لاقوة كلمة ..(لا)..قراءة في الأنظمة الشمولية


خالص جلبي
الحوار المتمدن - العدد: 629 - 2003 / 10 / 22 - 04:51
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

دخل الأستاذ إلى الصف وتوجه إلى الطلبة من ذكور وإناث فقال: هل هناك أحد غير بعثي في هذا الصف؟ فرفع ثلاثة من الطلبة أصابعهم كان أحدهم  (طالبة). قال الأستاذ: إذاً سوف نوزع عليكم استمارة الانتساب للحزب. وفي اليوم التالي كان الطلبة الذكور قد نالوا الحظوة بالانتساب للحزب القائد و بدؤوا بقراءة ترانيم الصباح من إنجيل القائد الذي يحكم إلى الأبد. وبقي في الفصل متمرد واحد (أنثى) تشبثت بموقفها أنها لن تنتسب للحزب. قال لها الأستاذ: لماذا لم تنتسبي إلى الحزب؟ قالت الطالبة: هل الانتساب للحزب إلزامي؟ ارتبك الأستاذ وابتسم ابتسامة صفراء وقال: بالطبع ليس الانتساب إلزامي. ولكن الانتساب للحزب يمنحك العديد من المزايا وبدأ يعدد بركات الحزب من تأمين الوظيفة ودخول الجامعة والانتساب للجيش والانخراط في المخابرات والتجسس على المواطنين وفتح الدكان وصك الزواج؟ أصرت الفتاة على موقفها وقالت: لن انتسب للحزب. طلبها الأستاذ على انفراد حتى
لا تحدث (شوشرة) في الصف وقال لها: اصدقيني الخبر فإن كان والداك قد (خوفوك) أو مارسوا ضغطاً عليك فلسوف نتولى أمرهم؟! قالت: لا .. والامتيازات لا أريدها ووالدي تركا لي حرية الاختيار وأنا اخترت أن لا أنتسب للحزب. وأكرر هل الانتساب للحزب إجباري؟ ارتبك الأستاذ هذه المرة أكثر وبدت على وجهه علامات الغضب فلم يواجه حالة استعصاء نادرة مثلها في عقول الشبيبة التي يغسلونها على مدار الساعة، وفي العادة ينضم الجميع مثل الحملان الوديعة بدون تردد، فأحال المسألة برمتها إلى مدير المدرسة كي يعالج هذا التمرد الخطير. وفي اليوم الثالث استدعى المدير الطالبة وأكرمها بمقعد وثير وابتسامة عريضة وتهليل مجيد ثم فتح فاه فقال: أنت من خيرة الطالبات ونحن نبني عليك الآمال والحزب القائد يتطلع إلى أن
تنتسبي إليه وتشاركي في النضال بين صفوفه. سكتت الطالبة هنيهة والمدير يتأمل تعبيرات وجهها. وأجابت بهدوء: هل الانتساب للحزب إجباري؟ صعق المدير وأجاب بانفعال وقد ارتفعت طبقة صوته: لا .. لا .. بالطبع ليس إجبارياً .. ولكن ثم بدأ يعدد المحاسن اليوسفية والدرر اللامعة لإنجازات الحزب والقائد. وعندما ختم ديباجته قالت الفتاة باختصار وإصرار أكثر من الأول طالما كان الانتساب للحزب ليس إلزاميا فلن انتسب للحزب.هذه .. اللا ... اللعينة أحدثت إرباكاً في إدارة المدرسة ورأوا فيها بادرة تمرد خطيرة من طالبة تافهة؟ عندها انتقلوا إلى الوعيد والترهيب فكانت النتيجة نفسها.
وكانت جملة "هل الانتساب للحزب إجباري؟" تشكل معادلة صعبة ليس لها حل في رياضيات الحزب. فلما سقط في أيديهم اعتبروا أن عقل الطالبة قد تسمم. وأن خلفيتها بورجوازية. وأن تربيتها عفنة رجعية. وتركوها على أمل اغتصاب إرادتها في مناسبة أخرى.هذه القصة تحكي واقع النظام البعثي وما يجري تحت الأنظمة الشمولية. كما تحكي القابلية للاستعمار وكيف يولد الاستعمار. كما تحكي قوة (لا) وأن استعمار الناس يتم بأيديهم وأن الشيطان ليس له سلطان إلا على من اتبعه من الغاوين. كما تحكي لماذا تأتي أمريكا للمنطقة لغزو ديار الوثنيين الذين أطاعوا سادتهم وكبراءهم فأضلوهم السبيلا. ودخلوا حزب فرعون وما أمر فرعون برشيد.إن القاسم المشترك بين الفاشيست والبعثيين والنازيين هو مركزية الحزب ونظام التجسس وترويع المواطن. وأعظم آفة يتعرض لها مجتمع تحوله إلى مجتمع كله حزب من المنافقين. وهم بممارسة دين (الإكراه) حولوا الأمة إلى قطيع من الخائفين.
إن بركات الحزب كثيرة ولكن ينقصه مزية واحدة ليست في دستور الحزب وهي حرمان الإنسان من (الاختيار). ومعها يحرم من كل (إنسانيته) ويتحول إلى (شيء) من الأشياء. وبها يخسر الأبعاد الثلاثة له كإنسان: "الاستقلالية والإرادة والتفكير". ليتحول دماغه إلى سطح مسطح مثل حدوة الحصان.
إنها بكلمة مختصرة قتل الإنسان بالجملة والمفرق. ولن ينصر الله مجتمعا وثنيا على مجتمع موحد أو هو أقرب للتوحيد. وهذا السر أن العالم الإسلامي كب على وجهه لأنه لا يعبد الله حقا بل يعبد الأوثان فلا تدخل حدود بلد عربي إلا والأصنام مشرعة من صور شتى وتماثيل منتصبة اعل هبل.
ومن أعجب الأمور في حرب ربيع 2003ظهور الجنرالات العراقيين وهم يؤمون المساجد ولم يعتادوا في حياتهم سوى عبادة الرئيس. أو أن يعتقد رجال حزب البعث بالبعث وهم لم يعتقدوا يوماً بالبعث. أو أنهم يعبدون الله وهم الذين نِشؤوا على عبادة الثالوث المقدس: (الطائفية والاستبداد والفقر) بدل (الوحدة والحرية والاشتراكية) التي رفعوها. أو أن توضع كلمة الله على العلم وليس هناك من إله سوى فرعون. مع ذلك فقد كتبت كلمة الله بهمزة (ألله؟) مما تفيد عكس معناها؟ والواقع لا يأبه للشعارات بل الحقائق. وعندما يلقى القبض على مواطن لأنه فتح موقعا محرما في الانترنيت فيجب أن لا نتوقع من هذا المواطن أن يدافع عن وطن لم يبق فيه مواطن ومواطنة؟.