نحو خطاب أكثر إنسانية ورحمة


خالص جلبي
الحوار المتمدن - العدد: 2530 - 2009 / 1 / 18 - 08:10
المحور: حقوق الانسان     

نحو خطاب أكثر إنسانية
بقلم: د.خالص جلبي
في أجواء جنون الحرب ومناخ الجريمة والإفلاس الأخلاقي، تتحول الكلمات إلى طلقات، والأفكار إلى أسلحة تسيل الدم وتبقر البطن فتتدلى الأقتاب..
وهكذا تصلني الكلمات في عاصفة الجنون التي تطوق المنطقة في شتاء 2006م..
لقد ورد في تاريخنا أمثلة مضيئة وكلمات مؤثرة كقوانين في علم الاجتماع والتعامل مثل:
أهل البدع يكفرون وأهل العلم يخطئون...
هكذا جاء في تراثنا؟
وأنا أضيف، وأهل السياسة يخونون بعضهم بعضا.
وحين اقرأ لكاتب هام هذه العبارة عن كاتب آخر أصاب بالحزن:
(كلب الاستعمار المطلوب لهكذا منبر أو دكان)..
ويدفعني كطبيب وجراح أوعية دموية أن أتعامل مع العبارة السامة، مثل أخذ عينة دم من مريض مصاب بالحمى والرجفان، لتشخيص طبيعة المرض المصاب به.
عفوا من التشبيه، ولكن العضوية بين الروح والبدن تتبادل التأثير.
وفي اللغة الإنجليزية درج المثل (كل هجوم هو هجوم على الذات
all Attack is self attack) )
وقد يقول قائل كلامنا هذا هجوم على الآخرين، فوقعنا في نفس المطب؟ ولكن يمكن تحريره كقاعدة بعيدا عن الأشخاص، مع كل الاحترام للكينونة الإنسانية عند الآخرين، فمن خان كينونته لم يخسر إنسانيته، ويبقى إنسانا مرشحا للشفاء.
ومن رأي الخير في نفسه رآه في الآخرين.
وفي علم النفس الحب عطاء ومشاركة، والكراهية ارتداد على الذات بتدمير الآخرين.
ولكن تدمير الآخرين هو مثل جذع جحا على الشجرة حين قطعها وهو راكب فوقه..
والسرطان في البيولوجيا يدمر الجسم ووجوده معا..
ويقول القرآن إن شانئك هو الأبتر.. فمن شتم الآخرين شتم نفسه من حيث لا يعلم....
والإنسان الذي ينقصه شيء يهاجمه في الآخرين فوجب تحرير النفس من مناطق الضعف ومنازل الانهيار..
إن نعت الآخر بأنه كلب هي في الواقع إهانة للكلب، لأنه من خلق الله، وجاء ذكره في القرآن كرامة بعد أن التحق بقوم رفضوا الوثنية والطغيان، ولكن الكاتب يريد من العبارة نفي المسحة الإنسانية، وضغط صاحبها إلى مستوى الحيوان، فاستخدمت لفظة الكلب من ثقافة تحط من قيمة الإنسان، فوجب رد الاعتبار للحيوان والإنسان..


