فرج الله الحلو - قائد شيوعي من أبطال الإستقلال

كريم مروة
الحوار المتمدن - العدد: 2044 - 2007 / 9 / 20 - 12:34
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية     

شهيد مواقفه الوطنية والديمقراطية
فرج الله الحلـو - قائد شيوعي من أبطال الإستقلال

فرج الله الحلو هو اسم ورمز يختصران ملحمة كفاحية من أجل التحرر والتقدم في تاريخ لبنان الحديث، وفي تاريخ الحزب الشيوعي اللبناني، على وجه الخصوص. بدأت هذه الملحمة بالقلق والتمرد. واستمرت زمناً في التمايز والإختلاف عن السائد في الفكر وفي الممارسة، أو في محاولة التمايز. إلا أن هذه الملحمة انتهت باستشهاد بطلها فرج الله الحلو في تلك الليلة الطويلة الشديدة الظلمة، بكل المعاني التي تحملها الكلمة، تحت التعذيب الوحشي الذي تنوعت أساليبه وأدواته المستقاة من ترسانة عهود الظلم والظلام في تاريخ البشرية القديم. وقف البطل يومها أمام جلاديه منتصب القامة، مرفوع الهامة، شامخ الرأس، واثقاً بنفسه وبالقضية التي أعطاها كل عمره. وأطلق من فمه بصقة في وجه ذلك الكائن الشبيه بالرجال، الذي خانه. فأردى الخائن بتلك البصقة صغيراً ذليلاً محتقراً. ثم قال لجلاديه: ”أنا فرج الله الحلو. وأنتم تعرفون من هو فرج الله الحلو. فاعلموا إذن أنكم لن تستطيعوا أخذ كلمة واحدة مني. فافعلوا بي ما شئتم. خسئتم وخسئ الذين كلفوكم بهذه المهمة القذرة”. فانهال الجلادون عليه ضرباً وتعذيباً إلى أن قتلوه. وإذ تحوّل الجسد العامر إلى جثة هامدة، سارع الجلادون إلى دفنه في بستان سامي جمعة، الذي قاد عملية الإعتقال، مستعيناً في ذلك بالخائن الذي كان مسؤولاً عن البيت السري، الذي كان فرج الله متوجهاً إليه في تلك الليلة. وكان ذلك المسؤول قد تحوّل، في وقت سابق، من دون معرفة فرج الله، إلى عميل للمخابرات السورية. فمارس الخيانة للأمانة من دون أن يرف له جفن. وعندما شاع نبأ اعتقال فرج الله، وبدأت تتوالى ردود الفعل اللبنانية والعربية والدولية على الإعتقال، طلبت السلطات المصرية من مخابراتها السورية إخفاء أي أثر لفرج الله، لإثبات الإدعاء بأنه لم يكن في سوريا شخص اسمه فرج الله الحلو وأن نبأ اعتقال هذا الشخص كان عارياً عن الصحة! هكذا كانت تدار سوريا، في ذلك الزمن، أسوة بكل ما عرفته أنظمة الإستبداد العربية قديماً وحديثاً. فنبش القبر، ونقلت الجثة إلى أحد مراكز المخابرات في دمشق. ووضعت في حوض، وأحرقت بحامض كبريتي أذاب كامل الجسد. ثم سرّب الجسد المذوب إلى مجاري دمشق وغوطتها. وكانت دمشق واحدة من أكثر المدن التي أحبها فرج الله، وأمضى زمناً جميلاً وصعباً وطويلاً في ربوعها. فاستقبلت المدينة الطيبة المعذبة روح البطل، التي حومت في أجوائها، وبين شوارعها وفي أحضان غوطتها الغنـّاء. استقبلت روح فرج الله، فيما يشبه التحدي لجلاديه ولسادتهم، معلنة لكل العالم أن روح الشهداء الأبطال من نوع فرج الله الحلو تستعصي على الفناء.

