دان براون - ماقبل شفرة دافنشي- رواية ملائكة وشياطين


علي عباس خفيف
الحوار المتمدن - العدد: 2363 - 2008 / 8 / 4 - 09:24
المحور: الادب والفن     

1- مخترع الأحاجي..
إن الكلبي, على حد تعبير " أوسكار وايلد " :-
" شخصٌ ما , يعرف ثمن كل شيء, و لا يعرف قيمة أي شيء."
هذه الاستعارة من أدوارد سعيد.
لقد نازعتني فكرة, هي أن "دان براون" ليس شهيراً بالقدر الذي تتمتع به روايته " شفرة دافنشي", فكان لزاماً لأية دراسة عن الكاتب, أن تتضمن في عنوانها " شفرة دافنشي" , وهذا أمر ظل يؤرقني حتى هذه اللحظة.
*
لا بد أن تكون كشوفات العمل الأدبي , من بنات المعرفة والوعي. وهما في العمل الروائي كلّيان غير ترابطيين. ولـ "دان براون" تلك الكشوفات الخطيرة.
في نهاية السبعينات وأوائل الثمانينات, تعرفنا كاتباً فريداً, هو "ماريو بوزو" الذي استطاع أن يخرق الصمت الطويل للذائقة الفنية, ويتقدم للكون بروايته المذهلة " العرّاب ", التي حُوّلت الى السينما بنجاح, تلك الرواية التي كشفت على نحو فاضح وشعبي, عالم الجريمة السري, الذي كان يسيطر على حركة المال والاقتصاد, والسلطة, ويقود الحياة نحو الخراب والفشل.
ثم في بداية القرن الواحد والعشرين, فاجأتنا الحياة الأدبية بكاتب فريد آخر هو " دان براون ", فبعد أن صدرت عام 1998 روايته الآولى " الحصن الرقمي " التي تكشف عن أسرار السلطة وتناقضاتها المميتة, والتجسس على أدق ما في حياة الناس من أسرار, باغتتنا بصدور روايته الثانية " ملائكة وشياطين " عام 2000 , وهي الرواية التي أسست لعالمه المعرفي والتاريخي, الذي ساعد في تنجيد روايته ذائعة الصيت "شفرة دافنشي ".



2- عكاز الرحلة( أو عتبة الدخول)
عند بوابة الدخول سوف نشعر بالخطورة حين يصف " دان براون " الكتابة الروائية, في رده على سؤال عن كيفية سوق كل هذه المعلومات في رواياته, إذ يقول:- " لأن الكتابة عمل مركز, ومثير, وغني بالمعلومات, فهي تشبه الى حد كبير صناعة حلوى من سكر عصير القيقب. إذ عليك ان تجمع مئات الأشجار , وتغلي قدوراً وقدوراً من الأنساغ الخام لتلك الشجرة, ثم تقوم بعملية تبخير متواصلة لكي تتخلص من المياه تماماً, بعدها تترك المادة تغلي حتى يتبقى لديك خلاصة بالغة الصغر, وتلك الخلاصة هي التي ستكون الجوهر. بالطبع ان عملاً كهذا يتطلب استخداماً متسامحاً لمفتاح الإلغاء الكومبيوتري (Delete), وعلى أية حال, ولكي تكون جاهزاً للنشر, وهو الجزء الأهم لكي تكون روائياً.. أزل كل ما هو زائد حتى تجد قصتك وقد أصبحت صافية كالبلور أزاء القاريء. لقد كتبت كل صفحة من صفحات رواياتي عشرات المرات, انتهت جميعها في سلة المهملات."
إن حديثاً كهذا, يضعنا حتماً , أمام عملية تمحيص كبيرة ومهمة, ولا بد ان يصبح نقدنا فعلاً محفوفاً بالخطر. لذلك تترشح الأسئلة, لدينا كما يترشح عصير القيقب! وستأتي تباعاً..
إذن كيف قاد " دان براون " خطته, بحركة ذات بُعد واحدٍ , كما أظن, حتى النهاية, في الكشف عن الشيطان وألاعيبه في روايته " ملائكة وشياطين "؟

3- شياطين الأوراق العتيقة
شيّد " دان براون " عالم روايته تلك على التأريخ السري "للطبقة المستنيرة" – الايلوميناتي-" Illuminati" وهي الأخوية التي ترمز اليها المسيحية باعتبارها رمز الشيطان أو الشر المطلق, فحاذى " دان براون " بذلك المفهوم الكاثوليكي عن الشر, مانحاً ابتكاره اهاب الصدق, لكي نذهب معه الى تلك المتاهة. لكننا سنتعرف الكيفية التي قرأ بها وثائق هذه الأخوية المحفوظة في أرشيف مدينة ميونيخ منذ عام 1785 .
منذ أكثر من ثلاثة قرون , مزجت الدراسات الكاثوليكية الوقائع الدينية بالخرافة والأساطير, وأشارت هذه الدراسات إلى أن (أتباع الشيطان) , شكلوا أخوية للشر, وهم جماعة حقيقية وليسوا وهماً. وقد يكون مرد ذلك الى الفشل والنهاية المزرية التي انتهت اليها ( محاكم التفتيش) التي بنت عقائدها على محاربة أتباع الشيطان من المهرطقين والسحرة والعلماء أيضاً, ولكي ترتكب كل تلك الجرائم في ظل هذه الذريعة.
ومن الكتابات المبكرة عن " الطبقة المستنيرة ", ما كتبه " هنري ديلاسيس " في "الايلوميناتي" و " بول أ. مينشر" في كتابه " الههم هو الشيطان ". لقد حاولت تلك الكتابات أن تثبت بتطرف واضح, أن مؤامرة يقودها الشيطان ضد الكرسي البابوي , تقوم بتنفيذها " الطبقة المستنيرة ", مفترضة أن هذه الأخوية استطاعت أن تجمع أعداء الكاثوليكية معاً, من علماء ويهود ووثنيين- بمن فيهم أتباع الديانات الأخرى- , فبدا العلم سوءة على المستوى الأخلاقي والديني, منذ غاليلو على الأقل. فيما كانت تلك الدراسات تؤكد ان رؤساء الماسونية هم أعضاء " الطبقة المستنيرة " ذاتها, بعد أن اتخذ قادة " الطبقة المستنيرة " عام 1782 قراراً باختراق الماسونية, وكانت الأخيرة قبل ذلك مستقلة.
