انطباعات يساري عربي عائد حديثاً من موسكو الجديدة

كريم مروة
الحوار المتمدن - العدد: 2413 - 2008 / 9 / 23 - 10:08
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

-1-
يبدو، للوهلة الأولى، بالنسبة إلى اليساري من الجيل القديم خصوصاً، حين يزور مدينة موسكو، العاصمة الحالية للإتحاد الروسي، كما لو أن موسكو الجديدة هذه ما تزال هي ذاتها موسكو القديمة تلك، عاصمة للإتحاد السوفياتي السابق. وللإشتباه، في هذه الرؤية الأولية للمدينة، بعض ما يبرره في الشكل. فالمدينة ما تزال تحتفظ بالأساسي من معالم عمرانها. لكن الأساس فيما يدعو إلى الإشتباه في هذه الرؤية للمدينة، هو من صنع الخيال الذي تحيكه الذاكرة القديمة عند اليساري من الجيل القديم، خصوصاً. وهي ذاكرة يستعصي ما في داخلها من وقائع ومن أحداث ومن أحلام، على النسيان. ذلك أن الحنين إلى ماضي الإتحاد السوفياتي القديم، وإلى وعود الإشتراكية التي كانت مليئة بالأحلام الجميلة، هو، بمعنى من المعاني، نوع من الملاذ يلجأ إليه المحبطون من جراء الإنهيار المدوي للإتحاد السوفياتي، ومن جراء سقوط الإشتراكية برمتها، بعد ثلاثة أرباع القرن من بداية تجربتها. ذلك أن تاريخ الإتحاد السوفياتي السابق على الإنهيار كان تاريخاً عظيماً، لا يقلل من عظمته حجم الإختلالات الكبيرة فيه التي قادته إلى الإنهيار. لكن هذا الزائر اليساري القديم لموسكو الجديدة سرعان ما يخرج من أحلام يقظته، حين يرى أن الأمور قد تغيرت تغيراً جوهرياً، وأن الوقائع الجديدة في حياة المدينة وفي حياة أهلها هي من نوع مختلف بالكامل عما كان عليه الحال قبل عقدين من الزمن، مرا بسرعة البرق، وأزالا آثار سبعة عقود من الزمن الإشتراكي القديم، أو ما كان يسمى، بكثير من التعسف، نظاماً إشتراكياً. عندئذ يبدأ الزائر اليساري لموسكو رحلته السياحية من دون أحلامه القديمة، ومن دون أوهامه فيها، على وجه الخصوص.
لا بد من الإعتراف هنا، في الإشارة إلى الزائر اليساري لموسكو، بأنني، أنا اليساري من الجيل القديم، كنت واحداً من هؤلاء الزوار للمدينة. وكنت من أكثر الذين زاروها على امتداد أربعة وخمسين عاماً متواصلة، من دون انقطاع. كان ذلك في الزمن السوفياتي، في البدء، ثم استمر في الزمن الجديد. وكنت بين عامي 1988 و1989 شاهداً على بداية التحول الكبير العاصف في بلد الإشتراكية الأول، التحول في الإتجاه الذي سرعان ما قاد النظام السوفياتي، في زمن البروسترويكا تحديداً، إلى الإنهيار. وكنت، مثل سواي من الإشتراكيين، القدامى والجدد، ممن صعقوا لهول الحدث، رغم أنني كنت على شبه اليقين، -ولا أصدق- بأن الإنهيار قادم لا محالة، عاجلاً أم آجلاً، بسبب تراكم الخلل في النظام السوفياتي، الذي كنت شاهداً حذراً على بعض نماذجه، على امتداد عقود. لكنني، بخلاف الكثيرين من إشتراكيي الزمن القديم والزمن الحديث، خرجت من دون تأخير، ومن دون تردد، من حالة الإحباط إلى الإنخراط في البحث عن المستقبل، بواقعية، ومن دون أوهام، وبنفس طويل جداً، لا يحسب حساباً متعسفاً ومتعجلاً للأعوام. وقررت، وأنا في غمرة هذا البحث الصعب عن المستقبل، أن أزور موسكو، في ظل النظام الجديد، مزوداً بما حفلت به الأنباء عن أعمال النهب التي قادتها ونظمتها مافيات قديمة ولدت من رحم النظام السوفياتي، ومافيات حديثة، ولدت في زمن يلتسن السيئ الذكر. وكانت الزيارة تلك مع صديقي نديم عبد الصمد في أواخر تسعينات القرن الماضي، بعد سبعة أعوام على الإنهيار. لم نفاجأ كلانا بما رأيناه. لكننا لم نخف ما أصابنا من ألم ووجع وحزن إزاء ما كنا نرى ونسمع ونقرأ. وبعد عودتنا من تلك الزيارة كتبت بحثاً مطولاً حاولت أن أحدد فيه أسباب الإنهيار. وكانت تلك الأسباب، في تصوري لها، خمسة عشر سبباً. كما حاولت في ذلك البحث أن أرسم الملامح الأولى لمستقبلنا كإشتراكيين، في الحقبة القادمة، والملامح الأولى لما كان ينبغي علينا عمله من أجل النهوض بمشروعنا الإشتراكي من جديد، في شروط العصر، عصر العولمة الرأسمالية الطاغية بكل مظاهر التوحش فيها.
