عرض نقدي للفصل السابع من كتاب -الماركسية السوفياتية-


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 3294 - 2011 / 3 / 3 - 09:11
المحور: الارشيف الماركسي     

.. إن البنية الديالكتيكية للنظرية الماركسية تستلزم أن تتغير مفاهيمها كلما تحولت العلاقات الطبقية الأساسية التي تريد هذه المفاهيم أن تعبر عنها. لكن بصورة يمكن معها الحصول على المضمون الجديد، عن طريق تطوير العناصر الملتحمة بالمفهوم الأصلي . وبذلك يحافظ المفهوم على انسجامه النظري ، بل على هويته"، بهذا المعنى يشكل المنهج الديالكتيكي قوة إنتاج فكرية ذات طابع تراكمي ومتوسع بالمحتويات الجديدة ؛ وبهذا المعنى الأخير فهو تاريخي ، أي تنضاف إليه باستمرار محتويات جديدة مع تطور المجتمعات وتغير علاقات الإنتاج.
إن التمييز الماركسي بين المصلحة الواقعية (السياسية- التاريخية) والمصلحة المباشرة (الاقتصادية- النقابية) ذو أهمية بالغة لفهم العلاقة القائمة بين النظرية والممارسة ، بين الإستراتيجية والتكتيك . وهذا التمييز يتضمن اعترافاً بوجود نزاع تاريخي بين النظرية والممارسة، يكمن أصله وحله في تطور الرأسمالية. وعلى هذا فإن النزاع يبدو عاملاً موضوعياً."
كانت المنشفية تشكل حزب المصلحة المباشرة ، ولهذا السبب التقت مع غالبية الحركة الاشتراكية الانتهازية الأوربية في عصر الإمبريالية. إن العامل الذي ينتمي إلى حزب المصلحة المباشرة لا يختلف كثيراً من حيث النزعة السياسية عن الفلاح الذي تهمه قطعة الأرض فحسب..
.. إن المنطق الديالكتيكي هو حجر الزاوية في النظرية الماركسية . إنه يوجه تحليل التطور الثوري ، و ما قبل الثوري، على حد سواء . ويفترض في هذا التحليل أن يوجّه الإستراتيجية، خلال هاتين المرحلتين... إن كل "إعادة للنظر" أساسية في المنطق الديالكتيكي ، تتجاوز الاستعمال الماركسي للديالكتيك ، على وضع تاريخي جديد ، لا تكشف فقط عن "انحراف" في النظرية الماركسية .. بل أيضاً عن تبرير نظري ، لتغير في اتجاه الحركة الأساسي.
إن الماركسية السوفاتية (الستالينية) أضعفت نور الديالكتيك ، وحاصرته بهدف تبرير وحماية عقائديين لنظام ينبغي أن يبدو ، حسب المنطق الديالكتيكي ، مرحلة يتوجب على حركة التاريخ، أن تتجاوزها. .. لقد مارست الماركسية السوفياتية (الستالينية) ..عملية بتر .. على المفردات الديالكتيكية ، وبخاصة رفضها الاعتراف بإمكانية تحول انفجاري في ظل الاشتراكية القائمة (مفهوم التناقضات غير التناحرية)، وإعادتها الاعتبار إلى المنطق الشكلي (الصوري) ، وأخيراً اختفاء مفهوم "نفي النفي" في أواخر الثلاثينات.
لكن، إذا لم تكن الماركسية السوفياتية (الستالينية) قد أعادت النظر، أو رفضت أي مفهوم من المفاهيم الديالكتيكية الأساسية ، إلا أن دور الديالكتيك بالذات تعرض إلى تحول له دلالته. فقد كفَّ عن أن يكون طريقة في التفكير النقدي ، ليصبح "رؤية للعالم"، شاملة ومنهجاً شاملاً ، مزوداً بقواعد ومبادئ ، موطدة بحزم ؛ (مذهب أنطولوجي عام). مثل هذا التحول يدمر الديالكتيك بصورة أعمق من أي إعادة نظر . وهذا التغير يتجاوب مع التغير الذي حول الماركسية ، من نظرية إلى "أيديولوجية" زائفة (عقيدة) . وبذلك يكون الديالكتيك قد تم تكييفه بما يناسب التفكير والاتصال الرسميين. كما أن حركة الفكر الديالكتيكي قد تجمدت في نظام فلسفي مجرد. بهذا الشكل كفت النظرية الماركسية عن أن تكون جهاز الوعي والممارسة الثوريين، وتغلغلت إلى البنى الفوقية التابعة لنظام قائم على السيطرة . وكلما أصبحت العلاقة ، بين المنطق الديالكتيكي والمنطق الشكلي (الصوري) ملتبسة ، أصبح الديالكتيك نفسه منطقاً شكلياً.
... إن الصعوبات التي واجهتها الماركسية السوفياتية (الستالينية) في وضع "موجز تعليمي" قيّم عن الديالكتيك والمنطق ، ليست صعوبات سياسية فقط، بل إن ماهية الديالكتيك بالذات ، تتمرد على مثل هذا التجميد في قوانين(قوالب) فلسفية . وهذا ينطبق على الديالكتيك المثالي ، وعلى الديالكتيك المادي، على حد سواء، ذلك أنه لا هيغل ولا ماركس ، قد فهما الديالكتيك على أنه مخطط منهجي عام . والمرحلة الأولى في هذا الاتجاه ، إنما قطعها انجلز في كتابه "ديالكتيك الطبيعة" . وقد قدمت ملاحظاته المادة التي كانت الماركسية السوفياتية (الستالينية) بحاجة إليها لإنجاز عملية التجميد ضمن إطار القوانين" .
