نحن مصدر الشرعية، وهذا الجيش لنا


ناهد بدوي
الحوار المتمدن - العدد: 3261 - 2011 / 1 / 29 - 16:52
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

لم تكن عربة خضار بوعزيزي مجرد شرارة لإشعال ثورة فعلية مدنية وسلمية في تونس، كما ينبغي أن تكون الثورات، بل رمز لانتقال جذري لمركز المشروعية من الخارج إلى الداخل، إلى أصحاب عربات الخضار، إلى أصحاب البلد الحقيقيين ومصدر المشروعية الأساسي لأي نظام سياسي مفترض. وكذلك لم تكن عملية حماية الجيش التونسي للمتظاهرين من قمع النظام الديكتاتوري مجرد نقطة تحول حاسمة في ميزان القوى في تونس، بل كانت أيضا رمزاً لتغير جذري لدور الجيش في العالم العربي من أداة في يد النظام السياسي ووسيلة للانقلابات العسكرية. إلى مؤسسة وطنية تحمي المواطنين من عدوان الخارج وتعسف الداخل وتحمي التحول الديمقراطي.
لطالما كان لدينا مسلمتان في العالم العربي: الجيش في حماية النظام السياسي، ومصدر المشروعية يقع في خارج البلاد. يبدو أن هاتين المسلمتين في طور انتقال وتغيير تاريخيين .
وعدت فرنسا، مصدر مشروعية نظام زين العابدين بن علي، بالدعم الأمني في مواجهة انتفاضة التونسيين لمصلحة النظام الأمني الاستبدادي، فاقد الشرعية الداخلية، فانقلب الموضوع على نحو لم تتوقعه فرنسا، التي وعدت بدعم النظام السياسي التابع لها والمعتمد عليها ، انقلب إلى موقف مخزٍ للسياسة الخارجية الفرنسية، حين انحازت الجمهورية التي اخترعت فكرة الجمهورية وموطن الثورة الليبرالية، ضد الناس وآلمها عودة المشروعية السياسية إلى أصحابها الحقيقيين. وكذلك فعلت الولايات المتحدة الأمريكية مصدر مشروعية النظام المصري وحامية حماه، فقد طمأنت كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية النظام المصري على قوته وبأنه سيستطيع تجاوز حالة الشغب التي تشوش على مشروعيته الخارجية العتيدة. لكن على ما يبدو أن الناس، أصحاب البلد الحقيقيين، في كل بلد، لن يسمحوا بعد الآن بانتزاع موقعهم كمصدر للمشروعية من قبل أي كان.
لعب الجيش في الخمسينات والستينات في العالم العربي، الدور الأساسي في حمل الأنظمة العربية الحالية إلى السلطة عبر الانقلابات العسكرية التي كانت تعبر عن تلك الفترة بامتياز. حين كانت غالبية الشعب غارقة في الأمية وخاضعة ومعزولة تماما عن نخبها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، وكانت النخبة العسكرية هي الأقوى والأكثر تنظيما لا بل الأكثر تمثيلاً لمختلف مناطق البلاد وفئات المجتمع في كل قطر عربي على حدة. لذلك وجدت نفسها الأجدر بتسلم السلطة السياسية. أما فيما بعد وللأسباب ذاتها فقدت الجيوش موقعها المفضل عند الأنظمة العربية. وبدا أنه كلما أوغلت هذه الأنظمة في القمع واحتكار السلطة، فقدت ثقتها بمؤسسة الجيش وعملت على تحييده وتهميشه، لذلك أسست قوات خاصة وحراسات خاصة وميليشيات وفرقاً أمنية منتقاة أكثر موثوقية ومضمونة الولاء ولا تخضع لأي قانون بل هي مرتع للامتيازات والولاء والدفاع عن احتكار السلطة. على خلاف الجيش الذي هو وطني بطبيعته لأنه أنشئ أصلا حسب القانون والدستور وأفراده غير مختارين بل قادمون من جميع أرجاء البلاد. لذلك هو مهيأ الآن أكثر من أي زمن عربي مضى للقيام بدور الراعي والحامي للاستقرار في خضم عملية التحول الديمقراطي المنشودة من قبل جميع شعوب المنطقة.
ان أسباب تغير دور الجيش في العالم العربي، لا تقتصر، بالطبع، على تراجع ثقة الأنظمة به، بل تعود إلى التغيير العميق في بنية المجتمع العربي ونشوء نخب مدنية جديدة وواسعة لم تكن موجودة في عهود الانقلابات العسكرية. وأهمها وأوسعها حملة الشهادات الجامعية من مختلف الاختصاصات وفئة التكنوقراط. هذه النخبة تنتمي أيضا إلى جميع فئات المجتمع في سائر أرجاء البلاد، كالجيش تماما. على عكس نخب الخمسينات القليلة العدد والمقتصر وجودها على العواصم وبعض مراكز المدن الأخرى على نحو أقل. أي إن هناك تجاور وصلة قرابة قوية بين الجيش وهذه النخب التي تعتبر المحرك الرئيسي للانتفاضات الراهنة والمحتملة.
إن عملية انتقال مشروعية الأنظمة العربية من الخارج إلى الداخل، والتحول في دور الجيش من حام للأنظمة إلى حام للاستقرار الديمقراطي، شرطان ضروريان للتخلص من بقايا العصور القديمة ومفاهيمها في الحكم والاستبداد، والانتقال إلى عصر الحداثة، عبر إدارة البشر لشؤون حياتهم. يبدو أن التاريخ يوزع حركته وحيويته على عقود زمنية. وعدوى التغيير والانتفاضات تتوزع على أقاليم ومناطق قطاعية، فقد شهدنا عقد التغيير الخاص بأوروبا الشرقية وعقد التغيير الخاص بأمريكا اللاتينية ونشهد الآن على ما يبدو عقد التغيير في العالم العربي.
دمشق