حصل ذلك في مدينة دمشق، في الخامس والعشرين من شهر حزيران من عام 1959. وكانت دمشق، في ذلك التاريخ، عاصمة الإقليم الجنوبي من الجمهورية العربية المتحدة. وكان فرج الله عضواً في قيادة الحزب الشيوعي في لبنان وسوريا. وكان مكلفاً من قبل القيادة الإهتمام بالوضع الداخلي للحزب في سوريا، بعد أن غادر معظم قادته وكوادره إلى لبنان، خلال تلك الفترة المظلمة من حياتها، ومن حياة الحزب الشيوعي فيها. وقد جاء الإغتيال تتويجاً لما اعتبره سادة ذلك التاريخ العربي الهجين إنتصاراَ تاريخياَ من قبلهم على من اعتبروهم أعداء تلك الوحدة الإندماجية بين مصر وسوريا. وهي الوحدة التي تمت بالقسر، ضد الوقائع والشروط والخصوصيات المختلفة، التي أصرّ الشيوعيون على أخذها في الإعتبار، وعلى التمسك بها واحترامها كشرط لنجاح الوحدة ولاستمرارها. وكان الهدف المعلن من تلك الوحدة الربط بين مشرق العالم العربي ومغربه، ضد الأعداء الحقيقيين والوهميين لوحدة الأمة العربية، القدامى منهم والجدد. وكانت تلك من أخطر المغامرات التي وقع فيها الرئيس جمال عبد الناصر، وكررها أكثر من مرة، تتويجاً لأحلامه التي عبّر عنها بوضوح في كتابه "فلسفة الثورة". ودفع من رصيده ثمناً باهظاً لتلك المغامرات، حتى وهو في مجد صعود شخصيته كبطل تاريخي للشعب المصري وللشعوب العربية. وغادر الحياة حزيناً، وسط حزن عربي عظيم على غيابه، وعلى انهيار أحلامه في تحقيق الحرية والإشتراكية والوحدة التي كانت قد تحولت إلى أحلام للملايين من أبناء عالمنا العربي الكبير.

قد يكون اللبنانيون والسوريون نسوا تلك الملحمة المتصلة بحياة هذا القائد الشيوعي المتميز، فرج الله الحلو. لكن التاريخ سيظل يتذكره مع أمثاله من الأبطال الذين وهبوا حياتهم، من خلال النضال، التزاماً بأفكارهم ووفاء لقضايا وطنهم وشعبهم ودفاعاً عنها. ولم يكن هذا العطاء شكلاً من أشكال التضحية بالنفس مجاناً. بل أن الإستشهاد جاء من خارج إرادة الشهيد، قسراً وظلماً وتوحشاً.

في العام 2005 بلغ عمر فرج الله الحلو المائة عام. وفي عام 2009 سيكون قد مضى على استشهاده نصف قرن. كان، إذن، حين استشهد، في الرابعة والخمسين من عمره. وهو عمر شباب. إنه العمر الذي يكون الإنسان، من نوع فرج الله خصوصاً، قد بلغ بتجاربه الغنية فيه مرحلة النضج في أرقى أشكالها.

أتذكر فرج الله اليوم، في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ لبنان، ومن تاريخ الحركة التي انتمى إليها وكان من مؤسسيها، أعني الحزب الشيوعي اللبناني بالتحديد، والحركة الوطنية التحررية اللبنانية والعربية، اليسارية الطابع والبرنامج، في آن.

