ملحق: تخطيط لنقد الاقتصاد السياسي


فريدريك انجلز
الحوار المتمدن - العدد: 3647 - 2012 / 2 / 23 - 09:35
المحور: الارشيف الماركسي     

ملحق: تخطيط لنقد الاقتصاد السياسي

("تخطيط لنقد الاقتصاد السياسي" هو أول عمل اقتصادي لفريدريك إنجلز يدرس فيه النظام الاقتصادي البورجوازي من زاوية الاشتراكية. وقد كان ماركس يقدر هذا العمل تقديرًا بالغًا – حتى فيما بعد – ويعتبره "تخطيطًا رائعًا لنقد المقولات الاقتصادية" (أنظر مقدمة "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" – 1859) "ويشهد هذا المقال بابتعاد إنجلز النهائي عن المثالية إلى المادية، وعن الديمقراطية الثورية إلى الشيوعية، إلا أنه لا يخلو من تأثير الشيوعية" الفلسفة الأخلاقية. فلا يزال إنجلز في عدد من الفقرات ينتقد المجتمع البورجوازي من زاوية المبادئ المجردة للأخلاق الكلية والإنسانية – الناشر(.



بقلم: فريدريك إنجلز



ولد الاقتصاد السياسي كنتيجة طبيعية لاتساع التجارة، ومع ظهوره حل محل الغش غير العلمي نظام متطور من التدليس المرخص به – اقتصاد كامل من السعي إلى الثراء.



ويحمل هذا الاقتصاد السياسي – أو علم الإثراء الذي تولد عن حسد التجار وجشعهم المتبادل – طابع الأنانية البغيضة على جبهته. فقد كان الناس لا يزالون يعيشون على إيمان ساذج بأن الذهب والفضة هما الثروة، ولا يعتبرون شيئًا أكثر أهمية من أن يحظر في كل مكان تصدير المعادن "الثمينة". وواجهت الأمم بعضها البعض كأشحاء يقبض كل منها بكلتا يديه على حافظة نقوده الثمينة، وهي تنظر إلى جيرانها بحسد وشك. وكل وسيلة متصورة تستخدم لكي تبتز من الأمم التي تتاجر خمعها أكبر قدر ممكن من النقود، ولكي تحتفظ بأحكام داخل حدودها الجمركية بما أسعدها الحظ بجمعه.



غير أن المراعاة المنسقة المتشددة لهذا المبدأ كان يمكن أن تقتل التجارة ومن هنا بدأ الناس يمضون إلى أبعد من هذه المرحلة، وبدأوا يدركون أن رأس المال الذي يغلق عليه في صندوق هو رأس مال ميت، وأن رأس المال المتداول يضاعف نفسه على الدوام. فأصبحوا عندئذ أكثر ميلاً للخير، وأخذوا يرسلون نقودهم كالطيور لتعود بغيرها معها، ويدركون أنه لا ضرر من أن يدفعوا إلى "أ" كثيرًا مقابل سلعته طالما أنهم يستطيعون التصرف فيها إلى "ب" بسعر أعلى.



وعلى هذا الأساس قام المذهب التجاري. لقد بدأ إلى حد ما إخفاء الجشع التجاري. وتقاربت الأمم قليلاً، وعقدت فيما بينها اتفاقات التجارة والصداقة، وتاجرت مع بعضها البعض، ومن أجل مزيد من الأرباح تعاملت بكل حب ورفق ممكن. ولكن في الأساس ظلت هناك تلك الرغبة العارمة القديمة في النقود، وتلك الأنانية التي تفجرت من وقت لآخر في الحروب، التي كانت تستند كلها في تلك الأيام إلى الغيرة التجارية. وأصبح من الواضح كذلك في تلك الحروب أن التجارة – كالسرقة – تقوم على قانون اليد الأقوى. فلم يكن ثمة حرج من أي نوع في التوصل بالخديعة والعنف إلى تلك المعاهدات التي تعد أكثر ميزة.



والنقطة الأساسية في كل المذهب التجاري هي نظرية الميزان التجاري. فلأنهم كانوا لا يزالون يتمسكون بالمبدأ القائل أن الذهب والفضة هما الثروة لم يكونوا يعتبرون صفقات ما مربحة إلا تلك التي تجلب في النهاية نقودًا سائلة إلى البلاد. وللتحقق من ذلك كانت تتم مقارنة الصادرات بالواردات، وحين تزيد الصادرات عن الواردات، كان المعتقد أن الزيادة جاءت إلى البلاد في شكل نقود سائلة، وأن البلاد قد ازدادت غني بمقدار هذا الفارق.



ومن هنا كان فن الاقتصاديين يتألف من ضمان أن يكون التوازن في نهاية العام لصالح الصادرات على الواردات، ومن أجل هذا ذبح الآلاف من الناس. فلقد كان للتجارة أيضًا حملاتها الصليبية ومحاكم تفتيشها.



وأدى القرن الثامن عشر – قرن الثورة – إلى إضفاء طابع ثوري على الاقتصاديات كذلك. ولكن تمامًا كما كانت كل ثورات هذا القرن ثورات أحادية الجانب انتهت إلى تناقضات – تمامًا كما وضعت المادية المجردة في مقابل الروحية المجردة، والجمهورية مقابل الملكية، والعقد الاجتماعي مقابل الحق المقدس – فإن الثورة الاقتصادية بالمثل لم تمض إلى أبعد من التناقض. وظلت المقدمات سارية في كل مكان، فالمادة لم تنازع المسيحية في احتقارها للإنسان وامتهانه، وإنما اكتفت بأن وضعت الطبيعة بدلاً من الإله المسيحي باعتبارها المطلق الذي يواجه الإنسان. وفي السياسة لم يكن أحد يحلم بدراسة قضية الدولة باعتبارها دولة. ولم يخطر للاقتصاديات أن تتشكك في صحة الملكية الخاصة. ومن هنا لم تكن الاقتصاديات الجديدة سوى نصف تقدم، لقد أجبرت على أن تخون مقدماتها هي وتتنكر لها، وعلى أن تلجأ إلى المغالطة والنفاق حتى تخفي التناقضات التي وقعت في شراكها، وحتى تصل إلى تلك الاستنتاجات التي لم تكن تدفعها إليها مقدماتها وإنما الروح الإنسانية للقرن. وهكذا اتخذت الاقتصاديات طابعًا خيريًا، لقد سحبت خدماتها من المنتجين ومنحتها للمستهلكين. وتظاهرت بالنفوق البالغ من الإرهاب الدموي للمذهب التجاري، وأعلنت التجارة رابطة صداقة واتحاد بين الأمم، كما هي بين الأفراد، لقد كان كل شيء إشراقًا وروعة خالصة – بيد أن المقدمات سرعان ما فرضت ذاتها، وتوصلت بدلاً من هذه الخيرية الزائفة إلى نظرية مالتس عن السكان – وهي أكثر النظريات التي وجدت فجاجة وقسوة، إنها مذهب من اليأس يمحو كل تلك العبارات الجميلة عن حب الجار وعن المواطن العالمي. لقد ولدت المقدمات وغذت نظام المصنع والعبودية الحديثة، التي لا تقل أبدًا في قسوتها ولا إنسانيتها عن العبودية القديمة، وكشفت الاقتصاديات الحديثة – مذهب التجارة الحرة القائم على كتاب آدم سميث "ثروة الأمم" – أنها نفس النفاق وعدم الاتساق واللا أخلاقية التي تواجه البشرية الآن في كل مجال.



ولكن ألم يكن مذهب سميث إذن تقدمًا؟ أجل كان تقدمًا، بل تقدمًا ضروريًا. لقد كان ضروريًا للتطويح بالمذهب التجاري باحتكاراته وعرقلته للتجارة، حتى يمكن أن تظهر في الضوء النتيجة الحقيقية للملكية الخاصة، كان ضروريًا حتى تنزاح كل هذه الاعتبارات الصغيرة والمحلية والقومية إلى الخلف، حتى يصبح صراع عصرنا صراعًا إنسانيًا كليًا: وكان ضروريًا لنظرية الملكية الخاصة أن تترك الطريق التجريبي المحض الذي يقتصر على البحث الموضوعي، وأن تكتسب طابعًا أكثر علمية يجعلها أيضًا مسئولة عن النتائج، وبذلك تنقل الموضوع إلى مجال إنساني كلي. وكان من الضروري أن نصل باللا أخلاقية التي تحويها الاقتصاديات القديمة إلى أقصى درجاتها بمحاولة إنكارها وبتغليفها بالرياء (كنتيجة ضرورية لهذه المحاولة). وكان هذا كله من طبيعة الأمور.



وإننا لنسلم بسرور بأننا بفضل إقامة التجارة الحرة وتطورها وحدها أصبحنا في مركز نستطيع منه أن نمضي إلى أبعد من اقتصاديات الملكية الخاصة، بيد أنه يجب أن يكون لنا في نفس الوقت الحق في أن نبين البطلان النظري والعملي الكامل لهذه التجارة الحرة.



وبقدر ما يقترب الاقتصادي الذي علينا أن نحكم عليه من عصرنا بقدر ما يجب أن يكون حكمنا قاسيًا، لأنه في حين لم يكن لدى سميث ومالتس سوى شذرات مبعثرة ينطلقان منها فإن أمام الاقتصاديين الحديثين كل النظام بأسره: لقد استخلصت كل النتائج، وظهرت التناقضات بوضوح كاف تحت الضوء، بيد أنهم لم يصلوا على فحص المقدمات – وما زالوا يتحملون مسئولية النظام بأسره. وبقدر ما يقترب الاقتصاديين من عصرنا بقدر ما يبتعدون عن الأمانة، ومع كل تقدم للزمن تزيد السفسطة بالضرورة، حتى تمنع الاقتصاديات من التعثر خلف الزمن. وهذا هو السبب في أن ريكاردو مثلاً أشد ذنبًا من آدم سميث، وأن ماككلوخ وميل أشد ذنبًا من ريكاردو.



إن الاقتصاديات الحديثة لا تستطيع حتى أن تحكم حكمًا صحيحًا على المذهب التجاري، لأنها هي ذاتها أحادية الجانب، ولا تزال حتى الآن محصورة بمقدمات هذا المذهب ذاته. ولا يمكن أن تضع الاثنين في مكانهما الصحيح إلا تلك النظرة التي تنتقد المقدمات المشتركة بينهما، والتي تنطلق من أساس إنساني كلي خالص.



وسيصبح من الواضح أن دعاة حرية التجارة احتكاريون أكثر تأصلاً من التجاريين القدامى ذاتهم، سيصبح من الواضح أن الإنسانية الزائفة للاقتصاديين المحدثين تخفي بربرية لم يكن أسلافهم يعرفونها، وأن خلط المفاهيم لدى الأسلاف يعد بسيطًا ومتسقًا بالمقابلة بالمنطق ذي اللسانين لمهاجميهم، وأن أحدًا من الجانبين لا يستطيع أن يعيب على الآخر شيئًا لا يمكن أن يرتد عليه ذاته.