حدثني صديقي رضوان الذي يعمل بروفيسور طبيباً في نيويورك، أنه كان في اللجنة التي تشرف على اختيار المقالات الطبية والتي تنشر في المجلة العلمية المعينة فقرر الأطباء الذين كانوا يشرفون على اللجنة تقويم المقالة قبل الإطلاع على أية معلومة تتعلق بالباحث أو الباحثة فأصبحت المقالة تقرأ على أساس علمي دون أن تتدخل عوامل الانتماء والجنس والشهرة والمستوى العلمي إضافة إلى الانتماء الجامعي وبعد هذا التغيير لا حظوا أنه ارتفعت نسبة التي تنشر للنساء وكذلك لأشخاص غير مشهورين أو باحثين من جامعات لا تتمتع بالشهرة والصيت وهذه القصة تدلنا على ا لدرجة التي تتحكم فيها عوامل المركزية وما نصنفه مهما حتى في مجال التقدير العلمي لموضوع معين وإضافة لمثل هذه المحاولة توجد محاولات أخرى وفي مجالات أخرى لجعل التقويم للأمور أكثر إنسانية وأكثر حيادية ومن إحدى هذه المحاولات في شمال أمريكا قضية تهذيب اللغة وفي هذا تحضرني حادثة حصلت قبل فترة في جامعة Mc Gill في مونتريال حيث قدم محاضر إسلامي معروف نصاً بالإنكليزية وكان على مستوى كبير من العمق والتحليل ولكنه لم توافق في الناحية الفينة متطلبات الخطاب الجامعي في زاوية لغوية فهذه المحاضرة رغم جودتها كانت بلغة ذكورية حسب مقاييس اللغة الإنكليزية الجامعية الجديدة أي أن ضمائر الخطاب والأوصاف كانت كلها بضمير المذكر وهذه أصبحت الآن نقطة حساسة في اللغة الإنكليزية بل وحدثت تغييرات محددة وأدخلت في اللغة الجامعية وأصبح الأساتذة والأكاديميون والطلبة ملزمين بها ما هي بالتحديد هذه اللغة الجديدة يسمونها بالإنكليزية (Genderneutral Ianguage) ويمكن أن تترجم بالعربية إلى (اللغة المحايدة في الجنس) أي أن اللغة التي كانت تتمحور حول ضمائر المذكر ومفاهيم الرجولة نقحت لتصبح حيادية أكثر إلى حد ما كثير من المثقفين لم ينتبه إلى هذا التغيير وبعض الذين انتبهوا مروا عنها معرضين ويوجد القليل الذي أدرك أهمية هذا الموضوع وبدأ بالفعل باستعمالها.
عندما توجه النقد إلى هذا الموضوع في السبعينات كانت القضية لا تزال هامشية وبدأ الناس باستعمالها حسب قناعاتهم الشخصية في الثمانينات فكان بطبقها الأشخاص الذين اهتموا بالموضوع وزادت حساسيتهم تجاه اللغة ومع نهاية الثمانينات كان الموضوع مطروحاً بشكل جدي في الأوساط الجامعية أجريت مناظرات ومناقشات حول الموضوع في كثير من الحرم الجامعية وألزم بعد ذلك كبديل في المحاضرات وكتابة النصوص الأكاديمية ولتوضيح الموضوع يمكن إيراد الأمثلة ولو أن هناك فوارق بين اللغة العربية والإنكليزية بالنسبة لجنس الأشياء فمثلاً في اللغة الإنكليزية كلمة رجل (man) لا تدل فقط على الرجل وإنما تعني الإنسان بشكل عام فمع أن هناك كلمة (humanbeing) إلى أن هذه الكلمة تدل على البشر كنوع ولا تشير للإنسان بالمعنى التاريخي والثقافي ولهذا كان يطلق على الإنسانية (mankind) أي الجنس الرجولي ومع محاولات تحييد اللغة استبدلت (mankind) بكلمة humankind) أو حتى humanity) أي الجنس البشري أو البشرية وطبعاً الإنكليزية غنية بالكلمات التي تنتهي بكلمة رجل (man) فكلنا يعرف كلمة الشرطي (policeman) أي رجل الشرطة وكذلك ساعي البريد يطلق عليه (postman) رجل البريد ومع التغييرات تستبدل كلمة (man) بـ (person) أي شخص أو يوضع رجل أو امرأة حسب الشخص الذي يقوم بالمهمة.
