تأسيس عصبة التحرر الوطني في فلسطين وخطواتها الأولى 2


ابراهيم حجازين
الحوار المتمدن - العدد: 3050 - 2010 / 7 / 1 - 14:19
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

يحدد البيان العام للعصبة الصادر في 1شباط 1944 المرحلة الراهنة التي تمر بها فلسطين بأنها مرحلة النضال من اجل الاستقلال الوطني. ويؤكد البيان أن النضال ضد الفاشية هي ضمانة من اجل السلام العالمي وذلك يتطلب إعطاء الشعوب حريتها وحقها في تقرير المصير، وتشير العصبة أن الحرب ضد الفاشية تلهم حركتنا الوطنية وتفتح الطريق أمام نشاط مثمر لتحرير الوطن. وبهذا البيان تؤكد العصبة نظرتها للقضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني كجزء من النضال العالمي ضد الفاشية. وهي تشير انه من الضروري وجود حركة وطنية موحدة تقود الشعب في النضال الوطني. وشرط هام لتحقيق الهدف هو الوعي الشعبي الذي يتطور تحت تأثير الأحداث العالمية، وانتصار القوى الوطنية في العالم والدول العربية. وطرحت العصبة هدف رئيسي لها تشكيل تحالف قومي شعبي، وبهذا رمت العصبة إلى إيضاح بعدها عن القيادة التقليدية من خلال تشكيل تحالف واسع شعبي.
الفكرة الرئيسة للبيان الوطني للعصبة تمركزت حول تنظيم النضال من اجل تحرر واستقلال فلسطين، لذا دعت العصبة كل قوى الشعب أن تتوحد في جبهة وطنية، وصاغت العصبة برنامجها والموجه نحو كسب القاعدة الاجتماعية العريضة القادرة حقا على توحيد كل طبقات وفئات الشعب الفلسطيني.
تشير العصبة في وثائقها أيضا للوسائل والأساليب التي ستحقق من خلالها أهدافها، وهنا تشير العصبة أنها ستستخدم النشاط الوطني السياسي المشروع ومن هنا أعلنت النضال السلمي كشكل وحيد للنضال، وإلى جانب هذا طرحت العصبة مهمة رفع مستوى الوعي الوطني للعرب الفلسطينيين وعلى هذه القاعدة أن تقوي من المقاومة للفاشية. وهذا سيتم من خلال إصدار الصحف والمجلات والنشرات والدعوة للاجتماعات والتجمعات.
البرنامج الوطني للعصبة تضمن 19 نقاط سبعة منها حول المسألة القومية التحررية، والنقاط الباقية تتعلق بالمطالب الاقتصادية والاجتماعية. في الجانب السياسي تشير العصبة أن هدفها هو التحرر الوطني واستقلال فلسطين وتوطيد العلاقات الاقتصادية والثقافية بين البلاد العربية وفلسطين، وجعل العلاقة مع بريطانيا طبيعية على أساس مبدأ المساواة والعدالة، وفيما يخص اليهود طالبت العصبة بوقف هجرتهم ووقف انتقال الأراضي العربية إلى الأيدي الأجنبية. كما ربطت العصبة النضال من اجل الاستقلال مع ضمان الحريات الديمقراطية العامة والفردية، مثل حرية العقيدة والتعبير والصحافة والاجتماعات وتشكيل الأحزاب والجمعيات والنقابات، واحترام المعتقدات الدينية للإنسان. أما بالنسبة لإدارة البلاد عبرت العصبة في البرنامج أنها يجب أن تتحقق من جانب الشعب العربي الذي سيعطي الحق لكل الأقليات أن تعيش بسلام في وطن عربي حر هو فلسطين.
تحليل البرنامج السياسي للعصبة يكشف أنها بدقة حددت الهدف الرئيسي وهو استقلال فلسطين، ووضحت الطابع بواقعية الطابع الديمقراطي للدولة الفلسطينية المستقلة كما رسخت أساس للعلاقات المستقبلية المطلوبة مع بريطانيا. وموقفها من الهجرة والاستيلاء على الأراضي كان يعبر عن المطالب العربية في فلسطين كذلك الأمر بالنسبة لمطلبها بإقامة الدولة العربية، مع الإشارة لضرورة طمأنة الأقليات باحترام حقوقها. لابد من التوضيح هنا أن العصبة بدت وكأنها تتغاضى عن مسألة الوجود اليهودي الذي ازداد عددا وقوة ولم تضع سياسة في بداية نشأتها للتعامل مع هذه المسألة الخطيرة بالنسبة لمستقبل البلاد خاصة وان التجمع الاستيطاني اليهودي أصبح قويا لدرجة التحضير لإعلان كيانه السياسي في تلك الفترة من نهاية الحرب العالمية الثانية.
فيما يخص السياسة الاقتصادية والاجتماعية صاغت عصبة التحرر مطالبها معبرة عن مصالح أوسع الجماهير الشعبية وخاصة العمال والفلاحين والمثقفين، دون أن تغيب دور ومصالح الطبقات والفئات الاجتماعية في التحرر الوطني لهذا أكدت في برنامجها على مصالح المنتجين في القرية والمدينة، ومن هنا كان مطلب العصبة بضرورة رفع المستوى المعيشي للفلاح الفلسطيني وضرورة إقرار تشريع في مصلحة الشغيلة وتطوير الثقافة والفلكلور والعلماء والمختصين.
