تونس: اليسار والحفاظ على مكتسبات الثورة


كميل داغر
الحوار المتمدن - العدد: 3267 - 2011 / 2 / 4 - 22:30
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي     

«لقد سرقوا ثروتنا، ولن ندعهم يسرقون ثورتنا ». ربما هذا هو الشعار الأهمُّ الذي لا يزال يرفعه الشعب المنتفض في تونس. وبالتالي، فثمة تعايش إلى الآن، قلق جداً بالتأكيد، بين حكومة محمد الغنوشي «الجديدة» (!)، والحِراك الشعبي الثوري المستمر. لم يخرج المنتفضون من شوارع تونس العاصمة، وباقي مدنها، وبعدما نجحوا في إجبار الطاغية بن علي على الفرار مع عائلته وأصهاره وأزلام عديدين له، لا يزالون يعبّرون يومياً عن إرادتهم لإطاحة كامل نظامه المتداعي. نظام يحتفظ بجزء أساسي من قواه، ومن ضمنها بوجه أخص أدوات القمع، ولا سيما الجيش، الذي حصلت نسبة هامة من كوادره على جزء أساسي من تكوينها في الأكاديميات العسكرية، الأميركية والفرنسية، فضلاً عن احتفاظ هذا النظام برأس له، متمثل بالحكومة المشار إليها، القادمة في غالبيتها الكبرى من مدرسة بن علي، في حزب التجمع الدستوري الديموقراطي، كما في الإدارة.

بقاء الجماهير المتمردة في الشارع، وتنظيمها في آلاف اللجان الشعبية التي يتم عبرها تجاوزٌ، ولو نسبي، لما اتسمت به الانتفاضة، في لحظاتها الأولى، من عفوية مطلقة، أتاحا الى الآن تحقيق جملة من الإنجازات، من أهمها:

-إجهاض المظاهر الأولى للثورة المضادة، التي حاولت أوساط في النظام أن تطلق العنان لها. وتمثلت بأعمال القتل، والنهب والحرق والتخريب للأملاك العامة (والخاصة أيضاً)، التي شهدتها الأيام الأولى بعد فرار بن علي، وأدّت دوراً أساسياً فيها ميليشيات النظام من حرس رئاسي وما إليه، في ما بدا مسعىً محموماً لتشويه الانتفاضة الشعبية، في أذهان الناس، وجعل الرعب واليأس يدُبّان في نفوس المنخرطين فيها.
التحرر الناجز من حالة الهلع التي كانت تُشيعها أدوات القمع في نفوس الغالبية الساحقة من المواطنين، والالتفاف الشعبي الواسع حول مطلب حل حزب التجمُّع، ومصادرة مقارّه وممتلكاته، وإخراج رموزه كلها من مواقع السلطة، ومن الحكومة قبل كل شيء. وهو ما اضطُرَّ، عملياً، أكثر من وزير من المعارضة المدجّنة السابقة، ولا سيما الوزراء الثلاثة القادمين من الاتحاد العام للشغل، إلى الانسحاب من وزارة الغنوشي، وتقديم أعضاء في الاتحاد استقالتهم أيضاً من عضوية البرلمان المنتخب إبان مرحلة بن علي.
اضطرار هذه الحكومة الى إعلان سلسلة قرارات تنسجم، ولو جزئياً، مع المطالب الشعبية. من أهم هذه القرارات البدء بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإعطاء تراخيص لأحزاب ومنظمات كانت محظورة، في ظل ديكتاتورية بن علي، وإخراج رجال الأمن والاستخبارات من الحرم الجامعي، فضلاً عن إلقاء القبض على العديد من المسؤولين عن القمع ونهب الأموال العامة، في تلك المرحلة.
التحاق الآلاف من رجال الشرطة بالتظاهرات المتواصلة، تعبيراً عن تأييدهم للانتفاضة، وانخراطهم في حركة مطلبية خاصة بهم، من ضمنها انتزاع حقهم في التنظيم النقابي، دفاعاً عن مطالبهم الاقتصادية والاجتماعية. وهو ما يمكن أن يمتد، لاحقاً، وبقدر ما يتواصل الحراك الشعبي الحالي، ليشمل الجيش، مفسحاً المجال واسعاً أمام استكمال شروط تغيير ثوري شامل.
إحداث الانتفاضة الشعبية في تونس ارتدادات واضحة وواعدة، في العديد من البلدان العربية، ولا سيما في الجزائر والسودان والأردن، التي شهدت تحركات مطلبية مؤثرة، وإن لم تبلغ الى الآن حدود ما حدث في تونس، فضلاً عن اتخاذ السلطات في أكثر من بلد عربي آخر إجراءات، مهما تكن محدودة، لتحسين مستوى معيشة مواطنيها، خوفاً من وصول موجة التمرد والانتفاض الى عقر دارها.