عندما بدأت هذه التغيرات تدخل في البرامج الإعلامية والجامعية كان هنالك بعض المعارضة أو الذين لم يتكيفوا معها ولكن مع مرور الوقت تعود الناس وقلما تسمع تعليقات أو تهتكات بالنسبة لهذا بل أن الموضوع انقلب إلى حد كبير فإذا وقف شخص محاضر ليلقي كلمة ولم يستعمل اللغة المحايدة شعر كثير من الحاضرين وخاصة الجيل الأصغر أنه يلحن في القول أو أن هناك نشازاً والمحاضر الذي تحدثت عنه في الأطر السابقة تخرج في جامعات بريطانيا في السبعينات وعاد إلى بلاده ورغم فصاحته وبلاغته بالإنكليزية إلا أنه لغيابه عن هذه الإضافة لم يستعمل هذه اللغة المحايدة عندما زار الجامعة الكندية هناك كثير من الناس الذين يعيشون في الغرب ويرفضون أن ينصاعوا لمصل هذه الإضافات لشعورهم بأنها سخيفة في بعض الأحيان أو ربما لشعورهم بأن العالم يتغير بسرعة وأن عالمهم الذي يعرفونه يتهدم وهذا لا يحصل للمغتربين فقط بل كما ذكرت فإن كثيراً من ناطقي الإنكليزية أنفسهم عارضوا وشعروا أن شيئاً ما يهدم وبالفعل ما هو هذا الشيء الذي يهدم؟

نحو لغة أقل عنفاً
عندما تتغير اللغة؛ فإن نظرتنا إلى العالم بالتالي تتغير، وعندما يتغير نظرتنا إلى العالم تتغير لغتنا؛ فالعمليتان تتفاعلان دائماً وبشكل ديناميكي، فعندما تتهدم مقاييس قديمة ويبنى مكانها مقاييس جديدة؛ فإن النظرة التي كانت مع تلك اللغة تتهدم أيضاً.
وبذلك يمكن القول أن الكلمات هي العيون التي نرى من خلالها العالم، فعندما نتحدث بلغة تحقر أنساناً آخر باستعمال كلمات تدل على الانتماء أو الجنس عن هذا المتحدث؛ فإن هذا يعكس ثقافتنا، وبالتالي يؤصل هذه الثقافة ويكرسها؛ فالطفل الذي يولد ويمتص اللغة في السنوات الأولى من عمره يكون قد أمتص المعاني والقيم الثقافية التي تكون مشربة في الكلمات التي بدأ ينطق بها.

الكلمات تحكينا
في مقطع إحدى روايات بيكيت الكاتب الفرنسي نجد أن إحدى شخصيات القصة تقول:(أن عناء غريب ـ خطأ غريب يجب الاستمرار ربما يكون ذلك قد حصل من قبل ربما تكون قد حملتني إلى عتبة تاريخي أمام الباب الذي ينفتح على تاريخي والذي سيثير استغرابي إذا ما انفتح).
بالفعل كيف تحكينا الكلمات؟ وكيف تعكس الكثير من المخلفات الثقافية والتاريخية؟
ربما نستطيع القول أن الموضوع لا يزال في بدايته، وأنه سيمر بمراحل تنقيحية أكثر، أي أننا سنقوم بتصفية الكثير من الآصار والأغلال التي نحملها اللغة، والتي تحملنا إياها اللغة.
أنه من المهم فهم آلية عمل اللغة في إيصال الثقافة، أو حتى في تغييرها، والموضوع يمكن أن ينظر إليه من عدة زوايا، ففي جميع أنحاء العالم توجد المصطلحات لرفع بعض الناس والحط من قيمة بعضهم الآخر سواء بنعتهم بصفات المدنية أو القروية أو حتى الطبقية.
كذلك تحمل اللغة في طياتها الكثير من العنف؛ فكثير من أمثالنا وتشبيهاتنا مشحونة بتوتراتنا العصبية ورادات فعلنا؛ فكأن الكلمات تصبح المحلول الذي تعيش وترعرع فيه عواطفنا وقيمنا؛ فإذا أخذن زاوية الانتماء الجنسي مثلاً فنجد أن للأنوثة والذكورة في اللغة العربية مدلولات مختلفة، وخاصة من ناحية النحو والصرف، فالذكورة في اللغة العربية تعطي دلالات العقل والقوة والحكمة والشجاعة، بينما الأنوثة تعكس معاني الإتكالية والضعف والتردد...
ولتوضيح هذا يمكن أن ننظر إلى كيفية استعمال التشبيهات، فعندما يراد وصف امرأة بصفات حميدة يقال عنها أنها (أخت رجال)، وفي المقابل إذا أريد التقليل من قيمة الرجل قيل عنه أنه أصبح امرأة أو بكى (مثل النساء) وهكذا دواليك.