وفي التفصيلات المنمقة عن " الطبقة المستنيرة ", أشارت تلك الكتابات, الى أن " آدم بيشوب " استاذ مادة قانون الكنيسة الكاثوليكية, في بافاريا عام 1776, هو الذي أنشأ هذه الأخوية. وأطلقت تلك الدراسات على أتباع الأخوية ( حاملي شعلة الشيطان) , لأن بيشوب , كما يقولون, آمن بعبادة الشيطان, بعد أن عمل مع أسرة " روتشيلد " على إنشاء حكومة عالمية أطلق عليها باللاتينية " نوفوس أوردو سيكلوروم " التي تعني عندهم " نظام عالمي جديد " والتي صدر بها المنشور رقم 1 " للطبقة المستنيرة " ( ملاحظة :- طبعت هذه العبارة على ظهر العملة الأمريكية فئة الدولار الواحد, أسفل الهرم الماسوني. كذلك نجد أعلى الهرم المذكور عند رسم العين عبارة-Annuit Coeptis - والتي تعني انه يبتسم لأفعالنا.) فيما تعتقد الكتابات الكاثوليكية تلك أن الاحتفالات المئوية التي تقام احتفاءً بالعام 1776 لم تكن بمناسبة ولادة الولايات المتحدة الأمريكية, وانما هي تشريف للعالم الواحد الذي أسسه بيشوب في تلك السنة بالذات.
وهناك قصة , لابد انها من خرافات التدين كما هي عليه خرافات الأديان الأخرى, تتحدث عن وثائق "الطبقة المستنيرة " , تقول انه في عام 1785 , فيما كان " لانز " الألماني الجنسية, عضو محفل هذه الأخوية, يقوم بنقل وثائق سرية , للمحفل الكبير " للطبقة المستنيرة " في باريس, ضربه البرق في منطقة " راتيسبون" الألمانية, فاستولت الحكومة البافارية حينها على تلك الوثائق. وهي الى الآن محفوظة في أرشيف مدينة ميونيخ.
وبحسب تلك الوثائق, اكتشفوا الجرائم التي ارتكبتها " الطبقة المستنيرة " , وكذلك خططها للمستقبل, واشتراكها في الفوضى التي عمت التأريخ, أي الثورات جميعها, كالثورة الفرنسية , التي جاءت على وفق ما كشفته الوثائق تلك, وحوادث الوحدة الايطالية !, ومن ثم الثورة الروسية!, أي أن هذه الأخوية عملت على تدمير الملكية, والحق الإلهي, وقتل الملوك!, كما في قتل " فيكتور ايمانويل الثاني " ملك ايطاليا, وتدمير الديانات الأخرى ماعدا الدين اليهودي.
وجاء في كتاب " جون روبيسون " المعنون " أدلة المؤامرة " عام 1798 صفحة 66-67 وصفاً لقسم الخضوع الذي تعتمده الأخوية, نقتبس منه: " أقيّد نفسي بالصمت المتواصل والإخلاص والخضوع غير المزعزع للأخوية ... وأنا جاهز لكي أخدم , بمالي وشرفي ودمي...الخ " والقسم مكتوب باللغة اليديشية, على حد تعبير " روبيسون ". كذلك يحدد هؤلاء أهداف أخوية " الطبقة المستنيرة " التي تتلخص بإلغاء الحكومات الوطنية, وإلغاء الأديان جميعها باستثناء عبادة الشيطان!, وإلغاء العائلة والملكية الخاصة والميراث!, وخلق حكومة عالمية واحدة تحت عنوان" الأمم المتحدة " , في ظل سيطرة " الطبقة المستنيرة " .
ويزودنا " فنسنت دي بول " في كتابه " من حورية الشيطان الى عروس المسيح " بصورة عجائبية مذهلة من داخل محفل " الطبقة المستنيرة " في باريس, مأخوذة من رواية " كلوتيلد بيرسون " التي باعها أبوها, بسبب خسارته في القمار, الى المحفل الكبير في اسطنبول- في تركيا- , لتنتقل فيما بعد الى المحفل الكبير في باريس, ثم لتصبح حورية الشيطان " بلعزبوب ". تصف " كلوتيلد " انتماءها الى الأخوية, وبيع روحها للشيطان, ثم تدرجها, لتكون حورية الشيطان المنتخبة, وتتبرا من المسيحية بطقوس خرافية, مثيرة للعجب, تصور تحولات الإنسان الحيوانية والشيطانية!.- لقد أنتجت هوليوود من هذه الخرافة افلام رعب بائسة كثيرة-..
وفي محفل باريس تصف "كلوتيلد" تجربتها في الاغتصاب, حينما اغتصبها " آبرام غارفيلد " الجنرال الأمريكي الذي كان رئيساً لمحفل باريس الكبير, والذي اصبح فيما بعد رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية عام 1881, ثم تعرض لمحاولة إغتيال عام 1882 حين أطلق عليه الرصاص, وبعد ان تشافى من إصابته, أغتيل سراً في العام نفسه بأمر من " بسمارك "!! السياسي الإيطالي المعروف, عضو الأخوية! كما تقول الكتابات الكاثوليكية, لأن " غارفيلد " خان قسمه وتدله في عشقه " لكلوتيلد " ومضى قدماً في مقاصده وغاياته الشخصية!.
لكن المحفل أرسل " كلوتيلد " الى دور الدعارة, عقاباً لها, بسبب كراهيتها للشيطان!! فحملت بسبب ذلك, وهربت الى أحد الأديرة , وأطلقت على نفسها الأخت " ماريا أميلي ", حيث دونت روايتها عن محفل أخوية " الطبقة المستنيرة " عام 1885 بأمر من رئيسة الدير. وما تزال المخطوطة محفوظة في الأرشيف الكاثوليكي في فرنسا, بخط يد " كلوتيلد " نفسها!.
وسط هذا الكم الهائل من الوقائع والخرافات والأساطير, التي اعتبرتها الكنيسة الكاثوليكية وثائقها عن الشيطان, وجد " دان براون " أدواته. ولكي يذكرنا بدءً, بسلطة الشاشة , كلازمة هوليوودية , عن جبهة الخيرين وجبهة الأشرار, خاطب ذهن المتلقي بقوة الصدمة الدينية, مازجاً بين هذين الاختيارين, ليحلاّ معاً, دون أن يترك فرصة للإلتفاف, ودونما حاجة لألات تعمل على توليد التأويل, فكتب عنوانه مكشوفاً ومباشراً, "ملائكة وشياطين "..

