهمة بالضبط، يجب أن تتمحور نشاطات القوى الديمقراطية وتحركاتها الإحتجاجية بالعمل على تقييد حرية السياسيين في التصرّف بموارد الشعب.
ومن البدهي أن نزع العلاقة بين السياسيين وموارد الدولة لايقل عن أي عمل ثوري لتغيير اسس النظام القائم. ومن المستبعد، والحالة هذه، أن تسلّم القوى المتنفّذة في السياسة والمجتمع والإقتصاد بأن موارد العراق ليست ملكا لها من دون ضغط شعبي ذي مهمة محددة بالضبط، لا تجمعات متناثرة يدور كل منها حول مهمة جزئية كما هو الحال الآن.
ولكن كيف تتم هذه العملية بالضبط؟ جرّبت دول أخرى أساليب عدّة ليس هنا المجال المناسب لعرضها وكان حظها من النجاح متفاوتا.
وقد عرف العراق تجربة مبكّرة مهمة عام 1952 حين ازدادت عوائده النفطية فاتّخذت الدولة قرارا بتخصيص 30 بالمئة فقط من تلك الموارد لتمويل نفقات الميزانية الإعتيادية وتم تأسيس مجلس الإعمار لكي يوجّه ال 70 بالمئة المتبقية لبرامج استثمارية تطوّر البلد. وبفضل هذا البرنامج تم تأسيس مشاريع ضخمة ومهمة مثل سدّي دوكان ودربندي خان ومعامل سمنت سرجنار وسكّر الموصل (مع أن مفكرين مثل د. محمد سلمان حسن وابراهيم كبّه بيّنوا بأن هذه المشاريع خدمت في نهاية المطاف كبار ملاّك الأرض الذين كانوا يتحكمون بالإنتاج الزراعي وبالنظام السياسي) . ولكن لأن قرارات مثل هذه ظلت بيد السياسيين، فقد كان ممكنا الإنقلاب عليها، وهو ما حصل حين تم تغيير نسبة توزيع العوائد بين الميزانيتين الإستثمارية والجارية إلى 50 بالمئة لكل منهما، وانتهى أخيرا إلى إلغاء مجلس الإعمار ووضع البرامج الإستثمارية بيد السلطة التنفيذية.
والعبرة من التذكير بتلك التجربة هي أن ترك تقرير مصائر موارد النفط لسلطة الدولة يقود إلى نتائج سلبية حتى وإن كانت البدايات سليمة. لذا فإننا بحاجة إلى الوصول إلى حد أدنى من الإجماع الوطني عبر النقاشات الموسعة التي اشرت إليها يعيد الدولة إلى مكانها الطبيعي كجان للضرائب مقابل تقديمها الخدمات، وبالتالي كساعية لتطوير البلد وتشغيل أكبر عدد ممكن من السكان لأن هذه هي وسيلتها لتوسيع القاعدة التي تجني منها الضرائب.
وليس من الحلم اقتراح توزيع موارد النفط على كل الأفراد البالغين في البلاد وإيداع جزء من تلك الموارد في صناديق استثمارية باسمهم، مقابل اقتطاع ضريبة دخل منهم تموّل ميزانية الدولة. إن هذه الصناديق الإستثمارية يمكن أن تؤسس لنواة مجتمع تعاوني يساهم فيه مالكو العوائد في اتخاذ القرارات بشأن توظيف حصصهم، واختيار شركائهم وتوزيع أرباحهم.
وهنا لابد من التمييز بين المقترح المطروح هنا وبين مشروع تبناه واحد من أكبر المتمولين العراقيين الذين تحولوا إلى العمل السياسي بتبني اللبرالية أولا والإنضواء تحت تحالف طائفي تاليا.
فالمقترح الأخير يتبنى الصيغة التي تم عبرها تحويل روسيا في ظل بوريس يلتسين إلى نظام مافيات حين تم بيع أصول الموجودات إلى شعب جائع كان من الطبيعي أن يعيد بيعها إلى المتموّلين الكبار الذين تحكموا مذّاك بالدولة اقتصاديا وسياسيا. أما مقترحي فيتلخص في بقاء ملكية مصادر النفط بيد الدولة فيما يتملّك الشعب عوائد تصديره: هنا للدولة مصلحة في زيادة الإنتاج والتصدير لأن ذلك سيدر عوائد من ضرائب الدخل لها، وللشعب الذي سيستفيد من الدخول الموزعة.
