رسالة من مواطن يساري إلى الأمين العام لحزب الله


كميل داغر
الحوار المتمدن - العدد: 2328 - 2008 / 6 / 30 - 10:30
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

قد أكون تأخرت قليلاً في كتابة هذه الرسالة، ليس فقط لأنه مر على الكلمة التي ألقيتموها في الذكرى الثامنة للتحرير أكثر من أسبوعين ـــــ وهي الكلمة التي زادتني قناعة بضرورة مخاطبتكم ـــــ بل أيضاً لأن الأفكار والمواقف الأساسية فيها كانت قد وردت، سابقاً، في مناسبات عديدة لظهوركم في وسائل الإعلام، وحركت لديّ في حينها الشعور بالضرورة عينها.

حسناً، متأخراً أفضل من أبداً، كما يقول المثل الأجنبي المعروف!

أما لماذا؟ فلأن الحزب الذي تقودون بات يضطلع بوظيفة طاغية في حياة بلدنا. وهو عدا مسألة المقاومة الوطنية المسلحة التي تنحصر به منذ أكثر من خمسة عشر عاماً تقريباً، يمارس منذ سنوات طويلة دوراً مؤثراً جداً، ويزداد تأثيراً باطّراد، في السلطة السياسية لهذا البلد.

وأما من أي موقع؟ فمن موقع المواطن الفرد المهتم كغيره بمصير وطنه، ومصير أبناء هذا الوطن على اختلافهم، بلا ريب. ولكن أيضاً من موقع تيار بين هؤلاء ينتمي، في قناعاته الفكرية وتوجهاته السياسية والبرنامجية، إلى اليسار. ولمزيد من الدقة، إلى اليسار الثوري.

ولأجل ذلك، لن أجد حرجاً في التحدث ابتداءً من هنا بصيغة الجمع، لأقول إن الآراء والأفكار التي سترد في ما يلي تنطلق، قبل كل شيء وفوق كل شيء، من الحرص على استمرار المقاومة، وعلى فعالية هذه المقاومة، وعلى قدرتها على الاضطلاع بالمهمات الجسام المفترض أن تضطلع بها. فنحن، على الرغم من الجوانب الخلافية الجوهرية التي تميزنا من حزبكم ــ ولا سيما على الصعيد الأيديولوجي، ولكن أيضاً في ما يخص تصوراتنا البرنامجية، في السياسة كما الاقتصاد، كما على المستوى الاجتماعي ــ نعتبر دوركم المقاوم بالغ الأهمية والضرورة، ليس فقط محلياً، بل كذلك على المستويين الإقليمي والدولي؛ وخصوصاً من حيث هو يطرح، بشكل أو بآخر، مسألة وجود دولة إسرائيل، بواقعها العدواني الحالي، على المحك، وينطوي بالتالي على تصور ضمني أساسي مفاده أن المعركة مع هذه الدولة هي معركة طويلة الأمد، ومعركة شعوب قبل كل شيء لا معركة أنظمة، مع ما يعنيه ذلك من حاجة قصوى إلى عدم الاعتماد على جيوش هذه الأنظمة في التصدي لنزعة إسرائيل العدوانية، والتعويل، على العكس، على مقاومات شعبية في إنهاء غطرستها وعدوانها.

وفي سياق تصور كهذا، لا بد من التشديد على مسلّمات ثلاث هي التالية:

1 ــ نحن لا نتفق إطلاقاً مع القائلين «بعدم تحميل لبنان أكثر مما يستطيع تحمّله»، بحسب الرأي الذي يدافع عنه الدعاة الضمنيون للسلام غير المشروط مع الدولة الصهيونية، والمرتاحون إلى المواقف الانهزامية والمستسلمة لدى الأنظمة العربية. على العكس، نعتقد أن للبنان دوراً ريادياً في المنطقة العربية ككل، بما هو البلد الوحيد الذي أجبر إسرائيل على الانسحاب من دون قيد أو شرط من أراضيه المحتلة، وفي الوقت نفسه بما هو البلد العربي الوحيد أيضاً الذي لا يزال أبناؤه يفرضون فيه مناخاً من الحريات الديموقراطية لا تعرفه البلدان العربية الأخرى، مع ما يمكن أن يتيح ذلك من وظيفة محتملة قد يتمكن من أدائها لاحقاً في خدمة منظور تحرر الوطن العربي من الهيمنة الإمبريالية على ثرواته، وتجاوز التجزئة الاستعمارية الطويلة الأمد إلى وحدة حقيقية. وهو الأمر الذي يكون وارداً بمقدار ما يتمكن هذا البلد من حماية حرياته، من جهة، وحفاظه، من جهة أخرى، على سلاحه المقاوم.