4- سلطان السرد, (أو حكاية اسرار)
لقد وجد " دان براون " في تلك المعرفة التأريخية أدواته لخدمة غرضه الأول, الذي استعاره من " روبرت لودلوم " وهو (الإثارة)- وسنأتي على ذكر الصلة بين " لودلوم و دان براون " فيما بعد-.
كان " دان براون " متفوقاً بشكل مذهل, وهو الأمر الذي أكده الكثير من الكتاب على طول المعمورة وعرضها, ومرد ذلك الى الإثارة التي تصنعها حكاياته. فقد بدت كشوفاته واقعية , تامة, لا تحتاج إلا للعثور على مصادر المرويات الأصلية, فالكنائس التي قام النحات " جيان لورنزو برنيني " بعمل منحوتاته , ونصب اهراماته فيها, والتي هي الدليل على " درب التنوّر "-كما وصفت الرواية-, ما زالت حتى الساعة في أماكنها, لكنها لم تؤد الى إغناء الوصف , ولم تستقر فيه, وإنما عملت دونما كشف فني , على دفع الحوادث والأفعال قدماً , خصوصاً وان علامة الصليب الافتراضية, التي رسمتها مواقع الكنائس الأربعة على طول خارطة مدينة روما وعرضها, في تقاطع الوصلتين الوهميتين بين الكنائس الأربع, أظهرتها الخارطة الموضوعة في أول الكتاب , وهي لا تحتاج إلا لتخيل بسيط لخطي الوصل فحسب دونما حاجة لوصف, أي أن وجودها الثابت , خدم كوجود لحظي غير قار ليصب بالنتيجة, في السرد بعيداً عن الوصف.. ولابد أن ملاحظة " دان براون " في مقدمة الرواية التي كتبها في ستة أسطر , والتي أكدت على أن مواقع الكنائس والأعمال الفنية والشخصيات, هي أشياء حقيقية وليست من الخيال, إنما تؤكد السبب في تنحي الوصف الذي ذكرناه, فلم تتمكن الأشياء والشخصيات والحالات من الثبات تحت سلطة الراوي طويلاً..
يمكننا أن نقول أن الكاتب قدّم كشوفاته الواقعية سرداً, فقد ظل معنياً بالافعال والحوادث, مبتعداً عن الأشياء والموجودات والحالات, متجنباً الوصف, فاظهرت المعطيات النصية مرجعية النص التأريخية, وتم تكييف الحدث على وفقها. كذلك بقيت الكثير من الشفرات دونما حل من مثل سبب إخلاص القاتل للأخوية وطبيعة (الرباط المقدس) الذي يربطه بها حتى النهاية. أو الكيفية المفتعلة لنجاة " روبرت لانغدون " من انفجار المادة المضادة الذي كان سيدمر الفاتيكان, فيما كان " لانغدون " وسط الأنفجار. فهل كان في شرحنا المفصل عن الأخوية, إننا أعدنا النص الى مرجعيته وكشفنا عن عالم القص؟

5- لعبة التشابهات ( التشكيل صامت)
قال البعض أن " دان براون " قد تأثر بـ" امبرتو إيكو " في روايته " اسم الوردة " , وكتب الناشر " اويتوز بيك " عن دار نشر " الأمازون " أن " دان براون " مثل " امبرتو إيكو " في " بندول فوكو " ولكن على نحو أكثر بساطة. فيما تقول " شبكة أفضل المبيعات " :-( لو أننا مزجنا توم كلانس وامبرتو إيكو فان الناتج سيكون "دان براون "). ربما وجدنا في تلك البهرجة الكثير من الدوافع التجارية. لكن هذا ينبه الذهن, ويدفعه الى التساؤل. فإذا كان هذا صحيحاً , فأن تأثر " دان براون " بالحبكة البوليسية هو أكثر ما أخذه من " إسم الوردة " تلك الرواية العالية الفنية, والغنية بالجمال. لقد أظهرت تلك الرواية القيمة الفنية لبعض أعمال النحت, وركزت على معايير الدلالة, إغناءً للتلقي الجمالي. وفي رواية " إيكو " وصف أخاذ للنحت الناتئ على أقواس بوابة الدير , وكشف لجمال الصلات بين دلالاتها الفنية, أعطت عمله فرصة لكي يؤدي الى المعاني الكلية في سير حثيث نحو التكامل الفني في الحكاية, كذلك فعل " ايكو " في وصفه رسومات الرهبان على أطر الصفحات المعدّة لكتابة التعاليم والمتون الدينية, التي ستمنح أية كتابة مستقبلاً القوة المستمرة والمتواصلة للتأثير الديني دونما افتعال. لقد برّز ذلك القيمة الفنية لأعمال النحت والرسم السائد في تلك العصور, دون أن تصنع جمل "إيكو " فجوة بين الوصف والسرد فكان وصفه قولاً روائياً يستشف منه سرد ورأي.
فيما لم يمنح " دان براون" كتابته فرصة الكشف عن القيمة الجمالية لمنحوتات " برنيني " التي احتلت الحوادث من حولها أكثر من نصف الرواية الطويلة- 568 صفحة- في حين أطلق جملاً عارية تخص منحوتات " برنيني " خدمت توافقية السرد مثل قوله:- " منحوتاته(برنيني) المقدسة معقدة عن العذراء والملائكة والأنبياء" ص298 . أو كما لو أنه يتحدث عن فن عصر الركوكو المبالغ بالتزيين, حين تحدث عن منحوتة " برنيني " المعروفة " النبي والملاك " أو "حبقّوق والملاك ", فلم نتعرف في قوله فن عصر النهضة أو الايحاءات التنويرية التي عمل " برنيني " على ابرازها, إذ يقول : " أدرك لانغدون انهما من أعمال برنيني المحضة, وذلك من بعض خصائصهما الفنية المميزة كتكوينتهما الفنية الغنية ووجهيهما المعقدين وملابسهما المتهدلة."-ص299 – وفي هذا ما يؤكد خدمة توافقية السرد والاثارة البوليسية. في حين كانت المنحوتة تلك تستدعي وعياً عن امتزاج الكليّات, وهي تعني بالتضاد , واختلاط الطبائع والرغبات, بين ما هو سماوي وما هو أرضي, بين ما هو لاهوتي وما هو ناسوتي. لقد أراد "برنيني " باعتباره أحد فناني النهضة أن يتقدم بمفهوم الانسان, كنحات فاتيكاني, من أجل اعطاءه المعنى التنويري الجديد الذي جاء به ذاك العصر, دونما تعصب والذي عالجه عصر النهضة بقوة. وفي أعمال " برنيني " الكثير من الكشوف..