وهذا هو السبب في أن الاقتصاديات الليبرالية الحديثة لا تستطيع أن تفهم إعادة ليست ([1]) للمذهب التجاري في حين أن الأمر بالنسبة لنا بسيط للغاية، فعدم اتساق وازدواجية الاقتصاديات الليبرالية لا بد بالضرورة أن يذوب ثانية في مكوناتها الأساسية. وتمامًا كما أن اللاهوت لا بد أن يتقدم إما إلى الإيمان الأعمى وإما إلى الفلسفة الحرة، فإن التجارة الحرة، لا بد أن تؤدي إلى عودة الاحتكارات من ناحية وإلغاء الملكية الخاصة من الناحية الأخرى.



والتقدم الإيجابي الوحيد الذي حققته الاقتصاديات الليبرالية هو كشف قوانين الملكية الخاصة، وهذه القوانين على أي حال محتواه فيها وإن لم تتكشف بعد كلية وتجد تعبيرًا واضحًا. وينتج عن ذلك أنه في كل النقاط التي تكون المسألة فيها هي تحديد أي الطرق أقصر إلى الثروة – أي في كل المجادلات الاقتصادية بالمعنى الضيق – فإن الحق يكون إلى جانب دعاة التجارة الحرة. وذلك بالطبع في المجادلات مع الاحتكاريين – وليس مع خصوم الملكية الخاصة، لأن الاشتراكيين الإنجليز، قد أثبتوا منذ أمد طويل – سواء عمليًا أو نظريًا – أنهم في وضع يمكنهم من أن يحلوا المسائل الاقتصادية بصورة أصح حتى من الزاوية الاقتصادية.



ومن هنا ففي نقد الاقتصاد السياسي سندرس المقولات الأساسية، ونكشف التناقض الذي أدخله مذهب التجارة الحرة، ونستخرج نتائج كلا جانبي التناقض.



* * *



لم تظهر عبارة "الثروة القومية" إلا نتيجة لولع الاقتصاديين الليبراليين بالتعميم. فليس لهذه العبارة معنى طالما توجد الملكية الخاصة. إن "الثروة القومية" للإنجليز كبيرة للغاية، ورغم هذا فإنهم أفقر شعب تحت الشمس. والمرء إما أن يستبعد هذا التعبير كلية، وإما أن يقبل المقدمات التي تعطيه معناه. والأمر كذلك بالنسبة لتعبيري "الاقتصاد القومي"، و"الاقتصاد السياسي أو العام". ففي الظروف الحالية ينبغي أن يسمى هذا العلم الاقتصاد الخاص لأن علاقاته العامة لا توجد إلا لصالح الملكية الخاصة.



* * *



والنتيجة المباشرة للملكية الخاصة هي التجارة – تبادل الطلب – البيع والشراء. وهذه التجارة – ككل فاعلية – لا بد في ظل سيطرة الملكية الخاصة أن تصبح مصدرًا مباشرًا للكسب بالنسبة للتاجر، أي أن كل أمرئ يجب أن يسعى لأن يبيع بأعلى ما يمكن ويشتري بأرخص ما يمكن. وهكذا ففي كل عملية شراء وبيع يتواجد رجلان تتعارض مصالحهما تعارضًا كاملاً. والمواجهة هنا عدائية تمامًا – لأن كلا منهما يعرف نوايا الآخر – ويعرف أنها تتعارض مع نواياه. وبالتالي فإن النتيجة الأولى هي عدم الثقة المتبادلة من ناحية، وتبرير عدم الثقة هذا – استخدام وسائل غير أخلاقية للوصول إلى أغراض غير أخلاقية – من الناحية الأخرى. وهكذا فالمبدأ الأول في التجارة هو "التكتم" – إخفاء كل شيء يمكن أن يخفض قيمة الشيء المعنى. والنتيجة هي أن من المسموح به في التجارة أن تستغل إلى أقصى حد جهل الطرف المقابل وثقته، وبالمثل أن تضفي على سلعتك صفات لا تمتلكها. وباختصار فإن التجارة تدليس مقنن، وكل تاجر يحترم لصدق يمكن أن يشهد معي على أن الممارسة الفعلية تتوافق مع هذه النظرية.



والمذهب التجاري لا يزال يحتفظ ببعض الصراحة الكاثوليكية الساذجة، وهو لا يخفي بأي حال الطبيعة غير الأخلاقية للتجارة، وقد رأينا كيف يستعرض صراحة جشعها الدنيء. لقد كان الموقف العدائي المتبادل بين الأمم في القرن الثامن عشر، والحقد اللعين والغيرة التجارية نتائج منطقية للتجارة بما هي تجارة. ولم يكن الرأي العام قد اصطبغ بالصبغة الإنسانية. فلماذا إذن نخفي أشياء نتجت عن الطبيعة المعادية غير الإنسانية للتجارة ذاتها؟



ولكن حين انتقد آدم سميث – لوثر الاقتصاد – الاقتصاديات الماضية كانت الأمور قد تغيرت إلى حد كبير، لقد كان القرن قد اصطبغ بالصبغة الإنسانية، والعقل قد أكد ذاته، وبدأت الأخلاق تطالب بحقها الأبدي. وكانت المعاهدات التجارية الغاضبة، والحروب التجارية. والعزلة الفظة للأمم، تسيء كثيرًا إلى الوعي المتقدم. وحل النفاق البروتستانتي محل الصراحة الكاثوليكية. وأثبت سميث أن الإنسانية بدورها تمتد بجذورها إلى طبيعة التجارة وأن التجارة بدلاً من أن تكون "أكثر مصادر الخلاف والعداء خصوبة" يجب أن تكون "رابطة من الاتحاد والصداقة بين الأمم وبين الأفراد. (أنظر "ثروة الأمم" الكتاب الرابع – الفصل الثالث – البند الثاني)، وأنه على أي حال فمن طبيعة الأشياء – إذا ما أخذت في مجموعها – أن تكون التجارة مربحة لكل الأطراف المعنية.



وكان سميث على حق في تمجيده التجارة كشيء إنساني. فليس في العالم شيء لا أخلاقي بصورة مطلقة. وللتجارة أيضًا جانب تكرم فيه الأخلاق والإنسانية. ولكن أي تكريم! إن قانون اليد القوية، السرقة الصريحة في العصور الوسطى، قد اكتسب طابعًا إنسانيًا حين تحول إلى التجارة، واصطبغت التجارة بالصبغة الإنسانية حين تحولت – في مرحلتها الأولى التي اتسمت بمنع تصدير النقود – إلى المذهب التجاري. والآن صبغ المذهب التجاري ذاته بالصبغة الإنسانية. فمن مصلحة التاجر بالطبع أن يكون على وفاق مع الشخص الذي يشتري منه بسعر رخيص، ومع ذلك الذي يبيع له غاليًا. فإن أمة ما تكون متهورة في تصرفاتها إذا هي غذت مشاعر العداء لدى مورديها وعملائها. فكلما زاد الود، زادت الأرباح، تلك هي إنسانية التجارة، وهذه الطريقة المرائية لإساءة استخدام الأخلاق من أجل غايات غير أخلاقية هي ما يعتز به مذهب التجارة الحرة.



ويصيح المراءون "ألم نطوح ببربرية الاحتكار؟ ألم نصل بالمدنية إلى أنحاء نائية من العالم؟ ألم نتوصل إلى المؤاخاة بين الشعوب ونقلل عدد الحروب؟" أجل، لقد فعلتم هذا كله – ولكن كيف! لقد حطمتم الاحتكارات الصغيرة حتى يمكن للاحتكار الواحد الكبير الأساسي – الملكية – أن يعمل بحرية ودون قيود. لقد وصلتم بالمدنية إلى أطراف الأرض كي تكسبوا أرضًا جديدة لنشاط جشعكم الدنيء. لقد توصلتم إلى المؤاخاة بين الشعوب – لكنها مؤاخاة اللصوص. لقد قللتم عدد الحروب – كي تحققوا أرباحًا أكبر في السلام، كي تضاعفوا إلى أقصى حد العداوة بين الأفراد، حرب المنافسة الشائنة! متى فعلتم شيئًا بدافع الإنسانية الخالصة، بدافع الوعي ببطلان التضاد بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة؟ متى كنتم أخلاقيين دون أن تكون لكم مصلحة، دون أن تكون في مؤخرة ذهنكم دوافع أنانية لا أخلاقية؟



وبعد أن بذلت الاقتصاديات الليبرالية أقصى ما في وسعها لتعميم العداوة عن طريق حل القوميات حتى تحول البشرية إلى قطيع من الوحوش المفترسة (فماذا يكون المتنافسون غير هذا؟) يلتهمون بعضهم البعض لمجرد أن لكم منهم مصالح متطابقة مع الآخرين جميعًا – بعد هذا العمل التمهيدي لا تبقى سوى خطوة واحدة قبل بلوغ الهدف – تحلل العائلة.



ولأداء هذه المهمة هب نظام المصنع – ابتداع الاقتصاد الجميل – لمساعدتها. فالأثر الأخير للمصالح المشتركة – وحدة الحيازات التي تمثلها العائلة – يتقوض على أيدي نظام المصنع، وهو بالفعل – على الأقل هنا في إنجلترا يمر بعملية التحلل. ولقد أصبح من الممارسة الشائعة للأطفال – حالما يستطيعون العمل (أي حالما يصلون إلى سن التاسعة) أن ينفقوا أجورهم بأنفسهم، وأن ينظروا إلى منزل آبائهم كمجرد مسكن، وأن يعطوا والديهم قدرًا من المال مقابل الغذاء والسكنى. وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك؟ وهل ثمة شيء آخر يمكن أن يترتب على الفصل بين المصالح الذي يشكل أساس مذهب التجارة الحرة؟ فما أن يبدأ مبدأ ما الحركة حتى يعمل بفعل قوته عبر كل نتائجه، سواء راق ذلك للاقتصاديين أم لم يرق.



لكن الاقتصادي نفسه لا يعرف أي قضية يخدم. أنه لا يعرف أنه مع كل تدليلاته الأنانية فإنه لا يشكل سوى حلقة في سلسلة تقدم البشرية الكلي. أنه لا يعرف أنه بحله لكل المصالح الطائفية فإنه إنما يعبد الطريق نحو التحول العظيم الذي يتحرك نحوه القرن – مصالحه البشرية مع الطبيعة ومع ذاتها.