ننقد هنا عبارة ماركوز السالفة الذكر بالقول: إن ماركوز يندفع بسرعة أكبر من اللازم في نقده للستالينية بحيث يحطم الحدود التي تفصل لينين عن ستالين ، وانجلز عن ستالين! يكتب ماركوز:"إن تكوين النظرية الماركسية السوفياتية (الستالينية) ، يستند إلى التفسير اللينيني للماركسية ، دون عودة إلى النظرية الماركسية الأصلية، ولكي نوضح نقطة الانطلاق هذه، يكفينا أن نلخص بإيجاز الروابط الأساسية التي توحّد اللينينية بالماركسية السوفياتية اللاحقة (الستالينية) " ص 30
لكن الأمر ليس بهذا الشكل الوضعي والمثالي بالمعنى الفلسفي: أي إن التحويل الذي أجرته الماركسية السوفياتية هو وليد أوضاع جديدة في روسيا السوفياتية أكثر مما هو نتيجة تعلم أفكار لينين وانجلز ، الخ..هذا أولاً ، وثانياً، أن صياغات لينين لم تكن سوى تعبير نظري عن الواقع الفعلي القائم ، أبعد من أن يسقط ميكانيكياً على أوضاع مستجدة تالية لانقلاب اجتماعي / تاريخي . ولقد جاء صعود البيروقراطية السوفياتية بعد موت لينين ليجتزئ من هذه النصوص حسب حاجته ومصلحته ، وليطوّب بعض النصوص اللينينية، كنصوص مقدسة، في سبيل سحق الخصوم وتكييف "الموالين" للنظام البيروقراطي الجديد.
أما بخصوص انجلز ، واتهامه بالصورية ، ومهاجمة ماركوز غير المحقة لـ "المخططات المنهجية العامة"، أو "الكراسات التعليمية" ، إنما يدل على عدم فهم ماركوز لحركة استيعاب الديالكتيك المتناقضة ، مثله كمثل تعلّم أي علم كان .. نعم، إن ديالكتيك الطبيعة هو المستوى الأبسط والتعليمي للديالكتيك ، والأعقد هو ديالكتيك تطور المجتمعات وصراع الطبقات . ومن هذه الناحية يأخذ التركيز على ديالكتيك الطبيعة طابعاً تعليمياً..وهنا يظهر الحس التعليمي لدى انجلز . لكن "المخططات المنهجية التعليمية " ؛ اللحظة التعليمية في ديالكتيك الماركسية السوفياتية يتم توسيعها إلى درجة تلغي وتزيل لحظة إنتاج العلم في الديالكتيك، وإضافة محتويات علمية جديدة خلال التطور التاريخي .
إن التأكيد على اللحظة التعليمية (البيداغوجية) في حركة بناء وتطور الديالكتيك ليست مقتصرة على انجلز ، بل نراها عند ماركس وعند لينين. ففي رسالة ماركس إلى انجلز /14 كانون الثاني 1858 نقرأ: "في منهج المعالجة، فإن نظرية جديدة ألفيتها بمحض الصدفة في منطق هيغل أدت لي خدمة جليلة.. وإذا ما سنحت لي ذات يوم الفرصة من أجل مثل هذا العمل مرة ثانية ، فلشد ما سوف أود أن أضع في متناول الذكاء الإنساني العادي ، في ملزمتين أو ثلاث ملازم مطبوعة ، ما هو عقلاني في المنهج الذي اكتشفه هيغل ، لكن لفه بالصوفية ".. وكذلك فعلها لينين في "الدفاتر الفلسفية" والذي اعتبر "مخطط منهجي عام " عن الديالكتيك كونه تلخيصاً ونقداً لمؤلفات هيغل في المنطق (علم الديالكتيك أو المنطق الكبير ) و (المنطق الصغير أو موسوعة العلوم الفلسفية )، إضافة إلى محاضرات في تاريخ الفلسفة، وفلسفة التاريخ ..الخ..إنه مخطط منهجي عام للتوضيح الشخصي وللآخرين أيضاً..
إذاً لدينا لحظتان في استيعاب علم الديالكتيك: لحظة تعليمية ابتدائية تحتاج إلى "مخططات عامة منهجية" ، وإلى "كراس تعليمي" ، الخ..ولحظة أخرى هي إنتاج العلم الاجتماعي/التاريخي . ومحتوى هذا العلم يدخل كأداة من أدوات المنهج في التحليل اللاحق. وقد تتزامن اللحظتان أحياناً كما في مثال ماركس . نقرأ في الدفاتر الفلسفية-1 : "إن نتيجة النفي هي الحد الثالث ، [الذي هو بالضبط] هذه الوحدة (وحدة التناقضات؛ وحدة مفهومي الذات والواقع) التي هي حركة وفاعلية في توسّط مع الذات.. إن نتيجة هذا التحول الديالكتيكي إلى حد ثالث ، إلى تركيب، هي مقدمة جديدة ، تأكيد جديد، الخ.. يصير من جديد منبع تحليل لاحق . ولكن هذه الدرجة الثالثة دخل عليها "محتوى" المعرفة . إن محتوى المعرفة [النظرية] بوصفه كذلك يدخل في ميدان التحليل[المنهج] " والطريقة تتوسع [فتتحول] إلى منظومة" . وهذه المنظومة system هي ما يجب تدريسه وتعلّمه..
وإذا اكتفينا باللحظة الأولى ، وهو ما أفرزته البيروقراطية السوفياتية ، تحول الديالكتيك (مُسِخ) إلى منطق صوري ، جامد، فارغ من المحتوى وميْت.