لقد حول الريع مجتمعات عدة في الماضي والحاضر إلى تجمعات طفيلية ترتضي بالتنازل عن حقوقها السياسية مقابل العيش المرفّه.
وبوسعنا، نحن العراقيين، أن نغيّر تلك المعادلة فننتج مجتمعا منتجا، ونظاما ديمقراطي شفافا.
ولكن السؤال الذي سيثار، ولاشك، هو: بم ستتميز الحركة الديمقراطية التقدمية (أو الحزب الشيوعي) إن اختزل مطالبه إلى إقامة مجتمع منتج، سيكون رأسماليا بلاشك؟ وهل ينطوي هذا المطلب على تناقض بين محاربة الإستغلال من جهة وتشجيع التطور الرأسمالي من جهة أخرى؟
للإجابة على هذين التساؤلين لابد من إبراز النقاط التالية:
أ‌. بالمقارنة مع النظام الريعي، تمثّل الرأسمالية نظاما تقدميا تقتضي مصالحه تطوير القوى المنتجة للمجتمع، ورفع إنتاجية العاملين ورفع مستوى تعليمهم.
ب‌. إن تبلور مؤسسات رأسمالية مستقلة عن الدولة يساهم إلى حد كبير في تثبيت المؤسسات التي ترسي اساس المساواة القانونية بين المواطنين، وبالتالي في تثبيت وتطوير النظام الديمقراطي.
ت‌. إن كان من المشروع للتحليل العلمي الإكتفاء بالتحليل التجريدي للرأسمالية كنظام اقتصادي- اجتماعي، فإن على الحركات السياسية التقدمية الذهاب إلى أبعد من ذلك بالتمييز بين تجليّات شديدة الإختلاف لهذا النظام من حيث حرية رأس المال في التصرف بالموارد، وسقف الأرباح المسموح له بجنيها، وحريته في التحكم بوسائل الإعلام, وقدرته على التجاوز على مطالب العاملين. من هنا كان الإختلاف الواضح بين الرأسمالية في أمريكا من جهة وبين السويد من جهة أخرى، على سبيل المثال.
ث‌. من نافل القول إن رأس المال ليس معنيا إلا بتعظيم ارباحه على حساب الشغيلة وحقوق المجتمع. لكن وراء هذه البدهية يدور صراع عنيف بين أنصار اللبرالية المنفلتة الذين يزعمون بأن فرض أي قيد على رأس المال سيؤدي إلى إحجامه عن الإستثمار أو الهرب مما يبطئ النمو و يزيد البطالة، وبين أنصار اقتصاد السوق الإجتماعي الذين يرون إن فرض القيود، فضلا عن دوره في خلق فرص أكثر تكافؤا بين أفراد المجتمع، فإنه يتيح للعاطلين عن العمل حدا أدنى من العيش الكريم والأمن الصحي لهم من خلال منظومة إعادة توزيع الدخل الناجمة في الأساس عن الضرائب على الدخول المرتفعة، كما أن منظومة كهذه تساعد على تنشيط الطلب وتحسين وإقامة البنى التحتية وتوفر الموارد اللازمة للإنفاق على التعليم والبحث العلمي. وكل هذه تلعب دورا حاسما في تنشيط ومساعدة رأس المال والمجتمع في نهاية المطاف.
ج‌. وبعيدا عن الصراعات الآيديولوجية فإن تجارب العقد الماضي تبين بما لايقبل الشك أن بلدانا عدّة، مثل الهند وتركيا والبرازيل، خرجت أو كادت من مصاف الدول المتخلّفة في ظل نظام اقتصاد السوق الإجتماعي. ولم يقتصر تطور هذه البلدان على تحقيق معدلات نمو شديدة الإرتفاع فحسب، بل أن البرازيل تحت قيادة حزب العمال الإشتراكي حققت خلال عقد واحد مالم تحققه دول أخرى طوال عقود في مجالات تخفيض نسبة السكان الفقراء، ومحو الأمية وتمكين المجتمع المدني والحد من الجريمة ورفع مساهمة السكان الأصليين والمرأة في كافة ميادين الحياة.
