الهبة الجماهيرية في تونس ومصر، الآن بدأ العمل!


فاتح شيخ
الحوار المتمدن - العدد: 3272 - 2011 / 2 / 9 - 00:51
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

بعد مرور 7 اسابيع على اندلاع اول شرارة لـ"انتفاضة الخبز" في تونس (17 كانون الاول-ديسمبر) و10 ايام على اول موجة من "يوم الغضب" في مصر (25 كانون الثاني)، اتخذت الهبات الجماهيرية للمنتفضين في هذين البلدين خطوات كبيرة. ان هذه الخطوات الكبيرة في غضون هذا الوقت القصير لهي دلالة على الطاقات العظيمة لهذه الهبات وقدرة القوى الاجتماعية والسياسية التي تقف ورائها والتي حضرت للميدان بهدف احداث تغييرات اساسية في المجتمع. ومع فرار بن علي في تونس وفرض تراجعات حاسمة على حسني مبارك في مصر، الحقت الجماهير المنتفضة ضربات سياسية مهمة براس الاستبداد البرجوازي الحاكم وببنية الدولة وسلطتها السياسية القمعية. فبالاضافة الى هذه الضربات السياسية، اجبرت كلا الحكومتين اللتين عصفت بهما ضربات جدية، بوصفهما حكومات برجوازية في مراحل الازمة الثورية، لحد الان على اطلاق الوعود فيما يخص مكافحة البطالة الواسعة بين الشباب، مجابهة الغلاء عبر خلق "توازن بين الاجور والاسعار" وتحسين معيشة العمال والفئات المحدودة الدخل في المجتمع، بيد انهم لم يكونوا في الاوضاع "العادية" على استعداد للاقرار بالوضعية. انها مكاسب مهمة، لقد حان وقت العمل.

ينبغي تتبع مسار تقدم هذه الهبات، طاقاتها وامكاناتها ونقاط قوتها وكذلك المخاطر التي تعترضها باعين مفتوحة في بعدين: بعد، دينامية تعميم وادامة الاوضاع الثورية والثورة في نفس مجتمعات تونس ومصر، والبعد الاخر توسيع موجات الهبة لبلدان اخرى وتاثيرها وتاثرها بسياسات القوى الراسمالية في المنطقة والعالمية. من الواضح ان تقييم هذه الابعاد هو امر ضروري، بيد انه يتعدى نطاق هذه المقالة. ساتطرق هنا فقط الى جوانب منها بصورة مكثفة.

الدينامية الاجتماعية والسياسية لهذه الهبات

ان تونس ومصر هما جزء من المجتمعات الراسمالية المعاصرة التي تتمثل مكانتها في تقسيم عمل العالم الراسمالي بانها منطقة العمل الرخيص وهدف تصدير الراسمال بغرض جني ارباح هائلة من استغلال قوى العمل الرخيصة للطبقة العاملة. اذ يستند تاريخياً الاقتصاد والسياسة في هذه المجتمعات، وبصورة مختلفة عن المجتمعات الراسمالية المتقدمة، الى اساسين: الاعتماد على القوى الرخيصة للطبقة العاملة وتامين اعادة انتاجها وثانيا الاستبداد السياسي والقمع السافر بوصفهما بنيته الفوقية السياسية.

لقد جوبهت الازمة الراسمالية العالمية في السنوات الثلاثة الاخيرة والهجمات الواسعة للبرجوازية في جميع المجتمعات على معيشة وحقوق ومكاسب الطبقة العاملة والفئات عديمة الراسمال، سواء على صعيد البلدان الراسمالية الاكثر تقدما او بلدان مناطق العمل الرخيص، باحتجاجات ومقاومة عمالية عريضة وجماهيرية. ان تطورات تونس ومصر هي راس نقطة انفجار هذه المجابهات والصراعات في الحلقات الاضعف للراسمالية المعاصرة. في تونس ومصر ومجتمعات على هذه الشاكلة، بلغت النصال عظام الطبقة العاملة والجماهير المحرومة للمجتمع جراء هبوط مستوى المعيشة وانعدام الحقوق والقمع المتواصل، كما بلغ السيل الزبى بالفئات البرجوازية والبرجوازية الصغير ايضاً لحد ما جراء الاستبداد السياسي وانعدام الحقوق. حيث تبين مسار الاحداث للاسابيع الاربعة الاولى للهبة الجماهيرية في تونس، و 10 ايام الاولى نفسها في مصر تركيبة احتجاج هذه القوى الاجتماعية المختلفة.