إن استحضار اسم فرج الله الحلو، واستحضار التجربة التي ميزت مسيرته، لا يرميان إلى التذكير بعواصف تلك الحقبة من تاريخ لبنان وسوريا ومن تاريخ العالم العربي. فلهذه المسألة شروط وظروف أخرى. لكن لاستحضار اسم ومسيرة فرج الله وظيفتين، بالنسبة إليّ، تتصلان بحاضر أيامنا، وبمستقبلها، سواء على الصعيد اللبناني، أم على الصعيد اللبناني _ السوري، أم على الصعيد العربي بعامة. الوظيفة الأولى هي للتذكير بأن شيوعيي الحقبة الماضية في بلداننا وفي العالم هم، برغم الأخطاء التي ارتكبوها، أكثر صدقاً من شيوعيي اليوم في انتمائهم إلى حركة تبتغي تغيير العالم، في اتجاه تحقيق الحرية والسعادة للبشر، باسم الإشتراكية، وباسم مرجعيتها المتمثلة بفكر ماركس. الوظيفة الثانية هي للإستفادة من تجربة فرج الله الحلو، التي قمعت في المهد من قبل الرفاق داخل الحزب أولاً، ثم أزيلت من الوجود بالقتل في أقبية التعذيب، على يد جلادي أنظمة الإستبداد العربية. والإستفادة من تجربة فرج الله تقضي بأن يتابع من هم في حركة اليسار اللبناني، وربما العربي، ما كان قد انقطع في عهد هذا القائد الشهيد، وما كان قد استعيد على يد رفاقه بقيادة الشهيد الآخر جورج حاوي في زمن لاحق، بعد استشهاد فرج الله ببضعة أعوام. وهو الجهد الإبداعي في الفكر وفي السياسة الذي كان جريئاً في اقتحام صعوبات ذلك الزمن. وكان ذلك الجهد باهظ الكلفة. وقد توّج في قرارات المؤتمر الثاني للحزب التي حررت حزبنا من إرث تاريخي قديم، ووضعته على طريق جديد مختلف عن السائد من السياسات والأفكار والطقوس التي كانت تهيمن على حياة الأحزاب الشيوعية في عالمنا العربي وفي العالم. وكانت تلك القرارات ذاتها في جوهرها وفي بعض تفاصيلها أشبه باعتذار من فرج الله الحلو عن الإساءة التي كانت قد وجهت إليه. كما كانت بمثابة إحياء لأفكار ولاتجاهات في السياسة وفي التنظيم هي، في زمانه، إرهاصات لحركة التجديد التي عبرت عنها قرارات المؤتمر الثاني. وكانت لسياسة الحزب في الحرب أبطال هم إياهم أبطال تلك الحركة التاريخية المميزة المشار إليها، التي أعادت الإعتبار لفرج الله الحلو ولنهجه. وقد كنت واحداً من هؤلاء المسؤولين عن تلك السياسة في الحرب، مثلما كنت في المؤتمرين الثاني والثالث للحزب، واحداً من أبطال التجديد لتلك الحركة المجيدة. إلا أن الحرب الأهلية التي دفع اللبنانيون إليها، بإرادة منهم، وبالقسر خارج هذه الإرادة، وحاول الحزب الشيوعي تجنيب البلاد الوقوع فيها وفشل، ثم صار جزءاً منها بعد وقوعها، وأسيراً لمجرياتها، عادت، أي هذه الحرب، فأغرقت الحزب فيما كان يريد التخلص منه في حركة التجديد المشار إليها. وهكذا بدأت تتبدد تدريجياً، من خلال سياسات الحزب في الحرب، الإنجازات التاريخية المتمثلة في قرارات المؤتمر الثاني (1968) ثم في قرارات المؤتمر الثالث (1972)، التي عمقت وطورت قرارات المؤتمر الثاني.

إن لهذه الوظيفة الثانية من استحضار اسم وتجربة ومسيرة فرج الله الحلو أهميتها التاريخية بالنسبة إلى المستقبل، على وجه الخصوص. فهي تشير إلى ضرورة إحياء جديد لحركة اليسار، تحرر المنتمين إليها، باسم مرجعية ماركس، وتجاوزاً للكثير من أفكاره ومفاهيمه، تحررهم من كل ما ارتبط بالفكر من صنمية حوّلته إلى عقيدة جامدة.

إلا أن الحديث عن فرج الله الحلو، بهذه المعاني وبهذه الإشارات، لا يعني أننا نتحدث عن شهيد قديس. فهو كان مثل كل الناس، ومثل كل القادة التاريخيين، يجمع بين البطولة ونقيضها، بين الصواب والخطأ، بين حب الذات والتفاني في الإرتباط بالقضية. فهو، إذن، إنسان طبيعي، بكل المعاني.

كان فرج الله الحلو، على امتداد عمره السياسي، واحداً من أعرق الشخصيات اللبنانية التي شاركت في صنع استقلال لبنان، وفي النضال المتواصل دفاعاً عن الوطن اللبناني، ككيان سيد وحر، وعن نظامه الديمقراطي، وعن تقدمه في الميادين كافة، وعن سعادة شعبه. وهي المهمات التي لخصها الحزب الشيوعي اللبناني بالشعار البسيط التالي: وطن حر وشعب سعيد.