وفي ظروف بلدنا، يمكن للقوى التقدمية أن تلتف حول مشروع ثوري كهذا وطرح مهمات ملموسة أخرى أشير أدناه إلى بعضها مما لم يرد ذكرها في مسوّدة البرنامج:
أ‌. إن الوقوف ضد خصخصة قطاع الدولة يعني مزيدا من إضاعة مزيد من الفرص والموارد التي يمكن توظيفها بطرق أخرى لتحسين أداء الإقتصاد الوطني، فضلا عن أنه يمثل الدخول في معركة خاسرة سلفا. أقترح، عوض ذلك، أن يطرح الحزب مطلب ضمان تثبيت ملكية العاملين في أي مشروع تتم خصخصته لنسبة 25 بالمئة من رأس المال وتمثيلهم بمثل هذه النسبة في مجالس الإدارة، ويشترط ألا يتم التصرف بتلك الحقوق لفترة زمنية محددة (20 سنة على سبيل المثال) ضمانا لعدم استغلال المتموّلين لحاجة العاملين وشراء تلك الحقوق.
ب‌. النضال من أجل سلّم للأجور والرواتب في مؤسسات الدولة يقلّص الفجوة بين أعلاها وأدناها ( 1 إلى 25).


5. أهداف الحزب: ديمقراطية أم علمانية؟

لعل غالبية الديمقراطيين العراقيين تتمنى أن يتبنى العراق نظاما علمانيا يفصل الدين عن الدولة، لكن الحركات السياسية الجادة لاتنطلق، بالطبع، من الأماني، بل من الواقع الملموس. ولهذا السبب، أعتقد أن ثمة مرحلة جوهرية لابد لبلدنا من اجتيازها قبل أن يتم طرح هدف العلمانية كمطلب واقعي تتمثل في تثبيت الديمقراطية كنظام سياسي لايزال هشّا ومشوها في العراق.
إن إرث عقود من الإستبداد الفاشي، وتجارب شعوب أخرى، تبين إن العلمانية يمكن أن تؤسس لإستبداد لايقل (إن لم يزد) وحشية عن الإستبداد الديني. والتجربة البعثية في العراق، وإن لم تكن علمانية بالمعنى الدقيق للكلمة، إلا أنها ارتبطت في أذهان العامة بالعلمانية. ومن العبث الإدعاء بأن الفكر القومي الشوفيني، الذي ينطوي في أحيان كثيرة على عناصر طائفية وعنصرية واضحة، لم يعد يلعب دورا مهما في تشكيل وعي قطاعات واسعة من أبناء شعبنا، الأمر الذي يخيف كثيرا من بسطاء المتدينين. من هنا أظن أن الدعوة إلى تشكيل ائتلافات انتخابية تجمع الديمقراطيين المؤمنين بعراق فدرالي ديمقراطي تعددي يحكمه القانون، أهم في رأيي من التحاق الحزب بتجمعات وحركات تطرح العلمانية غطاءا للتطهّر من ماض ملطّخ بدماء الأبرياء.

6. هوية العراق ومستقبل الفدرالية

يبدو لمن يقرأ مسودة البرنامج كأن الحزب يرى أن الوضع الفدرالي الذي تحقق للشعب الكردي هو نهاية المطاف وإن ليس ثمة مشاكل جدية تواجه هذه الصيغة و/أو إن الحزب علّق حل المشاكل العالقة على آمال باتفاقات تتم بين الحكومة الإتحادية والقوى الكردية الحاكمة، وليس هذا ما ينتظره جمهور وأعضاء حزب لعب في الماضي أدوارا طليعية في تشخيص المشاكل وطرح الحلول الواقعية لها وساهم في تحشيد قطاعات شعبية وراء مواقفه. والمؤسف أن يأتي غياب تناول هذه القضايا المهمة في ظرف يتّهم الحزب فيه بفقدان استقلاليته أمام القوى الكردية الحاكمة برغم أن مواقفه من قضية الشعب الكردي لاتحتاج إلى تزكية من أحد.
لابد أولا من الإعتراف بأن ثمة تباعدا لاسابق له بين الشعبين العربي والكردي في العراق لم ينجم عن الفدرالية ولا إلى المحن التي تعرض لها الشعب الكردي في السابق فقط، بل إلى الوضع الملتبس الذي أحاط بسقوط نظام البعث. ففي الوقت الذي تعرّض فيه العراقيون خارج كردستان إلى عذابات لاسابق لها فرضها الحصار الدولي وتفسّخ أجهزة الدولة والبنى التحتية والخدمات، فضلا عن جرائم صدام حسين وابناؤه التي تصاعدت طوال التسعينات، حققت كردستان، برغم الحرب الأهلية بين الحزبين الرئيسين، تحسنا طفيفا في أوضاعها، لاسيما بعد أن توقف القتال الداخلي هناك.