فقد قال " مايكل انجلو " عن أعمال " برنيني "في النحت البارز وتصاميمه للتعريشات والأفاريز, بانها (قريبة في أشكالها من نحت الفترة الهيلينية, لكن برنيني استطاع أن يمزج الحركة والعاطفة, والروح بالجسد), ولا يعني قول " انجلو " هذا أن " برنيني " أكثر قرباً الى الكلاسيكية منه, وأنما يؤكد أن كلاً من فن عصر النهضة وفن عصر الباروك كانا ينهلان من الفنون القديمة نفسها, لكنهما اختارا وجهين مختلفين, غير أن "برنيني " استفاد من تأتيرات الطبيعة , كالذي فعله في كنيسة " القديس بيتر " حين استخدم الزجاج الملون , إذ بدت تماثيل الملائكة المزدحمة في أعلى نهاية الكنيسة, وهي داخل هالات الضوء المتسرب من زجاج نوافذها المضبب, كانما الملائكة هناك تسبح بين الغيوم, مانحاً إيّاها التأثير اللاهوتي المذهل. لكن " دان براون " أهمل القيمة الفنية لمنحوتات " برنيني "فابتعد عن " إيكو " كثيراً, ولقد فعل ذاك مع منحوتات " برنيني " الأخرى مثل " نشوة القديسة تريزا " و " الريح الغربية ".

6- اختراع الوحش
على الرغم من أن " دان براون " نجح في سوق أدواته باتجاه الحبكة البوليسية, إلا ان تناوله لتلك الأعمال الفنية جاء بسبب الاستسهال, كما يبدو, أي سهولة الوقوع على جاهزية المعلومة, فوقع في فخ الاهمال, ومن ذلك الاستسهال جاء انتقاء نموذج قاتله, فقد اختار قاتلاً من الحشاشين -نمط آخر من الأخويات البائدة-,فيما صوّر لنا الولاء الأعمى للحشاش, وهو يخدم خطط تلك الأخوية, التي بقينا نجهل طبيعة صلته بها حتى النهاية, وكان بإمكانه أن يختار الأفضل.. ولم يوفق في اشارته الوحيدة التي اتكأ عليها بضعف بالغ وهو يختار القاتل, حينما وضع على لسان القاتل كرهه للكنيسة في قوله:- " هذه ساعتكم الأخيرة..متذكراً آلاف المسلمين الذين قتلوا وذبحوا في الحملات الصليبية" ص43 , في حين ذهب بعيداً ليؤكد انتماءه حين وصفه بالأسمر , أو حبه لعبق المسك في البيوت التي يرتادها أو قوله:- " كانت النساء تعتبر في بلاده من المقتنيات" ص74 . لكن ذلك لم يكن المتكأ الناجح , مع ان هذه الألفاظ لا تجعل من " دان براون " العدو الديني.
وتأكيداً لذلك, فأن " دان براون " لم يكن متعصباً دينياً مطلقاً, ففي أحاديثه عن المسيحية الكثير من تلك الأوصاف, التي احتلت جزءً كبيراً من الرواية, اضافة الى أن الرواية مع كل ما فيها , هي إدانة كاملة للتعصب الديني, فيما هو يحاول الكشف عن فلسفة الدين. غير أن خطأه , كما قلنا, جاء من الاستسهال , حين اخذ ادواته مما هو شائع وخرافي , دونما تمحيص, كما حصل واخذ فكرته عن الحشاشين كقتلة, من وجهة النظر التقليدية عن الحركات السرية في الشرق, التي جاءت في الدراسات القديمة.
وبالحقيقة , أن الذكر الأول للحركات الدينية المتطرفة في الشرق, هو ما ابتكره " بركارد أوف ستراسبورغ" الذي بعثه " فردريك الأول بربروسا " في مهمة الى " صلاح الدين الأيوبي ". ولا بد أن " بركارد " قد كون وجهة نظره من " المأثور الشفوي " حول النزاريين خلال اقامته الوجيزة في الشام عام 1175 , في الذكرى الأولى لمحاولة النزاريين الفاشلة لاغتيال " صلاح الدين الأيوبي " . ومن تلك المعرفة الناقصة , التي في مجملها ظنية , والتي كانت سائدة في أوربا لزمن طويل , منذ " بركارد " ثم " جيمس أوف فيتري و ارنولد أوف لوبيك ", انتقى " دان براون " قاتله في " ملائكة وشياطين " . فتلك المعرفة كانت مدعومة بتجاهل الحقائق, كما هي الحال مع ما كان يعتقده " لمبروير" و " باراتييه ", دونما تمحيص, حول كلمة " ملحد " التي جاءت في كتابات " بنيامين أوف توديلا " حينما اعتقدا أنها تعني اسم مكان كان الحشاشون يعيشون فيه, فيما كان " توديلا " ذاته يعتقد أن " ملحد " اسم تلك الأمة, لذلك كانوا يدعونهم ملاحدة.
وربما كانت أفضل الاستعارات عن طاعة الحشاشين لشيخهم, ما كتبه " ماركو بولو " الرحالة الفينيسي, حين ذكر ؛ أن " شيخ الجبل " كان يسقي اتباعه شراباً مخدِراً قبل تكليفهم بمهامه الخطيرة. ولقد تكوّنت فكرة شعبية عن الحشاشين انعكست على الحركة الاسماعيلية برمتها, ولعل دراسة المستشرق " سيلفستر دو ساسي" عن الحشاشين, هي الدراسة المنهجية الأولى التي وضعت صورة معقولة عن هذه الطائفة, فيما لم يستطع من كتب عنهم أمثال " أرنولد أوف لوبيك, و أمرليك , و هيتون , و جيمس أوف فيتري, و جان أوف جوينفيل, تفهّم الطاعة الدينية للحشاشين. لكن تلك الحركات المتطرفة قدمت هذه الصورة المزرية والدموية عن نفسها بجدارة.
