لا حل للقضية الفلسطينية إلا بتفكيك الدولة الصهيونية(*)


كميل داغر
الحوار المتمدن - العدد: 2634 - 2009 / 5 / 2 - 10:12
المحور: القضية الفلسطينية     

سوف أستهل مداخلتي هذه عن الحل بعيد المدى للقضية الفلسطينية بكلمة ولو سريعة عن الحرب الوحشية الأخيرة على غزة. وهي مصادفة مأسوية، بلا ريب، ولكنها مفيدة، في آنٍ، أن تكون هذه الحرب قد حصلت قبل أسابيع قليلة من انعقاد هذا الـSéminaire، الذي نجتمع في إطاره اليوم، بما يسهِّل مهمتنا، بصورة أو بأخرى، ولا سيما أنها قد تكون تشكل منعطفاً حقيقياً في تطور الصراع العربي-الإسرائيلي وقضية تحرر الشعب الفلسطيني، وأنها تحفل بنتائج ودروس بالغة الأهمية أختصرها بما يلي:

‌أ- أنها كشفت بصورة أكثر حدة مأزق الكيان الصهيوني الخانق، بما هو دولة مصطنعة ومن الهشاشة بحيث لا تستطيع الاستمرار إلا بالعدوان الغاشم، فيما باتت هكذا نزعة تشكل مقتلاً له، بما هي هروب دموي دائم إلى الأمام لا بد من أن تأتي اللحظة التي سيفضي فيها إلى الافلاس الكامل للطرف المسؤول عنه، وربما إلى هلاكه.

‌ب- أنها عرَّت أكثر فأكثر الطبيعة الإجرامية لهذا الكيان، التي تصل حدَّ ارتكاب أبشع المجازر، وبالأسلحة الممنوعة دولياً، بحق الأطفال والنساء والعُجَّز، وغيرهم من المدنيين العُزَّل.

‌ج- أنها زادت من فضح التحالف الفعلي بينه وبين الأنظمة العربية الموصوفة بالاعتدال، بوجه أخص، ومن ضمنها سلطة محمود عباس، وواقع أن استمرار كل من طرفي هذا التحالف متوقف على استمرار الآخر.

‌د- أنها أظهرت استعداداً واسعاً لجماهير عربية متزايدة للتضامن الفاعل مع الشعب الفلسطيني ومقاومته في وجه أنظمة بلدانها، كما في وجه إسرائيل والإدارة الأميركية. فضلاً عن جاهزية شعوب العالم للتحرك النشط تضامناً مع الشعب عينه، ولا سيما إزاء فظاعة الجرائم التي ترتكبها إسرائيل.

‌ه- أنها كشفت، أكثر، ما يشكله استمرار هذا الكيان، بطبيعته الحالية، من خطر كبير على السلام العالمي، ولا سيما لامتلاكه أسلحة الدمار الشامل التي لم يتورع زعيم حزب مؤثر فيه (حزب إسرائيل بيتنا) عن الحث على استخدامها، وحرق غزة بالسلاح النووي!

وآمل أن تكون فظاعة ما حدث في غزة أخيراً كافية لجعلنا، كحركة ثورية أممية، نرتفع حقاً إلى مستوى ما يرتب علينا ذلك من مهام، ونعبِّر عن ذلك بتحديد موقف حاسم من الدولة الصهيونية، ومن مسألة الحل بعيد المدى، يكون ملزماً لشتى فروع الأممية. على أن يصل هذا الـSéminaire إلى التوافق على صياغةٍ ولو أولية لعناصر هذا الموقف بحيث تضعها اللجنة الأممية، التي ستنعقد بعد أيام، على جدول نقاشاتها، وتوصي بأن تكون جزءاً لا يتجزأ من المسائل الأساسية التي سيناقشها المؤتمر القادم ويتخذ القرار المناسب بشأنها.

