عكار: الصعود المتجدّد للصراع الطبقيّ


كميل داغر
الحوار المتمدن - العدد: 3098 - 2010 / 8 / 18 - 12:12
المحور: بوابة التمدن     

أقفل آل مخزومي المعمل وصرفوا العمّال بحجّة الخسائر (أرشيف ــ بلال جاويش)مباشرةً قبل الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة التي امتدت خمس عشرة سنة، شهدت منطقة عكار نموّاً ملحوظاً لصراع الطبقات تَمثَّلَ في نضال فلّاحيها المعدمين ضد أصحاب الملكية الكبرى للأرض، وبالتالي ضد العلاقات شبه الإقطاعية التي كانت سائدة هناك حتى ذلك الحين.
أما ما يتنامى الآن في المنطقة عينها، فهو صراع طبقي من نوع أكثر تقدّماً، متمثلٌ بالاعتصام العمالي الذي يجري حالياً، ومنذ 12 تموز الماضي، أمام أحد أهم معامل أنابيب الفايبرغلاس في الشرق الأوسط، ومقرّه تحديداً منطقة الرمول، على مقربة من حدود قضاء عكار مع الأراضي السورية، في أقصى الشمال اللبناني.
مئةٌ وثلاثون عاملاً مثبَّتاً، من أصل أكثر من أربعمئة عامل، معظمهم مياومون، يتناوبون، على مدى 24 ساعة من أصل 24 ساعة، يومياً، على الاعتصام تحت خيمة نُصبت أمام مجمَّع المستقبل لصناعة أنابيب الفايبرغلاس، في المنطقة المحاذية لمطار القليعات، في سهل عكار الفسيح، وعلى مرمى حجر من البحر. مطلبهم الأساسي إعادة فتح المعمل الذي أغلقه أصحابه، بحجة تراكم الخسائر منذ خمس سنوات، فيما يؤكدون أن المعمل كان يربح باطّراد، منذ إنشائه الذي يعود إلى عام 1994. ومن بين ما يثبت قناعتهم هذه الأمور الآتية:
1 ـــــ منذ بدء العمل في الشركة، التي يملكها السيد فؤاد مخزومي وأولاده، والعمال الذين يشتغل جزء مهمّ منهم فيها، منذ حوالى ستة عشر عاماً، بقوا يعملون حتى نهاية العام الماضي 2009، بدوام 14 ساعة يومياً، وبدون تعطيل في أيام الآحاد والأعياد، وحتى في العطل السنوية، بسبب الوفرة القصوى للطلبات على إنتاج المعمل، ولتلبيتها كلّها، مع ما كان يسببه ذلك من استنزاف أقصى لقوة عملهم، يرتدّ سلباً على صحتهم. علماً بأن العديدين بينهم مصابون بالسرطان الناتج من مواد مسرطنة تدخل في إنتاج البضاعة المشار إليها. ومعظم العمال يعانون آلام الظهر، من جهة، بسبب أحمال ثقيلة يضطرون إلى نقلها، وقلة السمع، من جهة أخرى، بسبب الضجيج الكبير الذي تسبّبه الآلات خلال تشغيلها، عدا أوجاع الرأس، وما إلى ذلك.
2 ـــــ التناقض الذي يقع فيه أصحاب المعمل، الذين يبرّرون إقفال المعمل بالخسائر المتمادية، طيلة أكثر من سنوات خمس مضت حتى الآن، فيما يعترفون، في نصوص موثَّقة صادرة عنهم، في السنوات الأخيرة، عينها، بأنّ المعمل كان يعمل بربح واضح وبدون أي مشاكل مالية، كما يظهر، على سبيل المثال، في البيان الذي قرأه في أواخر عام 2007 المدير العام للمصنع السيد أنطوان حبيب، خلال الأزمة التي حصلت آنذاك، وتمثّلت في انتخاب العمال نقابة لا يرضى عنها أصحاب المعمل، مبيِّناً فيه أنه «واحد من 17 مصنعاً موزعاً حول العالم» وتابعاً للمجموعة عينها، وأنه «لا مشاكل مالية ذات صلة بما يحصل في هذا المصنع»، ومكرراً من ثم أن «الشائعات مغرضة ولا أساس لها من الصحة».
3 ـــــ أن أصحاب المعمل اشتروا في غضون عام 2009 آلة مهمّة بمبلغ مليوني دولار لتكثيف الإنتاج فيه وتحسينه.
4 ـــــ أنهم واظبوا على امتداد السنوات التي يزعمون الخسارة خلالها، على تقديم علاوات ومكافآت إلى جميع العمال، تعبيراً عن رضاهم عن سير العمل، وازدهار التسويق، وشكرهم لضخامة الإنتاجية وفعاليتها، كما يظهر على سبيل المثال بوجه أخصّ في أكثر من رسالة وجَّهتها الإدارة وأصحاب المعمل إلى رئيس نقابة العمال في المصنع، السيد عباس البضن، كما إلى العمال جميعاً. ففي رسالة إلى البضن في أوائل عام 2009 وجَّهها أحد اصحاب المعمل، السيد رامي مخزومي، يقول:
«إن قرار زيادة الرواتب ودفع المكافآت هو دليل على إيمان مالكي الشركة بكم، وخصوصاً بعد تحقيق النجاح المطلوب لعام 2008 (...)»، ويضيف: «أنا كلّي ثقة بأنك بتضامنك وإخلاصك في عملك ستساعدنا على تخطي الأزمات، مما يدفعني إلى التفاؤل بإمكان تحقيق أهدافنا المرجوَّة لعام 2009، التي ستتيح لنا الاستمرار في دفع المكافآت المقبلة فقط إذا تمكنت المجموعة أو الشركة من أن تحقق أو تتجاوز أهدافها المالية التي وضعتها لعام 2009».
وبما أن الشركة دفعت المكافأة الموعود بها، فهذا دليل على أنه جرى تحقيق الأهداف المالية المشار إليها، أو تجاوزها، بما يدحض بالكامل مزاعم الشركة الكاذبة بشأن خسائر منيت بها في السنوات الأخيرة، تزيد على الثمانية مليارات ليرة لبنانية!!