كانت زيارتنا تلك زيارة سياسية. قابلنا فيها سياسيين ومثقفين. وكانت لنا لقاءات مع قادة الحزب الشيوعي الروسي، في شكل خاص. ودخلنا في سجالات عديدة مع من التقيناهم. وعدنا بأمل ضعيف، ضعيف جداً، بقدرة شيوعيي اليوم، من الروس خصوصاً، على اكتشاف أسباب الخلل التي أدت إلى سقوط التجربة، لكي ينهضوا بالمشروع الإشتراكي من جديد، ليس للعودة إلى النظام القديم، بل لاكتشاف الطريق الجديد الذي يقود إلى نظام أكثر ارتباطاً بقيم الإشتراكية، وأكثر تعبيراً عن طموحات الحالمين بالحرية وبالتقدم وبالعدالة الإجتماعية، وأكثر احتراماً لشروط العصر وللتحولات فيه، المتناقضة في اتجاهاتها.
وانقطعت عن زيارة موسكو عشرة أعوام بكاملها، كنت فيها أراقب من بعيد التحولات التي كانت تجري في روسيا الجديدة، وسط صراعات صاخبة بين مافيات هنا ومافيات هناك. وكنت أراقب، بحذر وقلق، بدايات أولية لتغيير ما، كانت تبدو لي ضبابية. وكانت تلك البدايات، كما كنت أتصورها، تطل على العالم وسط تلك الصراعات، مؤذنة بشيئ ما. وهي كانت تعبيراً أولياً وحذراً عن رغبة في مكان ما، على أبواب الكرملين أولاً، توحي بذلك التغيير القادم في زمن لاحق. ثم سرعان ما أصبحت هذه الرغبة أقرب ما تكون إلى سياسة رسمية عندما انتقل أحد حملتها والمعبرين عنها إلى داخل أسوار الكرملين. وهي رغبة كانت، ولا تزال، مقرونة بسياسة ذات نكهة قومية روسية، يريد أصحابها أن يعيدوا بها لروسيا مجدها القديم، والأكثر قدماً، ويحرروها، ولو بالتدريج، وبخطوات محسوبة، مما أوقعتها فيه صراعات المافيات المشار إليها، وبعضها كان قديماً، وكان ذا نفوذ في العهد السوفياتي، وبعضها ولد فجأة، في مرحلة الإنهيار، وفي غياب الدولة. وكان الرئيس بوتين هو صاحب تلك الرغبة، وصاحب تلك الرؤية، والهدف المتصل بها. وهو ما عبرت عنه سياساته خلال عهدين من ولايته، وعبرت عنها برامجه، وبعض إصلاحاته التي لم تستكمل بعد أهدافها المعلنة، والمضمرة، الأهداف التي ترمي إلى نقل روسيا من دولة عالمثالثية، إلى دولة عظمى من دول العصر الحديث، عظمى في السياسة وفي الإقتصاد، وفي التطور العلمي، وفي الميدان العسكري.