2 ـ وهذا يعني، تالياً، رفض قصر وظيفة هذا السلاح على تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، أو وضع هذه المزارع والتلال ــ كما يستشف من المشروع الذي تتداوله الإدارة الأميركية حالياً ويشاع أن كوندوليزا رايس ناقشته مع مسؤولين لبنانيين في زيارتها الأخيرة ــ تحت إشراف الأمم المتحدة، تمهيداً لبت وضعها لاحقاً. فهذا السلاح يفترض أن ترتبط وظيفته الأساسية بالدفاع عن لبنان وأرضه وجوّه ومياهه، وفي الوقت عينه عن ممارسة الشعب الفلسطيني، ومن ضمنه الجزء منه المقيم على الأرض اللبنانية، حقه في العودة إلى الأماكن التي هُجّر منها في فلسطين التاريخية، عام 1948 وما بعده، وفي تقرير مصيره فوقها بالكامل وبحرية تامة.

3 ــ اعتبار أن اليسار اللبناني ــ الذي كان السبّاق إلى إطلاق المقاومة الوطنية في أيلول 1982، وتقديم أفواج غفيرة من الشهداء، في مسيرة دحر الاحتلال الصهيوني التدريجي عن الجزء الأكبر من الأرض اللبنانية، والذي تضافرت ظروف وقوى محلية وإقليمية شتى للحيلولة دون استمرار دوره هذا ــ يُفترض أن يستعيد هذا الدور، وذلك بالفهم الذي حددناه أعلاه. وهو مدعو إلى اكتشاف أشكال انخراطه مجدداً في هذه المقاومة بشتى أوجهها، العسكرية كما المدنية، بما يخدم الأهداف المنّوه بها، في الوقت عينه الذي قد يتمكن خلاله من الإسهام في التخفيف من الطابع المذهبي البحت للمقاومة الراهنة، وإعادة إضفاء الطابع الوطني الشامل عليها، كشرط أساسي لحمايتها من الفخاخ القاتلة للواقع السياسي اللبناني؛ ولكن أيضاً بما يسهّل تجاوز الأزمات الخانقة التي لا ينفك يعيشها البلد بسبب استمرار البنى الطائفية المتحجرة التي تحول إلى الآن دون تطوره الديموقراطي العلماني، وتجعله عرضة بلا انقطاع لاحتمالات الغرق في دوامة الحروب الأهلية، وفي أفضل الأحوال النزاعات العسكرية المحدودة، التي تنتهي دائماً بتسويات طائفية بائسة مؤقتة، على شاكلة اتفاق الدوحة الأخير. وهو اتفاق يطل منذ الآن على مآزق وأبواب مسدودة، كما بات واضحاً، ويتلازم مع «حروب» بدأت صغيرة، كتلك التي حصلت في الفترة الأخيرة في البقاع الأوسط، ولكنها تهدد بالتوسع، لاحقاً، اتفاق يكشف إلى أي حد باتت الغلبة معه للخطاب المذهبي والطائفي، لدى شتى أطراف الشريحة السياسية المنخرطة فيه، ومن ضمنها الطرف المتحالف معكم، والذي كان قد حاول بعد عودة الجنرال عون، زعيمه، ارتداء ملابس وطنية علمانية، لينخرط بعدئذ في خطاب طائفي بائس، محركاً زوابع الطائفيين من شتى الاتجاهات، كما يحصل الآن بعد إثارته مشكلة صلاحيات رئاسة الوزراء!