والذي يهمنا , أنه في الوقت الذي وُجدت فيه دراسات أنصفت الحشاشين , وأعادت تقويمهم, باعتبارهم رعاة علم أسبغوا على دعوتهم العلمية روحانية مذهبية, من مثل دراسة " فلاديمير ايفانوف "(1886- 1970) و " مارشال هدجسون " ( 1922- 1968 ) و " برنارد لويس " وغيرهم, بقي " دان براون " ينهل من دراسات لا فضيلة لها إلا امكانية الكاتب على استلال عنصر الإثارة والغموض البوليسيين منها, والذي يبتغيهما دونما عناية بحقيقة تلك المعرفة, فيما يمكنه أن يتجاوز هذا الخطأ بيسر, لأن مركز حفرياته هو تأريخ الفن والعقائد.

7- خيبة جيرار جينيت
لم تكن الكتابة لدى " دان براون " فيضية, تشبه النبؤات, أو تتمتع بحرية الطيران, وانما بقيت تحت رقابة العقل المعلوماتي , بصرامته ودقة تنظيمه, بعيدة عن فوضوية الخيال, لم تفاجئ تلقينا الجمالي, بل فاجأت تلقينا للمعلومة, وهذه من اشارات انغمار النص في السرد. وفي محاولة الكاتب تتبع الأفعال والحوادث, غاب المكبوت أو سطوته في لا وعي الكاتب, فيما جاء الوصف تزيينياً في مواضع أو جاء لتأسيس تتابعية السرد في أماكن أخرى.
لقد درج المؤلف على استخدام السرد التتابعي , القائم على الإثارة المحكومة بحبكة بوليسية في رواياته الأربع, فيما تدفقت شفرات النص لتشبه, الى حد كبير, شواخص التائه في طرق الغابة, ولم تتبلور سيميائياتها لدفع القيمة الجمالية , والتلقي الجمالي الى أمام. ومع ان " جيرار جينيت " يؤكد انه لا يوجد وصف خارج الحكاية, إلا أن تغلب الوصف, أو تغلب السرد يمنح الفرصة لصنع الصدمة النقدية, لذلك ندعو نصاً ما " نصاً وصفياً ", وندعو آخر " حكاية ". وقد يكون الوصف في الحكاية استخلاصاً بسيطاً بسبب النسق السردي التتابعي أو البانورامي كما في رواية " ملائكة وشياطين " حيث جرى تحييد الوصف قصياً, فلبث بعيداً عن التورط الانفعالي, الأمر الذي منع القارئ من المشاركة, ودفعه نحو النهاية , سلبياً, وعلى عجل,بحيث يكاد القارئ أن يكون غير معني بالتدخل, خصوصاً حين اتخذ الوصف صورة وظيفية باقترابه المتزايد نحو صيرورة الافعال والأحداث, فيما ابتعد عن صورة الوصف الخلاق الذي ندعوه رمزياً, وهو ما يتقدم عادة نحو المعنى الباطني, التأويلي للأشياء والموصوفات , لأن السرد يتطلب نظاماً لألفاظ الوصف الذي ينتج تاثيراته أو معانيه الخاصة. فاختلاف نظام ألفاظ الوصف يعطي اختلافاً في تلقي المعاني, فقولك_ على حد تعبير " جان ريكاردو "-" إن القبعة حمراء بيضاء, ليس كقولك, أن القبعة بيضاء حمراء " , لذلك عندما عملت ثيمات النص في الباحة السردية التتابعية المتاحة للنص الحكائي في " ملائكة وشياطين ", خسر الوصف فرصته , ومن ذلك كان تناوله السردي اللاهث المثار لمنحوتات " برنيني ", حين اتصف هذا التناول باهمال المستوى الخلاق للوصف.


8- تراكم السكّر( أو الهراء الجميل)*
* الهراء الجميل: الوصف الذي أطلقه الكاتب البريطاني " مارك لوسون " على " شفرة دافنشي "
في الكشف عن رأي " دان براون " لأهم عشر شخصيات أثّرت في تكوينه الأدبي, يبدأ " دان براون " بذكر " جون شتاينبك " ويتسلسل ذاكراً " شكسبير " وآخرين ثم يتحدث عن " روبرت لودلوم " على عجل, ويذكر "جون لانغدون " باعتباره الفنان والفيلسوف دون ان يذكر طبيعة التأثير الذي تركه عليه وعلى كتاباته. ولا بد أن تلك الردود أجابت عن تساؤلات لعبة التخفي التي اتقنها " دان براون " وهو يصنع شفراته ويؤثر في محيطه, كما حصل وأثّر في القاضي الذي فصل في الحكم بينه وبين صاحبي الدعوى ضده بسرقة جهودهما العلمية في رواية " شفرة دافنشي " , إذ وضع القاضي , أثناء النطق بالحكم, شفرة وطلب من الحضور حلّها.
في مكان آخر, وفي رد " دان براون " عن سؤال بخصوص أهم القراءات التي تركت بصمتها على فنه, قال أنه تأثر," بجون شتاينبك " من ناحية الوصف, و" بشكسبير " في صياغاته, و" بروبرت لودلوم " من ناحية الحبكة. إن تلك الردود عرّفتنا على الكاتب واشيائه, وتركت معاولنا حرةً...
كان " لودلوم " هذا, الذي تأثر به " دان براون ", من ناحية الحبكة تحديداً, والمتوفى عام 2001 عن عمر ناهز 73 عاماً, روائياً أمريكياً , كتب رواياته بتقنية الإثارة السينمائية. ولقد قدّم لهوليوود قصصاً تضاهي , من ناحية الإثارة, مغامرات " هاري بوتر " المشهورة, من مثل ثلاثيته " العالم- Bourne " وشفرة المطران " The Altman Code " , وغيرها العشرات. وكان " روبرت لودلوم " مولعاً بصنع شفرات الإثارة كما في القصص البوليسية , ولقد استخدمت هوليوود ثيماته الجاهزة لصنعتها السينمائية, بنجاح وبتقنيات عالية , وربما كانت روايته الشهيرة " مخطوطات المستشار " التي تفضح دسائس وكالة المخابرات الأمريكية( CIA ), التي حولتها هوليوود الى فيلم سينمائي, قام بدور البطولة فيه الممثل الموهوب " ليوناردو دي كابريو " عام 2006, دليلاً فريداً على مقدرته الكبيرة في صنع الحبكة البوليسية, وقد أزاح " لودلوم " وهو ميت , " جيمس دين " عن موقعه في الجدول العالمي لأعلى مكسب مالي (لرجل ميت) حين حصل ورثته على مبلغ خمسة ملايين دولار عن روايته تلك.
