هل هناك تجربة اشتراكية ناجحة؟


خالد صبيح
2010 / 10 / 13 - 21:28     

هذا ما يقرره بثقة بعض ممن يناقشون في الشأن الثقافي والسياسي.
ويبدو هذا التصور سليما إذا ما نظر إليه من المنطلق الذي يقيس مفهوم الاشتراكية، وأيضا الرأسمالية، أو أي منظومة اجتماعية اقتصادية، من منظور الصورة الصافية الذي يفترض حالة تكون فيها هذه التشكيلة الاجتماعية والاقتصادية أو تلك متطابقة مع خطابها النظري الذي يفسرها ويحدد أبعادها ويشرح قوانينها. لكن مفهوم الصورة النقية غير ممكن واقعيا بحكم أن الخطاب، أي خطاب، هو بحد ذاته جزء من الظاهرة، التي يؤسس لمفاهيمها، ومنتج لها في نفس الوقت، ولهذا فهو لا يقف محايثا لها بمعنى انه لا يشرحها من خارجها وإنما من داخلها. وبهذا فهو يتأثر بمعطياتها كما يؤثر في مساراتها. وعليه فان أي ظاهرة، وكذلك الأفكار، ومعهما الخطابات الملازمة لهما، هم في صيرورة مستمرة وفي حالة إعادة تشكل متواصلة، فلا الظاهرة تأخذ شكلا ثابتا ولا خطابها يستقر على تخوم محددة، لان ليس هناك في سنة الكون ما يتصف بالثبات.

من هنا فان فكرة نظام اشتراكي أو تجربة اشتراكية صافية هو أمر غير واقعي. وهذا ينسحب على المنظومة الرأسمالية. فهناك دائما تداخل وتشابك في القوانين كما في المعطيات يجعل من الصعب الفصل الكلي بين سياق اجتماعي وآخر، لاسيما في عصر العولمة وتطور الفكر الإنساني. صحيح أن هناك صفة غالبة، اقتصادية واجتماعية وإدارية، تسم مجتمع معين أو منظومة معينة، ولكن في المحصلة النهائية يبقى التوصيف الأخير لأي منظومة هو التداخل والتنوع والتعدد في العناصر المكونة لها.
من هذا المنطلق أقول ليس هناك تجربة اشتراكية متحققة على الأرض بالشكل الذي حدد أبعادها به الخطاب النظري الشائع للاشتراكية. ولكن الاشتراكية، كقيم ومفاهيم وتطبيقات، مبثوثة، كما ازعم، في ثنايا ما نطلق عليه النظام الرأسمالي، نظام السوق، وتمارس حضورها وفعاليتها التاريخية من داخل هذه المنظومة، بل وفي سياقها إن شئتم.

لكن كيف يكون هذا؟.

إذا أردنا أن نتقصى عن المصدر الأول والأصل (الجيني) الذي قامت عليه فكرة الاشتراكية فسنجده في حلم البشرية الأزلي بتحقيق العدالة الاجتماعية، وفي حلم الإنسان بالانعتاق وحقه في ممارسة الحرية بالمعنيين، الكوني، المجرد، أي في كينونته ووجوده وعلاقته بعالمه، وفردي، بمعنى ضمن سياق اجتماعي وحضاري محدد. وقد اخذ الحلم الإنساني هذا، عبر مسار التاريخ البشري، أشكالا متعددة للتحقق، غيبية وأسطورية ودينية، لكن يمكن الجزم ان الأفكار الاشتراكية، بأشكالها الطوباوية الأولية، كانت الأقرب إلى تمثيل هذا الأمل والحلم الكبير. وذلك قبل أن تحدث تحولات عالمية كبيرة ومخاضات فكرية عديدة، كانت قد عصفت بالعالم بعد الزمن الطوباوي ذاك، فتبلور أسس منطقية وعلمية جعلت من الأفكار الاشتراكية، أثناء تحديداتها التاريخية والنظرية، امتدادا لهذا ألتوق الإنساني الأزلي في تحقيق الذات والوجود. ثم، ومع تطور الفكر الإنساني، وتطور فكرة العدالة والحق داخل هذا الفكر، نضجت فكرة الاشتراكية من خلال قراءات ثقافية وحضارية متعددة.