وإذا نظرنا من الزاوية الأثنية أو الثقافة واللون، نجد أن الكلمات تعكس ينفس الدرجة عنصرية الثقافة؛ فاستعمالنا للأبيض والأسود تتجاوز عن أن تكون مجرد دلالات لألوان محددة، بل تصبح هذه الكلمات دالة على أثنية محددة؛ فنقول الجنس الأبيض أو الجنس الأسود، ولا يقف الموضوع عند هذا وحسب، بل إن دلالات الأبيض والأسود تأخذ أبعاداً أخرى فأن رأى بعضكم فيلم مالكوم X فأتمنى أنكم تتذكرون المقطع الذي نظر فيه مالكومX إلى معنى كلمة الأسود في القاموس، فيجد أن الأسود لا تدل فقط على اللون الأسود أو الإنسان الأسود، بل تدل أيضاً على البلاء والمصيبة في مثل (مستقبل أسود) أو الشر في مثل (نية سوداء) وتدل على الظلام والجهل والضعف والحيلة والقذارة، وعندما يفتح مالكومX على صفحة أخرى ليرى معاني الأبيض يجد أنها لا تدل على اللون الأبيض والإنسان الأبيض، ولكنها أيضاً تعني بياض الثلج الناصع، وتعني البراءة والصدق وحسن النية في مثل (قلبه أبيض) والمستقبل المشرق في مثل (يومه أبيض) وتدل على معاني الطهارة والعفة والشرف.
وطبعأً صعق مالكومX بهذه التعريفات وبدأ بقراءة المعجم بنهم ليعرف كيف حددت لغة الإنسان الأبيض مكان وموقع الإنسان الأسود؟ بل وكيف حددت اللغة المعاني، وكيف قسمت وصنفت البشر؟
ونحن للأسف الشديد لا يزال الكثير منا يستعملون لفظة (عبيد) للدلالة على الإنسان الأسود أو الأفريقي، ولقد عاني السود في شمال أمريكا الكثير حتى خرجوا من مصطلح (nigger) أو حتى (nigro)، حتى دخل البيت الأبيض واحد نيجرو (عفوا). في عمل يخلد حيوية أمريكا ويقتل مرض العنصرية..
وكان مالكومX من الأوائل الذين استعملوا مصطلح (African-Ammerican) أي (الأفريقي الأمريكي).
ولربما الموضوع يبدو بسيطاً للوهلة الأولى ولكنه معقد في نفس الوقت لأننا لا نستطيع التفكير خارج أطر لغتنا وهذا ما انتبه إليه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، والذي اعتبر أن اللغة من أهم الأسس التي يبني عليها المجتمع نفسه، بل يحافظ على تصنيفاته وقيمه من خلال كلماته.

نتقبل عنهم أحسن ما علموا ونتجاوز عن سيئاتهم
عندما ننظر إلى تاريخنا الإسلامي نجد أن اللغة القرآنية كانت من أهم وسائل التغيير فقط خلقت مصطلحات جديدة بينما أغفلت عن أخرى قديمة إن القرآن قدم منظاراً جديداً لرؤية العالم قدم التصنيف لما هو خير ولما هو ضار لما هو (أو هي) مؤمن أو كافر لما هو خلال ولما هو حرام فإذا كانت الأنثى تقتل وتدفن نجد أن اللغة القرآنية سمتها المودة واعتبرت وأدها ذنبا ليس هذا فقط بل أننا نشعر بالعظمة ونحن نسمع قصص الأنبياء لأن القرآن يركز على التفاصيل الإنسانية وعلى روعة مواقفهم بينما نجد في كثير من آيات اليهود والنصارى قصصاً تسخف الأنبياء وترسمهم بشكل كاريكاتوري أي أنه حدثت نقلة نوعية مع نزول الخطاب القرآني وفي لغته عرض الأمور.
إن آية (نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم) تعكس هذا الاتجاه الجديد في عرض التاريخ وسير من قبلنا وليس هذا فقط بل وتضعه كقاعدة لنافي خطابنا عن الآخرين وطبعاً يقفز السؤال إلى ا لسطح من هم الآخرون وماذا نقصد عندما نصف أحداً بالآخر هذا أيضا من قدرات اللغة على التصنيف وعادة (الآخر) هو الإنسان الذي نختلف عه في الرأي وأيضاً في العادة ننعت هذا الإنسان (الآخر) بأسوأ الصفات ونهمشه بأشنع المصطلحات.