وكما يبدو, ان " دان براون " وهو يتعلم الحبكة من " روبرت لودلوم " , أخذ منه التقنية الضرورية لتنظيم كشوفاته الجديدة, لذلك امتلأت رواياته بالمعلومات التي أحاطت , مثل هالة بلورية, بعناصر الإثارة اللودلومية, واعطتها قوة بث الإنبهار والمفاجأة .غير ان " دان براون " لم يفصح عن امتنانه لمعلمه الأول " روبرت لودلوم " الذي تعلم منه فن القصة, بعد أن عمل كاتب أغاني ومغني بوب وفشل. لكنه ذكره في رده عن تأثير الآخرين فيه, ثم وهو ينحت اسم بطله في " ملائكة وشياطين " وفي " شفرة دافنشي " حين أخذ الاسم الأول لبطله" روبرت لانغدون " من الاسم الأول لمعلمه " روبرت لودلوم ", وتلك إحدى شفراته التي تعبر عن الامتنان السري لمعلمه ووفاء لتقنيته .
كذلك في لعبة التخفي والظهور, خبأ " دان براون " شخصية أخرى هو " جون لانغدون " الذي ذكر تأثيره أثناء جلسة المحاكمة وهو يدافع عن نفسه في الدعوى بخصوص " شفرة دافنشي ", فقد وصف " جون لانغدون " بأنه الفنان والفيلسوف, وأحد العباقرة الحقيقيين في عصرنا, وذكر أيضاً أن فلسفته وأعماله الفنية, غيّرت الطريقة التي كان ينظر بها الى الفن وتناسق الرموز..

9- بهلوان الأسرار
" لجون لانغدون " فلسفة في الفن تمزج بين ( العلم واللاهوت ) وتكشف عن صراعهما وانسجامهما الأزليين, لذا ليس غريباً ان ياخذ عنه " دان براون " ثيمة روايته " ملائكة وشياطين " , ويأخذ أهم التقنيات الفنية المتعلقة " بالأبيغرافيا "( علم دراسة النقوش ) الذي منه ( فن رسم العبارات الملتبسة-Ambigrams ) ثم يستعير منه أيضاً الاسم الثاني لبطله في روايتيه " ملائكة وشياطين و شفرة دافنشي " . كذلك كان " جون لانغدون " صديقاً مقرباً لوالده, ولقد تأثر " دان براون " بلوحاته الزيتية الأبيغرافية المبتكرة.
ما زالت فلسفة " جون لانغدون " تثير التساؤلات حول الحروف وطبائعها المتغيرة, فهو يقول عن منطق علاقات الحروف في الفن, انه يجد في ترابطاتها, اللغة والفلسفة والعلم والجمال, حيث تتحرك الحروف جميعها وتفعل أفعالها في تكوينات الكلمات, عندما يتم معالجتها ببراعة لخلق أوهام مدهشة, في الشكل والمعاني, وهي أوهام جديدة ومبتكرة عادة, بعيدة عما هو شائع ومتعارف عن علاقاتها السابقة, حيث تخرج الكلمات كل مرّة من جديد الى الحياة أو تعيش حياة أخرى.
ولابد أن طريقة الفهم هذه تبلغ الذروة في التنوع الواسع للشعارات المعبرة عن شراكة اجتماعية, كما في شعارات الجمعيات والأخويات والمؤسسات, وذلك لأنها تخلق " عباراتها الملتبسة- Ambigrams" المانحة لمعنى وجمال جديدين, لأنها تصنع لكي يمكن قراءتها بالأثر الخاص, وفي أكثر من مدى تصوري, وأكثر من جهة وطريقة. كما أن الشعارات الفنية التي يمكن قراءتها مباشرة, وعن طريق المرآة على نحو متساوٍ, تمنح الناظر شعوراً بالرهبة والسرّية, كما في العبارات الملتبسة الست في رواية " ملائكة وشياطين ", والتي ظهر فيما بعد أن الفنان " جون لانغدون " هو من ابتكرها.
ويشير " جون لانغدون " الى أن هذا الفن وفلسفة العبارات الملتبسة أصبحت شائعة وأكثر شعبية بعد صدور الرواية المذكورة, معتقداً انها تحقق تقدماً خصوصاً وأنه أقامها أصلاً على مبادئ " فلسفة التاو " الصينية, ولديه رأي يقول ان هذه الفلسفة إذ تكشف عن أسرار الحياة, فهي تأتي على نفس المستوى من تقدم العلوم الغربية فيما يتعلق بمعاني الكشف عن أسرار الحياة والوجود. ولقد كتب "دان براون " في " ملائكة وشياطين " هذا المعنى في صفحة 52 عندما كان بطله ينظر الى رف الكتب في منظمة (CERN) العلمية وقرأ أحد العناوين : " التاو, أو المبدأ الأول للفيزياء."
لقد استفاد " جون لانغدون " في لوحاته الزيتية الأبيغرافية من الصلة التي يصنعها التلاحم بين الخير والشر (الين واليانغ ) أو النور والظلام في " فلسفة التاو " الصينية, التي يعبر عنه تشابك الجزء الأبيض والجزء الأسود داخل الدائرة المعروفة في رسومات هذه الديانة. وهو يعتقد أن اللعب بالكلمات يمكنه أن يكشف عن عبارات ملتبسة على نحو دائم, ويفتح أفق الحروف واسرارها.
وتعتبر لوحة " جون لانغدون " الزيتية المعروفة ( Joyce – عام 1996 ) أول الطريق نحو فلسفته الفنية, حين أتبعها بلوحاته الكثيرة التي منها ( Love و Us – عام 1998 ) وغيرهما . وربما كانت أكثر اللوحات عناية بالعبارات الملتبسة وتطبيقاً لفلسفته, لوحته ( illusion – عام 1999 ), ولكنه حقق في لوحته ( مرآتي الميتافيزيقية ) تصوره عن الرؤية المتكاملة, ومنطق اللوحة الأبيغرافية المؤثرة, في فلسفة الحروف والكلمات والمعاني والحركة.