الوزارة تتواطأ مع أرباب العمل

قبل إقفال المعمل بأيام عدة، وبالتحديد في تاريخ 5/7/2010، تقدمت نقابة العمال بطلب إلى وزارة العمل تطلب فيه قيام هذه الأخيرة بالوساطة في ما بينهم وبين أرباب العمل، ولا سيما للحيلولة دون إقفال المصنع، وضمان ديمومة العمل لمئات الشغّيلة، المثبّتين منهم، والمياومين. لكن الوزارة عمدت إلى المماطلة، بادئ ذي بدء، حيث إنّ أول جلسة دعت إليها جاء موعدها في 22 تموز الماضي، بدلاً من تعيين واحدة سريعة، في الأيام القليلة التي تلت يوم تسجيل الطلب. وهو ما أتاح لآل مخزومي أن يسارعوا إلى إقفال المعمل وصرف العمال، بحجة الخسائر (!!)، وذلك في 12 تموز بالذات وبعد سبعة أيام فقط على تقديم طلب الوساطة، ما يتنافى تماماً مع المادة 63 من قانون الوساطة والتحكيم، التي تنص على ما يلي:
«يكون غير شرعي كل توقّف عن العمل، من قبل الأُجراء أو أصحاب العمل، بسبب نزاع عمل جماعي، قبل وأثناء مرحلة الوساطة، وأثناء مرحلة التحكيم».
هذا وعلى الرغم من أن النقابة قدمت الإثباتات الدامغة على أن المصنع كان يعمل بربح، وطلبت تعيين خبير يتولى دراسة حسابات الشركة لتبيان حقيقة الخسارة أو الربح، فقد سارعت الهيئة المختصة في وزارة العمل (مصلحة العمل والعلاقات المهنية، ممثّلةً برئيسها) إلى تبنِّي كامل مزاعم آل مخزومي سلفاً، ومن دون التدقيق فيها بالوسائل القانونية المتعارف عليها، الأمر الذي يكشف مدى التواطؤ بينها وبين هؤلاء ،وامتناعها عن إحقاق الحق، انطلاقاً من موقف غير حيادي وغير قانوني ومنحاز. وهو ما وضع النقابة ومن تمثّلهم أمام مأزق واضح، بحيث باتوا مضطرين إلى إقامة دعاوى فردية أمام مجلس العمل التحكيمي، للمطالبة بتعويضات وحسب لا يمكن أن تمثّل، في واقعها القانوني الراهن، أكثر من مخدِّر بسيط لآلامهم ومشاكلهم المترتبة على الصرف التعسفي الفاضح الذي يتعرضون له. فبعد ستة عشر عاماً من الكدح القاسي وأمراض الوظيفة، يجدون أنفسهم عند نهايتها وقد باتوا في الشارع عُزَّلاً إلا من البؤس والقهر، والآفات التي تلازم التواصل على مدى سنوات مع مواد مسرطنة خطيرة، وبوجه أخص، عاطلين من العمل!!