* * *



والمقولة التالية التي تقيمها التجارة هي القيمة، وليس ثمة نزاع بين الاقتصاديين المحدثين وأسلافهم حول هذه المقولة، تمامًا كما ليس هناك نزاع حول كل المقولات الأخرى، لأن الاحتكاريين في جنونهم المتسلط من أجل تحقيق الثروة ليس لديهم وقت لكي يهتموا بالمقولات. وكل المجادلات حول هذه النقاط تنبعث من الاقتصاديين المحدثين.



ولدى الاقتصادي الذي يعيش بالتناقض كذلك بالطبع قيمة مزدوجة – قيمة مجردة أو حقيقية وقيمة تبادلية. وقد كان هناك نزاع طويل حول طبيعة القيمة الحقيقية بين الإنجليز – الذين حددوا تكاليف الإنتاج كتعبير عن القيمة الحقيقية – وبين الفرنسي ساي الذي قال بقياس هذه القيمة بمنفعة الشيء. وظل النزاع معلقًا بالشك منذ بداية القرن، ثم رقد دون الوصول إلى قرار. فالاقتصاديون لا يستطيعون أن يقرروا شيئًا.



وهكذا يزعم الإنجليز – ماككلوخ وريكاردو بشكل خاص – أن القيمة المجردة لشيء ما تحدد بتكاليف الإنتاج... القيمة المجردة بالطبع وليس القيمة التبادلية، "قيمة التبادل" ([2]) القيمة في التجارة – فهذا – على حد قولهم – شيء مختلف تمامًا. فلماذا كانت تكاليف الإنتاج مقياس القيمة؟ لأن – واستمع إلى هذا! – لأن أحدًا في الظروف العادية – منحيًا جانبًا ظرف المنافسة – لا يمكن أن يبيع شيئًا بأقل مما كلفه إنتاجه. لا يمكن أن يبيع -؟ وما علاقتنا "بالبيع" هنا إذا لم تكن المسألة مسألة قيمة تجارية؟ وهكذا نجد التجارة ثانية، وكان من المفروض أن ننحيها جانبًا – وأي تجارة! التجارة التي لا يؤخذ في الاعتبار فيها العامل الرئيسي، ظرف المنافسة! فأولاً قيمة مجردة، ثم ها نحن الآن أمام تجارة مجردة – تجارة دون منافسة، أي إنسان دون جسد، فكر دون ذهن لإنتاج الأفكار، أفلا يقف الاقتصادي أبدًا ليدرك أنه طالما أبعدت المنافسة عن الاعتبار فليس هناك ما يضمن على الإطلاق أن يبيع المنتج سلعته مقابل تكلفة الإنتاج فقط؟ أي خلط!



وفضلاً عن ذلك: فلنسلم لحظة أن كل شيء هو كما يقوله الاقتصادي. ولنفترض أن شخصًا ما يصنع شيئًا لا فائدة له على الإطلاق بجهد هائل وتكلفة ضخمة – يصنع شيئًا لا يريده أحد: فهل هذا الشيء أيضًا يساوي تكاليف إنتاجه؟ كلا بالتأكيد، هكذا يقول الاقتصادي: فمنذا الذي سيريد شراءه؟ وهكذا لا نجد أمامنا فجأة المنفعة المحتقرة التي يقول بها ساي وحدها بل إلى جوارها كذلك – مع "البيع" – ظرف المنافسة. هذا أمر لا يمكن أن يحدث – فالاقتصادي لا يمكن أن يتمسك لحظة واحدة بتجريده. إذ يقفز في كل لحظة لا ما يسعى جاهدًا لإزالته فحسب – المنافسة – بل كذلك ما يهاجمه – المنفعة. فالقيمة المجردة وتحديدها بتكاليف الإنتاج ليسا في نهاية الأمر سوى تجريدات، عدم.



ولكن لنفترض مرة أخرى أن الاقتصادي على حق – فكيف إذن سيحدد تكاليف الإنتاج دون أن يضع المنافسة في الاعتبار؟ فحين ندرس تكاليف الإنتاج فسنرى أن هذه المقولة أيضًا تقوم على المنافسة، وهنا يصبح من الواضح مرة أخرى مدى ضعف مقدرة الاقتصادي على أن يدعم مزاعمه.



وإذا عدنا إلى ساي فسنجد نفس التجريد. فمنفعة شيء ما أمر ذاتي تمامًا، أمر لا يمكن أن يقرر بشكل مطلق. وهو بالتأكيد أمر لا يمكن أن يقرر – على أي حال – طالما ظل المرء يحوم في التناقضات. ووفقًا لهذه النظرية فإن من المفروض أن تكون لضرورات الحياة قيمة أكبر من سلع الترف. والطريقة الوحيدة الممكنة للوصول إلى قرار موضوعي يبدو عامًا إلى هذا الحد أو ذاك حول زيادة أو قلة منفعة شيء ما – في ظل سيطرة الملكية الخاصة – هو من خلال ظرف المنافسة، بيد أن هذا الظرف بالتحديد هو الذي يجب أن ينحى جانبًا، ولكن إذا اعترفنا بظرف المنافسة فإن تكاليف الإنتاج تتدرج فيه بالمثل، لأن أحدًا لن يبيع مقابل ما يقل عما أنفقه في الإنتاج. وهكذا فهمنا أيضًا ينتقل أحد جانبي التضاد – رغمًا عنه – إلى الجانب الآخر.



ولنحاول أن ندخل شيئًا من الوضوح على هذا التخبط. إن قيمة شيء ما تتضمن كلا العاملين، الذين يفصل بينهما الطرفان المتنازعان بمثل هذه الوحشية؛ وكما رأينا دون نجاح. فالقيمة هي العلاقة بين تكاليف الإنتاج وبين المنفعة. والتطبيق الأول للقيمة هو تقرير ما إذا كان شيء ما ينبغي أصلاً أن ينتج، أي ما إذا كانت المنفعة توازن تكاليف الإنتاج. وعندئذ فحسب يستطيع المرء أن يتحدث عن تطبيق القيمة على التبادل. وإذا تساوت تكاليف إنتاج شيئين فإن العامل الحاسم الذي سيحدد قيمتها النسبية سيكون هو المنفعة.



وهذا الأساس هو الأساس الوحيد العادل للتبادل. ولكن إذا انطلق المرء من هذا الأساس فمن ذا الذي يقرر منفعة الشيء؟ مجرد رأي الأطراف المعنية؟ إذن ففي أي الحالات سيتعرض المرء للغش. أم أن القرار تحديد يقوم على أساس المنفعة الكامنة للشيء مستقلة عن الأطراف المعنية ولا تبدو لهم؟ إذا كان الأمر كذلك فإن التبادل لا يمكن أن يتم إلا بواسطة القسر، وكل طرف يعتبر نفسه ضحية غش، ولا يمكن تخطي التضاد بين المنفعة الحقيقية الكامنة للشيء وبين تحديد هذه المنفعة، بين تحديد المنفعة وبين حرية من يقومون بالتبادل، دون تخطي الملكية الخاصة، وحالما نتخطى الملكية الخاصة فلن تكون هناك مسألة تبادل كما تقوم اليوم. وسيكون التطبيق العملي لمفهوم القيمة قاصرًا – بشكل متزايد – على تقرير الإنتاج، وهذا هو مجاله الصحيح.



ولكن كيف تقف الأمور الآن؟ رأينا كيف أن مفهوم القيمة قد مزق بعنف، وكيف أن كلا من الجانبين المنفصلين قد أحل محل الكل. فتكاليف الإنتاج – التي شوهتها المنافسة منذ البداية – تفترض أنها القيمة ذاتها، وكذلك المنفعة الذاتية المحضة – إذ لا يمكن أن يوجد نوع آخر من المنفعة في هذه المرحلة. وعلينا لكي نوقف هذه التعريفات العرجاء على قدميها أن نلجأ في الحالتين إلى المنافسة، وأفضل ما في الموضوع هو أن المنافسة لدى الإنجليز تمثل المنفعة، المتناقضة مع تكاليف الإنتاج، في حين أنها على العكس لدى ساي تدخل تكاليف الإنتاج المتناقضة مع المنفعة. ولكن أي نوع من المنفعة وأي نوع من تكاليف الإنتاج تدخله؟ إن منفعتها تتوقف على الصدفة، على الطراز السائد، على هوى الأغنياء، وتكاليف الإنتاج لديها تتذبذب مع العلاقة العارضة بين العرض والطلب.



والاختلاف بين القيمة الحقيقية والقيمة التبادلية يقوم على حقيقة هي أن قيمة شيء ما تختلف عما يسمى معادلاً له يعطى له في التجارة، أي أن هذا المعادل ليس معادلاً. وهذا المعادل المزعوم هو ثمن الشيء، ولو كان الاقتصادي أمينًا لاستخدام هذا التعبير بدلاً من القيمة التجارية. إلا أنه ما زال عليه أن يحتفظ بنوع من التظاهر بأن الثمن يرتبط بشكل ما بالقيمة، وإلا لأصبحت لا أخلاقية التجارة واضحة للغاية. غير أنه من الصحيح تمامًا – وهذا قانون أساسي للملكية الخاصة – أن الثمن يحدده الفعل المتبادل بين تكاليف الإنتاج والمنافسة. وكان هذا القانون التجريبي الخالص هو أول ما اكتشفه الاقتصادي، ومن هذا القانون جرد بعد ذلك "القيمة الحقيقية" عنده أي الثمن حين تكون المنافسة في حالة توازن، حين يغطي العرض والطلب كل منهما الآخر. وحينئذ فإن ما يبقى بعد ذلك بالطبع هو تكاليف الإنتاج، وهذه هي التي يبدأ الاقتصادي في تسميتها "القيمة الحقيقية" في حين أنها ليست سوى تحديد الثمن. وهكذا فكل شيء في الاقتصاديات يقف على رأسه. فالقيمة – وهي منشأ أو مصدر الثمن – تجعل تابعة لما هو من نتاجها. وكما هو معروف فإن هذا القلب هو جوهر التجريد. وأنظر في ذلك فيورباخ.