-2-

في زيارتي الجديدة هذه، الزيارة التي كانت زوجتي نجوى رفيقتي فيها، دخلنا إلى موسكو سياحاً لا سياسيين. لم نقض في موسكو سوى أربعة أيام. لكنها كانت أياماً جميلة وغنية استعدنا فيها ذكريات الماضي القريب وبعضاً من ذكريات الماضي البعيد. وزرنا المعالم القديمة والجديدة في المدينة. كنا ضيوفاً لصديق قديم، من الجيل الجديد. وكان هذا الصديق قد غادر الشيوعية إلى نقيضها، من دون أن يتخلى عن أي من قيمها الإنسانية العظيمة. وهو، لذلك، يقدم نفسه، من دون افتعال، إلى أصدقائه القدامى والجدد، كإنسان يمتلك سمات وصفات الرجل الذي لم تقو طبيعة عمله كرأسمالي على إحداث تغيير سلبي في سلوكه. فهو، بهذه السمات والصفات، إشتراكي بمعنى من المعاني، حتى وهو يمارس عمله كرأسمالي. ولولا أنني أعرف أنه لا يحب أن يذكر اسمه، تواضعاًَ طبيعياً منه غير مفتعل، لجهرت باسمه من دون تردد، معتزاً به وبصداقته وبسماته وبصفاته الإنسانية الرفيعة.
اكتشفت في هذه الزيارة لموسكو أموراً لم أرها في زيارتي السابقة. تغيرت المدينة كثيراً في أمور عديدة. لكنها ظلت، بالنسبة إليّ، هي موسكو التي أعرفها منذ أربعة وخمسين عاماً. الذي تغير فيها هو النظام السياسي. وهذا أمر واضح لا لبس فيه. لكن الساحة الحمراء، وهي أجمل ساحات الدنيا، لم تتغير. والكرملين لم يتغير، حتى وإن كان قد تغير نوع ساكنيه، وتغير العلم الذي يرفرف فوقه. ولم تتغير الكنيسة التي تنتصب بتاريخها العريق إلى يمين الكرملين. واليمين، كاتجاه وكوجهة، هو الموقع الطبيعي للكنيسة. لذلك فهي لم تتغير، ولا كان بمقدور أحد أن يغيرها، حتى ستالين، الذي تجرأ ذات عام على هدم كنيسة كانت قائمة على ضفاف نهر موسكو، وأقام مكانها مسبحاً شتوياً، كنت من رواده خلال زياراتي لموسكو وإقاماتي المتعددة فيها. وهي الكنيسة التي أعاد بناءها يلتسين بأكثر ضخامة مما كانت عليه، كشكل من أشكال التعبير عن ارتداده القبيح عن شيوعيته، وكشكل من أشكال التحدي لأجيال الشيوعيين القدامى والجدد، وذلك تحت الشعار الزائف الرامي إلى إعادة الإعتبار إلى حق المواطنين الروس في أن تكون لهم كنيستهم. وهو موقف لدى يلتسين، في هذه القضية بالذات، يشير إلى أنه، إذ كان يتحدث عن حق فقد كان يريد بهذا الحق باطلاً. وكان سلوكه السياسي والشخصي يؤكد ذلك، لا سيما في ادعائه إقامة نظام ديمقراطي في روسيا. فديمقراطيته تلك كانت، تحديداً وبدقة، "ديمقراطية" المافيات التي باعت روسيا، في زمن يلتسين، إلى خصومها في الداخل وفي الخارج.
ضريح لينين لم يتغير هو الآخر. بل هو ما زال يحتل مكانه في قلب الساحة الحمراء خلف جدران الكرملين. الضريح هو ذاته الذي ما يزال يحج إليه الشيوعيون الروس من الحرس القديم. أما جثمان لينين ذاته، المسجى داخل الضريح، فهو ذاته أيضاً. ولم يجرؤ أحد من أعداء الشيوعية، في السلطة وخارجها، على المس به والإساءة إليه. وهو أمر لم تعد له علاقة بالأيديولوجيا. فبقاء الضريح صار، في الزمن الحالي، شكلاً من أشكال التعبيرعن موقف قومي روسي، في مواجهة بعض الرموز الروسية البشعة للرأسمال الطفيلي، التي لا صلة تربط بين مصالح أصحابها وبين مصالح روسيا الحديثة، كدولة سيدة طامحة للعب دور في العالم المعاصر. وباستطاعة الناظر إلى عينيّ لينين المحايدتين أن يستقرئ فيهما ماذا كان يريد هذا القائد التاريخي لروسيا ولثورة أوكتوبر الإشتراكية أن يقول، لو نطق لسانه المحايد المطبقة عليه شفتاه المحايدتان، لمن ورثوا ثورته ومشروعه لبناء الإشتراكية، أو ادعوا وراثتهما. يستطيع المشاهد، مثلي خصوصاً، أن يتخيل لينين وهو يلقي خطاباً نارياً يلعن فيه، بلغته الساخرة اللاذعة، وبلكنته المعروفة، كل أسلافه، القدامى منهم والجدد، الذين خانوه وخانوا "سياسته الإقتصادية الجديدة" (النيب)، التي صوّب فيها وسدد مشروعه الإشتراكي في التجربة، في أعقاب ثورة أوكتوبر وبعد الإنتهاء من الحرب الأهلية. وهو المشروع الأول من نوعه، الذي كان يرمي إلى تصحيح مسار حركة التاريخ في الإتجاه الذي يحقق للبشرية الحرية والتقدم والعدالة الإجتماعية، في أرقى معانيها.
