كلام صريح حول الإرهاب وتعريفاته

كريم مروة
الحوار المتمدن - العدد: 109 - 2002 / 4 / 22 - 16:51
المحور: الارهاب, الحرب والسلام     



من مفارقات الفترة الزمنية، التي يعيش العالم في قلب صعوباتها وتعقيداتها والتباساتها، ان بن لادن وبوش قد أوقعانا وأوقعا العالم في مفهومين للصراع حول المستقبل، ينتميان الى الطبيعة ذاتها، هي الظلامية والاستبداد والتخلف، من ناحية، والعنصرية والكراهية والهيمنة، من ناحية اخرى. وبينهما لا مكان لحقوق الناس ولحرياتهم ولأحلامهم ولطموحاتهم. كلاهما يرى الى العالم، من زاويته الخاصة، كما لو انه هو وحده المعني بتقرير مصير البشرية، وانه هو وحده المعني بتحديد اتجاه مسار التاريخ، وانه هو وحده الذي يعين أدوات الوصول الى المستقبل، وأي مستقبل! انهما وجهان لعملة واحدة. والاهداف، هنا وهناك، وكذلك أدوات الصراع، انما ترمي، في اول المطاف وفي نهايته، الى النقيض المطلق لما يطمح اليه الانسان، في كل الازمنة، من توق الى الحرية والتقدم والعدالة. والوقائع الراهنة، والوقائع السابقة في أزمنة قديمة وحديثة، تقدم لنا الدليل القاطع على ان المستقبل الذي يعدنا به هؤلاء، ونظراؤهم في التاريخ، هو، في صيغته وفي مضمونه، النقيض المطلق لهذه الاقانيم الثلاثة، التي بها يكتمل المعنى الانساني للانسان، كقيمة مطلقة بذاتها، وكهدف مطلق لنضال البشرية عبر تاريخها الطويل، باسم العقائد كلها، الدينية والعلمانية.
المفارقة المذهلة، اذن، هي اننا أفقنا ذات يوم، بعد الحادي عشر من أيلول، لنرى العالم مساقا، ببساطة، وبعفوية نادرة المثال، غصبا عنه، و(او) برضائه، الى الانخراط في حرب حول الارهاب، وبين الارهاب وأضداده، بوسائط وأدوات سياسية وثقافية ونفسية وعسكرية، قطباها بن لادن والبنلادنيون، بنماذجهم المختلفة، وبوش والبوشيون، بأنواعهم وأجناسهم وأسمائهم المختلفة. وهي حرب تستمر، صعودا وهبوطا، سخونة وبرودة، على مساحة الكوكب الارضي كله، بره وبحره، محيطه الداخلي ومحيطه الخارجي، من دون استثناء.
المشهد مثير للدهشة، ومثير للحزن والغضب، في الوقت عينه. بل هو يكاد يكون أغرب حدث في التاريخ المعاصر. ومصدر الغرابة فيه رغم انه يحصل بعد انهيارات العقد الاخير من القرن الماضي، وكنتيجة من نتائجها هو ان العالم، بدل ان يرتقي، في ظل توحده موضوعيا الى مراتب أعلى من الوعي، ليحقق إنسانيته، اذا به يتراجع الى مراتب أدنى من الوعي، ليفقد إنسانيته. فينتقل، هكذا، وببساطة، من قرن كان فائق الغنى بالمشاريع الكبرى للتغيير، الى قرن تشوه فيه المعايير والقيم، وتنقلب الى نقائضها، ويزداد التوحش فيه، وتضطرب الافكار والمشاعر، وتغيب الرؤية، او تكاد! انه الدخول في زمن لا أوصاف إنسانية تحتمله.. انها ((غرنيكا)) عصر العولمة. لكنها، بعكس ((غرنيكا)) القرن الماضي، ((غرنيكا)) متعددة المصادر والاتجاهات!
كلا. لم يعد السكوت جائزا. بل ان الكلام الصريح صار ضرورة تاريخية، حتى لا تضيع الحقيقة، وحتى لا يزداد تشويه الوقائع، وحتى نعيد للمعايير وللقيم أصالتها. لا بد من الجرأة والوضوح في تعريف وتحديد ما جرى وما يجري، في هذه الايام العصيبة المضطربة. ذلك ان اللحظة التاريخية التي نحن فيها هي مزيج متداخل من الوضوح والغموض، من الاشياء ونقائضها. وتكاد تفتقد أهميتها ولو الى حين مسألة معرفة وتحديد أيهما المسؤول عن حالة الاضطراب الراهنة، أهو الظلم الاصلي، القادم من التاريخ، والمتمادي في التصعيد، مع تبدل وتنوع أشكاله وصيغه وأدواته، أم هي الاشكال الملتبسة للاعتراض عليه، وللانتقام منه ومن مسببيه؟!
نقول ذلك، من دون ان نخشى حراجة السؤال. ذلك ان الالتباس في الصراع القائم، بين الظالمين والمظلومين، كبير جدا. والفرق شاسع بين ما نشهده، اليوم، من نماذج تدعي الانتماد الى حركة النضال ضد الظلم، وبين الثورات التي يحفل بها تاريخ البشرية، منذ ثورة سبارتاكوس وثورة الزنج، الى الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر وثورة اوكتوبر الاشتراكية في القرن العشرين. وما زال الطريق سالكا وشائكا ومتعرجا، لإنجاز ما طمحت الى تحقيقه تلك الثورات. وأزعم ان منطق الاشياء يؤكد على، او، على الاقل، يشير الى انه كلما ارتقت المعارف، وكلما اتسعت رقعة الذين يملكونها ويستوعبونها، وكلما ارتقى وعي المظلومين بالحاجة الى تغيير الواقع الظالم، باتجاه الحرية، تطورت، تلقائيا، وارتقت وسائل الكفاح، واقتربت البشرية من ساعة الخلاص. الا ان الوقائع المذهلة سرعان ما كانت تدفع بمنطق الاشياء هذا الى خارج الحلبة، حلبة الصراع، وتستبدله بمنطق آخر، تفتقد فيه، او تضعف الى الحدود الدنيا، المعايير والقيم، وأمور أساسية اخرى، وتفقد معانيها، وتزداد تشوها. وهذا ما نشاهده، اليوم، في أبشع صوره.