وهو اتفاق، أخيراً، إذا كان قد نجح في شيء ففي دفع البلد خمسين سنة إلى الوراء، ولا سيما في ما يتعلق بتصوّره لقانون انتخابات وصفتموه، في خطابكم في ذكرى التحرير، بأنه قانون تسوية بين أفرقاء يريدون إخراج «لبنان من أزمته»!! قبل أن تعودوا فتطرحوا على الفريق الآخر مساومة أخرى تسلّمون له عبرها بمقاليد الإعمار مقابل أن يسلّم لكم ببقاء... المقاومة!

حول «قانون التسوية»

كثيراً ما سمعنا العديد من الرموز القيادية في حزبكم يقولون إنهم لا يجدون مشكلة في خوض الانتخابات النيابية وفقاً لأي قانون، مهما يكن، فيما تعلمون تماماً الأهمية القصوى، في أي بلد عبر العالم، لطبيعة هذا القانون، بالنسبة إلى العملية الديموقراطية، وكيف أن الطبقات المسيطرة، هنا وهناك، تستخدم قدرتها على التحكّم في القوانين الانتخابية لتأبيد سلطاتها، وللإبقاء على التبعية والفساد والظلم الاجتماعي، والقمع والتخلف، وما إلى ذلك. ولقد اعترفتم في خطابكم الأخير بأن «المدخل إلى بناء الدولة وإعادة تكوين السلطة والحكومة ومؤسساتها هو قانون الانتخاب (...)»، وبأن «من لا يعطي اللبنانيين قانون انتخاب عادلاً وعصرياً يمكّنهم من أن يتمثلوا بحق في مؤسسات الدولة هو يريد المزرعة ولا يريد الدولة». وليس من شك في أنكم تعرفون أن قانون الانتخاب العادل والعصري هذا لا يمكن أن يكون إلا ذلك الذي ينص على النسبية والدائرة الكبرى خارج القيد الطائفي. إنه الوحيد الذي يمكن أن يتمثل عبره اللبنانيون «بحق في مؤسسات الدولة»، أيّاً تكن انتماءاتهم وقناعاتهم، وعلى أساس تلك الانتماءات والقناعات. وهو ما يناضل لأجله الديموقراطيون والوطنيون والتقدميون من شتى الضفاف، منذ عشرات السنين. بيد أنكم، في التسوية التي شاركتم في إنتاجها أخيراً، في الدوحة، لم تخذلوا هؤلاء وحسب، بل الغالبية الساحقة من المواطنين ذوي المصلحة في التغيير الديموقراطي، لا في العودة القهقرى إلى قانون عام 1960، الذي جاء بعد عامين على حرب أهلية مصغرة، ومئة عام على حرب أخرى من نوع الحروب المؤسِّسة فيه، منطلقاً باستمرار للنزاعات الدموية القاتلة، بدلاً من أن يكون مصدر غنى ثقافياً وفكرياً وإنسانياً. وإذا كنتم تعتقدون، كما تقولون، إن اعتمادكم «قانون التسوية» هذا كان بهدف «إخراج لبنان من أزمته»، فالواقع أن ذلك يعمّق هذه الأزمة، ويكرّسها، ويضع البلد بكامله على كفّ عفريت.

وإنه لمصدر حزن وخيبة عميقين لدى غالبية كبرى ممَّن يقدّرون إلى أبعد الحدود إسهامكم الوطني في دحر إسرائيل ونيّاتها العدوانية حيال لبنان، أنكم، في ما عدا ذلك، لا تطمحون بالفعل إلى استجابة آمال هؤلاء، وآمال السواد الأعظم من اللبنانيين، بل إلى التفاهم حصراً مع من تريدونهم شركاء لكم في السلطة من الشريحة السياسية المسيطرة، ممَّن سبق أن قلتم فيهم، مصيبين، أكثر بكثير مما قاله مالك في الخمر! بدا أن جلّ همّكم عقد تسوية مع من ترون أنهم بحق جماعة المشروع الأميركي ــ الصهيوني في لبنان والمنطقة، بدلاً من أن تكون هذه التسوية مع الشعب اللبناني! وهو ما أبرزه بحدة أكبر ما عبّرتم عنه في الخطاب عينه من طموح لتجديد المساومة التي سبق أن أجريتموها، في ظل الوصاية الإقليمية السابقة، مع الأب الروحي (والمالي أيضاً) للجماعة المشار اليها، الذي تسندون إليه صورة أسطورية عن دوره في... الإعمار!