مسرح البولشوي الذائع الصيت لم يتغير هو الآخر. وليس بمقدور أحد في روسيا أن يغير هذا المعلم التراثي العظيم الذي هو مفخرة روسيا ومعجزتها، في الأزمنة كلها، قديمها وجديدها. إلا أن هذا البولشوي هو اليوم قيد الترميم والتجديد. وقبالة البلشوي ينتصب تمثال من الغرانيت لماركس، مثبت على الأرض، تظهر فيه بوضوح مدهش الملامح الأساسية لعبقري الألفية الثانية. وتتخيل، وأنت تنظر إلى ماركس التمثال، تتخيله يقول شيئاً ما مهماً، مما اعتاد أن يقوله في حياته العامرة. والشيئ الذي كان سيقوله، لو كان بمقدور الصخر أن ينطق، هو، في تصوري له، أقوى وأشد سخرية مما كان يقوله في سجالاته مع أصدقائه. ويكاد الواقف قبالة التمثال يسمع رنين الكلام القادم من الأزمنة القديمة، ينطق به ماركس بسخريته المعروفة، معاتباً لينين على تجاوزه، في ثورة أوكتوبر، الشروط التي وضعها له كممر ضروري وأساسي للإنتقال إلى الإشتراكية. وكأنه، كان سيعلن، فيما كان سيقوله لو نطق التمثال، مثلما سبق له أن أعلن في حياته، تبرؤه من "الماركسية" التي ادعى الكثيرون من اشتراكيي الأزمنة المختلفة، قديماً وحديثاً، انتماءهم إلى مرجعيته الفكرية بأنها ماركسيته. فتلك "الماركسية" كانت ماركسيتهم هم، ولا علاقة لها بماركسيته هو. وتبدو في ابتسامة ماركس، الظاهرة جلياً في التمثال العامر بالحياة، معالم سخرية من التاريخ، الذي كان قد صنفه هو وحدد له مساره، فيما يشبه الحتمية، بجملة من التشكيلات الإقتصادية-الإجتماعية، كانت تخلي كل واحدة منها، بعد استنفاد دورها التاريخي، مكانها للأكثر تقدماً، وصولاً، بالتسلسل التاريخي، إلى الشيوعية، التي كان ينهي بها ماركس التاريخ. لهذه السخرية الظاهرة على شفتي ماركس، في تمثاله البالغ الدقة في الصنع حتى ليكاد ينطق بالحياة، معنى راهن يشير، في تصوري له، إلى نقد ماركس للذين لم يقرأوا استشرافه للمستقبل، حتى وهو يقدم للحقبة التي عاش فيها مشروعاً فيه الكثير من الحلم حول مستقبل العالم. بل أن المتأمل في التمثال يشعر، أو يتخيل، ماركس حياً، يفكر فيما آلت إليه أفكاره، وفيما آل إليه مشروعه العظيم لتغيير العالم من خراب. يفكر ماركس ويتأمل ما حدث، مذكراً الأجيال الإشتراكية الجديدة بأن التاريخ "لا ينتهي" إلاعندما يتحقق ما وعد به هو البشرية في مشروعه. وما وعد به، وهو عظيم لم يسبقه إليه أحد، يتلخص بتحقيق الحرية والسعادة والتقدم للشعوب كافة، كأقانيم ثلاثة متحدة فيما بينها اتحاداً عميقاً وراسخاً.