هذا وقبل أن نستكشف عناصر هذا الحل، أظن أننا بحاجة لبلورة جملة من المنطلقات والمبادئ الأساسية، التي يساعد إبرازها في تكوين تصور ينطوي على أكبر قدر من الوضوح والشمولية، وهي التالية:

أولاً: ضرورة الإسراع في كل ما من شأنه الاسهام في تقريب الزمن الذي يمكن فيه أن تنضج مقدمات تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره بحرية على كامل أرضه التاريخية، قبل أن تؤدي مضاعفات الوضع الراهن إلى كوارث كبرى، قد تأخذ طابعاً كونياً في تاريخ غير بعيد. وكلنا نعلم كيف أن إسرائيل، التي سبق أن دمرت مفاعل تموز العراقي، منذ العام 1981، كانت تحاول، على امتداد السنوات الأخيرة، جر الإدارة الأميركية إلى قصف المفاعلات المزروعة في حقول شاسعة، على امتداد إيران، لمنع تطوير هذه الأخيرة لقدراتها على تخصيب الأورانيوم، بحجة سعيها لامتلاك القنبلة النووية، في حين تمتلك إسرائيل إلى الآن مئات الرؤوس النووية؛ وفي حال امتناعها عن ذلك، السماح للدولة الصهيونية بالاقدام، بذاتها، على هذه المغامرة الأبوكاليبتية المجنونة، مع ما قد يترتب على ذلك من مضاعفات كارثية، قد لا تقتصر على الشرق الأوسط وحسب، بل تتوسع لتشمل العالم بأسره.

ثانياً: أن أي حل لا بد من يأخذ بالاعتبار طبيعة إسرائيل، ليس فقط بما هي كيان قام في الأصل على اقتلاع شعب من أرضه ووطنه الألفي وممتلكاته، ظلماً واغتصاباً وعدواناً، وعبر ارتكاب جرائم متمادية ضد الإنسانية يندر مثيلها في التاريخ، بل بما هي أداة، أيضاً، مدججة بأخطر العتاد الحربي، في خدمة مشاريع الإمبريالية العالمية، ولا سيما الأميركية منها، لاستعباد شعوب منطقتنا، ونهب خيراتها، وحرمانها من التوحد، والتقدم، ومن أن توفر لنفسها مقومات وشروط تأمين الرفاه والحياة الكريمة، والسيادة والاستقلال الحقيقيين. فضلاً عن انخراط هذا الكيان في المساعي الأميركية للمزيد من تجزئة بلداننا وإحداث الشقاق والحوب الأهلية بين عناصرها المختلفة، على أسس إتنية، وطائفية، ودينية، وقومية، وحتى عشائرية، وما إلى ذلك.

ثالثاً: أن قضية فلسطين لا تعني، بالتالي، شعبها الأصلي، بوجه الحصر، بل كامل الشعوب العربية، المتضررة إلى أبعد الحدود من قيام إسرائيل، بواقعها العنصري المقيت، والدور المعطى لها ضد المصالح الجوهرية للأمة العربية ككل، بما هي إمبريالية صغرى في خدمة الهيمنة الإمبريالية العالمية. ولأجل ذلك، لا يمكن تصور حل لهذه القضية بمعزل عن مهام الثورة العربية ككل، ومن ضمنها إزالة ما يطول بلداننا من تلك الهيمنة، ونتائجها، وتقريب أجل تلك الهيمنة، بالتالي، على المستوى العالمي.

رابعاً: أنه ولو تواصلت مسيرة الاستسلام من جانب أنظمة عربية إضافية، وحتى من جانب كامل الأنظمة العربية – وهي أنظمة يسهِّل واقع السيطرة الطبقية القائمة فيها انخراطها في سيرورة من هذا النوع –، وذلك في اتجاه الاعتراف بإسرائيل والدخول في شتى أنواع العلاقات معها، سوف تبقى الشعوب العربية، على الأرجح، رافضة لذلك، ومعادية لأي تطبيع جدي معها، ما قد يؤدي في ظروف لاحقة إلى إعادة تفجير تلك العلاقات واستعادة الصراع مع الكيان الصهيوني، بما فيه العسكري منه.

خامساً: أن القضية الفلسطينية يجب أن تعود، كما بدا للوهلة الأولى، في السنوات التي تلت مباشرة قيام الدولة الصهيونية، محركاً أساسياً لعملية التغيير في المنطقة العربية. وهي الصفة التي ميَّعتها، وشوهتها، وحتى ألغتها، مؤقتاً على الأقل، خيانات وتنازلات وصفقات معظم القوى السياسية العربية والفلسطينية التي حملت لواء التحرر والتقدم والتغيير، منذ قيام إسرائيل، وحتى الآن. أكثر من ذلك، فإنه بمقدار ما تبقى هذه القضية حيَّة، ولا سيما عبر تصليب اتجاهات المقاومة وتجذيرها، ليس فقط لدى الشعب الفلسطيني، بل أيضاً لدى الشعوب العربية بشكل عام، بمقدار ما يمكن أن تتطور لتصبح محركاً أساسياً، هذه المرة، للتغيير الثوري، في كامل المنطقة العربية، وربما بذلك في العالم بأسره.