ويقول " جون لانغدون " ان الكثير من أسرار فلسفته عُرفت عن طريق جلسات المحاكمة التي عقدت بشأن رواية " شفرة دافنشي ", فيما لم يذكر " دان براون " خلال جلسات المحاكمة في بريطانيا أثر " روبرت لودلوم" مطلقاً, بل اشار الى أن بطله " روبرت لانغدون " بأنه هو صورة من صور " جون لانغدون " الفنان والفيلسوف. في حين أننا ندرك تماماً أن تلاعبه في نحت الأسماء , كان أحد أسباب الدعوى, حين نحت أسم أحد أبطاله في " شفرة دافنشي ", وهو السير " لي تيبينغ " من أسمي العالمين صاحبي الدعوة ضده في تلك القضية, وفاءً لهما في الكشف عن سر الكأس المقدسة, وهو يكتب أسميهما معكوساً, من النهاية الى البداية. مع كل هذا فان "دان براون " لم يكشف عن تلك الأسرار إلا تحت ضغط الضرورة في قاعة المحكمة.
وفي الكثير من إجاباته قبل الدعوى المذكورة , كان يشير فقط الى أن " العبارات الملتبسة – The Ambigrams " هي عبارات او كلمات يمكن قراءتها بنفس المستوى, مباشرة أو بقلبها 180 درجة, ولم يذكر شيئاً عن " جون لانغدون " وفلسفته, أو يشير اليه بانه هو من صنع له "العبارات الملتبسة" الست في روايته " ملائكة وشياطين " .
اننا ندرك أن لعبة التخفي والظهور هذه لم تكن محكمة تماماً, فقد نحت أسم بطله من تأثيرين أصليين في تكوينه الأدبي, هما تأثير " روبرت لودلوم " , معلم الحبكة والإثارة البوليسية الهوليوودية, وهذا ما تمتاز به روايتيه " ملائكة وشياطين و شفرة دافنشي " على حد سواء , وتأثير " جون لانغدون " في مزج فن وفلسفة كشف الأسرار والتلاعب بالكلمات, الذي بالنتيجة, هو تلاعب بحقائق الوجود واكتشافاتها. فكان بطله يحمل اسميهما معاً " روبرت لانغدون " . وتأكيداً للامتنان الذي ظل أسيره اختار أن يكون بطله في روايته " شفرة دافنشي " هو بطله نفسه في " ملائكة وشياطين ", لأن ما أغدقه عليه الرجلان " لودلوم " و " لانغدون " وعلى حياته الأدبية يستحق كل ذلك.
ولم يكن أيضاً, تكرار اسم البطل في الرواية الثانية, حيلة أخرى من حيله, في صنع شخصية مماثلة "لمستر بارو " أو " شرلوك هولمز " في عصر تطور العلوم, وانما كان وفاءً مخلصاً منه لذكاء الرجلين في تصنيع عقله الروائي الفريد. وكانا الحافز القوي لكي يقوم بتلك المهمة العجيبة في كتابته لرواية شفرات التأريخ السري للعقائد, وليصبح روائياً مذهلاً.

10- حبل البهلوان الأخير ( الظن السيء)
تحيلنا الثيمات في روايات " دان براون " الى عقدة بوليسية. وهذه العقدة في روايتيه, " شفرة دافنشي" و "ملائكة وشياطين " كانت متشابهة الى حد بعيد, أو متطابقة تحديداً. ويدلنا التساؤل الى الظن السئ, الذي يقول؛ أن الدافع لكتابة روايته الثانية, هو محاولة الكاتب لإعادة رواية الأحداث التي جاءت في " ملائكة وشياطين " ولكن على مسرح آخر يكون أكثر التباساً من العداء التأريخي السافر بين الطبقة المستنيرة والفاتيكان, وامتزاج هذا العداء بالخرافة في عصر يسير باصرار نحو الحقائق, ولابد أن " دان براون " قد اكتشف أن " ملائكة وشياطين " لم تحظ بالشهرة والاهتمام الضروريين, والذي كان يأمله حين نشرها, بعد أن أستعار من " لاوتسي " فلسفته في " التاو " عن وحدة وصراع " الخير والشر " الضدين أزلياً, ونشرهما على أهاب المسيحية.. وفي ذلك رسالته الشفرة...
ربما لتلك الأسباب اختار " دان براون " أخوية أخرى غير أخوية " الطبقة المستنيرة " البائدة, وهي أخوية "أوبوس داي " المسيحية المعروفة الحيّة, التي ما تزال تصارع من أجل طريقتها في التدين, فيما احتفظ بطرف الصراع الآخر ألا وهو الفاتيكان. مع أن هذه الأخوية " أوبوس داي " احتجت على " شفرة دافنشي " واعتبرت أن ما جاء فيها ينافي الحقيقة الدينية لهذه الأخوية التي تعتبر نفسها حتى الساعة , من الأخويات الفاتيكانية, عندما نشرت اعتراضها في الصحافة وعلى نحو واسع جداً.
لايفوتنا أن نذكر أن الروايتين " ملائكة وشياطين " و " شفرة دافنشي " قد صدرتا عامي 2000 و 2003 بينما صدرت فيما بينهما روايته " حقيقة الخديعة " عام 2001 التي تشبه ثيمتها ثيمة روايته الأولى " الحصن الرقمي " عام 1998, وهما روايتان بوليسيتان عن الأمن القومي الأمريكي ووكالاته السرية الخطيرة, فلم تضيفا شيئاً جديداً الى ثيمات هوليوود السينمائية, ولابد من الإشارة الى أن " دان براون " بقي أسير الإثارة في السينما الهوليوودية, مع أن الروايتين " ملائكة وشياطين" و " شفرة دافنشي " لم تحققا النجاح السينمائي المرجو. ففي حين مرّ فيلم " ملائكة وشياطين " على عجل , دون أن يتذكره المهتمون والنقاد السينمائيون طويلاً, لم يستطع فيلم " شفرة دافنشي " أن يسمو الى المكانة التي احتلتها الرواية, ولم يحظ, كذلك, باعجاب النقاد السينمائيين في المهرجانات الدولية , وحصل على تقدير متواضع, على الرغم من أنه أحتل المركز الأول, لأسابيع, في شباك التذاكر, بسبب شهرة الرواية غالباً ..