تشير السيرة الأولى لفرج الله الحلو، سيرة شبابه الباكر، إلى أنه ينتمي إلى تلك النماذج من قادة الفكر والسياسة، الذين تبرز ملامح شخصيتهم منذ البدايات، وتتابع وضوحها وتطورها ورسوخها مع مرور الزمن ، وذلك في قلب الأحداث، صغيرها وكبيرها، انفعالاً عميقاً بها، وفعلاً يظل يتزايد ويكبر، مع تقدُّم العمر وتراكم التجارب، إلى أن يكتمل بنيان الشخصية.

وُلد فرج الله في عام 1905 في بلدة "حصرايل"، في ساحل قضاء جبيل في محافظة جبل لبنان. ونشأ، منذ الولادة، في وسط عائلة فقيرة. فوالده كان ملاكاً ريفياً صغيراً. ووالدته كانت ابنة ملاَّك ريفي صغير. وحين كبرت العائلة شعر الأبوان بالعجز عن القيام بأودها. فقررا أن تسافر الوالدة إلى أميركا الشمالية مع اثنين من الأولاد، حيث كان يقيم أحد أخويها. وكان السائد في تلك الأيام في مناطق الجبل أن تسافر الزوجة إلى الخارج، بدلاً من الزوج، خلافاً لما كان سائداً في جنوب لبنان. هناك مارست الأم العمل كبائعة جوّالة. وكانت تقسم الدخل من عملها بينها، ومعها ابناها المرافقان لها، وبين زوجها والأولاد المقيمين معه في لبنان. وكان فرج الله أصغرهم جميعاً.

مع بداية الحرب العالمية الأولى أصيب والد فرج الله بمرض أقعده عن العمل. فضاقت سبل العيش أمام العائلة. وكان فرج الله لا يزال دون العاشرة من عمره. فاهتمَّ بتربيته والعناية به شقيقه الأكبر غالب. ولم يتسنَّ لفرج الله الذهاب إلى المدرسة إلاَّ بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. وكان قد بلغ الثالثة عشرة من عمره. فالتحق بمدرسة البلدة المجاورة "جدايل"، التي يفصلها عن بلدته "حصرايل" وادٍ عميق. وكان على الأولاد الصغار أن يجتازوا ذلك الوادي إلى المدرسة، ومنها إلى قراهم، كل يوم مشياً على الأقدام. قضى فرج الله ثلاث سنوات في تلك المدرسة حيث تعلَّم مبادئ اللغتين العربية والإنكليزية وأجاد التعبير بهما معاً. ثم انتقل بعد ذلك إلى مدرسة أعلى في بلدة "عمشيت" المجاورة. وقد أكسبه اجتهاده في الدروس وتفوقه في المدرسة احترام المعلمين والتلاميذ. إذ حصل على ثمانين جائزة من الدرجة الأولى في مختلف المواد الدراسية التي أدى الامتحان فيها. واختير بالإجماع لمنصب رئيس الجمعية التي أسستها المدرسة. ثم انتقل من مدرسة "عمشيت" إلى مدرسة "ميفوق" للرهبان الواقعة في أعالي جبال منطقة جبيل. ورغم أنه كان مثابراً كعادته على متابعة التحصيل العلمي في تلك المدرسة إلاَّ أنه لم يستطع أن يتحمَّل استبداد إدارة الرهبان، الأمر الذي اضطره إلى الهرب من المدرسة والعودة إلى بلدته "حصرايل". وفي عام 1927، وكان قد بلغ الثانية والعشرين من عمره، تفاقمت ظروفه الإقتصادية، فاضطر إلى التوقف عن متابعة الدراسة لمدة عامين. وانتقل إلى التدريس الذي لم يمارسه طويلاً. إذ اختار العمل في مصلحة المساحة التي كانت في عهدة الفرنسيين، متنقلاً بين مدن وقرى لبنان وسوريا. وكان، كلما اختار ميداناً للعمل، يشعر بما لا يرضيه، إما في ظروف العمل أو في طبيعته، وأما في ظروف الحياة والعلاقات التي كان يسيئه فيها طابع ونظام الاستبداد في سلطتي الانتداب والإقطاع معاً. وراودته فكرة الهجرة إلى أميركا. إلاَّ أن ارتباطه بوطنه جعله يفضِّل المعاناة في الأزمة الاقتصادية على المغامرة في الهجرة إلى الخارج. وقرَّر في عام 1931، بعد طول بحث ومعاناة، الالتحاق بالمدرسة الإنجيلية في مدينة حمص في سوريا لمتابعة الدرس والتدريس في آن. وتمكَّن من الحصول على القسم الأول من الشهادة الثانوية، رغم أنه لم يكن قد مارس الدراسة إلاَّ لسنوات معدودة وفي فترات متقطعة.