لماذا يحصل، اليوم، بالتحديد، كل هذا؟ والى أين تتجه حركة التاريخ؟
تلك هي المسألة!
ان الحرية في القول، والمسؤولية في التزام الدفاع عنها، والانخراط في عملية تصحيح مسار التاريخ، جميعها أمور تقتضي منا الاعتراف بأن ما فعله بن لادن والبنلادنيون في اميركا، في الحادي عشر من أيلول، وما فعلوه في أفغانستان، وما فعله ويفعله نظراؤهم في أماكن اخرى، لا يدخل في نطاق حرب المظلومين ضد ظالميهم، حتى ولو حمل هولاء هذا الشعار، وأكثروا من الضجيج حوله. بل ان هذا الفعل بالذات، هو، بالتعريف المنطقي والانساني للاشياء والافعال، جزء من الظلم، يمارس على المظلومين، باسم الدفاع عنهم. أي انه، بالتعريف ذاته، يشكل الوجه الآخر للظلم، وينتمي الى الطبيعة ذاتها، وان كان يأتي اليه، أي الى الظلم، من موقع آخر، او ما يبدو، ويزعم، انه موقع آخر! وليس المظلومون وهم اكثرية الناس على الكوكب بحاجة الى بذل الجهد لتحديد وتعريف من هو الظالم الاصلي، الذي يعانون من ظلمه. اذ هو يدل على نفسه بنفسه. وبوش والبوشيون، الحاليون والسابقون واللاحقون، هم أساطين هذا الظلم، بالمال والاستبداد والاستغلال، وبالحروب، بأنواعها وأدواتها المختلفة. انهم هم أنفسهم، الذين ما انفكوا، منذ فجر التاريخ، يمعنون في الاعتداء على العلم وعلى اكتشافاته، يسخرونه ويسخرونها في ابتداع أفظع الادوات والوسائل والصيغ والمبررات لممارسة الظلم.
المشكلة، اذن، ليست هنا. بل هي هناك، حيث الالتباس والاضطراب، أي حيث يظهر الخراب في البوصلة، وحيث تبرز مظاهر الخراب في الوعي.
هنا، بالذات، تبرز أهمية المعرفة، وأهمية التمايز، وأهمية التمييز، وأهمية الوعي بالحقيقية.
ازاء كل ذلك، بالجملة وبالتفاصيل، نتساءل:
لماذا نحن معنيون، الى هذا الحد، بتحديد وتعريف مفهوم الارهاب؟
لماذا نحن ملزمون بالانخراط في ما يريد هؤلاء وأولئك إغراقنا فيه، وفي منطقه، منطقهم؟
ان موقعنا، نحن انصار الحرية، حريتنا، المناضلين ضد الظلم والاستغلال والقهر، المعنيين بانتصار الحياة على الموت بأشكاله كافة، ان موقعنا هو في مكان آخر. وحربنا المشرعة، المتواصلة، هي حرب من نوع آخر، من فلسطين الى كل جزء في مساحة الكوكب. وخصمنا معروف ومحدد، بالنسبة لنا، وواضحة صورته. وهدفنا معروف ومحدد، من دون غموض، ومن دون التباس. وأدواتنا للتحرر من هذا الخصم، بأنواعه وأجناسه وأشكاله المختلفة، واضحة، ايضا.
فلماذا كل هذا الاضطراب؟
هنا، بالذات، مرة ثانية، تبرز أهمية التمايز والتمييز، وأهمية المعرفة، وأهمية الوعي بالحقيقة. فهي شروط أساسية لمتابعة حربنا الحقيقية، كفاحنا الحقيقي، من أجل الحرية، من أجل حقنا في الحياة، وحقنا في صنع التقدم لبلداننا والسعادة لشعوبنا، وحقنا في ان تكون لنا مشاريعنا للتغيير، وطرقنا الديموقراطية، بامتياز، لتحقيق هذا التغيير.
كلا! لسنا معنيين بالحديث عن الارهاب. ولسنا معنيين بالخوض في تعريف وتحديد أشكاله. فالارهاب، بالتعريف، هو، من وجهة نظري، الظلم عينه، بأنواعه المختلفة. وله أساطينه المتعددون، المتجددون. وله أدواته المتعددة، المتجددة. ومن ينتسب الى هؤلاء، في السلوك وفي الممارسة، أيا كان موقعه، وأيا كان اسمه وجنسه ونوع سلاحه، ليس منا، قطعا، ولسنا منه بالتأكيد، حتى ولو ظل ينادي بأعلى الصوت، أثناء الليل وأثناء النهار، بشعاراتنا! بل هو، في الكثير من الحالات، يتحول الى هدف مباشر لكفاحنا من أجل الحرية. وهو يصبح، بفعل استبداده، وبفعل مغامراته، وبفعل مجمل سلوكه، في حالات اخرى، الشريك المباشر، او الشريك بالواسطة، للخصم الاصلي، الذي يشكل المصدر الاساسي لكل آلامنا ومآسينا، والمسبب في حصولها، حتى ولو تحول الى ضحية من ضحايا هذا الخصم الاصلي، والى هدف من أهداف حربه الشاملة من أجل الهيمنة!


©2002 جريدة السفير