إن التماثلات بين روايتيه " ملائكة وشياطين "و " شفرة دافنشي " ستظل مصدراً لدراسة لاحقة عن الروايتين المذكورتين. وتبيّن هذه التماثلات, التي سنشير الى بعضها هنا, صورة عن تنويعات الحكاية الهوليوودية. حيث تبدو ثيمات " دان براون " قالباً جاهزاً, معبأة بالمعلومات, ودونما تمحيص غالبا, وكما يبدو فأن عدم دقة تلك المعلومات أو سلامتها العلمية, يبرره عنصر الإثارة فحسب. وفي التماثلات نجد أن ثيمتي الروايتين تتحدثان عن الصراع بين أخوية دينية سرية والكاثوليكية, تبدأ الروايتان بجريمة قتل وتنتهي بالكشف عن القاتل واسباب الجريمة. وينبري للكشف عن تلك الجرائم تحديداً, رجل متخصص في العلوم الدينية, هو ذاته اسماً وصفات في كلا الروايتين.وكالتالي:-
1 * تبدأ الروايتان بمقتل أحد رجال الدين وهو أيضاً من العلماء ,( وهي الثنائية التي تتعكز الروايتان عليها), حيث يقوم بجريمة القتل , قاتل ينتمي الى إحدى الأخويات السرية.
- في " ملائكة وشياطين " يقوم القاتل, وهو أحد اتباع أخوية الطبقة المستنيرة والذي ينتمي الى حركة الحشاشين المعروفة تأريخياً, بقتل " ليوناردو فيترا " الراهب الفاتيكاني والعالم في الفيزياء, في مكان مشدد الحراسة, هوالمركز العلمي السويسري( CERN), ويجري وصف عملية القتل في مقدمة الرواية وفي الصفحة الأولى منها.
- في " شفرة دافنشي "يقوم القاتل الذي ينتمي الى الأخوية السرية " اوبوس داي " بقتل " جاك سونيير " رجل الدين وعالم الرموز الدينية والعقائد, في مكان مشدد الحراسة هو " متحف اللوفر, ويجري وصف عملية القتل في مقدمة الرواية وفي الصفحة الأولى منها.
2 * يُكلَّف استاذ مادة علم الرموز الدينية في جامعة هارفارد " روبرت لانغدون " الأمريكي الجنسية , بالبحث عن السر الذي دفع القاتل الى ارتكاب جريمته, في الروايتين وبالطريقة نفسها, ودونما تغيير. حيث يتسلم الدعوة للمشاركة في التحقيق دون أن يعرف السبب لدعوته.
# الدعوة تأتي من بلد آخر..
- في " ملائكة وشياطين "- تأتي الدعوة من سويسرا ثم ينتقل " لانغدون " الى ايطاليا-
- وفي " شفرة دافنشي " تأتي الدعوة من فرنسا _
# في الروايتين, يتسلم الدعوة للمشاركة في التحقيق عبر اتصال هاتفي.
# وفي الروايتين, يتسلم الدعوة في الصباح الباكر حال استيقاظه من النوم.
# وفي الروايتين, يجري تفصيل الدعوة في الصفحات الأولى من الفصل الأول.
3 * يقوم القاتل بقتل أربعة من رجال الدين المهمين, في كلا الروايتين, على وفق جرائم القتل المدبرة والفعل المقصود.
- في " ملائكة وشياطين " يقوم القاتل بارتكاب أربع جرائم قتل , ضد أربعة كرادلة مرشحين للكرسي البابوي, من حماة الأيمان الفاتيكاني, ويستدل بقتلهم على سر كنيسة تدعى " درب التنوّر ".
- في " شفرة دافنشي " يقوم القاتل بقتل أربعة من حماة سر " الكأس المقدسة " , للوصول الى المخبأ السري الذي أخفي فيه هذا السر .
( ملاحظة: يبدو أن الرقم 4 له أهمية خاصة, فقد ذكر " دان براون " في روايته " شفرة دافنشي " هذا الرقم في الصفحة 410, حين وضع على لسان الموظف قوله : " الرقم أربعة هو ذو أهمية خاصة ".)
4 * استفاد " دان براون " في الروايتين, من بضعة أبيات من الشعر, عددها أربعة أبيات, عملت كشفرة على حل لغز القاتل, ومتابعته.
- في " ملائكة وشياطين " استخدم أربعة أبيات من قصيدة لشاعر إنجليزي هو " جون ملتون ", لفك الرموز التي تؤدي الى معرفة القاتل, وملاحقته حتى نهاية الرواية.
- في " شفرة دافنشي " استخدم أربعة ابيات من قصيدة انجليزية تشير لشاعر انجليزي هو " الكسندر بوب" لفك الرموز التي تؤدي الى معرفة القاتل حتى النهاية.
خلاصة ذلك, إن الثيمتين في روايتي " دان براون ", اللتين قامتا على مسوغات الصراع بين تصورين دينيين مختلفين أو متباينين" , وكشفتا عن مفرداتهما, وفضحتا أدوات الصراع الديني الدموي الذي ينطوي عليه الاختلاف الديني عادة, في ظل ذرائع منهلها المصادرة, والذي ينتهي الى الفشل عادة , وقد سارتا على الآلية نفسها, أكدتا أن دافعاً وراء ذلك كله..
*
فهل ينفي كل ماسطرناه عن الرواية , قدرة الكاتب المذهلة في ربط اهتمامنا بألاعيبه, واللحاق به في دروب حل شفراته , وقدرته الهائلة في شدنا الى كتاباته ومتابعتها حتى قبل صدورها, خصوصاً ونحن ننتظر صدور روايته الخامسة " مفتاح سليمان " التي ستصدر عن نفس الدار عام 2007 ؟ لقد وضعنا في متاهته , مع ذلك فنحن نشعر بالفرح والمتعة
حتماً أن اعجابنا لا يقف عند هذا الحد لأن " دان براون " كان روائياً من طراز جديد, يتميز بذكاء وأصرار كبيرين استطاع من خلالهما أن يسوق كل تلك المعلومات الهائلة في أعماله ومع ذلك جعلها تبدو مستساغة. لقد عرف كيف يصنع الحلوى من سكر عصير القيقب, وبنجاح مثير للإعجاب.
* * *