أسطورة الإعمار والرجل «الكبير»؟

هذا وليست هي المرة الأولى التي تلزمون فيها أنفسكم بتمجيد ذكرى رجل سوف يأتي حتماً الزمن الكفيل أن يحسم إلى الأبد حقيقة الوظائف التي اضطلع بها، على امتداد مرحلة من أقسى وأسوأ المراحل في تاريخ بلدنا، سواء في الجزء منها الذي شهد سنوات أساسية من حرب أهلية قذرة طاحنة، أو في الجزء الذي تلاه وشهد التعايش بين هيمنة دمشق على الحياة السياسية اللبنانية وهيمنة الحالة الحريرية على الواقع الاقتصادي، وعلى مشروع إعادة بناء الدولة البورجوازية التابعة، والمفرطة في الفساد. هكذا يصبح رئيس الوزراء الأسبق الراحل، في نظركم، «الرجل الكبير»، الذي تدعون تياره ومحبيه للإفادة من تجربته ومما تسمونها «آفاق تفكيره الاستراتيجي حول لبنان»، معتبرين أنه «استطاع أن يوائم بين مشروع الإعمار وبناء الدولة ومشروع المقاومة بعقل كبير» (!!!).

ولو كان من يردد هذا الكلام هم تلك الشريحة من حديثي النعمة والساسة الجدد، التي تدين بوجودها هذا للرئيس الراحل، لما كان ذلك مجالاً لاستغرابنا. ولكننا نشعر بالدهشة حقاً حين يرد ذلك على لسانكم. فنسبة عالية من أبناء هذا البلد المخلصين، ومفكريه غير المأجورين، يعرفون عن كثب تجربة الرجل، ويتذكرون الإساءات الكبرى التي ارتكبت بقيادته، وبدفع منه، بحق الغالبية العظمى من المواطنين. ومن بينها، على سبيل المثال لا الحصر، الاستيلاء ظلماً وعدواناً على المنطقة التجارية، البقعة الأهم من العاصمة؛ وضرب الاتحاد العمالي العام والحركة النقابية؛ وإطاحة أول مسعى جدي للتقريب بين المواطنين من شتى الملل والمذاهب كان يتمثل بمشروع قانون الزواج المدني الاختياري؛ وإصدار قرار منع التظاهر، الذي دفع جمهوركم، بوجه أخص، ثمناً غالياً له، خلال تظاهرة جسر المطار، عام 1993، ضد اتفاقية أوسلو. فضلاً عن شراء شريحة كبرى من مثقفي البلد، كما من سياسييه، في عملية إفساد لم يعرف لها لبنان مثيلاً على امتداد تاريخه القديم والحديث.

وبالطبع، من دون نسيان مسألة الإعمار، التي ترون كما لو أنها مأثرة له، فيما هي جاءت في الواقع لتغطي إحدى أخطر عمليات نهب الشعب اللبناني والاستيلاء على نتاج عمله وكدحه، مسبقاً، ولعشرات السنين، ولا سيما عن طريق الدَّين العام الذي ارتفع في سنوات حكمه، حصراً، من أقل من ملياري دولار إلى أكثر من أربعين ملياراً من الدولارات، علماً بأنه بات معروفاً أن الإعمار لم يستهلك منها أكثر من سبعة مليارات، فيما ذهب الباقي، نهباً ورشوةً وهدراً، وفوائد فاحشة للمصارف المحلية، ومن بينها بوجه أخص بنك البحر المتوسط العائد له.