هل هناك من طريقة في عرض الاختلاف ورؤيته بدن فرزة من خلال لغة مشحونة بالعنف والبغضاء؟
ربما هذا هو التحدي الأكبر الذي يشير إليه القرآن عندما يقول (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)أن معاركنا الجسدية ما هي إلا انعكاسات دقيقة لمعاركنا الفكرية وأنه لمن المثير جداً عندما يستعمل القرآن الجسد في إظهار إشكالية اللغة في آية (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن أثم ولا تجسسوا ولا يعتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم).
لماذا يشبه القرآن الغيبة بأكل لحم الميت؟ فكأن القرآن يربط بين القدرة على النهش في أفكار الآخرين وطعن آرائهم بان ننهش في لحومهم إن هذا تشبيه دقيق يجب أن نقف عنده ونتأمله فكثيراً ما نظن أن المعارك هي معارك الأجساد فقط ولكن إذا ما نظرنا إلى لغتنا لوجدنا أنها مليئة بالعنف والشحناء ولا تخلو لغة من هذا أو من السباب والشتائم وتصنيف الآخرين وأبعادهم ليس برصاصات وإنما بكلمات تشبه الرصاصات تمزق القلب وتجلس في الذاكرة وكلما ارتقى الإنسان صارت لغته مهذبة يرحم الخلق وينصر الحق وتبدأ لغته بعكس هذه الطريقة من التفكير والله تعالى يرينا قوة الكلمات في آيات (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثاتب وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة أجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) إن قوة الكلمات في إنماء شجرة ثقافة جديدة إلى المحافظة على ثقافية خبيثة لقوة عميقة في التاريخ إن التنبيه في القرآن في الغيبة والحث على الدفع بالتي هي أحسن وتجاوز السيئات الكثيرة في مقابل تقبل حسنة ولو كانت واحدة لهي خطوات حضارية لترقية الإنسان وتفكيره من خلال تصفية لغته من التنابز بالألقاب والسخرية من الآخرين وعندما يدشن القرآن الإنسان الذي (إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) فإنه بذلك يدشن لإنسان جديد لإنسان نقيت ألفاظه ولغته ولذلك عندما يرد بالسلام فإنه سيسلك التصرف السلمي والإنساني أنه الإنسان الذي سيخرج من شريعة الغاب وتوحش سلوكها وعنف لغتها إلى عالم لم يرفض فيه الإنسان الدخول لمثل هذه اللغة الجاهلية إن الخطاب الجاهلي هو الخطاب المعاكس للسلام ولهذا يقول (فإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) أي ردوا بلغة مختلفة ولو كان هذا من طرف واحد لأنه عندما نريد التخلص من اللغة الجاهلية من لغة الشحناء والغضاء فيجب أن نسحب في اللغة المتوحشة من طرفنا ونلزم أنفسنا بكلمة السلام وهذا ما تشير إليه آية (وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها) فنحن عندما نكون وعينا لآليات اللغة وأبعادها فصار حقاً علينا أن نلزم أنفسنا بكلمة التقوى وبخطاب السلام.
إننا أو وعينا لهذا ولم نشعر أننا أهل لهذا التغيير نكون مخادعين لثقافتنا ولغتنا والواقع أ،ه لا توجد ثقافة أو لغة في العالم غير قادرة على أن تكون أكثر إنسانية إن التغيير يعتمد على الناس الذين يعيشون هذه الثقافة ويتكلمون لغتها إنها مسئوليتهم في دفع لغتهم نحو إنسانية أكثر وكلما ارتقى الإنسان وصارت لغته مهذبة يرحم الخلق وينصر الحق ويبدأ لغته الإنسانية بعكس هذه الطريقة المختلفة من التفكير.
كانت بدأت مقالتي بالتغيير الذي ادخل على اللغة الإنكليزية وهذا كخطوة لها أبعادها العميقة فربما نستطيع القول أنها بذرة صغيرة نحو إنماء لغة أكثر إنسانية ونحو بذور أخرى تبدأ بالنمو في اللغة الأخرى وهذا لا أعنيه فقط على المستوى اللغوي بل كما حاولت شرح أبعاده الأخلاقية سوف يكون بذرة في خلق نظرة جديدة في علاقاتنا بين بعضنا البعض كبشر وكشعوب إن اللغة لا تعكس فقط علاقات أو مواقع افراد الناطقين بها بل أن مجازات التعبير عن الذات وعن الآخر تعكس النظرة إلى النفس ومركزيتها.