وهكذا، فحين كانت القيادات الكردية تعرض مواقفها ومطالبها بشكل شبه موحد، شاع تصور بين العراقيين من غير الكرد بأن هذه القيادات تنتزع تنازلات من حكومة اتحادية ضعيفة، وهو تصور لم تسع القيادات الكردية إلى تبديده، كما أن تلك القيادات لم تحاول الإستفادة من جو الحرية الذي أعقب سقوط النظام لتعريف العراقيين من غير الكرد بالأهوال التي تعرضت لها كردستان في عمليات الأنفال.
وهنا تبرز أمام الحزب الشيوعي مهمة طرح برنامج يرسّخ أسس الفدرالية باعتبارها الشكل الأنسب لحق تقرير المصير في ظل عراق ديمقراطي، أرى أن يقوم على المواقف التالية:
أ‌. هوية العراق: في الوقت الذي سبقتنا دول عدة في المنطقة إلى الحديث الصريح أو الضمني عن "أمة مغربية" أو "مصرية" تستمد هويتها من إرثها المتميز ومن تنوع انتماءات شعبها، ومع أن الخطاب الرسمي للعراق الملكي لم يكن يتردد في الحديث عن أمة عراقية، ظل العراقيون يخضعون لإبتزازات داخلية وخارجية تهددهم بالويل والثبور إذا تخلوا عن وصف بلدهم بالعربي. ومن الطبيعي والحالة هذه أن يشعر المواطنون من غير العرب، مهما كانت المنجزات والحقوق التي حصلوا عليها، بأنهم لايقفون على قدم المساواة مع العرب في وطنهم. كما أن التاريخ والجغرافية يقولان أن العراق بلد يعيش على تخوم حضارتين عريقتين أثّر وتأثّر بهما، وإن القوميات العراقية ليست ولايمكن أن تعيش منعزلة عن بعضها. من هنا فإن الأمة العراقية، وإن غلب العرب في تكوينها القومي والإسلام في تكوينها الديني تنتمي، بالدرجة الأولى، إلى مشرق يمتد من مصر غربا إلى إيران شرقا وتستمد هويتها من إرث سبق الإسلام ومن تراث حضاري عربي وكردي وتركماني وآشوري امتزج على أرضها.
ب‌. التذكير بأن تمسّك الشعب الكردي بارتباط محافظة كركوك بكردستان ليس ناجما عن تغير موازين القوى بعد عام 2003، بل إنه كان في صلب تعثر المفاوضات التي أدّت إلى تسليم حكم البعث بمبدأ الحكم الذاتي للشعب الكردي عام 1970 ومن ثم كانت السبب الرئيس في اندلاع القتال مجددا عام 1974، ذلك أن سلطة البعث لم تشكّك في صحة الإحصاء السكاني لعام 1957 التي تبين أن أغلبية سكان المحافظة آنذاك كانوا من الكرد، مع أن الأخيرين لم يشكلوا غالبية سكان المدينة نفسها.
ت‌. لقد بات من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، ان يتم اعتماد إحصاء سكاني يعود لأكثر من نصف قرن أساسا لإيجاد حل لمشكلة قد تهدد العراق وطبيعة نظامه السياسي. ولعل من المناسب اللجوء إلى حل وسط يعتمد إحصاء 1977 حين لم تكن حملات التعريب قد تسارعت مع اعتبار كل من اضطروا لمغادرة المحافظة إثر انهيار الحركة عام 1975 من أبنائها. وعلى هذا الأساس أقترح إجراء استفتاء لا يتم على مستوى المحافظة ككل، بل على مستوى الوحدات الإدارية الأصغر بدءا من الوحدات المتاخمة لمناطق غير متنازع عليها لتقرير ارتباطهم (سيقرر سكان قضاء الحويجة على سبيل المثال الإنضمام إلى المحافظات العربية).
ث‌. أما مدينة كركوك نفسها فيمكن أن تعطى صفة مدينة اتحادية (وحتى أن تكون عاصمة إدارية للعراق).
ج‌. في المقابل، لابد للقيادات الكردية، حين تطمئن إلى تحقق طموحات الكرد في الحصول على حقوقهم، أن تتخذ خطوات فعلية وملموسة لدمج قوات البيشمركة في القوات المسلحة العراقية، والإبقاء على قوات حرس وطني يتم الإتفاق على عددها مهمتها حفظ الأمن الداخلي في كردستان وأن تدعو برلمان كردستان إلى التصويت على اعتبار التسوية المتعلقة بكركوك نهائية.

أرجو أن تحظى هذه الملاحظات باهتمامكم وسيسعدني أن أسمع تعليقاتكم وتعليقات المهتمين.