ووفقًا للاقتصاديين فإن تكاليف إنتاج سلعة ما تتألف من ثلاثة عناصر: قطعة الأرض اللازمة لإنتاج المادة الأولية، ورأس المال وربحه، وأجر العمل اللازم للإنتاج والصناعة. بيد أنه يصبح من الواضح فورًا أن رأس المال والعمل متطابقان، لأن الاقتصاديين أنفسهم يعترفون بأن رأس المال هو "عمل مختزن". وهكذا لا يتبقى أمامنا سوى جانبين – الجانب الطبيعي الموضوعي، الأرض، والجانب الإنساني الذاتي، العمل، الذي يتضمن رأس المال، وإلى جانب رأس المال عامل لا يفكر فيه الاقتصاديون – وأنا أعني العنصر الروحي للاختراع، للفكر، إلى جانب العنصر الجسدي، للعمل الخالص. فماذا على الاقتصادي أن يفعل بروح الاختراع؟ ألم تصل إليه كل الاختراعات طائرة دون أي جهد من جانبه؟ هل كلفه واحد منها شيئًا؟ فلماذا إذن يضايق نفسه بها عند حساب تكاليف الإنتاج؟ إن الأرض ورأس المال والعمل هي لديه شروط الثروة، وهو لا يحتاج إلى أكثر من ذلك، وليس العلم أحد مشاغله. فماذا يعنيه أن يكون قد تلقى منحة من خلال بيرشهوليت ودافي ولييج ووات وكارترايت إلخ... وهي منح أفادته وأفادت إنتاجه إلى درجة لا تقاس؟ أنه لا يعرف كيف يحسب مثل هذه الأشياء، فتقدم العلم يتجاوز أرقامه. ولكن في نظام عقلاني مضى إلى أبعد من تقسيم المصالح كما هو لدى الاقتصاديين فإن العنصر الروحي ينتمي بالتأكيد إلى عناصر الإنتاج، وسيجد مكانه أيضًا في الاقتصاديات بين تكاليف الإنتاج. وأنه لشيء سار بالتأكيد أن نعرف أن تطور العلم يجلب أيضًا جائزته المادية، أن نعرف أن إنجازًا واحدًا للعلم مثل آلة جيمس وات البخارية قد درت على العالم في السنوات الخمسين الأولى من وجودها أكثر مما أنفقه العالم على تطوير العلم منذ بداية الزمن.



وهكذا فإن لدينا عنصرين للإنتاج يعملان – الطبيعة والإنسان – الإنسان النشط بدنيًا وروحيًا – ونستطيع أن نعود ثانية إلى الاقتصادي وتكاليف إنتاجه.



* * *



يقول الاقتصادي إن ما لا يمكن أن يحتكر ليست له قيمة. وتلك قضية سندرسها عن قرب أكبر فيما بعد – ولو أننا قلنا "ليس له ثمن" لكانت القضية صحيحة – سندرسها بالنسبة للنظام الذي يقوم على الملكية الخاصة. فلو أننا نستطيع أن نحصل على الأرض بالسهولة التي نحصل بها على الهواء لما دفع أحد ريعًا. ولما لم تكن هذه هي الحالة، بل كانت مساحة قطعة الأرض التي يمكن تملكها محدودة في كل حالة خاصة فإن المرء يدفع ريعًا للأرض المملوكة أي المحتكرة، أو يدفع ثمن شراء لها. ويعد هذا الإيضاح لمصدر ريع الأرض فإن من الغريب جدًا أن نسمع من الاقتصادي أن ريع الأرض هو الفارق بين ما تغله الأرض المؤجرة وما تغله أسوأ قطعة أر ض تستحق الزراعة. وكما هو معروف فإن هذا هو تعريف الريع الذي طوره بشكل كامل ريكاردو للمرة الأولى. وهذا التعريف صحيح بلا شك في الممارسة إذ أفترض المرء مسبقًا أن هبوطًا في الطلب سيكون له رد فعل فوري على الريع، ويؤدي على الفور إلى إخراج كمية مماثلة من أردأ الأراضي من الزراعة. غير أن هذه ليست هي الحالة، فقد أحيا الكولونيل ت.ب. تومبسون بطل رابطة القانون المضاد للقمع تعريف آدم سميث ودعمه. ففي رأيه أن الريع هو العلاقة بين منافسة أولئك الذين يسعون إلى استخدام الأرض وبين الكمية المحدودة المتاحة من الأرض؛ لكن هذا التفسير لا يأخذ في اعتباره خصوبة التربة، تمامًا كما ينحي التفسير السابق المنافسة جانبًا.



ومن هنا فإن لدينا من جديد تعريفين كل منهما ذو جانب واحد ومن هنا غير كاملين لموضوع واحد. وكما في حالة القيمة سيكون علينا من جديد أن نجمع هذين التعريفين حتى نجد التعريف الصحيح الناشئ عن تطور الشيء ذاته، وبذلك يشمل الممارسة. فالريع هو العلاقة بين إنتاجية الأرض – بين الجانب الطبيعي (الذي يتألف بدوره من الخصوبة الطبيعية والزراعة الإنسانية – العمل الذي يستخدم لإجراء التحسين) وبين الجانب الإنساني، المنافسة. وقد يهز الاقتصاديون رؤوسهم أمام هذا "التعريف"، لكنهم سيكتشفون ويا للهول إنه يشمل كل ما يتعلق بهذا الموضوع.



وليس لدى مالك الأرض ما يلوم عليه التاجر.



إنه يمارس السرقة في احتكاره للأرض، وهو يمارس السرقة في استغلاله لمصلحته الزيادة في السكان التي تزيد المنافسة، وبذلك تزيد قيمة مزرعته، وفي تحويله إلى مصدر للمنفعة الشخصية شيئًا لم يكن من صنعه – شيئًا أصبح ملكًا له بالصدفة المحضة. أنه يمارس السرقة في تأجيره لأرضه، حين يستولى لنفسه في النهاية على التحسينات التي يجريها مستأجره. وهذا هو سر الثروة المتزايدة على الدوام لكبار ملاك الأرض.



أن المبادئ التي تصف بالسرقة منهج مالك الأرض في استخراج دخل – وهي أن لكل إنسان الحق في ناتج عمله، أو أن أحدًا لا ينبغي أن يحصد حيث لم يبذر – ليست شيئًا وضعناه نحن. والمبدأ الأول يستبعد واجب تربية الأطفال، والثاني يحرم كل جيل من حق الحياة، لأن كل جيل يبدأ بما يرثه من الجيل السابق، فهذان المبدآن هما بالأحرى من تضمينات الملكية الخاصة. فإما أن يعمل المرء تضمينات الملكية الخاصة أوي يتخلى عنها كمقدمة.



الحق أن فعل الامتلاك الأصلي ذاته يبرره تأكيد حق الملكية المشتركة السابقة. وهكذا فحيثما نتحول فإن الملكية الخاصة تقودنا إلى التناقضات.



أن تحويل الأرض بل موضوع للمتاجرة – الأرض التي هي لكل واحد منا، والشرط الأول لوجودنا – كان هو الخطوة الأخيرة نحو تحويل المرء إلى موضوع للمتاجرة، ولقد كان هذا ولا يزال حتى يومنا هذا لا أخلاقية لم تتجاوزها سوى لا أخلاقية اغتراب الذات. والتملك الأصلي – احتكار الأرض من جانب قلة، واستبعاد الآخرين مما هو شرط لحياتهم – لا يزيد في لا أخلاقيته عما أعقبه من اتجار في الأرض.



وإذا نحن هنا أيضًا تخلينا عن الملكية الخاصة فإن الريع ينتهي إلى حقيقته، إلى الفكرة العقلانية التي تكمن أساسًا في جذره. وهكذا فإن قيمة الأرض المفصولة منها كريع تعود إلى الأرض ذاتها. وهذه القيمة – التي تقاس بإنتاجية مساحة مساوية من الأرض تخضع لنفس تطبيقات العمل – ينبغي أن توضع في الاعتبار كجزء من تكاليف الإنتاج عند تحديد قيمة المنتجات، وهي كالريع العلاقة بين الإنتاجية والمنافسة – وإنما المنافسة الحقة، كتلك التي ستتطور حين يأتي زمنها.



*****



رأينا كيف أن رأس المال والعمل متطابقان في البداية، ثم رأينا من تفسيرات الاقتصادي ذاته كيف أنه في عملية الإنتاج فإن رأس المال – ناتج العمل – يتحول مباشرة ثانية الجوهر، إلى مادة العمل، كيف أنه بالتالي فإن الانفصال الذي يقوم مؤقتًا بين رأس المال والعمل يخلى المكان فورًا إلى وحدة الاثنين. بيد أن الاقتصادي يفصل رأس المال عن العمل، ورغم ذلك يصر على التقسيم دون أن يقدم اعترافًا أخر بوحدتهما سوى تعريف رأس المال بأنه "عمل مختزن". والانفصال بين رأس المال والعمل، الناشئ عن الملكية الخاصة، ليس سوى الانقسام الداخلي للعمل الذي يتفق مع هذا الظرف المقسم وينشأ عنه. وبعد أن يكتمل هذا الانفصال فإن رأس المال يقسم نفسه من جديد على رأس المال الأصلي والربح – زيادة رأس المال التي يحصل عليها في عملية الإنتاج، رغم أن الربح في الممارسة يندمج فرزًا مع رأس المال ويتحرك معه. ولحق أنه حتى الربح ينقسم بدوره إلى الفائدة والربح بالمعنى الضيق. وبالنسبة للفائدة فإن حماقة هذه الانقسامات تصل إلى منتهاها. فلا أخلاقية فائدة القروض، لا أخلاقية الحصول على شيء دون عمل، مقابل مجرد الإقراض، وأن كانت كامنة في الملكية الخاصة، واضحة للغاية، وقد اعترف بلا أخلاقيتها هذه منذ أمد طويل الوعي الشعبي غير المعقد، وهو عادة ما يكون على حق في مثل هذه الأمور. وكل هذه التقسيمات والانقسامات الدقيقة تنبع من الانفصال الأصلي لرأس المال عن العمل، ومن اكتمال هذا الانفصال – انقسام البشرية إلى رأسماليين وعمال – وهو انفصال يصبح كل يوم أكثر حدة، ومقيض له – كما سنرى – أن يتعمق. غير أن هذا الانفصال – كذلك الانفصال الذي رأيناه من قبل بين الأرض وبين رأس المال والعمل – وهو في التحليل الأخير انفصال مستحيل. فلا يمكن تحديد مدى نصيب كل من الأرض ورأس المال والعمل في أي ناتج خاص. فهذه المقادير الثلاثة غير قابلة للقياس بنفس المعايير. فالأرض تخلق المادة الأولية، ولكن ليس بغير رأس المال والعمل. ورأس المال يفترض مسبقًا الأرض والعمل، والعمل يفترض مسبقًا الأرض على الأقل وعادة أيضًا رأس المال. ووظائف هذه العناصر الثلاثة مختلفة كلية، ولا يمكن قياسها بمعيار رابع مشترك. ومن هنا فحين نصل إلى تقسيم العائدات بين العناصر الثلاثة في ظل الظروف القائمة، فليس هناك معيار كامن، والذي يقرر هو معيار غريب كلية وعارض بالنسبة لها هو – المنافسة، والحق المبتذل للقوى. فالريع يتضمن المنافسة، وربح رأس المال لا تحدده سوى المنافسة، أما عن موقف الأجور فسنراه الآن.