كان فرج الله، خلال تنقله من مدرسة إلى مدرسة ومن عمل إلى عمل آخر ومن قرية ومدينة إلى قرية ومدينة أخرى بين لبنان وسوريا، يراكم تجارب ومعارف ووعياً وطنياً متقدماً، بالمعنى اللبناني للوطنية وبالمعنى القومي للعروبة. وكانت معارفه تزداد اتساعاً وعمقاً. وكان شغفه بالقراءة وبالاطلاع على الأفكار يتعاظم. وكان من أكثر الذين قرأ لهم وتأثر بأفكارهم كتَّاب لبنانيون ومصريون وكتاب عرب من بلدان أخرى. وكانت جريدة "الوطن" التي أنشأها وديع عقل في لبنان، وهي جريدة تميَّزت بنهجها العروبي الواضح، المصدر الأول لقراءاته. لكنه كان يتابع أيضاً ما كان يصدر في مجلة "الهلال" المصرية من كتابات لسلامة موسى ونقولا حداد، رائديّ الاشتراكية الكبيرين. كما كان يقرأ لجبران خليل جبران، لا سيما كتاباته التي كان يعبِّر فيها عن تمرُّده، وأبرزها قصة "خليل الكافر". وكان يبحث عن المعرفة في كل ما كان يتوفَّر له من كتب في محيطه. وهكذا أصبح، في أفكاره وفي تحولاته السياسية، قومياً عربياً تقدمياً ذا نظرة علمية إلى المجتمع والكون والحياة. وقادته مجمل تلك التحولات إلى اتخاذ قرار حاسم بالعودة إلى الدراسة لاستكمال معارفه. فانتقل من مدرسة حمص الإنجيلية إلى الكلية الأرثوذكسية في دمشق حيث تمكَّن من الحصول على القسم الثاني من الشهادة الثانوية، التي تؤهله للانتقال إلى المرحلة الجامعية. لكنه لم يتابع دراسته الجامعية. إذ كان قد دخل، بين حمص ودمشق، في طريقه إلى الالتزام بالشيوعية، من خلال انتسابه إلى الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان. فقد تعرَّف، وهو في حمص، إلى ناصر حدة، أحد المسؤولين في الحزب الشيوعي، وإلى أعضاء آخرين في الحزب. وكانت تلك بداية الطريق إلى مستقبله كشخصية سياسية لبنانية، وأحد القادة الأساسيين في الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان. وكانت المحطة الثانية، بعد حمص، في الطريق إلى الشيوعية، بلدته حصرايل ومنطقة بلاد جبيل، حيث شارك في تأسيس أول منظمة حزبية بحضور فؤاد الشمالي، أمين عام الحزب. ومعروف أن الشمالي كان المؤسِّس الأول للحزب الشيوعي مع المؤرخ يوسف ابراهيم يزبك وعدد من العمال والمثقفين اللبنانيين، وذلك في 24 تشرين الأول من عام 1924. أما المحطة الثالثة من هذا الطريق إلى الشيوعية فكانت في دمشق حيث تعرَّف إلى عدد من الشخصيات الوطنية، وكان من بينها خالد بكداش، الذي كان قد أصبح، وهو طالب في الجامعة السورية، شخصية معروفة. كان بكداش، بانتقاله من الجامعة إلى الحياة السياسية، قد تحوّل إلى واحد من رموز الحركة الشيوعية مع ناصر حدة ورشاد عيسى وآخرين ممن أصبحوا القادة الأساسيين للحزب في سوريا، ثم في سوريا ولبنان. وبدأ فرج الله، خلال تلك المحطات الثلاث وبعدها، يرسخ أقدامه. وبدأ وعيه يسابق معارفه المتراكمة، التي عزَّزها انتماؤه إلى الفكر الماركسي، وعمَّقتها قراءاته المتنوعة، وسعيه الدؤوب إلى الإحاطة بقضايا بلده وأمته، وبالقضايا التي كانت تشغل العالم. إلى أن استقرَّ به المقام، بعد دمشق، كمسؤول حزبي في منطقة بلاد جبيل، وعلى علاقة متواصلة مع المركز في بيروت. ومارس نشاطه في المنطقة، ليس كقائد حزبي وحسب، بل كمحرض وقائد للعديد من المعارك الاجتماعية دفاعاً عن مصالح الفلاحين والمصالح العامة للقرى، سواء فيما يتعلق بقضايا التعليم أم ما يتعلق بقضايا الصحة والمياه وسوى ذلك من القضايا الاجتماعية التي كانت مطالب عامة لأهل القرى والبلدات في تلك المنطقة.