لكن ما هو مثير للدهشة، سياسياً في الدرجة الأولى، هو ما شاهدناه في المتحف الحربي من اعتزاز قومي روسي وسوفياتي في آن، بالإنتصار الذي حققه الجيش الأحمر في الحرب العالمية الثانية، التي يعطيها الروس صفة الحرب الوطنية الكبرى، الإنتصار على الفاشية، وعلى جيوش هتلر التي اجتاحت أقساماً واسعة من أراضي الإتحاد السوفياتي، وخلفت عشرين مليون شهيد، ودماراً عظيماً كان لمدينتي ليننغراد وستالينغراد النصيب الأكبر منه. يضاف إلى هذا المتحف الرائع الإتقان، ما شاهدناه من رسوخ في التاريخ وفي الحضارة وفي المعرفة، في البنيان الشامخ لجامعة موسكو، المقيم سعيداًً على هضاب لينين، وسط الحدائق الغناء، التي يطل منها هذا الصرح العلمي الكبير على مدينة موسكو في أبعادها الجغرافية المتمادية في الطول وفي العرض. أما المقر الرائع للكنيسة الروسية، الذي يبعد ستين كيلومتراً إلى الشمال الشرقي من موسكو، فهو ذاته، لم يتغير فيه سوى الإسم، الذي استبدل في العهد الروسي الجديد باسم المؤسس القديم للصرح، الراهب سرغي العظيم.
إلا أن ما استغربته واستهجنته، وشاركتني نجوى استغرابي واستهجاني، هو تغيير اسم غوركي الذي كان يطلق على الشارع الذي يقودك من ساحة ماياكوفسكي إلى الساحة الحمراء، مروراً بالساحة التي كانت تفصل بين "المانيج" (Manege) وفندق موسكو الكبير، الذي يخضع اليوم للترميم والتجديد. ذلك أن إزالة اسم غوركي عن هذا الشارع، المليء بذكريات قديمة وحديثة تستعصي على النسيان، كانت قراراً يحمل الكثير من الإساءة المتعسفة إلى كاتب عظيم، تجاوز بأهميته الثقافية والأدبية حدود روسيا إلى العالم الأوسع. ولن أتحدث، هنا، عن العديد من التشويهات التي أدخلت إلى بعض ساحات موسكو، باسم الحداثة، ولا عن ناطحات السحاب في أطراف موسكو، التي تشبه النشاز في اللوحة الجميلة. لكن المهم، في نهاية المطاف، هو أن موسكو ما تزال هي ذاتها، في معالمها الأساسية. إذ أن هذه المعالم لم تتغير، رغم أن النظام السياسي والإقتصادي والإجتماعي في روسيا قد تغير بالكامل. وكون موسكو لم تتغير في معالمها الأساسية، هو أمر يفرح قلب محبي هذه المدينة التاريخية، السياسيين منهم والمثقفين والسياح، الشيوعيين منهم، القدامى والجدد، وأعداء الشيوعية، على حد سواء.


-3-

لا يمكن لزائر موسكو إلا أن يتذكر تاريخ هذا البلد العظيم، وأن يتذكر الرموز الكبيرة لهذا التاريخ، وأن يتذكر، في الآن ذاته، الإنجازات الكبرى التي تحققت في عهد الإشتراكية، وأن يتذكر الأخطاء الفادحة التي ارتكبت، باسم الإشتراكية وباسم مشروع ماركس لتغيير العالم، وخانتها وخانته، وأدت إلى سقوط التجربة. التذكر، هنا، ليس عملية مفتعلة. ولا هو واجب كل من يزور موسكو، شيوعياً كان أم معادياً للشيوعية. التذكر يأتي تلقائياً، من دون افتعال. فليس سهلاً أن تذهب إلى موسكو، بعد أقل من عقدين من الزمن، ولا يدهشك كيف تم الإنتقال بهذه السرعة المذهلة، بعد ثلاثة أرباع القرن، من نظام كان عالمياً، وكانت موسكو مركزه، إلى نظام نقيض لذلك النظام، نقيض له بكل المعاني، وبأسوأ ما يكون عليه النقيض للنقيض.