سادساً وأخيراً: أنه، في العصر الذي شهد نهاية الاستعمار القديم، تقريباً، وتحرر عشرات البلدان التي كانت خاضعة للاحتلال، بقي الفلسطينيون الشعب الوحيد الذي حُرم من حقوقه في الحرية والاستقلال وتقرير المصير، على الرغم من عشرات القرارات التي اتخذتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، منذ العام 1948، والتي تعترف له بتلك الحقوق، وتدعو لاحترامها ووضعها موضع التنفيذ.


نحو تصور أولي لحل القضية الفلسطينية

في نهاية البرنامج الموضوع لهذا الـSéminaire يطرح واضعوه، بخصوص مسألة الحل بعيد المدى، ثلاثة احتمالات، أولها هو حل الدولتين، والثاني هو حل الدولة الواحدة، من دون تفصيل، والثالث هو حل الدولة ثنائية القومية.

وفي الواقع، ومع أن حل الدولتين مطروح في الظاهر، كحل انتقالي، فنحن نعتقد بأن ثمة ضرورة لاستبعاده سلفاً، ولا سيما إذا أخذنا بالاعتبار ما فعلته إسرائيل إلى الآن، في الضفة الغربية ككل، والقدس من ضمنها، عبر إقامة عدد واسع من المستوطنات، التي بات يقيم فيها مئات الألوف من المحتلين اليهود؛ فضلاً عن الجدار العازل الذي هي مستمرة في بنائه داخل الأرض المحتلة عام 1967، والذي يقضم عملياً جزءاً هاماً من تلك الأرض، وعن الأوتوسترادات الالتفافية التي تفعل الشيئ نفسه ويُحرم الفلسطينيون من سلوكها؛ بالاضافة إلى إصرارها على السيطرة على شريط واسع بين الضفة ونهر الأردن، أي على كامل الحدود مع الأردن. ناهيكم عن منع سكان الضفة من استخدام المياه الجوفية التي تعمل على سحبها واستخدامها لحاجات سكانها؛ وناهيكم أيضاً عن التصور الذي تريد فرضه بخصوص القدس العربية، بحيث تبقى خاضعة بكاملها لسيادتها. هذا عدا منع «الدولة» الفلسطينية المزعومة، في حال قيامها، من التسلح لغير أغراض القمع الداخلي...

أكثر من ذلك، فالإسرائيليون يرفضون قَطعاً تنفيذ أي من القرارات الدولية بخصوص عودة اللاجئين إلى ديارهم. لا بل باتوا يكشفون عن مخططاتهم لترحيل عرب الـ48، داخل الخط الأخضر، إلى أراضي «الدولة» المشار إليها.

إن رفض هذا الحل يصبح مسألة في أقصى درجات الإلحاح، بالتالي، سواء لأجل الأسباب الواردة أعلاه، أو بسبب أن أي كيان سياسي فلسطيني، غربي نهر الأردن، لن يتمكن من التمتع بأي من أسباب الاستمرار، ولا سيما أنه سيكون بين فكي كماشة، أحدهما الدولة الصهيونية، إلى الغرب، والآخر هو المملكة الهاشمية، شرقاً التي عانى الفلسطينيون، طيلة 19 عاماً مما سمي وحدة الضفتين، القمع والقهر الشرسين من التاج الهاشمي وأجهزة مخابراته. فضلاً عن أنه لن يشكل حلاً على الإطلاق لملايين الفلسطينيين في الشتات، ممن سيبقون محرومين من أبسط حقوقهم في العودة إلى وطنهم وممتلكاتهم، كما تنص قرارات الأمم المتحدة. وهي القرارات التي نرى أنها تتضمن عناصر أساسية، وإن لم تكن كافية، في صورة حل متقدم للقضية الفلسطينية.