ان عدد هائل من الجيل الشاب لهذه المجتمعات، ينتمي اغلبهم الى الطبقة العاملة والفئات الدنيا للمجتمع، يمثلون القسم الاعظم من جيش العاطلين الكبير لهذه المجتمعات الذي يمثل وجوده شرط اعادة انتاج قوى العمالة الرخيصة. بالنسبة لهذا الجيل الشاب من حملة الشهادات، تمثل الشهادات مثل نيل بطاقة الانضمام الى جيش العاطلين اكثر من الحصول على فرصة عمل. ولهذا فانه لامر طبيعي جدا ان تؤدي، في المرحلة الراهنة، تناقضات الراسمالية في مثل هذه المجتمعات، سواء على صعيد الاقتصاد او السياسة الى انفجار ثوري، وهو مانراه اليوم في تونس ومصر. وما ان فتح هذا الانفجار لحد الان اجواء سياسية ووجه ضربة لسلطة الدولة القمعية، مما يعني توفر الفرصة للحركات السياسية الطبقية، سواء اكانت العمالية ام البرجوازية بمجمل اشكالها، لدخولها الميدان، تعقب افاقها واهدافها وتوحيد صفوفها وتقوي نفسها. ان هذه هي دينامية تنامي الصراع الطبقي في رحم تقدم التطورات الثورية او الدفع بها نحو القهقري من قبل البرجوازية في السلطة وفي المعارضة، وهو الامر الذي نشهد الان مقاطع واحداث يومية منه.

ان قوة اجتماعية وسياسية خلف هذه التطورات واسعة ومتنوعة، وان ماحضر في الميدان ماهو الا قسم صغير منها. يتلخص دور الجيش والمؤسسات النظامية والسياسية والقضائية البرجوازية، بالاضافة الى دور المعارضة البرجوازية، بتحجيم مدى هذه التحولات ونطاقها. من الجهة المقابلة، يتمثل دور القادة العماليين ومنظماتهم، وكذلك الشباب الثوريين والتحررين، بتعميم وادامة المكاسب التي تحققت لحد الان. يدفع العمال في الوقت الراهن في تونس بهيئة "الاتحاد العام التونسي للشغل"، وفي مصر على هيئة فدراسيون النقابات العمالية الذي تشكل حديثاً (والذي اعلنت الهيئة المؤسسة في 30 كانون الثاني عن تاسيسه)، بنضالهم وتدخلهم في التطورات الراهنة. في مصر كذلك، ان "حركة 6 نيسان" التي حضرت للميدان منذ نيسان 2008 دفاعاً عن نضالاتهم العمالية في تلك المرحلة، هي القوة الاساسية المعبئة لاحتجاجات الايام العشرة الاخيرة. مع دخول العصابات المعادية للثورة والموالية لمبارك والدولة الحاكمة، آلت من يوم الاربعاء الى تظاهرات صدامية واعلنت حركة 6 نيسان يوم الجمعة 4 شباط بوصفه يوم تكرار الاحتجاج العام من اجل الاطاحة بمبارك.

مهما يكون عليه افق هذه المجابهات، ستديم التطورات الجارية في تونس ومصر نفسها بالمنظور القريب بخصيصة ومطاليب اصلاحية سياسية واقتصادية. ومع ادامة هذه التحولات الثورية ستكون ميدان التدخل النشط والراديكالي للعمال والشيوعيين وكذلك ميدان لسعيهم المتواصل من اجل خلق وحدة وتنظيم اكثر رسوخاً داخل صفوف الطبقة العاملة وتامين صف مستقل وافق وبديل عمالي وشيوعي، تعميم شيوعية بروليتارية وارساء تحزبها الشيوعي. في مجمل المجتمعات الراسمالية المعاصرة للعالم، بوسع اي تحول ثوري، حتى ولو كان ذا خصيصة اصلاحات ديمقراطية وفي اطار العلاقات الراسمالية، ان يكون نذير ثورة عمالية واشتراكية وذلك للحضور الاجتماعي المقتدر للبروليتاريا في اقتصاد المجتمع. ان شرط تقدمها واستمرارها في هذا المسار هو تامين مستلزمات الصف المستقل والمقتدر للبروليتاريا وارساء تحزب شيوعي وهيئات اقتدار جماهير الطبقة.