إلا أن التذكر، والحنين إلى الماضي، والوهم باستعادته، والمراهنة على ذلك، والبقاء في أسرهذا الماضي، وعدم التحرر منه، وعدم الإلتفات إلى المستقبل، وعدم التفكير في كيفية بنائه من جديد في شروط العصر، في الإتجاه الأفضل والأرقى، إن التذكر، من دون هذه الأمور والوقائع شيئ، والتذكر، مع أخذ هذه الأمور والوقائع بعين الإعتبار، والعمل لتغييرها بآليات جديدة، وبقوى جديدة، وبأفكار ومفاهيم جديدة، شيئ آخر. وأعترف بأنني، برغم ما أصابني، أسوة بالآخرين من إشتراكيي بلادي واشتراكيي العالم، من صدمة ومن خيبة من جراء الإنهيار، فإنني قد تجاوزت، منذ وقت مبكر، تلك الخيبة وتلك الصدمة، وانخرطت، وما زلت منخرطاً، في البحث عن المستقبل، مستنداً إلى الأساسي من أفكار ومفاهيم ماركس التي ما تزال قابلة للحياة، تاركاً للتاريخ ما شاخ من أفكاره ومفاهيمه، ومسترشداً بمنهج ماركس المادي الجدلي، على وجه الخصوص. لذلك فقد سبقت زيارتي إلى موسكو، وهي زيارة سياحية بالدرجة الأولى، قراءة نقدية للتجربة الإشتراكية، وقراءة نقدية لتجربتي فيها. وهي قراءة تضمنتها كتبي وكتاباتي. وهي كتب وكتابات لم تنته بعد وسترافقني فيما بقي لي من عمر. إلا أنها قراءة أنتقل فيها من الماضي إلى المستقبل، آخذاً في الإعتبار أن التاريخ هو تواصل بين ماض مضى ومستقبل آت، وأن لكل حقبة في التاريخ البشري شروطها وأفكارها ومفاهيمها، وأن لكل حقبة قواها الجديدة، ولها تناقضاتها الجديدة الخاصة بها، ولها أساليب وأدوات صراع بين هذه القوى الجديدة، صراع على الحاضر القائم، وصراع على المستقبل بوجه خاص.



-4-


سبقت زيارتنا لموسكو أحداث دراماتيكية، تمثلت بالعدوان الأميركي بأداة جورجية على أوسيتيا الجنوبية، الواقعة على الحدود الفاصلة بين روسيا وجورجيا. وهو عدوان أرادت منه الولايات المتحدة الأميركية أن تفهم روسيا الجديدة، روسيا الحاملة همومها ووعودها باستعادة بعض مجدها القديم، من دون شيوعيتها السوفياتية السابقة المنهارة، أرادت أميركا من ذلك العدوان بالواسطة أن تفهم روسيا أن طموحاتها المشار إليها ممنوعة باسم الهيمنة الأميركية على العالم القائمة، من دون منازع، منذ انهيار الإتحاد السوفياتي. لذلك كان الرد الروسي على العدوان، بأهدافه الأميركية، سريعاً وعاصفاً وصاعقاً. وكان رداً طبيعياً، في ظروف روسيا وفي ظروف المنطقة المحيطة بها، رغم ما حمله هذا الرد من التباس، تمثل في استيلاء القوات الروسية على مناطق تابعة لجورجيا. فالتدخل من قبل بلد كبير في بلد صغير، سواء كان سياسياً أم عسكرياً، يتعارض، من حيث المبدأ، مع حق الشعوب في تقرير مصيرها، حتى وهي تقرر مصيرها في شكل خاطئ. ولا يقلل من أهمية احترام هذا المبدأ ما يقدم من "تبريرات مشروعة"، بما في ذلك من نوع ما قدمه الروس تفسيراً وتبريراً لتدخلهم العسكري، رداً على العدوان الأميركي بواسطة جورجية، على أوسيتيا الجنوبية المتنازع عليها بين البلدين. كان الرد الروسي، إذن، برغم التباساته، يرمي إلى التأكيد، ولو متأخراً، بأنه لم يعد مسموحاً أن تظل الولايات المتحدة الأميركية تمارس هيمنتها على العالم، من دون أن تتصدى لها الدول القادرة على ذلك. وروسيا هي، في الوقت الذي بدأت تستعيد بعض قدراتها الإقتصادية والعسكرية، البلد الأكثر قدرة، والمؤهل أكثر من سواه، على الوقوف، ولو بحدود معينة، في وجه هذه الهيمنة الأميركية على العالم، المتواصلة من دون رادع. وكان مفترضاً بأوروبا الموحدة أن تفعل ما فعلته روسيا. لكن القارة العجوز ما تزال عجوزة وضعيفة ومفككة، برغم وحدتها الواعدة. ومعظم بلدانها ما تزال خاضعة، بنسب متفاوتة، بسبب ضعفها وعجزها وتفككها، في الكثير من سياساتها، لسياسة وأهداف الولايات المتحدة الأميركية. وكان قد برز ذلك، في شكل فاضح ومثير للريبة و للقلق، في انصياع أوروبا لإرادة الولايات المتحدة الأميركية في العمل، سياسياً وعسكرياً، لتدمير يوغوسلافيا وتفكيكها وتحويلها إلى منطقة متفجرة. كما يبرز ذلك اليوم بانصياع أوروبا للإرادة الأميركية في الدرع الصاروخي المستهدفة به روسيا أكثر من سواها، وفي منع روسيا الجديدة من استعادة ما تطمح إليه من موقع يعود لها في العالم المعاصر.