لا يعطي ماركوز اللحظة الأولى التعليمية (البيداغوجية) أية قيمة ، بالتالي لا يعطي لحظة الظاهر أية قيمة خلال سير العملية الديالكتيكية ، وهذا قصور له عواقب سيئة واستفزازية. يكتب هيغل في المنطق الكبير(علم الديالكتيك): "لا يوجد شيء في السماء ، ولا في الطبيعة ولا في الروح ولا في أي مكان آخر إلا ويحوي معاً المباشر والوساطة" .. هذا الظاهر ، هذه الظاهرة هما مباشرة.." . يعلّق لينين على نصوص هيغل بالقول: "الظاهر هو الجوهر في أحد تعييناته، في أحد وجوهه ، في إحدى لحظاته" . أقول: هذه اللحظة؛ لحظة الظاهر (ومنها اللحظة التعليمية) متضمنة في كلية المفهوم عبر سير التعمق وبناء العلم التاريخي/ الاجتماعي . ونشير إلى أن الاكتفاء بهذه اللحظة الأولى هو ضرب من "تكرارية فارغة" حسب هيغل
إن ماركوز بإهماله اللحظة البيداغوجية يفترض أن البعض من الناس يولد وهو اشتراكي مشرّب بالديالكتيك تحت وقع "الغريزة البورجوازية"!
ماركوز يركز على الطابع السلبي للديالكتيك (طابع التحرر) ، مهملاً اللحظة الإيجابية أو لحظة الهوية (المباشرة). نقرأ عنده: "المنطق الديالكتيكي منطق تحرير .. إن عملية التحرير تبدو ، كما في التصور الهيغلي تماماً، لا كمخطط خارجي ملصوق بالواقع ، بل كدينامية هذا الواقع الموضوعية [ونسي أن لحظة الظاهر واحدة من لحظات هذه الدينامية] ، وهذه الدينامية هي تحقق الذات الحرة ، التي وجدت أخيراً، شكلها ومهمتها التاريخيتين- شكل ومهمة البروليتاريا - .. علاوة على ذلك فإن الديالكتيك الماركسي، باعتباره صيرورة سياسية- تاريخية ، هو أيضاً ، صيرورة عِرْفانية: فوعي البروليتاريا الصحيح (الوعي الطبقي) هو عامل مكون لدينامية التحرر الموضوعية " ..
يقول ماركوز: إن هذه الشروح المقتضبة لبنية الديالكتيك ، يمكن أن توضح لنا المصير الذي آل إليه هذا الديالكتيك في الماركسية السوفياتية (الستالينية) . فمنطق الديالكتيك في الماركسية السوفياتية (الستالينية) ، لم يعد منطق تحرير- سواء أفهمنا هذا التحرير بالمعنى الأنطولوجي (الوجودي العام) - تحرر على مستوى الفهم والوعي فقط- الذي قال به هيغل ، أم بالمعنى التاريخي الذي قال به ماركس… وكلما أوغلت الماركسية في تحولها إلى "رؤية للعالم" ؛ رؤية علمية عامة ، أصبح الديالكتيك "نظرية معرفة " مجردة"..
وفي رأيي ، يشكل بناء تصور أنطولوجي لحظة إيجابية من لحظات الماركسية بشرط استنادها إلى حركة تاريخية عينية ؛ أي عدم قطع هذه اللحظة عن جذرها التاريخي..؛ و وعي هذا الارتباط عند كل منعطف تاريخي جديد.
يقول ماركوز: بالرغم من أنه على الديالكتيك أن يكون مرتبطاً بالبروليتاريا والحزب الشيوعي "؛ [أي أن يرصد علاقتهما المتحولة (تناغم، أو تناقض)]. .. إلا أن العلاقة لم تعد ظاهرة" في الماركسية السوفياتية . لأنه لم يعد من مصلحة البيروقراطية السوفياتية توضيح هذه العلاقة التي باتت ملتبسة واستبدالية (الحزب الشيوعي بديل الطبقة العاملة).
إن الماركسية هي "رؤية للعالم" .. عالم المجتمع الطبقي، وبصورة خاصة المجتمع الرأسمالي . إن النظرية الماركسية تنقد و تحلل هذا العالم في جميع مظاهره ، وفي ثقافته المادية والفكرية. لكن لا وجود لنظرية ماركسية ،يمكن أن توصف بحق، أنها "رؤية للعالم" بصدد المجتمعات ما بعد الرأسمالية.. الماركسية لا تستطيع (ولن تفعل) أن تحدد هذه السمات مسبقاً ولا أن "تتنبأ "..الماركسية تدرس الشروط القائمة وإمكانات الواقع الموضوعية والذاتية.. وتنخرط في الممارسة السياسية -التاريخية..
إن الماركسيين السوفييت ، عندما يحاولون أن يصوروا "الديالكتيك" ، لا يفعلون شيئاً ، سوى أن يقطّروا ، بدءاً من تحاليل "الكلاسيكيين" الديالكتيكية العينية، بعض المبادئ ويشرحوها، ويواجهوها بفكر "غير ديالكتيكي" .. والمبادئ هي المبادئ المعددة في كتاب ستالين "المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية"، الذي ليس بدوره إلا شرحاً مسهباً لصيغ كتاب انجلز "ديالكتيك الطبيعة" . وهذه الشروح لا تعدو أن تكون إطارات فارغة .
يقول ماركوز: النظرية الماركسية التي ترفض التأويل الهيغلي للكائن بأنه مثال ، لا تستطيع أن تشرح الديالكتيك على أنه منطق[صوري] ، فمنطقها هو الواقع التاريخي ، وشموليتها هي شمولية التاريخ " ..
يندفع ماركوز مرة أخرى ليحرم الماركسية من مقولة الصورة ومقولة الهوية (المباشر؛ الظاهر) كلحظات متضمنة في كلية المفهوم الماركسي التاريخي/ الاجتماعي ..