اتساع رقعة موجة الهبات الجماهيرية

يتمثل بعد اخر في اتساع نطاق هذه التحولات. لقد شهدنا وصول بلاغ الهبة الجماهيرية في تونس ومصر واثارها وعواقبها لحد الان الى جغرافيا سياسية واسعة في شمال افريقيا والشرق الاوسط، ويبدوا ان سرعة حركتها والطاقة الاجتماعية والسياسية التي تقف ورائها تتمتع بقدرات تاثير اوسع على جغرافيا سياسية اوسع في المنطقة والعالم. فتحت ضغط الاحتجاجات العامة، رضخ ملك الاردن لعزل رئيس الوزراء "سمير الرفاعي" ونصب بدلا عنه الجنرال "معروف بخيت" مطلقاً الوعود بالاصلاحات السياسية والمعيشية. اما في اليمن، فقد اعلن يوم الاربعاء علي عبد الله صالح الذي جثم 32 عاماً كرئيس لـ"الجمهورية" انه لا هو ولا ابنه! سيرشحان انفسهما! وفي السودان، في الوقت الذي صوت اكثر من 99% من المشاركين في استفتاء المنطقة الجنوبية للسودان على الانفصال، تواجه الحكومة الاسلامية لعمر البشير تحديات جدية من المعارضة البرجوازية والاحتجاجات الجماهيرية. اذا كان الاستبداد البرجوازي في مصر وتونس يستند الى القومية العربية "العلمانية" قد تلقى ضربة جدية وعلى اعتاب الهاوية، فان وصول هذه الهبة للسودان، يضع الاستبداد البرجوازي المستند الى الحركة الاسلامية في مستنقع السقوط. في سوريا، رغم ان بشار الاسد يدعي ان هذا "الداء" لايهدد سلطته، بيد حركات برجوازية اعلنت يوم 4 شباط بوصفه يوم بدء الاحتجاجات. في الجزائر التي شهدنا في الشهر ونصف الشهر الاخير احتجاجات جماهيرية، اعلن معارضوا نظام بوتفيلقة يوم 12 شباط يوم تكرار الحركة الاحتجاجية. وتبين الخطوات الاستباقية لهذه الحكومات بوضوح هلعها من تسونامي التطورات الثورية الجارية. ويمكن رؤية هذا الهلع بوضوح ايضاً على ملامح النظام الاسلامي في ايران.

بوسع التنامي الجغرافي لهذه التطورات ان يتخطى العالم العربي والشرق الاوسط. ان اللغة المشتركة وتشابه الانظمة الاستبدادية والتاريخ المعاصر للشرق الاوسط هي عوامل اكثر مساعدة لانتشار هذه التطورات للبلدان العربية في الشرق الاوسط، بيد ان الخصيصة المشتركة للانظمة هو استنادها الى العمل الرخيص للطبقة العاملة، اي تلك... الاكثر اساسية لامكانية اتساع نطاق هذه التطورات الى سائر مناطق العالم. على اية حال، مهما كان عليه نطاق اتساع جغرافية هذه التطورات، فان خصيصتها هو تفجر تناقضات الراسمالية العالمية في خضم ازمة اقتصادية، وعليه ستترك تاثيرات عالمية. لحد الان يمكن القول ان التحولات الثورية لبداية عام 2011 قد ختمت نهاية ضجيج العقدين السابقين للجناح اليميني للبرجوازية حول "نهاية التاريخ" و"نهاية الشيوعية" وانتهاء عصر الثورات. كما يمكن القول ايضا الحقت تحولات عام 2011 اخر ضربة بالاستراتيجية العسكرتارية لامريكا والغرب و"حربهم على الارهاب" التي وسعت من ظل كالح على العالم خلال العقد الاخير، منذ 11 ايلول 2001.