وإذا كانت هذه هي الحقيقة، على صعيد مسألة الإعمار وبناء الدولة (!!!)، فإنّه يصبح بالإمكان تخيّل مدى التعايش بين هذا الجانب من التجربة والجانب الآخر المتمثل بقضية المقاومة، التي يمكن للعارفين من الداخل، وأنتم في مقدمتهم، إدراك أن تسهيل عملها كان قبل كل شيء أمراً إقليمياً، امتلكت دمشق مفاتيحه وكانت لها مصلحة أساسية فيه، في إطار التناقضات الباقية بينها وبين إسرائيل. كما لا بد أنكم تعرفون أنه بعدما بدأ يتراجع نفوذ النظام السوري في لبنان، بنتيجة التغيرات في موقف الإدارة الأميركية حياله، في السنوات الأخيرة، كان للرئيس الراحل دوره الخاص في إنتاج القرار 1559، الذي جمع بين مطلب إخراج سوريا عسكرياً من لبنان ومطلب تجريد المقاومة اللبنانية من سلاحها.
في كل حال، لقد وجدنا ضرورة لهذه الاستعادة، تحت إضاءة أخرى مخالفة لتلك التي سلّطتموها أنتم عليها، لأنكم، بوجه أخص، ترون أنّها نموذج للاهتداء به في القادم من الأيام، إذ تقولون:

«هذه هي الصيغة التي عايشناها وتعايشنا من خلالها كمقاومة مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ومن كان وفياً لإرث هذا الشهيد الكبير عليه أن يعمل على إحياء هذا النموذج» (!!).

بمعنى آخر، نفهم من كلامكم أنكم تدعون ورثة الرجل السياسيين لكي يخوضوا معكم شراكة متجددة، تكون لكم فيها المقاومة ويكون لهم فيها الإعمار. وهو أمر ليس مستغرباً وغريباً فحسب، بل يدل أيضاً على قابلية خطيرة للنسيان، ليس فقط نسيان حقيقة التجربة الأساسية مع الأصل، بل أيضاً التجربة الجديدة مع الفروع، ولا سيما بعد حرب تموز ـــــ آب 2006، وما سبق أن كشفتموه أنتم بالذات من نهب هؤلاء للمساعدات العربية والدولية، التي وصلت إلى لبنان بهدف إعادة الإعمار، والتعويض على المتضررين من الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان.

إنها لصورة بليغة عمن يقبل أن يُلدغ من الجحر عينه مرتين! بل أكثر من مرتين!!

بين هونغ كونغ و... هانوي!

السيد الأمين العام،
لقد ورد في خطابكم، وأنتم تتحدثون عن الجمع بين الإعمار والمقاومة، ضمن الفهم الذي بات واضحاً مما أسلفنا، الكلام التالي: «نحن لا نقلّد أحداً، لا هونغ كونغ ولا هانوي، ولا نتبع نموذجاً. نحن اللبنانيين نصنع النموذج».

حسناً، ولكن قبل أن نناقش مسألة النموذج هذا، دعونا نلقِ نظرة ولو عجلى على تجربة هانوي. ذلك أنه في حالتها، كما في حالتنا، ليس صدفة أن العدو واحد... تقريباً، وإن مع تنويع من المؤكد أنه ليس بسيطاً، ولكنه لا يغيّر كثيراً في المعادلة. العدو هو الإدارة الأميركية، في الحالتين، وإن كانت تضاف إلى الإدارة المذكورة، في وضعنا، دولة إسرائيل، الأداة المباشرة لتلك الأخيرة في المنطقة العربية، ومن ضمنها لبنان. مع ما يعنيه ذلك، تالياً، من فداحة القدرات العدوانية لدى هذا العدو، ومدى استعداده للمغامرات الإجرامية وأعمال التدمير والإبادة، ولا سيما حين يشعر بتهديد وجودي، فيما أفضتم مراراً بالحديث عما يمكن أن نفهم منه أنه تطلّع إلى زوال هذه الدولة، بواقعها العنصري العدواني.

ونحن، من موقعنا كيسار ثوري، لبناني، وعربي ايضاً، لدينا التطلعات عينها في هذا المجال. فليس ثمة مبرر لوجودنا إذا لم نجمع بين برنامجنا الداخلي البحت، المتعلق بالقضاء على أسباب الظلم الاجتماعي والقهر والاستغلال الطبقيين، برنامجنا الإقليمي والأممي، المتعلق بتصفية السيطرة الإمبريالية على الوطن العربي ككل، وعلى الدور الإسرائيلي الخاص جداً في إطار تلك السيطرة، وذلك في سياق تطلعنا التاريخي إلى الوحدة العربية وبناء الاشتراكية.