الديالكتيك الماركسي منطق ما هو كائن ، ولكن هذا المنطق هو لحظة من لحظات الديالكتيك التي تشمل ولادة وموت هذا الكائن (الرأسمالية، مثلاً). وفي تلخيص لينين لكتاب هيغل " موسوعة العلوم الفلسفية" يضع مخططاً عنوانه التالي: "مخطط ديالكتيك (منطق هيغل)" . كما أن هيغل نفسه يضع عنواناً آخرَ لكتابه علم الديالكتيك، تحت اسم المنطق الكبير ، وللموسوعة : المنطق الصغير..
إن تقسيم كتاب غارودي: "فكر هيغل" وفصوله ذات معنى بالنسبة لموضوعنا:
الفصل الثاني: طريقة هيغل (وهنا تلعب اللحظة التعليمية دوراً أساسياً أو مهيمناً)
الفصل الثالث: ديالكتيك المعرفة ؛ فينومينولوجيا الروح/ العقل (ديالكتيك التعرّف والعِرْفان)
الفصل الرابع: ديالكتيك الكينونة: المنطق (الكينونة ، الجوهر ، المفهوم)
تظهر سمة أخرى من سمات الماركسية السوفياتية ، وهي تخفيض قيمة التاريخ وإعلاء شأن الطبيعة و "العلم الطبيعي". نقرأ عند ماركوز: "إن تشديد اللهجة على ديالكتيك الطبيعة ، هو أحد السمات المميزة للماركسية السوفياتية، ويعارضها بماركس وبلينين . فإذا كان الديالكتيك الماركسي في بنيته التصورية ، ديالكتيك الواقع التاريخي ، فهو يشتمل على الطبيعة بقدر ما أنها تشكل هي نفسها جزءاً من الواقع التاريخي -التأثير المتبادل بين الإنسان والطبيعة ، السيطرة على الطبيعة؛ تحويلها واستثمارها، الطبيعة كأيديولوجيا.. الخ - لكن بالقدر الذي تدرس به الطبيعة مجردة من علاقاتها التاريخية كما في العلوم الطبيعية ، فإنها تبدو وكأنها واقعة خارج نطاق الديالكتيك . وليس من قبيل الصدفة أن تبدو المفاهيم الديالكتيكية في "ديالكتيك الطبيعة" لانجلز أشبه بتجانسات ، بعلامات رمزية ملصوقة من الخارج ، فارغة ، بسيطة بصورة ملحوظة إذا ما قورنت بالدقة العينية للمفاهيم الديالكتيكية المستعملة في الأعمال الاقتصادية والاجتماعية- التاريخية ".. والحال إن "ديالكتيك الطبيعة" هو الذي أصبح المصدر المأذون ، الذي يستشهد به باستمرار في الشروح الصادرة عن الماركسية السوفياتية ، بصدد الديالكتيك.
ولا مجال لأن تأخذ الأمور غير هذا الاتجاه ، فما دام الديالكتيك "يسود كل شيء"، وما دام هو "علم القوانين العامة للعالم المادي والمعرفة " حسب نكزادز ، بالتالي "الرؤية العلمية الصحيحة للعالم " حسب مولدوتسون .. فإن على المفاهيم الديالكتيكية أن تنطبق أولاً ، وقبل كل شيء ، على أكثر العلوم علمية (طبيعية) - علوم الطبيعة ، وهذا ما ينجم عنه إنقاص من قيمة التاريخ." .. هنا تظهر النزعة الإرجاعية للستالينية ؛ إرجاع المجتمع وقوانين حركته إلى الطبيعة وقوانين حركتها . هذه النزعة العلموية الإرجاعية لدى الستالينية - والتي وجدت منظرها الأكبر في كارل بوبر الفيلسوف العلمي الإنكليزي (المعاصر لستالين)- مناهضة للتاريخ .
إن الماركسية السوفياتية ، عندما تحول الديالكتيك إلى رؤية أنطولوجية شاملة للعالم ، تكون قد قسمت النظرية الماركسية إلى مادية ديالكتيكية ومادية تاريخية ... الثانية هي "توسيع" ، "مد" و "تطبيق" الأولى في "دراسة المجتمع" و"دراسة تاريخ المجتمع" .. بالنسبة لماركس المادية الديالكتيكية هي ديالكتيك التاريخ البشري بعينه أو شكل حركة المجتمعات البشرية وتطورها..
إن المادية التاريخية تصبح في الماركسية السوفياتية ، فرعاً خاصاً من النظام الفلسفي العام والعلمي للماركسية ، وجهاً من "تطبيقات" الأنطولوجيا العلمية ، الذي يستخدم كتبرير للسياسة الرسمية المتبعة ، بعد أن تجمدت هذه الأنطولوجيا في عقيدة رسمية للدولة ، وصارت تفسر من قبل مسؤولي الحزب... لقد باتت هذه العقيدة "عرّافة" قادرة على التفسير البعدي ، وعلى التنبؤ بكل الظواهر القادمة!؟
إن التاريخ الذي ترى فيه النظرية الماركسية البعد الذي يحدد الديالكتيك ، ويثبت "شرعيته" ، ترى فيه الماركسية السوفياتية ، ميداناً خاصاً ، تسود فيه القوانين التاريخية ، وما فوق التاريخية (المتعالية) على حد سواء ..وتصور القوانين الأخيرة ، المنظمة في صيغ ومعادلات ، بأنها القوى التي تحدد عند التحليل الأخير التاريخ والطبيعة معاً..على هذا النحو ، فإن ما يحدث في الاتحاد السوفياتي ، بما فيها السياسات الرسمية للدولة والحزب، يكتسب كرامة القوانين "الطبيعية" الموضوعية ..لكن هذه الموضوعية الزائفة تعكس نزعة متسلطة وإكراهية ، هي ضرب من المذهب الأوامري (الإرادوي) .. إن إدعاء القوانين "الطبيعية" الصارمة والجبرية ، والمذهب الأوامري هما وجهان لعملة واحدة ، هي سيطرة البيروقراطية السوفياتية واستبدادها ..