في كل حال، إن رفضنا لحل الدولتين لا يعني موقفاً عدمياً من التعامل المناسب مع كل تطور يطرأ على الصراع، المفترض أن يستمر وينمو، إذا أدى، جدلاً، إلى إجبار إسرائيل على التخلي عن أراضٍ في الضفة، كما فعلت بخصوص غزة (وكما فعلت تحت ضغط المقاومة في لبنان)، وذلك من دون قيد أو شرط، ومن دون مفاوضات معها.


من قرارات الأمم المتحدة إلى الحل بعيد المدى

إن هذه القرارات، بدءاً بالقرار 194، الذي اتخذته الجمعية العامة في العام 1948 بخصوص عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم وممتلكاتهم، والذي تكرر التذكير به، سنوياً تقريباً، حتى أواخر الستينيات من القرن الماضي، وبوجه أخص القرارات التي اتخذت بين عامي 1969 و1975، يمكن أن تشكل منطلقاً لتصور الحل، وذلك بإبراز هذه الأخيرة ما يلي:
ضرورة تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره، «من دون تدخل خارجي»، فضلاً عن «حقه في الاستقلال والسيادة الوطنيتين» (القرار 3236، الصادر في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1974).
ضرورة تمكينه من ممارسة حق العودة إلى أرضه وممتلكاته في فلسطين التاريخية،
اعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، وتهديداً للسلام والأمن العالميين؛ وإن كانت الجمعية العامة عادت فألغت، في التسعينيات من القرن الماضي، قرارها هذا، بعد قيام هيمنة القطبية الواحدة للولايات المتحدة الأميركية. علماً بأن هذا الإلغاء الظرفي البحت لا يؤثر في القيمة المعنوية لهذا القرار، الذي يجب أن يبقى مرشداً لشعوب العالم بأسرها، التي طلب إليها «التصدي لهذه الإيديولوجية العنصرية الإمبريالية» (القرار رقم 3279 للجمعية العامة، الصادر في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1975).
إعلان شرعية نضال الشعوب الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية والأجنبية، ومن بينها الشعب الفلسطيني، لأجل التحرر من هذه السيطرة «بكل الوسائل التي في متناولها، بما فيها الكفاح المسلح» (النقطة 1 من القرار 3382 الصادر عن الجمعية العامة في 10/11/1975).
اعتبار حقوق الشعب الفلسطيني، المنوّه بها أعلاه، حقوقاً غير قابلة للتصرف (inaliénables)، والإدانة الشديدة للحكومات التي ترفض حق تقرير المصير للشعوب التي تم الاعتراف لها بهذا الحق، ولا سيما الشعب الفلسطيني، مع اعتبار أن «الاحترام الكامل لحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف هو عنصر لا غنى عنه لإقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط» (النقطة ج من القرار 2672 الصادر عن الجمعية العامة في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 1970).

وبالطبع إن احترام كامل الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، وتمكينه من ممارستها الفعلية، بما في ذلك حق تقرير المصير، والاستقلال والسيادة الوطنيين، وحق العودة، سواء لمن تم تهجيرهم واقتلاعهم في العام 1948، أو لأولئك الذين تعرضوا للمصير عينه خلال حرب العام 1967 وما بعدها (أنظر بخصوص الحالة الأخيرة قرار الجمعية العامة رقم 2672 في 28/12/1970، الذي يدعو لاتخاذ «تدابير فعالة وفورية لتأمين عودتهم من دون تأخير») لا يمكن ضمانه حقاً من دون تفكيك الدولة الصهيونية الحالية، الذي يجب أن يكون عنصراً أساسياً في أي حل نهائي عادل ودائم وقابل للحياة، وذلك في تناقض مع الوعي السائد إلى الآن في صفوف أوسع الجماهير اليهودية داخل إسرائيل. هذا مع العلم أن منظوراً من هذا القبيل لا يمكن أن يصبح قابلاً للتحقيق من دون تلاقي إرادة تلك الجماهير بالذات مع إرادة الشعب الفلسطيني بوجه أخص، في سياق سيرورة تغيير جذري لهذا الوعي، من شأنها تحرير الشغيلة اليهود، في المقام الأول، وأوسع السكان اليهود الآخرين في دولة إسرائيل، من الإيديولوجيا الصهيونية.