ولو أننا تخلينا عن الملكية الخاصة فستختفي كل هذه التقسيمات غير الطبيعية، وسيختفي الفارق بين الفائدة والربح، فرأس المال ليس شيئًا دون العمل، دون الحركة. وستنتهي دلالة الربح إلى الوزن الذي يمثله رأس المال في تحديد تكاليف الإنتاج، وهكذا يظل الربح كامنًا في رأس المال، بنفس الطريقة التي يعود بها رأس المال إلى وحدته الأصلية مع العمل.



***



أما العمل – العامل الأساسي في الإنتاج، "مصدر الثروة" الفاعلية الإنسانية الحرة – فهو ليس على وفاق مع الاقتصادي. وتمامًا كما فصل رأس المال فيما سبق عن العمل فإن العمل بالمثل يقسم الآن بدوره للمرة الثانية، فناتج العمل يواجه العمل كأجور، وينفصل عنه، ويتحدد مرة أخرى كالعادة بواسطة المنافسة – لأنه لا يوجد – كما رأينا – معاير ثابت يجدد نصيب العمل في الإنتاج. ولو أننا أنهينا الملكية الخاصة فإن هذا الانفصال غير الطبيعي يختفي أيضًا. ويصبح العمل جزاءه الخاص، وتظهر في الضوء الدلالة الحقيقية لأجور العمل التي كانت حتى الآن منسلبة – وهي دلالة العمل بالنسبة لتحديد تكاليف إنتاج شيء ما.



***



رأينا أنه في النهاية ينتهي كل شيء إلى المنافسة طالما توجد الملكية الخاصة. أنها المقولة الرئيسية للاقتصادي – وأبنته المحبوبة للغاية التي يدللها على الدوام – ويتطلع إلى رأس ميدوس التي ستكشف له عنها.



والنتيجة المباشرة للملكية الخاصة هي انقسام الإنتاج إلى جانبين متضادين – الجانب الطبيعي والجانب الإنساني، الأرض التي تكون دون إخصاب الإنسان لها ميتة ومجدبة، والفاعلية الإنسانية وشرطها الأول هو هذه الأرض. وفضلاً عن هذا فقد رأينا كيف تحللت الفاعلية الإنسانية بدورها إلى عمل ورأسمال، وكيف يواجه هذان الجانبان بعضهما مواجهة عدائية. وهكذا فإن لدينا بالفعل الصراع فينا بين العناصر الثلاثة، بدلاً من تساندها المتبادل، ومما يزيد الأمر سوءًا أن الملكية الخاصة تجلب في أثرها تمزق كل من هذه العناصر، فكل مزرعة تقف في مواجهة الأخرى، وكل جزء من رأس المال يواجه الآخر، وكل وحدة من قوة العمل تواجه الأخرى، وبعبارة أخرى فلأن الملكية الخاصة تعزل كل امرئ في وحدته الفجة، ولأنه ورغم هذا فإن لكل امرئ المالك الآخر، والرأسمالي مع الرأسمالي الآخر، والعامل مع العامل الآخر. وفي هذا النزاع بين المصالح المتطابقة الناشئ عن هذا التطابق تكتمل لا أخلاقية ظروف البشرية حتى الآن، وهذا الاكتمال هو المنافسة.



وتفيض المنافسة هو الاحتكار. وقد كان الاحتكار هو صيحة الحرب للتجاريين. والمنافسة صيحة القتال للاقتصاديين الليبراليين. ومن السهل. أن نرى أن هذا التضاد هو بدوره تضاد أجوف تمامًا. فكل منافس لا يمكن إلا أن يرغب في أن يكون له احتكار، سواء كان عاملاً أو رأسماليًا أو مالك أرض. وكل مجموعة أصغر من المنافسين لا يمكن إلا أن ترغب في أن يكون لها احتكار ضد الآخرين. والمنافسة تقوم على المصلحة الذاتية، والمصلحة الذاتية بدورها تولد الاحتكار، وباختصار فإن المنافسة تتحول إلى احتكار. ومن ناحية أخرى فإن الاحتكار لا يمكن أن يوقف تيار المنافسة – والحق أنه هو ذاته يولد المنافسة، تمامًا كما أن يوقف تيار المنافسة – والحق إنه هو ذاته يولد المنافسة، تمامًا كما أن التعريفات الجركية المرتفعة مثلاً أو حظر الواردات يولد بشكل قاطع منافسة المهربين. وتناقض المنافسة هو بالدقة نفس تناقض الملكية الخاصة. فمن مصلحة كل واحد أن يمتلك كل شيء، لكن من مصلحة الكل أن يمتلك كل واحد كمية متساوية... وهكذا فإن المصلحة العامة والمصلحة الفردية متناقضتان تناقضًا كاملاً. وتناقض المنافسة هو أن كل واحد لا يمكن إلا أن يرغب في الاحتكار، في حين أن الكل ككل مقيض لهم أن يخسروا بسبب الاحتكار ولا بد بالتالي أن يؤيلوه. وفضلاً عن ذلك فإن المنافسة تفترض مسبقًا بالفعل الاحتكار – وبالتحديد احتكار الملكية، طيلة هذه المدة بالدقة تكون حيازة الاحتكار مبررة بالمثل – لأن الاحتكار – حالما يوجد – هو أيضًا ملكية. وإنه لإجراء غير كامل يثير الرثاء إذن أن نهاجم الاحتكارات الصغيرة ونترك الاحتكار الأساسي دون أن يمس! ولو إننا استخدمنا هنا قضية الاقتصادي التي أشرنا إليها من قبل، وهي إنه لا يمكن أن تكون هناك قيمة لشيء لا يمكن أن نحتكر – وإنه بالتالي لا يمكن لشيء لا يسمح بمثل هذا الاحتكار أن يدخل حلبة المنافسة – فإن تأكيدنا إن المنافسة تفترض مسبقًا الاحتكار يكون مبررًا كلية.



***



وقانون المنافسة هو أن العرض والطلب يسعيان إلى استكمال بعضهما، ومن هنا لا يصلان أبدًا إلى ذلك. فالجانبان ينفصلان من جديد ويتحولان إلى معارضة صريحة. فالعرض دائمًا يتبع الطلب عن كتب دون أن يغطيه تمامًا أبدًا، فهو أما أكبر مما يجب أو أصغر مما يجب، ولا يتجاوب أبدًا مع الطلب، لأنه في هذا الظرف غير الواعي للبشرية فإن أحدًا لا يعرف مقدار العرض أو الطلب، وإذا كان الطلب أكبر من العرض فإن الثمن يرتفع، ونتيجة لذلك فإن العرض ينشط إلى حد ما. وما أن يصل إلى السوق حتى تهبط الأثمان، وحين يصبح أكبر من الطلب فإن الهبوط في الأثمان يصل إلى حد ينشط الطلب ثانية، وهكذا يمضى الأمر على ما لا نهاية – وضع غير صحي على الدوام – تعاقب مستمر بين النشاط الزائد والانهيار يمنع كل تقدم – حالة من الذبذبة الدائمة التي لا تحل أبدًا. ويبدو أن هذا القانون – بتوازنه الدائم حيث كل ما يفقد هنا يكسب هناك – ويبدو أن هناك القانون – بتوازنه الدائم حيث كل ما يفقد هنا يكسب هناك – هو أعجوبة الاقتصادي، إنه مفخرته الرئيسية – وهو لا يمل رؤياه، ويدرسه في كل تطبيقاته الممكنة وغير الممكنة، بيد أنه من الواضح أن هذا القانون قانون طبيعي خالص وليس قانونًا من قوانين الذهن، أنه قانون ينتج ثورة. أن الاقتصادي يأتي إلينا، ومعه نظريته الجميلة عن العرض والطلب، ويثبت لك أن "أحدًا لا يمكن أن ينتج أكثر مما يجب"، والممارسة ترد بأزمات التجارة التي تعود للظهور بانتظام كالنيازك، والتي لدينا منها الآن في المتوسط واحدة كل خمس أو سبع سنوات. وطيلة الثمانين عامًا الماضية حلت الأزمات التجارية بنفس الانتظام الذي كانت تأتي به الطواعين في الماضي – وجلبت في أث4رها من البؤس واللا أخلقية أكثر مما جلبت هذه الطواعين (أنظر ويد: "تاريخ الطبقات الوسطى والعاملة" – لندن 1835، ص 211). وبالطبع فإن هذه الأزمات التجارية تؤكد القانون، وتؤكده بشكل كامل – وإنما بطريقة تختلف تمامًا عما يريدنا الاقتصادي أن نعتقد. فماذا يمكن أن يكون رأينا في قانون لا يمكن أن يؤكد ذاته إلا خلال الأزمات الدورية؟ إنه قانون طبيعي عادل يقوم على عدم وعي المشاركين. فلو أن المنتجين كمنتجين عرفوا مقدار ما يحتاج المستهلكون، ولو أنهم نظموا الإنتاج، ولو أنهم تقاسموه فيما بينهم، لكانت ذبذبات المنافسة وميلها إلى الأزمة مستحيلة. فلتنتجوا بوعي ككائنات إنسانية – وليس كذرات مشتتة دون وعي بنوعكم – وستتجاوزون كل هذه التناقضات المصطنعة التي يصعب الدفاع عنا. ولكن طالما ظللتم تنتجون بالطريقة الحالية غير الواعية المفكرة، تحت رحمة المصادفة – فستبقى أزمات التجارة، ومقيض لكل أزمة أن تكون أكثر شمولاً من سابقتها، ومن هنا أسوأ منها، ومقيض لكل أزمة أن تكون أكثر شمولاً من سابقتها، ومن هنا أسوأ منها، مقيض لها أن تفقر عدد أكبر من صغار الرأسماليين، وأن تزيد بنسبة متزايدة عدد تلك الطبقة التي تعيش من عملها وحده، وبذلك توسع بوضوح كمية كتلة العمل التي يمكن استخدامها (وهي المشكلة الكبرى لدى اقتصاديينا) وأخيرًا تسبب ثورة اجتماعية لم تحلم بها من قبل الحكمة المدرسية للاقتصاديين.