الماركسية السوفياتية عملة ذات وجهين: الحتمية التاريخية المُرجعة إلى حتمية القوانين الطبيعية من جهة ، والمذهب الإرادوي (الأوامري) من الجهة الثانية.
يندفع ماركوز مرة ثالثة في محاولة دمج الأيديولوجية الستالينية بإسهام لينين السياسي والفلسفي معتبراً أن النزعة الإرادوية - الأوامرية عند الستالينية هي أوج اللينينية .. هذا الاندفاع غير ديالكتيكي ، إنه تصعيدٌ أنطولوجيٌ لاستنتاجات لينين العلمية / التاريخية .. في الواقع، إن تحول الستالينية إلى أنطولوجيا عامة قادرٌ على دفع الكثير من إسهامات انجلز ولينين إلى حدود المنطق الصوري ، عبر سحبها على فترات لاحقة ، محولة الديالكتيك إلى أنطولوجيا عامة ..
يعود ماركوز في ص /121/ ليؤكد على قولنا بأن الاندفاع والرغبة عند البعض في دمج الستالينية بتراث لينين النظري يقود إلى مغالطات تعيق فهم الماركسية السوفياتية . يعود ماركوز ويستدرك كلامه لصالح فصل تراث لينين النظري وإسهامه الماركسي عن الماركسية السوفياتية ، يقول: "إن كلا العنصرين ، "الحتمية" و "الإرادية" لم يكفا عن الظهور ، منذ البداية في المذهب الماركسي ، وأهميتهما النسبية تتعلق بالشروط التاريخية التي تعمل فيها الماركسية. ففي فترات الصراعات الطبقية الحادة ، وحين تكون الثورة مطروحة على جدول الأعمال فإن "الإرادية" ترفع رأسها.. وتظهر الماركسية أنها تظاهرة واعية للعوامل الموضوعية .. إن هذه الوظيفة عامل ذاتي : فما دامت في حد ذاتها معرفة وإرادة ، فإنها تنادي وتستدعي المعرفة والإرادة... وتكون وظيفة الأحزاب الماركسية وقادتها وتنظيمها القومي والدولي ، في مثل هذه الحالة، هي فهم وتفسير التجمع الموضوعي (الحالة الموضوعية) للقوى السياسية وتوجيه عمل البروليتاريا وفق هذا الحال.. إلا أنها ليست باعتبارها عاملاً ذاتياً ، إلا التعبير عن القوى الموضوعية "
وبالعكس، عندما تصاب الطاقة الثورية بالضعف ، وتستهلك أو يغلب على أمرها ، فإن عنصر المعرفة والإرادة يكف عن أن يكون متجسداً في الموقف الموضوعي ، وآنئذ يصبح وعي البروليتاريا ، وعملها معينين إلى حد كبير من قبل "القوانين العمياء " الخاصة بالصيرورة الرأسمالية (إعادة الإنتاج الموسع لرأس المال) .. بالتالي يبدو الحزب ، أو بالأحرى ، قيادة الحزب ، الأمين التاريخي على مصالح البروليتاريا .. "الحقيقة" التي تقف فوق هذه البروليتاريا ، ولا تتكلم إلا بلغة الحِكَم والمراسم ، في حين تصبح البروليتاريا موضوعاً خالصاً لقراراته (الحزب).. تظهر اللينينية كإرادة و معرفة معبرة عن الطاقة الثورية لعام 1917 ، بينما تظهر الماركسية السوفياتية كتعبير عن انكفاء وتلاشي الطاقة الثورية للبروليتاريا بعد انتهاء الحرب الأهلية، واستسلامها اللاحق كبروليتاريا منهكة ومدمرة للبيروقراطية المستبدة والأوامرية. نقرأ عند ماركوز: يمثل هذا التحول في النظرية ، تحت شكل توتر وتناحر ، بين المذهب الإرادي والمذهب الحتمي" 122 .. إن الحتمية الزائفة تفترض الاستبداد والأوامرية ، ويرفع هذا الزيف إلى مصاف العلم التاريخي الصارم، صرامة علم الطبيعة . يكتب ماركوز: "لقد حاولنا أن نبين آنفاً، كيف أن اللينينية ، بذلت جهدها ، لإعادة توطيد الصلة الأصيلة بين العوامل الذاتية ، والموضوعية ، عن طريق توطيد سلطة حزب ثوري مركزي ، على البروليتاريا ومن فوقها..." ص 123 .. إن كلا العاملين حافظا على ارتباطهما الوثيق في اللينينية ، خاصة بعد إعادة لينين قراءة منطق هيغل وتلخيصه، السنوات: 1914-1915 . فقد تبين أثناء الثورة ، إلى أي حد نجح لينين ، في تشديد إستراتيجيته على المصالح الطبقية الحقيقية للعمال والفلاحين ، وعلى صبواتهم . وفي الوقت نفسه أعيدت الحياة من جديد إلى الديالكتيك ، ما استمد منه لينين الأدوات التصورية لتحاليله عن الموقف التاريخي." ص 123 .