بيد أن هذا التحول العميق في وعي الجهة المذكورة مسألة معقدة جداً، وتتطلب تبدلاً ليس أقل عمقاً في شروط الصراع الحالي وظروفه، وبوجه أخص اجتماع عوامل ثلاثة:

‌أ- رؤية برنامجية فلسطينية وعربية لمستقبل المنطقة ككل، والوجود اليهودي فيها، ولا سيما في فلسطين، تأخذ بالاعتبار مصالح أجيال عديدة من السكان الذين ولدوا وترعرعوا فيها، ولا ينتمون بالتالي لأي وطن آخر، والتطلعات المشروعة لديهم لمواصلة حياتهم فيها بسلام، وبعيداً عن أي تمييز، أو تعرض للظلم، في الوقت نفسه الذي تتم مطالبتهم فيه بعدم ممارسة التمييز أو المظالم ضد غيرهم من أصحاب الحقوق الشرعيين في الأرض عينها والوطن نفسه. على أن يكون ذلك بالتلازم مع تأكيد حق اليهود من أصل عربي، في العودة إذا شاؤوا إلى بلدانهم الأصلية، والتمتع فيها بشروط المواطنية الكاملة، والعمل على تمكين من يريد منهم من ممارسة ذلك.

‌ب- الإعداد الحثيث لكسر التوازن العسكري الحالي، المختل كلياً لصالح إسرائيل. وهو أمر يمكن ألا يقتصر على المنطقة العربية وحسب، وأن يشمل بالتالي بلداناً أخرى في هذا الشرق القلق وشديد الاضطراب، من ضمنها إيران (وربما تركيا والباكستان لاحقاً، في حال طرأت تحولات في نظامي البلدين في اتجاه تقدمي ومعاد للإمبريالية). وفي غضون ذلك مواصلة المقاومة المسلحة في وجه الدولة الصهيونية، حيث يمكن (في غزة، وفي الضفة الغربية، وجنوب لبنان، وحتى الجولان، الذي ينبغي استجماع الشروط وخلق الظروف المناسبة لتنطلق فيه مقاومة حال النظام السوري منذ البدء دونها، ويسعى الآن لإنضاج التحاقها الكامل بـ «كامب ديفيد» جديد!).

‌ج- إعادة الاعتبار لبرنامج الثورة العربية، الذي يتضمن، بين ما يتضمن، السعي الحثيث لإزالة التجزئة الراهنة، ولكن كذلك الهيمنة الإمبريالية على ثروات منطقتنا، من جهة، وعلى إرادة حكامها، من جهة ثانية. ناهيكم عن العمل، في سياق ذلك، على إطلاق المارد الشعبي من قماقم الأنظمة العربية، على اختلافها، والسعي للظفر بديمقراطية حقيقية تتيح أوسع التعبئة والمشاركة الجماهيريتين في سيرورة وضع البرنامج المنوَّه به أعلاه موضع التطبيق، بما هو برنامج يدمج مهام التحرر الوطني والديمقراطية السياسية بمهام الديمقراطية الاجتماعية، وفي حدها الأقصى تقديم إسهام شعوبنا الخاص في البناء المتدرج لاشتراكية محرِّرة، بالتلازم مع إسهامات شعوب أخرى، عبر العالم، في الجهد نفسه.

إن ما يمكن أن يلعب دوراً أساسياً للغاية في سيرورة كهذه، إنما هو خروج الشعب الفلسطيني من أوهام الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة، المبنية على قاعدة اتفاقات أوسلو، ووقف كل أشكال التفاوض مع الكيان الصهيوني، وإعادة الاعتبار لخيار المقاومة الشعبية بشتى أشكالها، بما فيها المسلحة منها، بالتضافر مع إعادة بناء م.ت.ف.، على هذا الأساس، وبما يستوعب كل القوى المقاومة بصورة ديمقراطية داخلها، وذلك على أساس الانتخاب، واستعادة تجربة اللجان الشعبية التي كانت معتمدة خلال الانتفاضة الأولى في تنظيم الحياة اليومية للشعب المقاوم. وهو أمر، على صعوبته القصوى، ربما يمثل الخيار الوحيد الحامل بإمكانية إطلاق حركة تضامن شعبية عربية وعالمية أشد تأثيراً وفعالية مع الشعب الفلسطيني وقضيته، كانت بدت ملامح أولية لها خلال الحرب الأخيرة على غزة، ويمكن أن تتعزز بمقدار ما تنجح الحركة المقاومة لهذا الشعب في الخروج من أسر العلاقة بالأنظمة، على اختلافها، إلى فضاء العلاقة مع الجماهير الواسعة المتعرضة للاستغلال والجور والقمع على يد تلك الأنظمة وبدرجةٍ لا تقل أهمية، مع ما يمكن أن تنضجه تلك الجماهير، في سياق نضالها ضد هذا الواقع، من قيادة قادرة على تنظيم نضالها وتوجيهه نحو إنجاز مهام التحرر السياسي والاجتماعي، في كل بلد، كما على الصعيد العربي العام.