وبالطبع، فإنّ الموجة هذه، التي تشهد نموَّها تونس، توحي بأنّ لديها مقومات فعلية للاستمرار، ولا سيما أنّ البرجوازية، المسيطرة فيها تكشف، الى الآن، الكثير من الغباء. فهي متمسكة، في واجهة السلطة هناك، بالعديد من رموز مرحلة بن علي، وبخاصة الرمز الذي يتربع في سُدَّة رئاسة الحكومة، منذ عام 1999. هو الذي أشرف على جانب حاسم، مذّاك، من سياسة الطاغية، حتى فراره، وذلك في شتى المجالات الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية، بما فيها التطبيع مع إسرائيل، وتعميق التبعية للغرب الإمبريالي. لكنّ الغنوشي حاول، خلال تأليف حكومته «الجديدة»، تزيينها برموز عدة من المعارضة الانتهازية السابقة، ومن الاتحاد العام للشغل.

محمد الغنوشي والذاكرة الشعبية

انسحاب كل من فؤاد المبزّع، رئيس الجمهورية، المنصّب بقرار من المجلس الدستوري، ورئيس الحكومة محمد الغنوشي، من الحزب الحاكم سابقاً، لا يغيّر شيئاً في هويتيهما كصنيعتين لبن علي. صنيعتان، تواصلان سياسته، في الجوهر، وبوجه خاص الغنوشي الذي ـــ للمفارقة! ـــ هو من يمتلك ما بقي من السلطة الفعلية، الآن، وليس رئيس الجمهورية الحالي. قام الغنوشي ذاته بدور أساسي في إدارة السياسة التي أدت الى تجويع الشعب التونسي، السبب الأهم لتفجير الانتفاضة المستمرة، بشكل أو بآخر، الى يومنا هذا. فبعدما كان مديراً عاماً للتخطيط، في أيام بورقيبة، وحتى أشهر قليلة بعد انقلاب 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 الذي أطاح الرئيس الراحل المذكور، تولى محمد الغنوشي وزارة التخطيط، وأشرف بذلك، عن كثب، على تطبيق سياسة الجنرال الانقلابي النيوليبرالية. ومن موقعه، في عام 1992، وزيراً للتعاون الدولي والاستثمار الخارجي، تفاوض مع البنك وصندوق النقد الدوليين على سياسة النظام الاقتصادية والاجتماعية. وبعدما أصبح وزيراً أول، في عام 1999 (وهو المنصب الذي يحتفظ به الى الآن)، أشرف على تطبيق تلك السياسة، بإخلاص قلّ نظيره لأسياده في الولايات المتحدة وأوروبا. جعل ذلك هؤلاء، ودوائر العولمة الرأسمالية، ينظرون الى تونس كنموذج لنجاح السياسة الاقتصادية التي فرضوها عبر العالم، ويعتبرون التجربة التي خاضها الغنوشي، تحت القيادة الوثيقة لبن علي، «معجزة» اقتصادية، بحسب تعبير الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي.

وقد شغل الى وظيفته تلك، منذ عام 2002، منصب نائب رئيس الحزب الحاكم. وفي موقعيه، كليهما، كان مسؤولاً أيضاً عن القمع والإرهاب السلطويين، في عهد بن علي، وصولاً الى المجازر الأخيرة بحق الشعب المنتفض لأجل حقه في العيش الكريم. شعب يمتلك، بلا ريب، ذاكرةً قوية، تجعله يواصل التظاهر، يومياً، معلناً رفضه الغنوشي وحكومته، وسائر الأجهزة والمؤسسات التي يَشْغلها صنائع بن علي، وأعضاء حزبه، وكامل بطانته.

بيد أنّ السؤال الكبير، الذي لا يزال يحوم فوق الانتفاضة الرائعة لهذا الشعب، إنما هو ذلك المتعلق بالبديل المنشود من الوضع الذي كان قائماً، والذي تسعى فلول النظام المتداعي الى ترميمه. فما الذي يريده الشعب المنتفض، بالضبط؟

نحو ازدواجية في السلطة

من الواضح أنّ ما يحصل في تونس، منذ أواسط كانون الأول/ ديسمبر الماضي، اتّسم الى حد بعيد بالعفوية، وافتقاد القيادة. اندفعت الى الشارع جماهير واسعة، راحت تزداد اتساعاً، تحفزها سنوات طويلة من القمع والاستبداد والإذلال والحرمان، تعبيراً عن رفضها أن تتحمل المزيد، ولا سيما بعد معاينتها مشهد محمد البوعزيزي مشتعلاً. مشهد جسّد بالنسبة إليها أقصى ما يمكن أن يصل إليه الاحتجاج على الوضع القائم، مع ما يحفل به ذلك من دروس. بدا الشاب البطل كما لو كان يكرر أمام الجميع، على طريقته، العبارة المشهورة، الواردة لدى كارل ماركس، التي تقول إنّه «ليس لهم ما يخسرونه بالثورة سوى أغلالهم، وأمامهم عالمٌ يكسبونه»، علماً بأنّ البوعزيزي كان يقدِّم في ما فعله، وعلى مستواه الشخصي، أكثر من أغلاله. كان يقدّم حياته.