كان من الطبيعي، إذن، أن يكون موقفي، قبل أن أصل إلى موسكو، تعليقاً على العدوان الجورجي الأميركي، عبر قناة "روسيا اليوم"، مؤيداً للرد العسكري الروسي. فهذا الرد إنما يستهدف، في قراءتي له، إلى جانب تحذير روسيا للولايات المتحدة الأميركية، توجيه تحذير إلى الدول المجاورة لروسيا، سواء تلك التي كانت في الماضي أجزاء من الإتحاد السوفياتي، أم تلك التي كانت أجزاء من النظام الإشتراكي العالمي الذي كانت روسيا تتزعمه. ويرمي هذا التحذير الروسي لهذه البلدان إلى جعل قادتها يفكرون ملياً قبل ارتكاب أخطاء مميتة من نوع ما فعلته جورجيا. إلا أنني، في الوقت الذي كنت أعلن فيه وقوفي سياسياً إلى جانب روسيا، كنت أؤكد على ضرورة حل القضايا القومية المعقدة في منطقة القوقاز، وهي قضايا قديمة جداً وشائكة، حلها بالوسائل السلمية، وليس بفرض أمر واقع، هنا أو هناك، بالقوة العسكرية، أية كانت التبريرات المعلنة لذلك. فإن اللجوء إلى هذا النوع من الوسائل القسرية لحل القضايا القومية المعقدة، إنما يحمل معه المخاطر إلى كل الأطراف المتورطة فيه والمعنية به، المخاطر التي لا يعرف أحد إلى أين يمكن أن تقود.



-5-


إلا أن زيارتنا إلى موسكو ترافقت مع زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى روسيا. وقد لفت نظري في مراقبتي لوقائع هذه الزيارة، أنها اختصرت بيوم واحد، وقد يكون ذلك طبيعياً، وأنها اقتصرت على اللقاء مع الرئيس الروسي ميدفيديف في سوتشي، وأن الرئيس بوتين قد غاب عنها، خلافاً لتقاليده في مثل هذا النوع من الزيارات، لا سيما مع الحلفاء، ومن ضمنهم قادة الدولة السورية. وبدا لي، وقد أكون مخطئاً فيما بدا لي، كما لو أن القيادة الروسية كانت تريد أن تظهر عتباً، أو ما يشبه العتب، إذا صح تصوري بأن استقبال الرئيس السوري كان بارداً، عتباً لكون القيادة السورية انخرطت في المفاوضات مع إسرائيل من دون إعلام حليفها الروسي بذلك. وهو عتب لا أظنه يعبر عن اعتراض روسي في المبدأ على تلك المفاوضات. فهذا أمر غير ممكن تصوره. لأن المفاوضات، إذا ما أتيح لها أن تنتهي إلى سلام عادل في المنطقة، يعيد لأصحاب الحقوق حقوقها، لا يمكن إلا أن تلقى التأييد والدعم، ليس من قبل روسيا وحسب، بل من قبلنا نحن في لبنان خصوصاً، ومن قبل العالم العربي ومن قبل العالم. وربما يكون التصريح الذي أطلقه الرئيس الأسد، عشية زيارته إلى روسيا، حول الرد العسكري على العدوان الجورجي، قد شكل نوعاً من الإحراج للروس في علاقاتهم مع لبنان أولاً، ثم مع سائر البلدان العربية، التي تعتبر روسيا حليفاً أساسياً لها في أمور عديدة، سياسية واقتصادية، وحتى عسكرية وأمنية. ومصدر الإحراج الروسي، أو ما أتصوره إحراجاً، في تصريح الأسد يكمن في أمرين: الأمر الأول هو أن الرئيس السوري اعتبر الرد الروسي على العدوان الجورجي تدخلاً عسكرياً في جورجيا، في حين أنه، في تحديد القيادة الروسية له، كان رداً عسكرياً على عدوان عسكري، أميركي بواسطة جورجية. الأمر الثاني هو أن الرئيس السوري اتخذ من هذا الرد الروسي، الذي أعطاه صفة تدخل من دولة في شؤون دولة أخرى، مبرراً له للتدخل السوري القديم والجديد في شؤون لبنان. وكان التصريح الرسمي الروسي الخاص بدعم استقلال وسيادة لبنان، في أعقاب تصريح الرئيس الأسد، مؤشراً واضحاً في دلالالته، كما قرأته، بصفتي الأولى كلبناني رافض للتدخل في شؤون بلدي، من أية جهة أتى، وبصفتي الثانية، كصديق لروسيا، القديمة والجديدة.