وهو ما يمكن أن يشكل، مع الوقت، مدخلاً إلى تغيير الشروط التي حكمت حركة تلك الجماهير، في الأسابيع الدموية الأخيرة، وضبطتها ضمن حدود، بحيث عجزت عن إجبار الحكومات على اتخاذ تدابير ومواقف تتناسب إلى حدٍّ ما مع فداحة الجرائم التي كانت ترتكب أمام أعين العالم بأسره بحق أهل غزة الذين لم تكن تحاصرهم آلة القتل الإسرائيلية وحسب، بل كذلك جحيم التواطؤ الرسمي العربي. إن من شأن تغيير تلك الشروط، إذا أمكن أن يحدث، أن يفتح الطريق لاحقاً أمام اتخاذ الضغط الجماهيري المنظَّم الوزن الكافي لإحداث تعديل حقيقي في مدى استعداد الحكومات لاستجابته، وبالتالي الاضطرار لاتخاذ إجراآت مختلفة تماماً في مواجهة النزعة العدوانية الدائمة لدى الكيان الصهيوني، من مثل قطع العلاقات معه وسحب الاعتراف به، وصولاً إلى ممارسة شتى أشكال الضغط على الإمبريالية العالمية، والأميركية بوجه أخص، بهدف الحد من دعمها غير المشروط لإسرائيل، وللامتناع عن عرقلة تنفيذ القرارات الدولية التي سبق اتخاذها بحق هذه الأخيرة، وذلك تحت طائلة قطع النفط والغاز وسحب الأرصدة، وحتى قطع العلاقات. فضلاً عن استعادة الالتزام الصارم بقوانين المقاطعة العربية ضد إسرائيل، والضغط لأجل اتخاذ المنظمة الدولية قراراً بالمقاطعة ضد الدولة الصهيونية، على غرار ما كان قائماً ضد سلطة الأقلية البيضاء في أفريقيا الجنوبية في زمن سابق. ذلك أنه بمقدار ما تعجز الحكومات القائمة عن التكيف مع التغيرات في المزاج الجماهيري وموازين القوى السياسية والاجتماعية الداخلية، قد يفسح ذلك في المجال أمام أن تحل محلها أنظمة متجذرة إلى هذا الحد أوذاك، وأكثر استعداداً للتجاوب مع تبدلات فعلية في الوعي والمزاج الشعبيين، يمكن أن يحفزها ويعززها تجذير المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي وتصعيدها.

وإنه لمن دواعي الأسف الشديد أن يكون التجذر المتنامي، وإن ببطء، الذي تشهده الحركة الجماهيرية في أقطار عربية عديدة، إنما يحفزه تجذر حركات سياسية دينية إسلامية هي التي تضطلع الآن بالعبء الأكبر للصدام مع الإمبريالية الأميركية وإسرائيل، ولمقاومة الاحتلالات، في غياب مديد لقوى اليسار عن الاضطلاع بهكذا مهام. وهو مايكشف الحاجة القصوى لأن يستعيد هذا اليسار دوراً افتقده، ورايةً لم يستطع الاحتفاظ بها، هي راية التحرر الوطني. فهو الوحيد القادر، فيما لو نجح في استعادة موقعه القيادي في هذا المجال على المضي بهذه المهمة إلى نهاياتها، بالتلازم مع قيادته للمعركة الاجتماعية، على قاعدة برنامج ثوري للتحرر القومي والاجتماعي، بين مهامه المركزية التوحيد الشامل للوطن العربي المشرذم والمجزَّأ، والمهدد بالمزيد من الشرذمة والتجزئة، فضلاً عن الانخراط في سيرورة البناء الاشتراكي.