وعندما يتحدث الغربي عن حضارته ويشير إلى كل الحضارات المتنوعة بالثقافات العديدة بكل بساطة بجملة(نحن وبقية العالم) فإننا نرى مباشرة هذه المركزية.
انتبه المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي إلى هذه الظاهرة في التراث الغربي وكيف يجعل من نفسه مركز العالم ومركز التاريخ فندد توينبي بهذه المركزية والتي أطلق عليها (أوهام مركزية الذات) التي تعمي عن الرؤية المتوسعة لتاريخ الإنسانية.
وفي هذا يتحدث كيف أن علماء الاجتماع الغربيين من أنثروبولوجيين ومستكشفين كانوا يلقبون الشعوب الأخرى بـ (السكان الأصليين) أو بالإنكليزية (Natives) فتوينبي يذكر أن هذا المصطلح كان يضع الإنسان (الآخر) في مصاف الأشياء مع الطبيعة والحيوانات والجبال التي يراها ويصادفها الرحالة الغربي ومن بينها أحياناً (السكان الأصليين) والذين يتحولون في مخياله إلى مجرد لوحة مثيرة خلابة قابلة للدراسة والتأمل وكان هؤلاء السكان الأصليين هم أقل إنسانية من هذا الذي يقوم بدارستهم كما يذكر توينبي إننا جميعاً كبشر نقع في مثل هذه الأوهام المركزية ولغاتنا تعكس هذه الخيالات المترسبة في أعماق ذاكرتنا الجمعية وكما ذكرت في مقالة سابقة فإن مصطلحات الزمان هي أيضاً إحدى ألاعيب اللغة في أبعاد أو تقرب الآخرين فمصطلحات المتقدم والمتخلف والرجعي والمتطور كلها ألقاب زمانية يراد منها معان سلبية أو إيجابية أي أنها مصطلحات لتصنيف الذات عن الآخرين عن الذين لا نراهم في مستوانا في مرتبتنا العظيمة التي وصلنا إليها والتي نريد أن حميها بحواجز لغوية غير مرئية تماماً كالأسلاك الشائكة التي تبقي الآخرين بعيدين عن حقولنا فعندما نصف الآخرين أي الذين نختلف عنهم بالرأي بالتخلف والجهل وسوء النية فإننا نرسم الخريطة بكلمات واضحة حتى لا يدخل دودنا هؤلاء الذين لا نستطيع أن نرى فيهم بشريتنا والتي نتشارك فيها جميعاً بنفس الدرجة إن الكلمات أقوى من الرصاص لأنها تخلق وتحمي هذه الخرائط غير المرسومة إنها تبقى على الحدود المحرمة والتي لا نريد أن يشاركنا فيها الآخرون ولكن المشكلة هي أنه عندما نبعد بكلماتنا الآخرين ونهمشهم بكلماتنا فإننا بدون أن نعي نكون قد أصبحنا سجناء هذه الكلمات نفسها فإن كنت أرى نفسي المركز والأخر هو الهامش وتسمت الدود بشدة فإن الآخر أيضاً لا يستطيع أن يرى إنسانيته أيضاً وأصبح أنا المتوحش في مصطلحاته بينما يصبح هو السيد المتحضر في لغته والخروج من هذا السجن اللغوي ومن طرف واحد هو من أهم الخطوات لفتح ثقافتنا وأفكارنا على بعضها حتى يبقى النافع منها ويذهب الزبد جفاء هذا الزبد الذي نحميه بكلماتنا ربما تنسفه كلمات ثقافة أخرى حتى تنمو لغتنا ونرى إنسانية بعضنا البعض ولقد دشن القرآن نقلة كبيرة حين إن الذين قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه والآخرون ليسوا على شيء بينما خلق القرآن لغة إنسانية مهذبة حينما خاطب الناس بقوله (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيرا) وبهذا أراد القرآن مراجعة ثقافتنا وحتى موقعنا من الله ومن الحقيقة.