-6-


رغم أن الطابع الأساس لزيارتنا موسكو كان طابعاً سياحياً، إلا أن الجانب السياسي في حياتي وفي كتاباتي قد أعطاني بعض الحق في أن أقول كلاماً سياسياً في بعض اللقاءات العابرة التي أجريتها مع بعض من أثق بقدرتهم على التحليل الصحيح للأمور من أصدقائي الروس، ومن أثق بعمق تفكيرهم، وبسعة ودقة معرفتهم بأوضاعنا وبقضايانا العربية المعقدة. وكان ذلك الكلام الصريح والصادق هو ما قلته لأحد الدبلوماسيين الروس ممن تربطني بهم صداقة قديمة. إذ شعرت بأن عليّ أن ألفت نظر أصدقائنا الروس، من خلال هذا الدبلوماسي الصديق، إلى ضرورة الإنتباه والحذر من الوقوع في الخطأ، وهم يواجهون الغطرسة الأميركية، التي نالنا وينالنا منها في بلداننا الكثير. واحتمال الخطأ هو في أن ينظروا إلى المواجهة بينهم وبين الولايات المتحدة الأميركية بعين واحدة، وألا يحسبوا حساباً لأمور وقضايا أخرى ذات صلة بمصالح مشتركة بينهم وبين البلدان الأخرى عموماً، وبينهم وبين البلدان العربية خصوصاً، بالمفرد وبالجمع. ولبنان، على وجه الخصوص، هو واحد من البلدان العربية، الذي يتطلب من القيادة الروسية الإنتباه إلى تعقيدات الوضع الراهن فيه، وإلى القوى الإقليمية والدولية المتصارعة فيما بينها حول التدخل في شؤونه. وهو تدخل لإيران ولسوريا، خصوصاً، دور أساسي فيه. ولهذا التدخل، بأشكاله وصيغه المختلفة، أخطار، إذ تصيبنا في لبنان خصوصاً، فإنها تصيب المتدخلين أنفسهم، وتصيب روسيا الصديقة كذلك. وهي أخطار لا نريدها أن تصيب أحداً، بمن فيهم المتدخلون في شؤوننا. لذلك فإن ما نأمله من القيادة الروسية هو أن تعمل، من خلال علاقاتها مع كل من إيران وسوريا، لوقف هذا التدخل من قبل البلدين في لبنان، وأن تعمل، في الوقت عينه، لاستبدال هذا التدخل بإقامة علاقة ندية بين لبنان وبين البلدين، الشقيق والجار القريب سوريا، والصديق والجار البعيد إيران، علاقة صداقة وسلام وتعاون، تخدم وتحترم مصالحنا المشتركة، وهي كثيرة لا تحصى عدداً ونوعاً وقضية.


-7-



الخلاصة الأساسية في هذه الزيارة السريعة إلى روسيا، هي أن أصدقاء روسيا القدامى، روسيا السوفياتية، وأنا وزوجتي نجوى من أكثرهم وفاء لها، يستطيعون، ويحق لهم، أن يكونوا أصدقاء لروسيا الجديدة، أصدقاء من دون شروط أيديولوجية. فليست الأيديولوجيا وحدها هي التي تحكم، في كل الظروف، الصداقات بين الشعوب والأمم. ثمة ما هو مهم، مهم جداً، في الوقت الراهن بالنسبة إلينا نحن العرب، وربما لزمن قادم أيضاً ، يتمثل في ضرورة أن تقوم الصداقة بيننا وبين روسيا على قاعدة المصالح المشتركة. وما أكثر هذه المصالح المشتركة التي تربط بين بلداننا وشعوبنا العربية وبين روسيا العائدة، ولو بصعوبة، وبالتدريج، إلى الموقع الذي يعود لها في العالم المعاصر.