إن تأمين شروط استمرار المواجهة مع إسرائيل والتحول بها مع الوقت إلى مواجهة ظافرة حقاً، لا يمكن إلا أن يتلازم مع الاستفادة إلى أبعد الحدود من التجربة الفيتنامية التي لم تنجح فقط في إزالة الاحتلال الأميركي، على جبروته، بل كذلك في شل النزعة العسكرية لدى واشنطن سنوات طوالاً، مع ما يعنيه ذلك في آن معاً من توقع مواجهة دمار أخطر بكثير من ذلك الذي ألحقته تل أبيب ببلدنا خلال عدوان تموز ـــــ آب 2006.

وهو أمر يدعو إلى تصور «للإعمار» لا يتفق إطلاقاً مع ذلك الذي تم في العقدين الأخيرين، ولا مع طبيعة القوى الطبقية التابعة للاستعمار الحديث التي قادت تلك السيرورة ووصلت بالبلد إلى حدود الكارثة، وبالشعب اللبناني، وطبقاته الكادحة إلى قيد شبر من المجاعة.

لقد قلتم إننا «نستطيع أن نقدم إلى العالم بلداً يقوم فيه الإعمار والاقتصاد والدولة والشركات والمساهمات والقطاعات الإنتاجية، وإلى جانبه مقاومة لا تمارس مهمة الدولة ولا تنافس السلطة ...»! وفي الواقع إنه لتصور أبعد ما يكون عن إدراك الأبعاد الحقيقية الخطيرة لما جرى في الأمس القريب، ولكن أيضاً لما سيجري في المقبل من الأيام، فيما لو بقيت في السلطة القوى نفسها، التي أنتجت باريس واحد، وباريس 2 وباريس 3، وإذا ما شجعتم أنتم هذه القوى مجدداً، ودخلتم في شراكة وثيقة معها، ووافقتم على تمرير مشاريعها، ومن بينها بوجه أخص ما سمته «ورقتها الإصلاحية»، المستندة إلى مقررات باريس 3.

السيّد الأمين العام،
إذا كنتم تريدون حقاً البقاء في خط المواجهة مع إسرائيل، وحماية سلاح المقاومة، والدعم النشط لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على أرضه التاريخية، فنحن نعتقد أن ثمة تغييراً جذرياً يجب أن يحدث في طريقتكم في تصور المستقبل، وبالتالي في تصور بنيتكم كمقاومة، وتحالفاتكم، فضلاً عن تصور النموذج الذي يمكن أن تضطلعوا ببنائه، والقاعدة الاجتماعية لهذا النموذج. وهي قاعدة لا يمكن أن تقتصر على أبناء هذا المذهب أو ذاك، كما لا يمكن أن تجمع في المعسكر نفسه بين أكلة الجبنة، من جهة، والمعدمين والفقراء والمهمشين، والمنتجين الفعليين بعامّةٍ، من جهة أخرى، أي كامل من تسمونهم في مصطلحاتكم الخاصة المستضعفين! بمعنى آخر، ربما سيكون من الضروري أن تستفيدوا أيضاً، وإلى حد بعيد، من تجربة من يُعرفون، في أميركا اللاتينية، بلاهوت التحرير، ممن يقاتلون، في تحالف وثيق مع يسار القارة الأميركية الجنوبية، ليس فقط هيمنة واشنطن وشركائها بل كذلك هيمنة الطبقات البورجوازية التابعة واليمين السلطوي في بلدانهم.

السيّد الأمين العام،
في تطلّعنا لإنتاج برنامج ثوري متقدم للتغيير الاجتماعي والوطني والقومي، وممارسة ما يطرحه من مهمات، على طريق ما كنا نسميه، وسنسميه مجدداً، إنجاز مهمات الثورة العربية، التي ذكرنا أعلاه بعضاً من أهمها، نتطلع أيضاً إلى أن تعيدوا النظر بعمق في كامل تجربتكم، على المستوى الطبقي الاجتماعي، بحيث تدركون حقاً أنه لا يمكن المضي إلى الأخير في إنجاز مهمات التحرر الوطني، من دون أن تشاركوا أيضاً في خوض معركة الجماهير الكادحة الواسعة، من شتى الملل والطوائف، حتى نهاياتها المنطقية.