تعامل امريكا والغرب

ان اخر موقف لاوباما واصراره على البدء بالاصلاحات السياسية في مصر من الان! والاصرار الاشد لمنافسه السابق السيناتور ماككين على الموقف ذاته، هما بوصلة تعامل امريكا والغرب الراهن من اجل الحيلولة دون الاتساع المتعاظم لهذه التطورات واستفادة من امثال اخوان المسلمين من هذه الاوضاع. ان موقف اوباما وماككين الذي كان موضوع تاييد ديفيد كامرون، بان كي مون، ساركوزي، مركل، نتنياهو وتوني بلير كذلك، قد اعلن عنه بعد خطاب مبارك يوم الثلاثاء واعلانه لعدم ترشيح نفسه لانتخابات رئاسة الجمهورية في ايلول. وتطلب امريكا والغرب الان من مبارك ان يتنحى فوراً عن السلطة. وبالتضحية بمبارك، يسعون لصيانة والمحافظة على السلطة الحاكمة الحالية والنظام السياسي والاقتصادي الموالي لهما في مصر عبر اجراء بعض الاصلاحات صوب ركونهما المتزايد للنظام البرلماني والانتخابات الحرة، والحيلولة دون ان تمتد ايادي الطبقة العاملة للسلطة السياسية وهجمتها على اسس النظام الراسمالي. ان التضحية ببن علي من قبل الحكومة البرجوازية والجيش بوصفهما العمود الفقري للدولة وبالتنسيق والتعاون مع حكومات فرنسا وامريكا في الاسابيع الثلاثة المنصرمة، قد جرى هذا لتحقيق الهدف المذكور.

تتمثل الحقيقة بان التوسع الهائل للراسمالية العالمية واتساع هوة الثروة مابين المجتمعات الراسمالية الاكثر تقدماً والمصدرة للرساميل والمجتمعات الاقل تقدماً والمستندة الى العمالة الرخيصة، عمّق من الاحتجاجات العريضة في صفوف برجوازية هذه البلدان، ومن بينها الشرق الاوسط، وكانت خلال العقدين الاخيرين اساس تغذية وتنامي الحركات والتيارات الاسلامية المعادية للغرب. وكذلك الامر مع بلدان امريكا اللاتينية، والتي ادت الى تنامي الحركات القومية والشعبوية من امثال تشافيز ودي سيلفا. اذ تريد اقسام من برجوازية هذه المجتمعات حصة اكبر من الثروة العالمية المتراكمة من استغلال الطبقة العاملة من جهة وكذلك تطالب بحيز اكبر للتحرك السياسي. لقد وضع هذا الشق والهوة منذ سنين مسالة اصلاح الانظمة السياسية الاستبدادية الى انظمة برلمانية على جدول اعمال الغرب.

ان تحويل الاستبداد النظامي في امريكا اللاتينية وتركيا الى انظمة برلمانية والسعي، على سبيل المثال، الى اجراء مثل هذا السيناريو في بورما وغيرها بهدف خلق ترتيبات سياسية برجوازية اكثر ديمومة في هذه البلدان بوجه امكانيات وطاقات تفجر الثورات وتنامي حركة الطبقة العاملة المعادية للراسمالية. ان اساس طرح "الشرق الاوسط الكبير" لبوش و"الشرق الاوسط العريض" لبلير هو صلب هذه السياسة والاستراتيجية. اذا كانت هذه الطروحات مستندة الى الاستراتيجية العسكرتارية وتكتيك "تغيير الانظمة"، فمع فشل العسكرتارية الامريكية والناتو، يتم الدفع بنفس البرنامج ولكن عبر ممارسة الضغوطات السياسية من قبل الغرب.انها من جملة رسائل اوباما لمجابهة الازمة الاقتصادية وازمة زعامة امريكا وازمة التنافس مع الصين، روسيا والبرازيل و.... حول اعادة تقسيم العالم.

تأمل امريكا والغرب ان تدخل في مصر، على غرار تونس، هذه الاصلاحات السياسية للنظام السياسي الحاكم عبر الجيش والحكومة القائمة واقسام من المعارضة كي يخرج النظام السياسي سالماً من التطورات الثورية الجارية. هل ينجحوا في ذلك؟ انهم يتمتعون بامكانيات معينة لهذا المشروع وايقاف موجة الهبات الجماهيرية، وان نجاهم ليس امراً مستحيلاً. بيد ان اوضاع اليوم تختلف 180 درجة عن ماقبل الدخول الجسور لجماهير عمال ومحرومي المجتمع، وهو ما جعل امكانية نجاحهم محدودة ومشروطة. سيكون محك اي تغيير او اصلاح في الانظمة السياسية الراهنة مرهونا بطبيعة مسار هذه الازمة الثورية التي بلغت سيلاً جارفاً. لامناص للطبقة العاملة من ان تدافع بكل قواها عن مكتسبات الهبة الثورية بوجه مجمل المساعي المناهضة للثورة التي تقوم بها البرجوازية المحلية والعالمية، وتناضل من اجل توسيعها وادامتها. بيد ان شرط الانتصار هو تقوية اتحاد واقتدار صف البروليتاريا نفسها.
3 شباط 2011

ترجمة: فارس محمود