وهكذا ظهر لفكرة الاشتراكية آباء كثيرون يعودون إلى أغوار بعيدة وعميقة في التاريخ البشري، من بوذا وكونفشيوس ، مرورا بالحالمين من الطوباويين الكبار، ك ( سان سيمون وتوماس مور وكامبيللا وروبرت أوين).وصولا إلى ماركس، اكبر قارئي التاريخ، وغيره من معلمي الاشتراكية الكبار. وإنتهاءا بمناهضي العولمة ( الأمركة) كتجل تاريخي لفكرة العدل في العلاقات الدولية في أيامنا هذه.

غير أن قراءة ماركس للتاريخ، وابتداعه لأسس عملية وتطبيقية لفكرة الاشتراكية، من خلال تحليله وتشريحه لبنية الرأسمالية، تعد من بين أفضل القراءات للتاريخ، لكنها ليست بالطبع القراءة النهائية. فالتاريخ وتطورات الحياة يمليان تنوعا واغناءا مستمرين لأي قراءة، بل في أحيان كثيرة يتطلبان قراءة جديدة تزيح القراءات السابقة عليها. من غير أن يعني ذلك إلغاءا ومحوا تامين لاستنتاجات وتحديدات تلك القراءة، وإنما، حسب المنطق الجدلي، نوع من التطوير والإضافة الضروريين لها، وذلك لان الفكر الواقعي الذي يحتضن الهم الإنساني، قد يشيخ، لكنه لن يموت.

وقراءة ماركس للتاريخ وضعت لأول مرة، لحلم البشرية في الانعتاق والتوق الإنساني للحرية، آليات وبرامج عملية قابلة للتطبيق، منطلقة في ذلك من فهم عياني لوقائع عصرها، ولمنطق حركة التاريخ. وقد اتفق مع ماركس كثير من مفكري الاشتراكية والمناضلين من اجلها في تحليله وتوصيفه لطبيعة الرأسمالية كظاهرة تاريخية ومنظومة اقتصادية – اجتماعية، لكنهم اختلفوا معه في آليات تطبيق البدائل، وفي الكيفية التي تُواجَه بها الرأسمالية؛ فهل يكون ذلك عن طريق الثورة، كما دعا هو وآخرون، وأخذت في تبنيها وتطبيقها لاحقا جل الأحزاب الشيوعية في العالم، أم عن طريق العمل السلمي، والإصلاحات الجزئية التدريجية ضمن ما تتيحه آليات وبنى المنظومة الرأسمالية نفسها، والذي أخذت به اغلب أحزاب الاشتراكية الديمقراطية؟.

وعلى أرضية هذا الخلاف حدثت شقاقات أدت بفكرة الاشتراكية إلى مصائر متباينة. فقاد لينين اتجاه دعاة الثورة، بعدما طور قراءة ماركس وأغناها حسب التطورات العالمية بظهور الامبريالية كمرحلة عليا يتجه فيها النظام الرأسمالي إلى التكتلات الاقتصادية الكبرى، والى التوسع الخارجي. وكذلك بوضعه لأسس عملية تطبيقية لإمكان إنشاء نظام اشتراكي في دولة واحدة وليس بقيام (ثورة) عالمية شاملة لمواجهة النظام الرأسمالي، كما دعت إليه أفكار ماركس والتزم بها قادة سياسيون ومنظرون آخرون للاشتراكية من دعاة الثورة الدائمة، مثل تروتسكي. دعاة الثورة هؤلاء أنجزوا شكلا لنظامهم تجسد بولادة الاتحاد السوفيتي، في ثورة أكتوبر، كأول دولة تسعى لتحقيق فكرة الاشتراكية على الأرض. فيما اخذ أصحاب التطور السلمي منحى آخر أوصلهم إلى تجارب دولة الرفاه الأوربي ونظم الاشتراكية الديمقراطية التي لازال البعض منها قائما في أوربا.