ومثلما سبق أن تعلم ثوار كومونة باريس، في شتاء وربيع 1871، كيف يصوغون سلطتهم الخاصة بهم، وعمالُ سان بطرسبورغ في 1905، كيف ينتخبون مجالسهم، التي ستتكرر تجربتها في 1917، على صعيد العمال والفلاحين والجنود، كشكل أصيل وأكثر من ديموقراطي لسلطة هؤلاء، تعلم كادحو تونس وسكان الأحياء البسطاء في مدنها، في الشهرين الأخيرين، كيف يشكلون لجانهم. لجان تدافع عنهم، وعن المكتسبات الأولية لانتفاضتهم، كشكل بديهي لتجاوز العفوية، وبناء عناصر أولية للقيادة. وفي الوقت عينه، كانوا ينتزعون حريات أساسية، بينها حرية التنظيم والتجمع. حرية، أتاحت المجال لحصول منظمات حزبية عديدة، كانت ممنوعة، على الشرعية، ولبدء تشكُّل منظمات أخرى، يسارية، وحتى ثورية، مع ما يعنيه ذلك من إمكان أن تتصارع بعد الآن برامج شتى. قد تتراوح هذه البرامج بين الاتجاه اليميني الرأسمالي الرجعي، الذي يريد تأبيد الواقع القائم ـــ سواء كان هذا اليمين ذا ميول علمانية، على شاكلة الحزب الحاكم، في أيام بن علي، أو ذا ميول دينية سلفية، على شاكلة حزب النهضة وأمثاله ـــ وأقصى اليسار، الذي يرفع شعارات جذرية، أهمها انتخاب جمعية تأسيسية تضع دستوراً جديداً، يجمع بين الديموقراطيتين، السياسية والاجتماعية.

وقد كان بين النتائج الإيجابية الواعدة للحِراك الشعبي المتواصل، في مواجهة بقايا نظام بن علي، تَلاقي العديد من منظمات اليسار الماركسي والقومي في جبهة، سُمِّيت «جبهة 14 جانفيي» (14 كانون الثاني). وكان من اللافت أنّها كشفت تراجعاً واضحاً في العصبوية التنظيمية القديمة في صفوف اليسار. إذ كان بين المنظمات والمجموعات المنضوية فيها رابطة اليسار العمالي، التي تضم نواة شيوعية ثورية (تروتسكية)، وحزب العمال الشيوعي التونسي، الذي يعتبر ستالين بين مرجعياته الفكرية والسياسية والبرنامجية الأساسية.

وتتضمن البنود الرئيسية الأهم في برنامجها إسقاط حكومة الغنوشي وتأليف حكومة مؤقتة تحظى بثقة الشعب وقواه التقدمية، وحلّ حزب التجمع الدستوري الديموقراطي ومصادرة مقارّه وممتلكاته. كذلك تريد حلّ مجلس النواب ومجلس القضاء الأعلى، وتفكيك بنية النظام السابق السياسية؛ والإعداد لانتخاب مجلس تأسيسي يضع دستوراً جديداً يضمن حقوق الشعب السياسية والاقتصادية والثقافية. كما تدعو إلى مصادرة أملاك كل رموز نظام بن علي؛ وتوفير الشغل للعاطلين من العمل وضمانات صحية واجتماعية للجميع؛ وتأميم المؤسسات التي سبقت خصخصتها، وصياغة سياسة اقتصادية واجتماعية تقطع مع النهج الرأسمالي الليبرالي؛ وإطلاق أوسع الحريات العامة والفردية، وسراح المعتقلين السياسيين؛ ومقاومة التطبيع مع إسرائيل وتجريمه، فضلاً عن توجيه التحية لكل أشكال التنظيم الذاتي للجماهير، ودعوتها إلى توسيع دائرة تدخلها، في كلّ ما يهمّ الشأن العام وتسيير الحياة اليومية للناس.