لكنهم صامدون في اعتصامهم

خلال الأسابيع الأربعة والنيَّف الماضية من الاعتصام أمام المعمل، وأشكال عديدة أخرى من الضغط (سوف نوردها أدناه) لإعادة فتح المعمل، تعلَّم عمال مجمَّع المستقبل لصناعة الأنابيب، في عكار، أموراً عديدة في صراعهم مع خصومهم الطبقيّين، ومع الدولة التي تتواطأ مع هؤلاء وتغطي قهرهم واضطهادهم للمنتجين الحقيقيّين للثروة الاجتماعية.

عمّال مجمَّع المستقبل لصناعة الأنابيب في عكار، يعطون اليوم دروساً في التنظيم الذاتيوعلى الرغم من أنهم عانوا، في مرحلة أولى من اعتصامهم، تعتيماً تاماً تقريباً على تحركهم، وغياب أيّ تغطية له من جانب وسائل الإعلام، وأيّ تضامن معلن، بالتالي، من جانب كل القوى السياسية والاجتماعية والنقابية، المطالََبَة بتقديم الإسناد والدعم لنضالهم، فإن التغطية الإعلامية تتحسن باطّراد، وإن لم تكن قد وصلت إلى المستوى الذي يتطلبه تسليط الضوء، ساطعاً، على تحرك عمّالي فريد. ويتميّز الآن هؤلاء العمال بأنهم يتعلمون سريعاً من تجربتهم، ومن التضامن المتواضع، ولكن المؤثر، الذي باتوا يحصلون عليه من أكثر من قوة نقابية وسياسية ثورية، سواء داخل لبنان، أو خارجه، ولا سيما من جانب عمال مصر، في المجمَّع المشابه هناك، الذي يملكه أيضاً آل مخزومي بالذات. إنّ استيعابهم السريع لدروس تجربتهم يدفع بهم إلى أن يجمعوا بين خوض المعركة القانونية ضد الشركة، أمام مجلس العمل التحكيمي، لحفظ حقهم في التعويضات الفردية، وخوضها، في آن واحد، بوسائل أخرى، في مقدمتها الصمود في اعتصامهم، واحتجاز المنتجات والآلات والمواد الأولية التي يضمها، كوسيلة من وسائل الضغط لأجل هدفهم الأساسي المتمثّل في إعادة فتح المعمل، رغماً عن إرادة أصحابه، وعن موقف وزارة غالباً، وغالباً جداً، ما اصطفَّت إلى جانب هؤلاء في وجه العمال؛ وفي أسوأ الأحوال، إذا فشلوا في تحقيق هذا الهدف، الحصول على تعويضات تتناسب ولو جزئياً مع تضحياتهم ودورهم الحاسم في بناء المعمل وازدهاره، وما حققه من أرباح فاحشة، في الحقيقة، لمصلحة أصحابه. وقد حددت نقابة عمال المصنع هذه التعويضات،على الشكل التالي:
1ـــــ بدل أجر 50 شهراً لمن لديهم خدمة إحدى عشرة سنة وما فوق.
2ـــــ بدل أجر 36 شهراً لمن لديهم ما بين ست وعشر سنوات.
3 ـــــ بدل أجر 24 شهراً لمن لديهم خدمة أقل من ست سنوات.
مع الأخذ بعين الاعتبار الحقوق القانونية الأخرى والحالات المرضية وإصابات العمل والأمراض المهنية.