وإذ أصبح فرج الله شخصية حزبية جيدة التكوين، ووجهاً بارزاً من وجوه المنطقة، أرسلته قيادة الحزب في عام 1933 إلى موسكو للالتحاق بدورة مكثفة في أحد المعاهد السياسية العليا التي كانت تعد فيها الملاكات الحزبية السوفياتية، وملاكات الأحزاب الشيوعية المنتسبة إلى الأممية الشيوعية. وبقي في موسكو عاماً كاملاً عاد بعده إلى منطقة بلاد جبيل ليساهم، استناداً إلى ما اكتسبه من معارف وتجارب في العمل الحزبي، في تعزيز موقع الحزب في المنطقة، وإشراك منظمات الحزب التي طالت 22 بلدة وقرية في النشاط العام دفاعاً عن مصالح الفئات الشعبية. ونظراً للنجاح الذي حققه في توسيع قاعدة الحزب في منطقته طلبت إليه قيادة الحزب أن يذهب إلى حلب ليمارس الدور ذاته. وبقي في مهمته الجديدة عاماً ونصف العام. وقادته نجاحاته إلى دمشق للمهمة ذاتها. وكان ذلك في عام 1936، العام الذي كانت قد انفجرت فيه حركة إضرابات ومظاهرات ضد الإنتداب الفرنسي كان أبرزها الإضراب الخمسيني الذي كان له دور كبير في حياة سوريا في تلك المرحلة. وقد لعب فرج الله الحلو في هذا الإضراب دوراً مهماً باسم الحزب الشيوعي مع رفاقه الآخرين. ومن دمشق انتقل إلى بيروت ليستقر فيها، وليصبح عملياً وبإقرار من الجميع الشخص الأول في الحزب، قبل أن يعود خالد بكداش في عام 1937 ويصبح القائد الأول للحزب، في أعقاب تنحية الأمين العام فؤاد الشمالي من مركزه بقرار تعسفي. وكان بكداش في ذلك العام 1936 يعمل في الكومنترن (الأممية الشيوعية) في موسكو، مع عدد آخر من ممثلي الأحزاب الشيوعية. وكان يساعد فرج الله في موقعه الجديد في قيادة الحزب، رفيق دربه نقولا شاوي. وفي عام 1937، وبعد عودة خالد بكداش من موسكو، جرى اجتماع للجنة المركزية للحزب السوري اللبناني، تقرَّر فيه إنشاء قيادة مركزية (سكرتاريا) من خالد بكداش وفرج الله الحلو ونقولا شاوي ورشاد عيسى. كما تقرَّر انتقال الحزب من العمل السري إلى العمل العلني. وكان أول ما قام به الحزب في هذا المجال السعي للحصول على ترخيص بإصدار جريدة علنية. وقد حصل الحزب على الترخيص وبدأ بإصدار جريدة "صوت الشعب". ومن موقعه الحزبي الجديد بدأت المرحلة الجديدة المثيرة للاهتمام في مسيرة حياة فرج الله الحلو. وفي هذه المرحلة، التي أصبح فيها فرج الله شخصية لبنانية عامة، إلى جانب كونه شخصية شيوعية أساسية، بدأت تندمج في شخص الرجل، وفي نشاطه، وفي مواقفه، بدون افتعال، ثقافته العامة وأخلاقه، بممارسته لنشاطه السياسي في المجالات كافة. وبدأت تصبح القضايا الوطنية في النضال من أجل الاستقلال، وفي مكافحة الصهيونية والفاشية، شديدة الارتباط إلى حدود التوحد مع القضايا ذات الصلة بمصالح العمال والفلاحين وسائر الكادحين في المدينة والريف. وبدأت تتحدد، منذ ذلك التاريخ، الملامح الخاصة لشخصية فرج الله الحلو، الإنسان والقائد الحزبي والزعيم الوطني، وصاحب المواقف التاريخية التي ارتبطت باسمه، وجعلت من شخصيته، على امتداد الأعوام العشرين التي تلت تلك المرحلة من حياته، بطلاً من الأبطال التاريخيين لذلك الزمان.