وبالطبع، يمكن الانطلاق من البند الأخير في برنامج الجبهة المذكورة، للتشديد على ضرورة استغلال هذه الفرصة المتقدمة، المتمثلة في ما وصفه البرنامج بـ«أشكال التنظيم الذاتي للجماهير» ـــ والمقصود هو آلاف اللجان التي جرى تأسيسها في شتى المدن، والأحياء الشعبية ـــ لأجل تحويل هذه اللجان الى مجالس شعبية حقيقية، ولا سيما في المصانع والأرياف والأحياء الشعبية المدينية. وذلك من أجل خلق حالة ازدواجية سلطة، تمهد لإسقاط الحكومة الحالية وإحلال حكومة ثورية مؤقتة مكانها، تكون نواتها الأساسية من العناصر الأكثر جذرية في الاتحاد العام للشغل. ويكون على جدول أعمال هذه الحكومة الثورية، عدا النقاط الواردة في برنامج «جبهة 14 جانفيي»، البنود الأساسية الآتية:

1- اعتماد إصلاح زراعي جذري يتمّ بموجبه تعيين الحد الأقصى لملكية الأرض، فلا يتجاوز50 دونماً، وتوزيع الباقي على الفلاحين المفقرين والذين بلا أرض.

2- التخلي عن كامل إجراءات التصحيح الهيكلي وتوجيهات البنك وصندوق النقد الدوليين، ووقف تسديد الديون الخارجية، وإلغاء كل الاتفاقات المجحفة بحق الشعب التونسي، التي كانت قد عقدتها إدارة بن علي مع الحكومات الإمبريالية.

3- استحداث الرقابة العمالية، في إدارة مؤسسات القطاع العام، ومن ضمنها الممتلكات العامة المخصخصة سابقاً، التي يعاد تأميمها، وتلك التي ستصادر من عائلة بن علي، وكل الرموز التي سبق لها أن شاركت في نهب المال العام، تمهيداً لاعتماد هذه الرقابة في كامل المشاريع العائدة إلى القطاع الخاص.

4- إعادة تأطير الشرطة والجيش بصورة جذرية، فتصبح القيادة لأشخاص مشهود لهم بالوطنية ونظافة الكفّ وعدم المشاركة في أي من أعمال القمع والقهر بحق أبناء الشعب. أشخاص يحظون في آن معاً بثقة الرتب الدنيا والأنفار العاديين. وحتى استكمال هذه المهمة، يجب الحفاظ على أقصى التعبئة والحذر ضد احتمالات انقلاب عسكري دمويّ لحماية النظام المتداعي، وإعادة إيقافه على قدميه. وفي آن معاً إبقاء الحذر ضد انتهازية كل القوى السياسية والنقابية الجاهزة لدعم عملية ترميم النظام المشار إليه والالتفاف على الانتفاضة المستمرة ومصادرتها.

5- تعبئة أوسع الجماهير الشعبية وتنظيمها لإحباط أي تدخل خارجي محتمل، أكان عربياً أم أجنبياً، لمصلحة الطبقات السائدة وأسيادها وحلفائها في العالم الإمبريالي، وضد الجماهير التونسية المنتفضة وتطلعاتها إلى بناء سلطتها الخاصة بها. ويجب دعوة كل الأحرار والتقدميين والثوريين في المغرب الكبير وكامل الوطن العربي لتقديم أقصى تضامنها مع الثورة في تونس.

ما يحدث في تونس، منذ أواسط الشهر الأخير من 2010، إشارة بليغة إلى أنّ مسألة الثورة لا تزال على جدول أعمال الشعوب والطبقات المقهورة في كل مكان. يُسفِّه ويدحض ذلك، شتى مزاعم مثقّفين كُثُر، عبر العالم، وفي بلداننا العربية، بأنها باتت شيئاً من الماضي لا يتناسب مع واقع عصرنا، وليس أكثر من طوبى جميلة، ولكن خيالية بحتة! وهو أمر ينطبق على منطقتنا، بالتالي، التي قد تتحرك العملية الثورية في أكثر من بقعة فيها، كلما تَواصلَ وتنامى التجذر الجماهيري في تونس الخضراء، على طريق تغيير ثوري حقيقي في شتى بُنى هذه الأخيرة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية. تغيير يصبح أشدّ جذرية، ويُقرِّبنا أكثر من المهمات التاريخية للثورة العربية (الوحدة والحرية والاشتراكية) المجهَضَة إلى الآن، بمقدار ما تمتد الشرارة المندلعة في أقاصي المغرب الكبير إلى أكثر من بلد عربي، في الأيام المقبلة. وهو ما يمكن أن يتمّ، إذا نظرنا إلى الارتدادات، وإن المتواضعة إلى الآن، ولكن البليغة، التي أحدثتها الهزّة التونسية، ولا سيما بعد الفرار الذليل للطاغية التونسي، قبل أقلّ من ثلاثة أسابيع.