أشكال النضال المطروحة

ثمة أشكال شتّى للنضال لجأ إليها العمال المشار إليهم، إلى الآن، من أجل نيل حقوقهم، بانتظار اللجوء إلى أشكال أخرى قد يكونون مدعوّين إلى سلوكها لاحقاً.
ففي ما يخص الأشكال الأولى، أصدروا بياناً إلى الجمهور يوضح قضيتهم وملابساتها. ثم عمدوا إلى توزيعه بكثافة في القرى والمدن المحيطة بمعملهم، وعقدوا مؤتمراً صحفياً في مقر الاتحاد العمالي العام، في الرابع من آب الحالي، تكلم فيه، إلى جانب رئيس النقابة رئيسُ الاتحاد، واعداً بتقديم أقصى الدعم الممكن إلى عمال المستقبل للأنابيب.
وهو وعد لا يزال هؤلاء ينتظرون الوفاء به، مع الكثير من القلق، ولا سيما لملاحظتهم ضآلة عدد وسائل الإعلام التي غطت المؤتمر، المفترض أنّ الاتحاد بالذات هو الذي دعا إليه، بطلب من النقابة التي تمثل العمال المنوَّه بهم، في وقت يعرفون فيه أن وسائل الإعلام القليلة المشار إليها حضرت بدعوة منهم بالذات، ومن مجموعة اشتراكية ثورية تقدِّم منذ البداية أقصى ما تستطيع من التضامن مع ظاهرة طبقية واعدة، في مرحلة من التراجع العميق، في بلدنا، للوعي الطبقي ، وما يفترض أن يتلازم معه، على صعيد صراع الطبقات.
فضلاً عن ذلك، وعلى رغم بُعد المعمل الذي كانوا يعملون فيه، والمنطقة التي ينتمون إليها، جاء قسم منهم للاعتصام ولو بصورة مؤقتة، في تاريخ سابق من هذا الشهر، أمام مدخل مركز البيال (Biel)، في بيروت، حيث كان يقيم السيد فؤاد مخزومي مأدبة عشاء على شرف رئيس الوزراء الحالي، سعد الحريري، ورفعوا اللافتات التي تتضمن مطالبهم، وإن كانوا قد اضطروا بعد ذلك الى المغادرة، بضغط من حراس الحريري، من جهة، ورجال الشرطة، من جهة أخرى.
هذا وقد التقى نائب رئيس النقابة وفداً فرنسياً من الحزب الجديد لمناهضة الرأسمالية كان يزور لبنان في النصف الأول من شهر آب الحالي، وعرض قضيته وقضية رفاقه، وحصل على وعد بتسليط الضوء، في فرنسا وبلدان أوروبية أخرى (ولا سيما تلك التي توجد فيها فروع لمعمل آل مخزومي للأنابيب)، على نضال عمال عكار، وتوجيه النداء لأجل أوسع تضامن نقابي وعمالي هناك مع العمال المنوّه بهم، سواء على المستوى المعنوي، أو على المستوى المادي البحت، بما يتيح صمود هؤلاء في تحركهم حتى نيل مطالبهم الأساسية.
أما بخصوص الأشكال النضالية المطروحة لمرحلة قادمة من هذه السيرورة النضالية، التي ستكون مجالاً للتداول والنقاش في الجمعيات العمومية اللاحقة لعمال المصنع، فهي، عدا الاستمرار في توسيع دائرة التضامن في لبنان، والمنطقة العربية (حيث ثمة معامل عديدة تابعة لآل مخزومي في أكثر من بلد عربي، ولا سيما في بلدان الخليج)، وفي العالم أيضاً ، التفكير جدياً في احتمال مبادرة العمال بأنفسهم إلى فتح المعمل، في تاريخ لاحق، وإعادة تشغيله، تماماً كما سبق أن أظهرت تجارب عمالية عديدة في شتى أنحاء العالم، كان آخرها في الأرجنتين، في السنوات الأولى من هذا العقد ، إزاء إغلاق أرباب العمل معاملهم بحجة... الإفلاس!!!
لقد أقفلت معامل كثيرة في لبنان، في العقدين الأخيرين، ولكن من دون أيّ ضجيج، ووسط سلبية واضحة لدى عمال تلك المعامل. وإنه لبالغ الأهمية أن يكون عمّال مجمَّع المستقبل لصناعة الأنابيب، في عكار، يعطون اليوم دروساً في التنظيم الذاتي، والنضال المدروس والمستبسِل، لأجل مطلب بديهي للطبقة العاملة اللبنانية، وأي طبقة عاملة عبر العالم، ألا وهو حماية ديمومة العمل ورفض إقفال المصانع، عند أول تراجع في نسبة الأرباح التي يحصل عليها أصحابها، وذلك بشتى الأساليب النضالية، حتى لو استلزم ذلك احتلال المعامل المقفلة وإعادة تشغيلها من جانب عمالها أنفسهم.
* محامٍ لبناني

الاخبار