كان واضحا توجه العصبة لتصبح المعبر عن مصالح كل طبقات المجتمع الفلسطيني، عدا تلك المرتبطة بالاستعمار. وحسب رأي العصبة انه بهذا يتم بناء القاعدة لتوحيد السكان الفلسطينيين في النضال ضد الاستعمار البريطاني والصهيونية.
وأشارت العصبة انه لتطوير الاقتصاد الوطني لا بد من تنشيط التجارة والاقتصاد الريفي، واستيراد الآلات الزراعية وضمان المواد الأولية والتوسع في الري الاصطناعي وتطوير والدفاع عن الصناعة الوطنية وتحسين الطرق بين المدن والقرى.
كان النظام الأساسي للعصبة تعبيرا منطقيا عن برنامج وطابع ومكونات وجذور العصبة. ففي النظام الداخلي تفتح أبواب العضوية للعرب، الذين يقبلون برنامج ونظام العصبة الداخلي ويعملون في إحدى منظماتها ويدفعون الاشتراك المالي، الذي حدد حسب قدرات المتقدم للعضوية مما يفتح باب العضوية واسعا أمام الكادحين. في النظام الداخلي عرفت نفسها كطليعة للطبقة العاملة والفلاحين الفقراء والمثقفين الثوريين،كما أعطت الحق لأي عربي دون تحديد طبقي أن يصبح عضوا فيها.
أكدت العصبة في نظامها الداخلي أن مبدأها التنظيمي يقوم على أساس المركزية الديمقراطية، وهذا التحديد بالذات دفع العديد من الباحثين أن يصفوا العصبة كحزب شيوعي قومي، مع أن القبول بمبدأ المركزية الديمقراطية لا يعني أن العصبة حزب شيوعي، لكن ظهوره في أدبيات العصبة كان محددا بظرف أن معظم أعضائها كانوا أعضاء سابقين في الحزب الشيوعي الفلسطيني أو ماركسيين ونقلوا بالتالي تجربتهم التنظيمية إلى المنظمة التي أسسوها، لكن لم يتطرق أي من البرنامج أو النظام الداخلي إلى صيغة تبني العصبة للفكر الماركسي-اللينيني كما دأبت أن تفعل الأحزاب الشيوعية في ذلك الحين.
مع إعلان برنامج العصبة ونظامها الداخلي ظهرت إلى الوجود منظمة سياسية جديدة، إن كان من ناحية طابعها او مكوناتها ونشاطها، أو من ناحية تميزها عن القوى السياسية التقليدية. وهكذا مثل هذا بداية مرحلة جديدة في نضال الجماهير الشعبية. حيث لأول مرة يتم وضع مصالح هذه الجماهير ومطالبها كأساس لبرنامج قوة سياسية فلسطينية المرتبطة بالعمل من اجل التحرر والاستقلال الوطني. وبهذا أصبحت العصبة ممثلا لمصالح أوسع الجماهير في النضال من أجل الاستقلال القومي في فلسطين.
إذن جاء تأسيس عصبة التحرر الوطني في فلسطين محددا بالتغيرات الموضوعية التي جرت في البلاد وما ترتب على تطبيق المشروع الاستعماري البريطاني والمشروع الاستيطاني الصهيوني. فكان لظهور قوى اجتماعية جديدة في المجتمع العربي الفلسطيني، خاصة في ظروف الحرب العالمية الثانية، وإنعاش وإحياء الحركة العمالية النقابية وتوسع النزعات الديمقراطية في أوساط المثقفين الفلسطينيين وكذلك الأمر انتشار الأفكار الاشتراكية الفضل في تشكيل منظمة لم يعرف مثلها المجتمع الفلسطيني من قبل. لكن لا بد أن نتطرق إلى واقعة سيكون لها الأثر على مستقبل العصبة ويفسر بهذا الشكل أو ذاك الخلافات التي كانت تكمن خلف وحدتها التنظيمية ونشاطها الجماهيري، يقول موسى قويدر وهو مناضل نقابي نشط منذ النصف الثاني من الثلاثينات وأصبح لاحقا من قادة الحزب الشيوعي الأردني ومن الذين انضموا مبكرا للعصبة: في عام 1944 عقد اجتماع بين شيوعيي العصبة والحزب في سبيل توحيدهم ترأسه مخلص عمرو، وحضره أميل توما، وتوفيق طوبي، وأميل حبيبي، ومحمد نمر عودة، وخليل شنير، وغيرهم، شعرت في هذا الاجتماع أن هناك خلافا عميقا بين الطرفين فخرجت من الاجتماع عضوا في عصبة التحرر الوطني، وأيضا عينت سكرتيرا للجنة يافا.( عناد أبو وندي –الحوار المتمدن،لمحة عن حياة النقابي موسى قويدر) يبدو أن هذا الاجتماع قد جرى بعد إعلان العصبة لبيانها الأول ويشير أن الخلافات بين المكونات الرئيسة للعصبة كانت مستمرة وسنلاحظ ذلك بتواتر خلال مسيرة العصبة اللاحقة.