إن الذبذبة الدائمة للأثمان كما يخلقها ظرف المنافسة تنزع عن التجارة كلية آخر بقايا الأخلاقية. له تعد ثمة أشارة للقيمة، ونفس المذهب الذي يبدون أنه يعلق مثل هذه الأهمية على القيمة، والذي يضفي على تجريد القيمة في شكل النقود شرف أن يكون له وجوده الخاص – هذا المذهب يدمر عن طريق المنافسة القيمة الكامنة لكل الأشياء، ويغير كل يوم وكل ساعة علاقة القيمة بين كل الأشياء بعضها البعض، فأين يمكن أن تبقى هناك أية أمكانية لتبادل يقوم على أساس أخلاقي في هذه الدوامة؟ إن على كل امرئ في هذا الصعود والهبوط الدائمين أن يسعى لانتهار أكثر اللحظات مواتاة للبشر والبيع، على كل امرئ أن يصبح مضاربًا – أي أن عليه أن يحصد حيث لم يبذر، أن يثري نفسه على حساب الآخرين، أن يعتمد على نكبات الآخرين، أو يترك الصدفة تحقق له الكسب. ويعتمد المضارب دائمًا على الكوارث وبخاصة على سوء المحاصيل. وهو يستخدم كل شيء – وعلى سبيل المثال حريق نيويورك عند وقوعه – ونقطة تتويج اللا أخلاقية هي المضاربة في البورصة، حيث ينحدر التاريخ – والبشرية معه – إلى وسيلة من وسائل جشع المضارب الماكر المغامر، ولا تدعوا التاجر الأمين "الموقر" يتسامي على المقامر في البورصة بعبارة فريسية مرائية "أشكرك أيها الرب الخ..."، فهو سيء كالمضاربين بالأسهم والسندات، أنه يضارب تمامًا كما يفعلون، وهو مضطر إلى ذلك: فالمنافسة تجبره عليه، ومن هنا فإن نشاطه التجاري يتضمن نفس لا أخلاقيتهم. فحقيقة علاقة المنافسة هي علاقة قوة الاستهلاك بقوة الإنتاج. وفي كل عالم جدير بالبشرية لن تكون هناك منافسة غير هذه وسيكون على الجماعة أن تحسب ماذا تستطيع أنو تنتج بالوسائل المتاحة لها، وفي ضوء علاقة هذه القوة الإنتاجية بكتلة المستهلكين ستحدد إلى أي مدى عليها أن ترفع الإنتاج أو تخفضه، إلى أي مدى عليها أن تطلق العنان للترف أو تكبحه. ولكن حتى يستطيع القراء أن يصدرا حكمًا صحيحًا عن هذه العلاقة وعن الزيادة التي يمكن توقعها في القوة الإنتاجية من الوضع الرشيد داخل الجماعة فإنني أدعوهم لأن يرجعوا إلى كتابات الاشتراكيين، وجزئيًا إلى كتابات فورييه كذلك.



وفي ظل هذه الظروف ستنتهي المنافسة الذاتية – نزاع رأس المال ضد رأس المال، والعمل ضد العمل الخ... – إلى روح المباراة الراسخة في الطبيعة الإنسانية (هو مفهوم لم يطوره حتى الآن بشكل مقبول إلا فورييه) التي ستقتصر بعد تخطي المصالح المتعارضة على مجالها الصحيح الرشيد.



***



إن صراع رأس المال ضد رأس المال، والعمل ضد العمل، والأرض ضد الأرض، يدفع الإنتاج إلى فورة من الحمى يقلب فيها الإنتاج رأسًا على عقب كل العلاقات الطبيعية والعقلية. فلا يمكن لرأسمال أن يتحمل منافسة آخر ما لم يصل إلى أعلى فورة لنشاطه. ولا يمكن لمزرعة أن تزرع بطريقة مربحة إذا لم تكن تزيد قوتها الإنتاجية باستمرار. ولا يمكن لعامل أن يقف على قدميه في مواجهة منافسيه ما لم يكرس كل قواه للعمل. ولا يمكن لأي شخص ينغمس في صراع المنافسة أن يتحمل التوتر دون أن يبذل أقصى قواه، ودون أن يتخلى عن كل غاية إنسانية حقًا. ونتائج هذا الجهد الزائد من ناحية هي حتمًا الانهيار في الناحية الأخرى. وحين تكون ذبذبة المنافسة صغيرة حين يكون الطلب والعرض، الاستهلاك والإنتاج، متساوية تقريبًا، فلا بد أن نصل إلى مرحلة في تطور الإنتاج يتوفر فيها قدر كبير من القوة الإنتاجية الزائدة بحيث لا يكون لدى الكتلة الكبيرة من الأمة شيء تعيش عليه، بحيث يتضور الناس جوعًا نتيجة الوفرة الخالصة. ولفترة طويلة من الزمن وجدت انجلترا نفسها في هذا الوضع، في هذه الحماقة الحية، وحين يتعرض الإنتاج – كنتيجة ضرورية لمثل هذا الوضع – لتذبذبات أكبر، يبدأ التعاقب بين الرخاء والأزمة، بين فائض الإنتاج والكساد. ولم يتمكن الاقتصادي أبدا من أن يفسر لنفسه هذا الوضع المجنون. ولكي يفسره أبتدع نظرية السكان، وهي في نفس حماقة – بل في الحقيقة أكثر حماقة – من التناقض بين الثروة والبؤس المتعايشين، والاقتصادي لا يستطيع أن يتحمل رؤية الحقيقة، أنه لا يستطيع الاعتراف بأن هذا التناقض هو نتيجة بسيطة للمنافسة، لأنه لو فعل لتمزق مذهبه كله شذرًا.



أما بالنسبة لنا فتفسير الأمر سهل. فالقوة الإنتاجية المتاحة للبشرية غير محددة، وإنتاجية الأرض يمكن أن تزاد إلى ما لا نهاية باستخدام رأس المال والعمل والعلم. ووفقًا لأقدر الاقتصادي والإحصائيين (أنظر أليسون "مبادئ السكان" – المجلد الأول – الفصل الأول والثاني ([3]) . فإن بريطانيا العظمى "المتضخمة سكانيًا" يمكن الوصول بها إلى أن تنتج الحالي. ورأس المال يزيد يوميًا، وقوة العل تنمو مع السكان، ويومًا بعد يوم يجعل العلم قوة الطبيعة خاضعة للإنسان بشكل متزايد. وهذه الطاقة الإنتاجية غير المحدودة – إذا ما عولجت بوعي ولصالح الجميع – ستهبط سريعًا إلى الحد الأدنى بنصيب البشرية من العمل، وإذا ما ترك الأمر للمنافسة فإنها تفعل نفس الشيء، ولكن داخل إطار من التناقض. فجانب من الأرض يفلح بأفضل طريقة ممكنة في حين أن جانبًا آخر – يبلغ في بريطانيا العظمى وأيرلندا ثلاثين مليون أكر من الأرض الجيدة – يبقى مجدبًا. وجانب من رأس المال يتداول بسرعة مذهلة، ويرقد جانب آخر ميتًا في الخزانة. وجانب من العمال يعمل ما بين أربع عشرة وست عشرة ساعة في اليوم، في حين يقف جانب آخر ساكنًا بلا نشاط ويتضور جوعًا.



أو يترك التقسيم مملكة التواقت هذه: فالتجارة اليوم جيدة، والطلب كبير للغاية، وكل إنسان يعمل، ورأس المال يتداول بسرعة مذهلة، والزراعة تزدهر والعمال يقطعون أنفاسهم في العمل، وغدًا يبدأ الكساد، ولا تعود زراعة الأرض تستحق ما ينفق فيها من جهد، وتبقى مساحات من الأرض دون فلاحة، ويتجمد فيض رأس المال، ولا يعود لدى العمال عمل، وترزح البلاد كلها تحت وطأة فائض الثروة وفائض السكان.



ولا يستطيع الاقتصادي تحمل قبول هذا العرض للموضوع باعتباره عرضًا صحيحًا، وإلا لكان عليه – كما قلنا – أن يتخلى عن كل مذهبه عن المنافسة. وسيكون عليه أن يعترف بأن التناقض الذي يعرضه بين الإنتاج والاستهلاك، وبين فائض السكان وفائض الثروة، هو تناقض أجوف. وللوصول بالواقع وبالنظرية إلى التوافق فيما بينهما – إذ لا يمكن إنكار هذا الواقع – ابتدعت نظرية السكان.



ويزعم مالتس – واضع هذه النظرية – أن السكان يضغطون دائمًا على وسائل المعيشة، وأنه حالما يزيد الإنتاج فإن السكان يزيدون بنفس النسبة، وأن الاتجاه الكامن للسكان وهو التضاعف زيادة عن الوسائل المتاحة هو جذر كل بؤس وكل رذيلة، لأنه حين يكون هناك عدد أكبر مما يجب من الناس فلا بد من التخلص منهم بطريقة أو بأخرى، فإما أن يقتلوا عن طريق العنف أو يتضوروا جوعًا. ولكن حينما يحدث ذلك تظهر مرة أخرى هوة تبدأ العوامل الأخرى لمضاعفة السكان فورًا في ملئها من جديد، وهكذا يبدأ ثانية البؤس القديم. وبالإضافة على ذلك فإن هذا هو الوضع في كل الظروف – لا في الظروف المتمدينة وحدها، بل في الظروف البدائية كذلك. ففي هولندا الجديدة ([4]) – حيث تبلغ كثافة السكان بقدر ما تعاني انجلترا. وباختصار – فإذا أردنا أن نكون متسقين – لابد أن نعترف بأن الأرض كانت مزدحمة بالسكان بالفعل حين لم يكن يوجد سوى إنسان واحد. ودلالات هذه الطريقة في التفكير هي أنه ما دام الفقراء هم الزائدون فلا ينبغي أن تفعل شيئًا لهم إلا أن نجعل تضورهم أيسر ما يمكن، وأن نقنعهم بأنه أمر لا يمكن تجبنه، وأنه ليس من خلاص لطبقتهم بأسرها إلا بالإبقاء على التكاثر عند الحد الأدنى المطلق. وإذا لم يأت هذا بنتيجة فإن من الأفضل دائمًا أن نقيم مؤسسة دولة تقوم بقتل أبناء الفقراء دون ألم – مثلما أقترح "ماركوس ([5]) " حيث يسمح لكل عائلة من عائلات الطبقة العاملة بأن يكون لها طفلان ونصف وتقتل كل زيادة دون ألم. وتعد الصدقة جريمة لأنها تدعم زيادة فائض السكان، والحق أنه ليكون من المفيد للغاية أن نعلن أن الفقر جريمة، وأن نحول ملاجئ الفقراء إلى سجون، كما حدث بالفعل في انجلترا نتيجة لقانون الفقراء "الليبرالي" الجديد. وإننا لنقر بأن هذه النظرية لا تتفق مع مذهب الكتاب المقدس عن كمال الرب وخليقته، لكنها "حجة ضعيفة أن نضع الكتاب المقدس في مواجهة الحقائق".