وصارت معروفة المآلات التي انتهت إليها تجربة الدولة الاشتراكية السوفيتية التي أخذت شكلا بيروقراطيا فارق مبدأ الاشتراكية الجوهري في حلم الإنسانية بالحرية ونحى منحى دكتاتوريا سخر فيه الإنسان لخدمة الدولة – الفكرة.

لكن هل كانت التجربة السوفيتية شرا وفشلا تامين؟.

كلا بالتأكيد.

سوف لن أتحدث هنا عن التجربة السوفيتية من الداخل، وكيف طبقت المثال الاشتراكي الذي قامت على أساسه، وفيما إذا فشلت في ذلك أم لا؛ ولماذا؟ وكيف؟. فهذا شان آخر، ولكنني أريد التحدث عن قوة المثال التي صنعها وجود الاتحاد السوفيتي وما لعبه من دور تاريخي في سياق مرحلته التاريخية. فالتجربة السوفيتية قد لعبت دورا تاريخيا، بالإضافة إلى عوامل ومكونات أخرى، في وضع فكرة الاشتراكية، موضع التطبيق الضمني في المجتمعات الرأسمالية، وأسهمت في بث قيمها وتطبيقاتها فيه.
لكن! كيف وقع ذلك؟.

نعرف تاريخيا أن النظام الرأسمالي قام على أبشع وأقسى أشكال الاستغلال للإنسان. وهو النظام الذي حول الإنسان إلى سلعة، وشيأه، وولد لديه الشعور المزمن بالاغتراب عبر علاقات السوق والربح والاحتكار. ولم تحمل الفكرة الرأسمالية في ثناياها مفهوما للإنسان يتعدى كونه سلعة قابلة للتبادل والاستثمار. لهذا، فهي، وان ادعت أنها جاءت لتحرر الإنسان، لكنها في الحقيقة قد حررته من عبودية لتدخله في عبودية أقسى، هي عبودية العالم الرأسمالي، وهي عبودية مقنعة ومخفية بمهارة تحت طيات مفهوم الحرية الفردية التي يتمتع بها الفرد شكليا في هذا النظام. ولان جوهر الرأسمالية يتأسس ويعمل على الضد من جوهر الطموح الإنساني في الانعتاق وتحقيق الذات، فرديا ونوعيا، فان أمر مواجهتها وتحديها وفرض حلول لاتناسب طبيعتها الاستغلالية هو، بحكم منطق التاريخ، أمر طبيعي بقدر ماهو ضروري.

ولهذا فقد شهدت المجتمعات الرأسمالية صراعات حادة وعنيفة للحد من الاستغلال الرأسمالي الفاضح للإنسان، أدى بالمحصلة النهائية إلى عقلنه الرأسمالية واكسبها، مكرهة، وجها حضاريا زين بشاعتها، وعدل الكثير من مفاهيمها ومنظوراتها وممارساتها عبر آليات الضغط والمواجهة المضادة التي تبوأت القوى الداعية للاشتراكية موقع الصدارة فيها. وفي هذا كمنت القيمة التاريخية والعملية للتجربة السوفيتية. فالنظام السوفيتي شكل تحديا و (بعبعا) أخاف عالم الرأسمالية، وكان مثالا، على الأقل في ادعاءاته، وفي صورته النقية، ألهَمَ المسحوقين تحت عجلة الرأسمالية وحروبها المدمرة.