وكان معظم المبادرين لتشكيل العصبة ذو علاقة بهذا الشكل أو ذاك إما بالحزب الشيوعي الفلسطيني أو بالأفكار الماركسية لكنهم بوعي ناضج لم يتطرقوا إلى اعتناقهم الأيديولوجية الاشتراكية وكما اعتقد أن ذلك ينبع من تشخيصهم لطبيعة المرحلة التي كانت فلسطين تمر بها. ومن هنا جاء سعي مؤسسي العصبة لجذب أوسع الجماهير الشعبية للنضال الوطني من خلال إنشاء منظمة تتميز بسمات خاصة، تميزها كمنظمة يسارية مرتبطة بالطبقة العاملة والفلاحين والمثقفين والطلبة والتجار الصغار والحرفيين وهم الفئات الأكثر معاناة من المشروع الاستعماري الاستيطاني والأكثر استعدادا للنضال والتضحية في سبيل القضية الوطنية.
كانت عملية تشكيل العصبة ذات طبيعة متناقضة. وهي نابعة من ظروف فلسطين الخاصة كنتيجة لتحقيق المشروع الصهيوني من جهة وبالتالي كانت العصبة ذات طابع وطني تحرري، ارتبطت المنظمة بالأفكار الديمقراطية التي فرضها الكفاح العالمي ضد الفاشية، ومن جهة أخرى أنشئت العصبة كجزء من الحركة القومية العربية في فلسطين في ظروف الصراع والتناقض الحاد والعداء العربي للوجود اليهودي على الأرض الفلسطينية. وهذا حد من قدرة العصبة على صياغة برنامج تحرري قادر على تلمس الضرورات الجديدة التي يفرضها الوجود الاستيطاني والوقائع المفروضة. لكن رغم هذه النواقص شكل تشكيل العصبة عامل إيجابي في النضال القومي الفلسطيني، فللمرة الأولى تظهر منظمة مختلفة كليا عن القوى السياسية السائدة في المجتمع، ومن هنا دلت التجربة التاريخية إمكانية بناء أحزاب جماهيرية واسعة بتوجه يساري دون التقيد بتوجه أيديولوجي محدد. وأعطى تشكيل العصبة ليس فقط للحركة الوطنية الفلسطينية لكنه حدد موقع القضية الفلسطينية كجزء من النضال العالي ضد الفاشية. ولهذا الهدف أصدرت العصبة نشرات أسبوعية توضح من خلالها رؤاها وفهمها للعديد من القضايا الدولية والمحلية.
حددت العصبة كما يظهر من أدبياتها طابع الحرب العالمية الثانية انطلاقا من الواقع الفلسطيني كحرب وطنية تحررية ضد العدوان النازي ويشير إميل توما سكرتير العصبة في نشرتها الرابعة أن هزيمة النازية تعني تحرير الشعوب التي ستقرر مصيرها بنفسها ويقول أن اتحاد عظيم يضم شعبنا مع شعوب الاتحاد السوفيتي وبريطانيا العظمي وأوروبا والشعوب الأخرى، وان حركتنا الوطنية هي حركة تحررية تربط مصيرها بمصير تلك الشعوب التي تناضل من أجل حريتها.
بهذه الطريقة وللمرة الأولى يقوم تيار سياسي فلسطيني وبشكل واضح بتحديد موضعه في الصراع العالمي أي إلى جانب الشعوب ضد الفاشية، وهنا ترفض العصبة التوجه لربط مصير القضية الفلسطينية بالدعاية الفاشية التي وجدت لها طريقا في فلسطين في تلك الظروف. وكان هذا يعبر عن القناعة العميقة المتولدة لدى العصبة بأن انتصار الشعب الفلسطيني مرتبط بنضاله مع باقي الشعوب من أجل السلم والديمقراطية في العالم.
قادة العصبة كانوا على معرفة بضرورة الوحدة وتشكيل جبهة موحدة لكل الطبقات والفئات الاجتماعية للشعب. وهذا الموقف كان مبنيا على الاستنتاج الصائب أن الاستقلال الوطني يمثل مصلحة لكل الشعب. وبشكل صحيح ربطت العصبة مصلحة مختلف الطبقات بهذا الهدف، لذا دعت كما ورد في مقال موسى الدجاني رئيس العصبة العمال والفلاحين والمثقفين والتجار والصناعيين للنضال العام لتحقيق ذلك الهدف.
إلى جانب النشاط الدعائي والتحريضي أعطت العصبة اهتماما كبيرا للعمل الجماهيري. وأقامت لهذا الهدف علاقات وثيقة مع رابطة المثقفين وعصبة مكافحة النازية ومع اتحاد النقابات والجمعيات العمالية، كما أن عددا كبيرا من عضويتها من العمال كانوا أعضاء في جمعية العمال العرب الفلسطينيين.