هل أستمر أكثر من ذلك في عرض هذه النظرية الوضيعة الشائنة، هذا التجديف المنفر ضد الطبيعة ولبشرية؟ هل أتابع نتائجها أكثر من ذلك! ها نحن قد وصلنا في النهاية إلى لا أخلاقية الاقتصادي، وقد بلغت أعلى درجاتها. فماذا تكون كل حروب وأهوال نظام الاحتكار بالمقارنة بهذه النظرية. وهذه النظرية بالدقة هي حجر الزاوية للمذهب الليبرالي عن حرية التجارة، والتي يستتبع انهيارها انهيار البناء كله. لأنه إذا ثبت هنا أن المنافسة هي السبب الجذري للبؤس والفقر والجريمة فمنذا الذي سيظل يجرؤ على أن يدفع عنها؟



وقد هز أليسون في كتابة سالف الذكر نظرية مالتس بالاستشهاد بالقوة الإنتاجية للأرض، وبمقابلة المبدأ المالتسي بحقيقة أن كل بالغ يستطيع أن ينتج أكثر مما يحتاجه هو نفسه – وهي حقيقة لم تكن البشرية تستطيع أن دونها أن تتضاعف، بل لم تكن تستطيع حتى أن توجد، إذ علام كان يمكن لأولئك الذين لا يزالون في مرحلة النمو أن يعيشوا. لكن أليسون لا يمضى إلى جذر الموضوع، ومن هنا فإن يصل في النهاية إلى نفس نتيجة مالتس. صحيح أنه يثبت أن مبدأ مالتس غير صحيح، لكنه لا يستطيع أن ينكر الحقائق التي دفعت مالتس على مبدئه.



ولو لم يكن مالتس قد درس الموضوع من جانب واحد إلى هذا الحد لما كان قد عجز عن رؤية أن فائض السكان أو قوة العمل ترتبط دومًا بفائض الثروة وفائض رأس المال وفائض ملكية الأرض. فالسكان لا يكونون كثيرين للغاية إلا حيثما تكون القوة الإنتاجية ككل كبيرة للغاية، وظروف كل بلد قبه فائض سكان – وبخاصة انجلترا – منذ أن نشر مالتس نظريته توضح ذلك تمامًا. وتلك هي الحقائق التي كان ينبغي على مالتس أن يدرسها في كليتها، والتي كان يمكن لدراستها أن تقوده على النتيجة الصحيحة. وبدلاً من ذلك فإنه أنتقى حقيقة واحدة، ولم يعط اعتبارًا للحقائق الأخرى، ومن هنا توصل إلى نتيجته الضعيفة. وكان الخطأ الثاني الذي وقع فيه هو أنه خلط بين وسائل العمالة – كون عدد الناس الذي يتم إنتاجهم يختلف عن عدد الناس الذين يمكن استخدامهم – وباختصار كون إنتاج قوة العمل قد نظمه حتى الآن قانون المنافسة، ومن هنا تعرض أيضًا للأزمات الدورية والذبذبات – تلك حقيقة يمثل أقرارها حسنة مالتس. لكن وسائل العمالة ليست هي وسائل المعيشة. ولا تزيد وسائل العمالة نتيجة زيادة القوة الآلية ورأس المال إلا في نتيجتها النهائية. أما وسائل المعيشة فتزيد حالما تزيد القوة الإنتاجية أدنى زيادة. وهنا يظهر في الضوء تناقض جديد في الاقتصاديات. "فطلب" الاقتصادي ليس هو الطلب الحقيقي، و"استهلاكه" استهلاك مصطنع. فبالنسبة للاقتصادي ليس من طالب حقيقي، ليس من مستهلك حقيقي، إلا ذلك الذي لديه معادل يقدمه مقابل ما يحصل عليه. ولكن إذا كان حقيقًا أن كل بالغ ينتج أكثر مما يستطيع هو نفسه أن يستهلك، وأن الأطفال كالأشجار التي تعطي غلة وفيرة للنفقات التي تستثمر فيها – وتلك بالتأكيد حقيقة أم تراها ليست كذلك؟ - فإن على المرء أن يؤمن بأن كل عامل لابد أن يكون قادرًا على أن ينتج أكثر كثيرًا مما يحتاج، وأن الجماعة من هنا لابد أن يسعدها أن تزوده بكل ما يحتاجه، على المرء أن يؤمن بأن على الجماعة أن ترعى كل عائلة كبيرة كعطية ترحب بها كل الترحيب. لكن الاقتصادي – بنظرته الفجة – لا يعرف معادلاً آخر غير الذي يدفع له كنقود سائلة ملموسة. وهو مستغرق تمامًا في تناقضاته بحيث أن أوضح الحقائق لا تعنيه تمامًا كأكثر المبادئ علمية.



ونحن نحطم التناقضات ببساطة بتخطيها، فمع اندماج المصالح التي تتعارض الآن مع بعضها البعض يختفي التضاد بين زيادة السكان وزيادة الثروة، تختفي تلك الحقيقة التي تبدو كالمعجزات (وهي أكثر أعجازًا من كل معجزات الأديان معًا) وهي أن على أمة ما أن تتضور جوعًا نتيجة للثروة الخالصة والوفرة، ويختفي ذلك الزعم الأحمق بأن الأرض لا يستطيع أن توفر الغذاء للإنسان، وهذا الزعم هو الاقتصاديات المسيحية – ولقد كان في وسعي أن أثبت أن اقتصادياتنا أساسًا هي اقتصاديات مسيحية من كل قضية، من كل مقولة، وسأفعل ذلك في الواقع عندما يحي الأوان. فليست النظرية المالتسية إلا التعبير الاقتصادي عن العقيدة الدينية بشأن التناقض بين الروح والطبيعة وما يترتب عنه من فساد للاثنين. وفيما يتعلق بالدين فقد حل هذا التناقض منذ أمد بعيد. وآمل أن أ:ون قد أثبت بالمثل في مجال الاقتصاديات الحماقة الكاملة لهذا التناقض. وفضلاً عن ذلك فلن أقبل كدفاع كاف عن النظرية شيئًا لا يفسر لي منذ البداية على أساس مبادئه هو كيف يمكن لشعب أن يتضور جوعًا نتيجة الوفرة الخالصة، وأن يجعل ذلك ينسجم مع العقل والواقع.



وفي نفس الوقت كانت النظرية المالتسية نقطة انتقال ضرورية تمامًا إلى الأمام بصورة لا نهائية. وبفضل هذه النظرية – والاقتصاديات بأسرها – تنبهنا إلى القوة الإنتاجية للأرض والبشرية. وبعد أن تغلبنا على هذا اليأس الاقتصادي تحصنا إلى الأبد من الخوف من فائض السكان. إننا نستمد منه أقوى الحجج الاقتصادية للتحول الاجتماعي، لأنه حتى إذا كان مالتس على حق تمامًا، فإن هذا التحول ينبغي أن يتم على الفور، لأن هذا التحول، وما يستطيع هو وحده أن يوفره من تربية للجماهير، هو الذي يجعل من الممكن فرض هذا القيد الأدبي على غريزة التكاثر الذي عرضه مالتس نفسه باعتباره أشجع وأسهل علاج لفائض السكان. وخلال هذه النظرية توصلنا إلى أن نعرف أشد انحطاط للإنسان، وهو اعتماده على مملكة المنافسة. لقد أوضحت لنا كيف أن الملكية الخاصة في نهاية الأمر قد حولت الإنسان إلى سلعة يعتمد إنتاجها وتدميرها أيضًا على الطلب، وكيف أن نظام المنافسة بهذه الطريقة قد ذبح – ويذبح كل يوم – ملايين الناس، كل هذا رأيناه، وكل هذا يدفعنا إلى إلغاء هذا الانحطاط للجنس البشري عن طريق إلغاء الملكية الخاصة والمنافسة والمصالح المتضادة.



ولكن فلنحاول أن نعود ثانية إلى العلاقة بين القوة الإنتاجية وبين السكان حتى نحرم الخوف الشامل من فائض السكان من أي أساس ممكن. لقد وضع مالتس معادلة أقام عليها مذهبة كله. فهو يقول أن السكان يزيدون وفق معادلة هندسية (1- 2 – 4 – 8 – 16 – 32 الخ...) أما القوى الإنتاجية فتزيد وفق معادلة حسابية (1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6). والفارق واضح، ومرعب، ولكن أهو صحيح؟ أين ثبت أن إنتاجية الأرض تزيد وفق معادلة حسابية. أن مساحة الأرض هذه تزيد مع زيادة السكان. بل لنفترض أن الزيادة في الغلة نتيجة الزيادة في العمل لا ترتفع دائمًا بنفس نسبة العمل: فسيظل هناك عنصر ثالث لا يعني بالطبع شيئًا أبدًا للاقتصادي وهو العلم الذي يتقدم دون توقف وعلى الأقل بنفس سرعة زيادة السكان. وأي تقدم تدين به زراعة هذا القرن للكيمياء وحدها – بل في الحقيقة لرجلين اثنين، سير همفري دافي وجوستوس ليبيج. لكن العلم يزيد على الأقل بنفس قدر السكان. فهؤلاء يزيدون في تناسب مع حجم الجيل السابق، ففي ظل أكثر الظروف طبيعية يزيد وفق معادلة هندسية. وماذا يستحيل على العلم؟ لكن من الحماقة أن نتحدث عن فائض السكان طالما أن "هناك من الأرض البور في وادي المسيسيبي ما يكفي لأن ينقل إليه كل سكان أوروبا ([6]) ، طالما أن ما يمكن اعتباره منزرعًا من الأرض لا يزيد عن الثلث، وطالما أن إنتاج الثلث ذاته يمكن أن يزيد ستة أضعاف وأكثر باستخدام التحسينات المعروفة بالفعل.



***



وهكذا فإن المنافسة تضع رأس المال ضد رأس المال، والعمل ضد العمل، وملكية الأرض ضد ملكية الأرض، وتضع بالمثل كلاً من هذه العناصر ضد الآخر. وفي الصراع يفوز الأقوى، وحتى نستطيع أن نتنبأ بنتيجة الصراع سيكون علينا أن نبحث قوة المتنافسين. وفي البداية تكون الأرض ورأس المال أقوى من العمل، لأن العامل لابد أن يعمل ليعيش، في حين أن مالك الأرض يمكن أن يعيش على فائدته، أو إذا دعت الضرورة على رأسماله أو ملكيته الرأسمالية في الأرض. والنتيجة هي أن نصيب العامل ينتهي إلى اشد الضروريات، إلى مجرد وسائل العيش، في حين يتقاسم رأس المال وملكية الأرض الجزء الأكبر من المنتجات. وفضلاً عن هذا فإن العامل الأقوى يطرد العامل الأضعف من السوق، تمامًا كما يطرد رأس المال الكبير رأس المال الأصغر، وتطرد ملكية الأرض الكبيرة ملكية الأرض الأصغر. وتؤكد الممارسة هذه النتيجة. والمزايا التي يتمتع بها الصناعي أو التاجر الأكبر على الصناعي أو التاجر الأصغر، ومالك الأرض الكبير على مالك الآكر الواحد، معرفة جيدًا. والنتيجة هي أنه في ظل الظروف العادية – ووفقًا لقانون الأقوى – يبتلع رأس المال الكبيرة وملكية الأرض الكبيرة ورأس المال الصغيرة وملكية الأرض الصغيرة – أي مركزة الملكية. وفي أزمات التجارة والزراعة تسير هذه المركزة بسرعة أكبر. فالملكية الكبيرة باعتبارها هذا تزيد بسرعة أكبر من الملكية الصغيرة لأن جزءًا أقل منها هو الذي يختصم من دخلها كنفقات ملكية. وقانون مركزة الملكية الخاصة هذا ملازم للملكية الخاصة ككل القوانين الأخرى. ولا بد أن يزيد اختفاء الطبقة الوسطى حتى ينقسم العالم إلى مليونيرات ومعوزين – ملاك كبار للأرض وعمال زراعيين فقراء – ولا جدوى لكل القوانين وكل تقسيم لملكية الأرض وكل تمزيق لرأس المال، فهذه النتيجة لا بد أن تأتي وستأتي، ما لم نستبقها بتحويل كامل للظروف الاجتماعية، بدمج المصالح المتضادة، بتخطي الملكية الخاصة.