إن تركز عمل التاريخ في روسيا القيصرية قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى ، والإنهاك الذي أصاب الدول الإمبريالية الرئيسية ، ووعي الطبقة العاملة وتنظيمها الجيد ، وتناغم مصالحها التاريخية إلى حد ما مع مصالح الفلاحين خاصة الفقراء منهم ، وجاهزية الحزب البلشفي : كل ذلك دفع بلينين والبلاشفة عموماً للعمل بلياقة تاريخية كاملة ونادرة . هذا الاندفاع الاستثنائي في الممارسة السياسية -التاريخية خلق وضعاً تاريخياً جديداً، سوف تكون له تداعيات لاحقة على وضع الرأسمالية كتشكيل عالمي. فلولا انتصار الثورة الروسية 1917 لاستحال انتصار الثورة الصينية عام 1949 . إن دفع الإرادة الثورية إلى أعلى مستوياتها تحت وقع البطولة المدهشة للطبقة العاملة في روسيا ، وتحت وقع المبادرة الممتلئة بالعزم للحزب البلشفي ، قدم إسهاماً نادراً في علاقة النظرية بالممارسة في ألمع أشكالها ، حيث الممارسة في لحظة متضافرة العوامل تقدم تأسيساً لوضع تاريخي جديد له تداعيات هامة على النظرية والممارسة اللاحقتين. إن الكشف العلمي لكتاب لينين : الإمبريالية .. وربطه للانتهازية في حركة الطبقة العاملة في أوربا وفي روسيا بصعود الظاهرة الإمبريالية ، لم يمنع البلاشفة بدفع من لينين من المبادرة في لحظة تاريخية مناسبة لاستلام السلطة والبدء بتحديث قومي رفيع. وكان من التداعيات اللاحقة ثورات آسيا المتلاحقة. لكن العمى الاستراتيجي للستالينية والأخطاء الجسيمة المترتبة على ذلك وجبن البيروقراطية وحسها المحافظ أفشل العديد من ثورات أوربا اللاحقة (الثورة الإسبانية 1936 ، والجبهة الشعبية في فرنسا 1936 .. ووضع فرنسا وانتفاضة شيوعيي اليونان بعد هزيمة الفاشية في أووربا، ومع نهاية الحرب، وتجربة حزب تودة في إيران بعد الحرب العالمية الثانية، إلى آخر القائمة.. )
ليس غريباً أن تستند الماركسية السوفياتية قليلاً على كتاب لينين: "المادية والمذهب النقدي التجريبي " ذي النزعة الواقعية الطبيعية .. والذي كتب في فترة الردة الرجعية بعد هزيمة ثورة 1905-1907 ، حيث كتبه لينين سنة 1908 ..
.. وبدءاً من سنة 1923 (مرض لينين ومن ثم وفاته) أخذت الشقة تتسع وتبعد بين قرارات القادة، ومصالح البروليتاريا الطبقية .. فلم تعد هذه القرارات تفترض مسبقاً ، أن البروليتاريا الدولية هي العامل الثوري ، بل فرضت بالعكس فرضاً على البروليتاريا ، وعلى سائر السكان المحكومين .. والمذهب الإرادي الاستبدادي الذي ، ميز السلطة الستالينية، كان رداً على العامل الموضوعي الحتمي ؛ أعني تضاؤل الطاقة الثورية في البلدان الرأسمالية المتطورة صناعياً .. وقد تحجر الديالكتيك في نظام شامل ، تبدو فيه الصيرورة التاريخية كصيرورة "طبيعية" وتسوس فيه القوانين الموضوعية من فوق الأفراد ، المجتمع الرأسمالي والاشتراكي على حد سواء ..
.. إن المصير الذي آل إليه الديالكتيك ، يكشف عن الجوهر التاريخي للمجتمع السوفياتي : فهذا المجتمع يساهم إلى حد كبير .. في وظيفة الرأسمالية بالذات ، أعني التطوير الصناعي للقوى المنتجة .. إلا أنه يفعل ذلك على أساس مختلف : التأميم الشامل للاقتصاد . وهو ما يمكن أن يحدث تطوراً مختلفاً كل الاختلاف .. إلا أن إمكانية النكوص إلى رأسمالية قائمة على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ممكن ، باعتبار أن "رقابة الإنتاج" منفصلة عن "المنتجين المباشرين".

تحجُّر الديالكتيك
إن الكتب الرسمية الموجزة التي تعرض الديالكتيك وتشرحه ، تركز اللهجة على الطابع الحتمي النزعة للصيرورة الديالكتيكية... يصور تطور الرأسمالية والانتقال إلى الاشتراكية ، والتطور اللاحق للمجتمع الاشتراكي ، خلال مراحله المختلفة ، وكأنه تطور نظام مؤلف من قوى موضوعية ، ما كان في مقدوره أن يسير في اتجاه مغاير . إن العامل الذاتي ما عاد يبدو كجزء لا يتجزأ كمرحلة (لحظة ) من الديالكتيك الموضوعي ، بل صار يبدو أنه ملتقى هذا الديالكتيك أو منفذه . .. وقد ظل هذا التصور إلزامياً ، أثناء العصر الستاليني ، وبعده . والحزب وقيادته ، هما المصدران المأذونان ، لتفسير الديالكتيك... لكن القادة أنفسهم ، خاضعون للقوانين الموضوعية ، التي يفسرونها، ويضعونها موضع التنفيذ .. إنهم وكلاء المصالح الشرعية والناموس الذي نزّله الله..هكذا تحول الديالكتيك المادي إلى لاهوت متجدد أو إلى عقيدة دينية جديدة..
.. إن التفسير الماركسي السوفياتي للعلاقة بين العامل الذاتي والموضوعي ، يحول الصيرورة الديالكتيكية إلى صيرورة تكنيكية .. وهو ما يتجلى بوضوح خاص في النقاش حول العلاقة بين الضرورة والحرية .. تعرّف الماركسية السوفياتية الحرية على أنها "ضرورة معترف بها" وهو تحوير لعبارة هيغل المنقولة من انجلز: الحرية هي معرفة الضرورة أو هي ضرورة مفهومة؛ أي أن الحرية بهذا المعنى هي وعي الضرورة .. إن الانتقال من الضرورة إلى الحرية عند هيغل يعني الانتقال إلى موقع يشرف فيه الكائن بعينه . وهذا انتقال ديالكتيكي صعب وقاس حسب هيغل ، الانتقال من إشراف بسيط إلى إشراف شامل؛ موقع أو منزلة تبدو من خلاله أعيان الأشياء.