وقد شكلت نهاية الحرب العالمية الثانية المنعطف الأكبر في واقع الصراع بين المنظومتين، أو الفكرتين اللتان تتصارعان عالميا، الرأسمالية والاشتراكية. فبعيد انتهاء الحرب، وما خلفته من ماسي وحجم دمار هائلين، وما كشفت عنه من مخاطر المطامح الدولية وانعكاساتها على مصير الإنسان، اضطرت النظم الرأسمالية إلى التنازل والتراجع أمام تصاعد نفوذ فكرة الاشتراكية. فقد كانت معظم دول أوربا في حالة توتر ينذر بإمكان حدوث تحولات باتجاه الشيوعية، لاسيما في البلدان التي خسرت الحرب.كألمانيا وايطاليا. لهذا زجت الولايات المتحدة بقوتها الاقتصادية والدعائية لمنع هذا التحول، فكان مشروع مارشال الذي جاء بعدما عاشت ايطاليا وألمانيا (وحتى الدول التي كسبت الحرب) مصاعب اقتصادية واجتماعية هائلة بسبب خسارتهما للحرب، للحد الذي كان يمكن أن يؤدي إلى الانفجار الداخلي والتحول باتجاهات لاترغبها النظم الرأسمالية، وقد ترافق ذلك مع تصاعد نفوذ الأحزاب الشيوعية التي قادت المقاومة في معظم بلدان أوربا ( بلغاريا بولونيا رومانيا وبدرجة ملحوظة في فرنسا) وأيضا بعد انضمام عدد من هذه البلدان إلى ماسيطلق عليه؛ المنظومة الاشتراكية.

وبولادة الحرب الباردة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبسبب التحول في الاتجاهات العالمية، نشأت حركات تمرد ونزوع نحو الحرية من الاستعمار في البلدان التي رزحت تحت ضغطه سنوات طويلة.

وخلال عقد الخمسينات وما بعده شهدت ساحة الصراع تصاعدا في حدة المواجهة بين المعسكرين المتقابلين، وواجه النظام الرأسمالي ضغوطا من بلدان مااطلق عليه حينها بحركة التحرر في بلدان العالم الثالث، وتمثل بتحرر الكثير من هذه البلدان ونيلها لاستقلالها. وتفاقم الصراع واخذ شكلا مفتوحا وشاملا أثناء أزمة حروب جنوب شرق آسيا، وتواتر الحركات المسلحة في بلدان أمريكا اللاتينية. وكان كل هذا مترافقا ومتساوقا، وعلى امتداد تاريخ نشأة الرأسمالية، مع نشوء حركة عمالية عالمية، مطلبية وديمقراطية الطابع، تركزت بؤرتها في بلدان أوربا الرأسمالية ذاتها. والحركة العمالية العالمية حركة واسعة ضمت في صفوفها طيف مهني واجتماعي وسياسي عريض، من منظمات مهنية، ونقابات، وجمعيات، وأحزاب سياسية، وحركات تمرد، كالحركات الفوضوية وغيرها.

هذه القوى مجتمعة هي التي شكلت قوة الضغط المواجهة للنظام الرأسمالي، وهي الحامل والمنفذ للتطبيقات الاشتراكية داخل منظومته. وان كان التنسيق في عملها وتوجهاتها محدودا، إلا أن نشاطها كان يصب في اتجاه واحد؛ هو مواجهة النظام الرأسمالي والقضاء على شروره. وقد أثمر هذا الجهد وما لازمه من طروحات فكرية وسياسية تسنده، هذا التشكل النوعي للمجتمعات الرأسمالية المشذبة والمنقاة من كثير من الشوائب البنيوية للرأسمالية الذي نراه في بعض بلدان أوربا. وأنجز الكثير مما هو اشتراكي داخل المنظومة الرأسمالية؛ من تحسين شروط سوق العمل، وإشراك العمال في الإدارة، وتحسين ظروف المعيشة، والضمان المهني والصحي والاجتماعي وغيرها الكثير مما هو يعود في أصوله إلى ماحملته فكرة الاشتراكية وحلم العدالة الذي حلمت البشرية ومازالت تحلم في تحقيقه. وهذا الواقع على مايبدو هو الذي أوهم، ومازال يوهم، بعض قصار النظر في تصورهم أن هذا الانجاز الهائل قد تحقق بفعل جوهر الرأسمالية وفكرها اللبرالي، وهو ادعاء تبطله ببساطة السيرة التاريخية للرأسمالية.

في هذا الواقع بالضبط، حققت الاشتراكية نجاحاتها.