وهذا هو التحدي الكبير. حيث أنه الوحيد، أيضاً، الذي يمكن أن يطرح حلاً بعيد المدى عادلاً بحق للقضية الفلسطينية، ويعمل على تحويله إلى حقيقة، حلاً يكون بين عناصره الأساسية تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في العودة إلى أرضه وممتلكاته، وفي تقرير مصيره على كامل وطنه التاريخي، وبالتالي تفكيك الدولة الصهيونية بما هي كيان عنصري مرتكز، كما ورد في قرار الجمعية العامة رقم 3379، إلى «إيديولوجية إمبريالية عنصرية»؛ فضلاً عن تشجيع اليهود الإسرائيليين على الاندماج في دولة موحدة لكل أبنائها، تكون جزءاً من فدرالية عربية اشتراكية شاملة. على أن يبقى لهم، في كل الأجزاء من فلسطين، التي يظلون فيها أكثرية واضحة، بعد ممارسة الفلسطينيين حقهم في العودة وتقرير المصير، أن يمارسوا هم أيضاً حقهم الخاص بهم في تقرير مصيرهم، بالشكل الذي يوضحه بامتياز النص البرنامجي للماركسيين الثوريين العرب في العام 1973-1974، بعنوان الثورة العربية، الذي ينص على ما يلي: «في هذا الإطار إذن تنطرح مسألة السكان اليهود الحاليين في إسرائيل الذين سوف يتحولون إلى أقلية بعد إزالة الدولة الصهيونية. إن برنامج الديمقراطية العمالية إزاءهم كما إزاء كل جماعة قومية، هذا البرنامج المعادي بحق لأي شوفينية، قد حدده لينين بوضوح: «لا لأدنى امتياز لأي أمة ولأي لغة. لا لأدنى تنكيد، لا لأدنى ظلم إزاء أقلية قومية». وهذا يعني ضمانة كامل الحقوق المدنية والثقافية للسكان اليهود والمساواة الكاملة بين يهود وعرب. كذلك تقتضي الديمقراطية العمالية الاعتراف بحق الشغيلة اليهود في الإدارة الذاتية لمناطقهم، في إطار المركزية السياسية والاقتصادية الضرورية القائمة في الدولة العمالية. هو ذا البرنامج العمالي لحل المشكلة الإسرائيلية. إن مطلب «حق الأمة الإسرائيلية في تقرير مصيرها»، مرفوعاً في الظروف الحالية، ظروف بقاء الدولة الصهيونية، لا يمكن أن يكون في التحليل إلا رجعياً؛ أما بعد تحطيم الدولة الصهيونية وبعد استعادة الفلسطينيين لحقوقهم، وفقط بعد ذلك يصبح بالإمكان الاعتراف بحق تقرير المصير للأقلية القومية اليهودية في فلسطين، بما فيه حقها في تشكيل دولة مستقلة على جزء من الأرض الفلسطينية، لكن بشرط جازم هو ألا تمس ممارسة هذا الحق حقوق أي شعب، وهذا يعني قبل كل شئ أن تكون ممارسة هذا الحق منسجمة مع حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره. وفضلاً عن ذلك، لا يمكن للثورة العربية أن تقبل بخلق دولة تحمل مطامع توسعية أو دولة تسلحها الإمبريالية.وفي جميع الأحوال، يتوجب على الماركسيين الثوريين في إسرائيل أن يثقفوا البروليتاريا اليهودية بأفق الدولة الموحدة الذي يتناسب وحده مع مصالح البروليتاريا الحقيقية، مثلما يتوجب على الثوريين العرب مكافحة الميول الشوفينية في صفوف الشغيلة العرب».

أيها الرفاق

ثمة كثيرون يعتقدون أن حلاً من هذا النوع هو حل طوباوي. بيد أني لست الوحيد الذي يعتبر أن مهمة الثوريين هي أن يساعدوا في تحول الطوبى إلى واقع.




الكلمة التي ألقاها كميل داغر في الحلقة الدراسية التي نظمتها في أمستردام الأممية الرابعة في أواخر شباط/فبراير 2009 الماضي