إن الماركسية السوفياتية تقلل من أهمية هذا الانتقال في درجة المعرفة وشكلها ، بالتالي فهي غير معنية بكشف الحقيقة ؛ حقيقة الكائن ، بل بتزييف الواقع ، عبر دمج الحرية بالضرورة ، معبراً عنها بأيديولوجية البيروقراطية السوفياتية.
.. إن الانفجار ليس "آلياً " ، بل يفترض عمل ونشاط الطبقة الثورية ووعيها ، و "التقدم" يشير فقط إلى تطور القوى المنتجة ، ويظل مترافقاً بالاستغلال والاستعباد ، إلى أن تصبح البروليتاريا العامل التاريخي (ذات التاريخ بالفعل). إن وعي ونشاط الطبقة الثورية متضمن في مفهوم العلم الماركسي التاريخي/الاجتماعي.
إن ادعاء ستالين عام 1938 بانتفاء قانون "نفي النفي" ، و"بالتناقضات غير التناحرية" في المجتمع السوفياتي ، وأن هذه التناقضات قابلة للحل عبر تطور تدريجي تحت الرقابة السياسية للدولة السوفياتية ، إنما ينسب إلى الدولة حل التناقضات غير التناحرية .. إن هذه الأقوال تفترض أن المجتمع السوفياتي هو "مجتمع اشتراكي" ، والمنظرون السوفيات ينسبون إليه الميزات الديالكتيكية التي أشار إليها ماركس عند حديثه عن المجتمع الاشتراكي .. المسألة هنا ليست إعادة نظر في الديالكتيك ، بل مسألة نسب الاشتراكية إلى مجتمع اشتراكي - انتقالي مشوه بالمرض البيروقراطي . والديالكتيك مستخدم لتعزيز هذا الادعاء.
إن الماركسية السوفياتية ، تمثل "توقف" الديالكتيك لمصلحة النظام القائم ، والعقيدة ستتبع تشوه وتوقف الاشتراكية الواقعية ..إن المعاملة التي تعامل بها الماركسية السوفياتية الديالكتيك ، تفيد فقط في حماية وتبرير النظام القائم ، وذلك بحذفها أو تقليلها لأهمية كل عناصر الديالكتيك التي قد تشير إلى تقدم في التطور الاجتماعي -التاريخي ، يتجاوز هذا النظام ، نحو مرحلة في الاشتراكية أعلى . يكتب ماركوز: لقد ذكرنا كيف أن ستالين شدد اللهجة في أكثر من مناسبة على الدور "الفعال" للبنية الفوقية في تطور قاعدتها . وهذا الدور ليس مجرد تبرير عقائدي ، واستقرار لشكل ومرحلة قائمة، من أشكال ومراحل الدولة ، بل هو أيضاً تأكيد مهمة الدولة ، في إحداث تحولات منسجمة ، مع نمو القوى المنتجة ، لأن الأيديولوجية الموصوفة أعلاه بدأت تدخل في نزاع مع الأهداف الأساسية على أثر التقدم التكنولوجي والصناعي ، الذي حققه المجتمع السوفياتي ، وعلى أثر القوة السياسية والإستراتيجية المتنامية التي توصلت إليها الدولة السوفياتية بعد الحرب العالمية الثانية. .. بهذا الصدد فإن تصريحات ستالين عام 1950 تمهد لكتابة "مشكلات الاشتراكية الاقتصادية" الصادر عام 1952 ، مع تشديد اللهجة على التناقضات بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج في الاتحاد السوفياتي، التي ينبغي أن تحل بصورة "تدريجية" تحت قيادة الدولة . كذلك فإن النقاش حول المنطق والديالكتيك ، بين عامي 1950-1951 ، يبدو وكأنه تهيئة لتغيرات متوقعة، أكثر مما كان دفاعاً عقائدياً ، عن الوضع القائم . ضد تغيرات محتملة ، وحماية له من التقدم التاريخي... إن خروج الاتحاد السوفياتي منتصراً في الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفاشية في أوربا ، وانتصار الثورة الصينية على أثر الحرب ، خلق وضعاً جديداً ، يتطلب إعادة النظر في "المذهب القومي " للاتحاد السوفياتي ، ودفع الفكر السوفياتي إلى عودة أرثوذكسية ماركسية وآفاقها الأممية والإنسانية ... إن النضال العنيف للتغلب على تخلف روسيا التكنولوجي والصناعي ، والذي فرض بالإرهاب على سكان سلبيين إلى حد بعيد، بل معادين أحياناً، يجد تعويضه العقائدي في مختلف مذاهب الطابع الموحد للإنسان السوفياتي ، وتفوقه الناجم عن "امتلاكه" للماركسية باعتبارها "رؤية العالم" الصحيحة والتقدمية الوحيدة.. لكن النظرية الماركسية أممية النزعة في جوهرها . وليست القومية تقدمية في إطار هذه النظرية إلا كمرحلة في الصيرورة التاريخية ..
إن الماركسية السوفياتية لم تنجح قط، في حل التناقض بين نزعتها القومية الخاصة، وبين النزعة الأممية الماركسية .. إن تشديد النبرة على عقلية ، وعلى منطق وعلى علم لغة ، الخ.. سوفياتية نوعية ، كان لا بد بالضرورة - خاصة مع التغيرات التي حملتها نتائج الحرب العالمية الثانية- أن يعرقل النداء الموجه إلى التضامن الأممي ، من أجل الهدف الثوري النهائي ، وكذلك النداء الموجه إلى التعايش السلمي . وهي أمور ما كان بمقدور "مذهب الاشتراكية في بلد واحد " ؛ أو الشيوعية في بلد واحد ، أن يهمله كلية ..