والمنافسة الحرة – كلمة السر ألاقتصادياتنا المعاصرة – استحالة. فالاحتكار على الأقل كان يعتزم حماية المستهلك من الغش حتى ولو لم يستطع في الواقع أن يفعل ذلك. بيد أن إلغاء الاحتكار يفتح الباب واسعًا أمام الغش. أنتم تقولون أن المنافسة تحمل معها علاج الغش، لأن أحدًا لن يشتري بضائع سيئة. لكن هذا يعني أن على كل أمرئ أن يكون خبيرًا في كل بضاعة، وهو أمر مستحيل. ومن هنا جاءت ضرورة الاحتكار التي تكشف عنها في الواقع كثير من البضائع. فمواد الصيدلة الخ... لا بد أن يكون فيها احتكار. وأهم البضائع – النقود – تحتاج احتكارًا أكثر من غيرها. فإينما كف وسيط التداول عن ان يكون احتكار للدولة فقد خلق ذلك دائمًا أزمة تجارية. ويسلم الاقتصاديون الانجليز – ومن بينهم الدكتور ويد... بضرورة الاحتكار في هذه الحالة. ولكن حتى الاحتكار ليس حماية ضد تزييف النقود. ويمكن للمرء أن يتخذ موقفه في أي من جانبي المسألة: فكل منهما عسير كالآخر. فالاحتكار يخلق المنافسة الحرة، وهذه بدورها تنتج الاحتكار. ومن هنا فإن الاثنين لا بد أن يسقطاه، وهذه الصعوبات لا بد أن تحل من خلال تخطي المبدأ الذي ولدهما.



***



لقد تغلغلت المنافسة في كل علاقات حياتنا، وأكملت العبودية المتبادلة التي تربط الناس الآن. والمنافسة هي (الزنبرك) الذي ينشط مرة بعد الأخرى نظامنا الاجتماعي – أو بالأحرى لا نظامنا – الهرم الذابل، لكنه مع كل جهد جديد يستنزف جزءًا من قوة هذا النظام الواهنة. والمنافسة تحكم التقدم العددي للبشرية، وهي تحكم بالمثل تقدمها الأخلاقي. فكل من لديه معرفة بإحصاءات الجريمة لا بد أن يكون قد لفت نظره ذلك الانتظام الغريب الذي تتقدم به الجريمة عامًا بعد عام، والذي تنتج به أسباب معينة جرائم معينة. لقد تبع أتساع نظام المصنع في كل مكان زيادة في الجريمة. ونستطيع أن نتنبأ بدقة لا تخطئ بعدد عمليات القبض والقضايا الجنائية – وفي الحقيقة عدد جرائم القتل والسرقة والسرقات الصغيرة... الخ.. بالنسبة لمدينة كبيرة أو إقليم – وكثير ما تم ذلك في انجلترا. وهذا الانتظام يثبت أن الجريمة – بدورها – تحكمها المنافسة، وأن المجتمع يخلق طلبًا على الجريمة يقابله عرض مماثل، وأن الهوة التي يخلقها القبض على عدد معين أو نفيه أو إعدامه يملؤها آخرون على الفور، تمامًا كما أن كل هوة في السكان يملؤها قادمون جدد. وبعبارة أخرى فإن هذا الانتظام يثبت أن الجريمة تضغط على وسائل العقاب تمامًا كما يضغط الناس على وسائل العمالة. وأنا أترك لحكم القارئ مدى عدالة معاقبة المجرمين في ظل هذه الظروف، بغض النظر تمامًا عن أي اعتبار آخر. وكل ما يعنيني هنا هو أن أبين أتساع المنافسة إلى المجال الأخلاقي، وأوضح إلى أي انحطاط وصلت الملكية الخاصة بالإنسان.



وفي صراع رأِس المال والأرض ضد العمل يتمتع العنصران الأولان بميزة خاصة أخرى على العمل – هي مساعدة العلم. لأن العلم أيضًا – في ظل الظروف الحالية – موجه ضد العمل. فكل الاختراعات الميكانيكية تقريبًا – على سبيل المثال – قد سببها نقص في قوة العمل، وبخاصة آلات غزل القطن التي اختراعها هارجريف وكروميتون وأروكرايت. ولم يحدث أبدًا طلب متزايد على العمل لم يؤد إلى اختراع ما يزيد إنتاجية العمل كثيرًا، وبذلك يحول الطلب بعيدًا على العمل الإنساني. وتاريخ انجلترا منذ عام 1770 حتى الآن هو برهان طويل على ذلك. والاختراع الكبير الأخير في مجال غزل القطن – المغزل الآلي ذو التشغيل الذاتي – كان سببه البسيط والوحيد هو الطلب على العمل وزيادة الأجور. وقد ضاعف هذا الاختراع العمل الآلي، وبذلك خفض العمل اليدوي إلى النصف، وألقى نصف العمال خارج العمل، وبذلك هبط بأجور النصف الآخر، وسحق خطة مشتركة للعمال ضد ملاك المصانع، ودمر آخر بقايا القوة التي كان العمل لا يزال يختفظ بها في الصراع غير المتكافئ مع رأس المال (أنظر الدكتور أوري "فلسفة الصناعيين" المجلد الثاني) – غير أن الاقتصادي يقول الآن أن الآلات في نتيجتها الأخيرة لمنتجاتها، لأنها إذ تفعل ذلك تعيد في النهاية أستخدام العمال الذين طردوا من العمل. وهذا صحيح تمامًا. ولكن هي ينسى الاقتصادي عندئذ أن إنتاج قوة العمل تنظمه المنافسة وأن قوة العمل تضغط دائمًا على وسائل العمالة، وأنه بالتالي فحين يأتي أوان حلول هذه المزايا يكون هناك بالفعل فائض من المتنافسين على العمل، الأمر الذي يحول هذه المزايا إلى وهم، في حين أن الإضرار – السحب الفجائي لوسائل المعيشة من نصف العمال وهبوط أجور النصف الآخر – ليس وهمًا؟ هل ينسى الاقتصادي أنه مع تقسيم العمل، الذي طورته مدينتنا إلى هذه الدرجة، فإن العامل لا يستطيع أن يعيش إلا إذا كان يمكن استخدامه على هذه الآلة الخاصة، ولهذه العملية التفصيلية الخاصة، وإن الانتقال من طراز للعمالة إلى طراز آخر أحدث يكاد يكون دائمًا استحالة مطلقة بالنسبة للعامل البالغ.



وعندما حولت اهتمامي إلى آثار الآلات وصلت إلى موضوع آخر لا يتصل به بنفس الدرجة المباشرة وهو – نظام المصنع، وليس لدى الميل ولا الوقت لأن أعالج هذا الموضع هنا، وفضلاً عن ذلك فإنني آمل أن تتاح لي فرصة مبكرة لأن أعرض بالتفصيل اللا أخلاقية المشينة لهذا النظام، وأن أفضح بلا رحمة الاقتصادي الذي يبدو هنا بكل بريقه ([7]) .



كتبها ف. أنجلز بين أواخر 1843 ويناير 1844



ونشرت في مجلة "الحوليات الألمانية الفرنسية" في عام 1884.





--------------------------------------------------------------------------------

([1] ) فريدريك ليست (1789 – 1846) اقتصادي ألماني مشهور، دعا إلى إلغاء الحواجز الجمركية داخل ألمانيا، لكنه دعا في الوقت نفسه إلى حماية الصناعة الألمانية من المنافسة الخارجية عن طريق التعاريف الجمركية إلخ... – الناشر.

([2] ) “exchangeable value” – تعبير إنجليزي اقتبسه إنجلز – الناشر.


([3] ) أليسون "مبادئ السكان وعلاقتها بالسعادة الإنسانية" المجلد الأول والثاني – لندن 1840 – الناشر.

([4] ) الاسم القديم لاستراليا "الناشر.

([5] ) ظهرت ثلاثة كتبيات باسم مستعار هو "ماركوس" وهي: "عن امكانية الحد من زيادة السكان" بقلم ماركوس وطبعه جون هيل – بلاك هورس كورت – شارع فليت 1838 (46 صفحة) و"كتاب القتل! مرشد المفوضين والمشرفين على تنفيذ قانون الفقراء الجديد... صورة دقيقة من البحث الشهير عن إمكانية الحد من زيادة السكان بقلم ماركوس، وواحد من ثلاثة كتب.. يعاد طبعها الآن لتوجيه العامل" بقلم ويليم دوجدال – 37 شارع هوليويل – ستراند و"نظرية الإبادة دون ألم" بقلم ماركوس. أنظر ن.م. و"الإعلانات" 29/8/1840.


وهناك كتيب بقلم مجهول بعنوان "بحث عن السكان. مطبوع للتداول الخاص لحساب المؤلف" – 1838 – (27 صفحة) ويحوي الأفكار الأساسية في كتيب "ماركوس" – أنظر كذلك توماس كارليل "الميثاقة" – لندن 1840 – ص 110 وما بعدها.

([6] ) ا . اليسون – المصدر السابق – ص 548 الناشر.

([7] ) يشير انجلز هنا إلى مؤلف كان يعتزم كتابته عن التاريخ الاجتماعي لانجلترا وكان يجمع مواده أثناء إقامته هناك (من نوفمبر 1842 حتى أغسطس 1844). وكان انجلز يعتزم أن يخصص فصلاً في هذا الكتاب لظروف العمال الانجليز. لكنه فيما بعد غير راية وقرر أن يضع كتابًا خاصًا عن البروليتاريا الانجليزية وفعل ذلك عند عودته إلى ألمانيا وقد صدر كتاب "ظروف الطبقة العاملة في انجلترا" في ليبرج عام 1945 – الناشر.