هوامش

- "الماركسية السوفياتية"، تأليف: هربرت ماركوز . ترجمة: جورج طرابيشي ، دار الطليعة بيروت ط1 أيار 1965 . عنوان الفص: تقلبات الديالكتيك.

2- هذا مفيد من الناحية التعليمية فحسب
3- هذا القول يهمل القيمة التعليمية لكتاب انجلز "أنتي دوهرنغ" و "ديالكتيك الطبيعة " ، كما أنه يتناقض مع قول ماركوز عن انجلز واستدراكه لهذا الأمر: وبالرغم من أن انجلز ، قد عرّف الديالكتيك ، بأنه "علم القوانين العامة لحركة وتطور الطبيعة، والمجتمع الإنساني و الفكر " ، إلا أنه لاحظ ، أن الطبيعة والمجتمع على حد سواء ، هما مرحلتان في التطور التاريخي " وأن قوانين الديالكتيك "مستخلصة" من تاريخها. وبهذه الصفة يمكن أن تصور هذه القوانين على أنها سلسلة من الفرضيات ، والمقولات والاستنتاجات العامة - لكن الإطار العام يلغي نفسه بنفسه فوراً، لأن مقولاته لا تولد إلا من خلال محيطها التاريخي ".. الماركسية السوفياتية ، ص 118
4- لينين: الدفاتر الفلسفية .في ثلاثة أجزاء . ترجمة الياس مرقص الطبعة الثانية 1983 ، دار الحقيقة بيروت . الجزء الأول عن الديالكتيك (خلاصة "علم المنطق" لهيغل)
5- الدفاتر الفلسفية -1 ، مرجع سابق .. ص 247 .. والاقتباس أخذه لينين من المنطق الصغير لهيغل أو ما اشتهر باسم: موسوعة العلوم الفلسفية . ما بين الأقواس المتوسطة من عندي.
6- الدفاتر-1 ، مرجع سابق .. ص 141
7- الدفاتر -1 ، مرجع سابق .. ص 164
8- الدفاتر-1 ، مرجع سابق .. ص 166
9- الدفاتر-1 ، مرجع سابق ص 168
10- البروليتاريا ليست واعية طبقياً من الضربة الأولى
11- روجيه غارودي: فكر هيغل ، ترجمة الياس مرقص ط2 1983 دار الحقيقة بيروت
12- نحن نعرف علماً واحداً هو علم التاريخ (ماركس : الأيديولوجية الألمانية )
13- قارن هذا التعريف الماركسي السوفياتي بتعريف انجلز في "أنتي دوهرنغ"، يقول انجلز: "الديالكتيك هو علم القوانين العامة لحركة وتطور الطبيعة والمجتمع الإنساني والفكر" . وقد استبدل التعريف السوفياتي كلمة الطبيعة والمجتمع الإنساني ب العالم المادي بحيث بندغم عبر صياغة كهذه المجتمع بالطبيعة !؟ لصالح الطبيعة وقوانينها وصرامتها..(الحتمية الستالينية)
14- الأنطولوجيا العامة: تعميمات فكرية - وجودية شاملة عامة ، تعكس ما هو مشترك في الظاهرات الكونية والتاريخية عامة..من دون تمييز للمراحل التاريخية.
15- كتب ماركوز كتابه موضع العرض في بداية الستينات من القرن الماضي ، وقد يكون لهذا الأسلوب في التعاطي : دمج لينين وستالين ، دمج انجلز وستالين في لحظة أولى ثم فصلهما في لحظة تالية ، قيمة تكسيرية أو تحطيمية لقدسية النصوص والأشخاص الذين كرستهم العثيدة الستالينية ..
16- بقول آخر: كلما استوعبت الذاتية الميول الموضوعية للواقع ، كلما كانت فاعليتها أكبر وتعبيرها أصح .
17- يكتب لينين ، تحت عنوان السياسة والاقتصاد؛ الديالكتيك والاختيارية : ".. لا يمكن للسياسة ألا تعلو على الاقتصاد ... إن القول أن الموقف السياسي يوازي الموقف "الاقتصادي" ، وبأنه "يمكن أخذ هذا وذاك" ، يعني نسيان ألف باء الماركسية .. إن الموقف السياسي إنما يعني ما يلي : إذا وقفنا من النقابات موقفاً غير صحيح [سمحنا لآنانية العمال الاقتصادية أن تتحرك حتى حدود الاصطدام بمصالح الفلاحين ، خاصة الفقراء منهم ] فإن هذا يهلك السلطة السوفياتية ودكتاتورية البروليتاريا.. لقد انزلق بوخارين نظرياً إلى "الاختيارية" بترويجه لجمع الموقف السياسي مع الموقف الاقتصادي.. إن بوخارين وتروتسكي يصوران الأمر كأنما يقولان : نحن نعني بإنماء الإنتاج (موقف اقتصادي) ، أما أنتم فتعنون بالديمقراطية الشكلية فقط. إن هذا التصوير غير صحيح لأن المسألة لا توضع إلا على النحو التالي : دون موقف سياسي صحيح من القضية ، لن تحتفظ الطبقة المعنية بسيطرتها ، بالتالي لا تستطيع أن تحل مهمتها الإنتاجية أيضاً " راجع: لينين، المختارات - مجلد 10 1920-1923دار التقدم موسكو ، ترجمة الياس شاهين 1978 . ص 267-268 . إن التجميع القسري بين 1928-1931 كان كفيلاً بتدمير الآمال الأخيرة لبناء ديمقراطية سوفياتية خاصة بعد فشل ثورات أوربا الوسطى ..لقد دمر التجميع القسري الديمقراطية السوفياتية ، ولم يحل مشكلة الإنتاجية في الزراعة السوفياتية .
18- الستالينية والنزعة الميكانيكية الجبرية