كان الوضع في لبنان وسوريا في الفترة الممتدة بين عام 1936 وعام 1939 قد بدأ يختلف عن السنوات السابقة. إذ تميَّز بشيء من الانفراج الذي أتاح للقوى السياسية أن تنشط بقدر من الحرية. الأمر الذي استفاد منه الحزب الشيوعي. فوسَّع نشاطه في البلدين. وتحولت جريدته "صوت الشعب"، التي كانت تصدر في بيروت بإدارة نقولا شاوي وبمساهمة نشيطة من فرج الله، إلى الجريدة الأولى في البلاد. وكانت افتتاحيات فرج في الجريدة تعالج مجمل القضايا السياسية والاجتماعية، الخاصة بالبلدين، والعامة المتصلة بالوضعين العربي والدولي. ومعروف أن تلك الفترة من تاريخ العالم كانت قد شهدت صعود الحركة الفاشية في كل من ألمانيا وإيطاليا. إذ أصبح كل من هتلر وموسوليني الزعيمين الأولين للبلدين، حاملين معهما مطامحهما لتغيير العالم، استنادًا إلى نظريتهما التوسعية العدوانية ذات الطابع العنصري. وكانت قد وصلت إلى الحكم لفترة قصيرة في فرنسا الجبهة الشعبية المؤلفة من الحزبين الاشتراكي والشيوعي. وكانت قد قامت في إسبانيا في الوقت ذاته الجمهورية الفتية بمشاركة الاشتراكيين والشيوعيين وسائر القوى اليسارية والديمقراطية في البلاد. وإذ انهار حكم الجبهة الشعبية في فرنسا وبدأت تترنَّح الجمهورية الإسبانية الفتية تحت ضربات قوى اليمين الفاشي بقيادة الجنرال فرانكو وبمساندة عسكرية من حكومة هتلر في ألمانيا، برغم جيش المتطوعين الأممي الذي ذهب إلى إسبانيا لمساندة الجمهورية، فقد تحولت الأوضاع في العالم في اتجاه حرب قادمة، سرعان ما اندلعت في أواخر عام 1939. واجتاحت جحافل الجيش النازي بولونيا وفرنسا. وانتصر فرانكو على الجمهورية الإسبانية. وبدأ يسود وضع جديد في لبنان وسوريا نقيض لفترة الانفراج السابقة. وكان قد تهيأ الحزب الشيوعي لذلك الوضع. فشكَّل من عدد من المثقفين الديمقراطيين منظمة لمناهضة الصهيونية وعصبة لمكافحة الفاشية والنازية. وباشر معركة حقيقية للنضال من أجل الاستقلال. وأقام تحالفات سياسية واسعة، كان أبرزها تحالف الحزب مع رياض الصلح في انتخابات عام 1937. إذ ضمت القائمة الإنتخابية في بيروت، إلى جانب رياض الصلح وألفرد نقاش، كلا من نقولا شاوي وسعد الدين مومنة ممثلين للحزب الشيوعي. وبادر الحزب بواسطة النقابيين المنتمين إليه إلى تشكيل اتحاد عام للعمال والمستخدمين. وكان النقابي الشيوعي مصطفى العريس أول رئيس لهذا الإتحاد. ومعروف في تاريخ لبنان الحديث أن قانون العمل الذي صدر في عام 1946 هو ثمرة نضال هذا الإتحاد على امتداد عقد كامل. وكان لفرج الله الحلو دور في كل تلك النشاطات والمبادرات التي ارتبطت باسم الحزب الشيوعي. ولأن فرج الله كان قد أصبح قيادياً بارزاً في الحزب فقد كلف في عام 1937 بتقديم تقرير إلى اجتماع اللجنة المركزية للحزب الذي عقد في دمشق بعنوان: "قوة الحزب في تنظيمه الديمقراطي وفي قيادته الديمقراطية". وكان هذا التقرير صرخة مدوية في وجه السائد من الممارسات المخالفة للديمقراطية، الموروثة من السائد في الحركة الشيوعية. كما كان تعبيراً عن طموح حقيقي عند فرج الله لجعل الديمقراطية القاعدة الأساسية في العلاقات داخل الحزب وفي علاقات الحزب بالقوى الأخرى وفي علاقاته بالجماهير. وكان سلوكه، وكانت ممارساته، شاهداً على ذلك الطموح الذي كان التقرير المشار إليه مليئاً بالإصرار على جعل حزبه الشيوعي مدرسة نموذجية في الديمقراطية.

لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية في أواخر عام 1939 ووصول حكومة فيشي إلى السلطة في فرنسا قلب الأوضاع في لبنان وسوريا رأساً على عقب. وسادت في البلدين حملة قمع ضد الشيوعيين والوطنيين عموماً. واعتقل فرج الله الحلو ونقولا شاوي وعدد كبير من قادة الحزب وكوادره ومثقفيه ومعهم قيادات الحركة النقابية. وصدرت بحقِّهم أحكام قاسية. ولم يدم ذلك الوضع طويلاً. ففي عام 1941هزم جيش فيشي في البلدين بعد معركة ضارية جرت بين جيش فرنسا الحرة بقيادة الجنرال ديغول والجيش البريطاني. واستعادت الحياة السياسية في لبنان طبيعتها السابقة. وأفرج عن المعتقلين. وبدأت حملة وطنية واسعة للمطالبة باستقلال البلدين كان الحزب الشيوعي في مقدمتها. وكان فرج الله الحلو، من موقعه في قيادة الحزب، أحد الرموز الأساسية لتلك الحركة. وانتصر البلدان في انتزاع استقلالهما برغم التدخل الاستعماري الفرنسي، الذي تمثل في لبنان في عام 1943 باعتقال حكومة الاستقلال، وتمثل في سوريا في عام 1945 بقصف البرلمان السوري بالدبابات. وتشكَّل في لبنان "المؤتمر الوطني" من مختلف الشخصيات الوطنية التي مثلت كل الاتجاهات السياسية في البلاد. وتمثَّل الحزب الشيوعي في المؤتمر بفرج الله الحلو وأرتين مادايان، بصفته الشيوعية الأرمنية، وبشخصيات أخرى حزبية وصديقة للحزب. كما تمثل الإتحاد العام للعمال والمستخدمين برئيسه مصطفى العريس. وكان لهذا المؤتمر دور أساسي في النضال للإفراج عن حكومة الاستقلال، ثم في تثبيت دعائم الاستقلال، وفي الدفاع عنه، وفي استكمال عناصره بإجلاء القوات الأجنبية عنه غداة انتهاء الحرب. وكان للحزب الشيوعي دور أساسي في المعركة الوطنية لتحقيق الجلاء عن لبنان وسوريا، الذي ساهم في تحقيقه الفيتو السوفياتي الذي استخدم لأول مرة في مجلس الأمن في عام 1946 لصالح البلدين. وكان لدور الحزب الشيوعي ولفرج الله الحلو ونقولا الشاوي في معركة الاستقلال أثر بالغ في توسيع قاعدة الحزب السياسية والجماهيرية. وقد عقد المؤتمر الأول للحزب الشيوعي في سوريا ولبنان في نهاية ذلك العام بالذات، أي بين 31 كانون الأول من عام 1943 و3 كانون الثاني من عام 1944. وكان انعقاد المؤتمر بذاته، والقرارات التي صدرت عنه، تأكيداً لذلك الدور الذي لعبه الحزب في البلدين، ولترسيخ وتثبيت وجوده كمكوّن أساسي من مكونات الحياة السياسية في البلاد. ودلّ على ذلك بوضوح ارتفاع عضوية الحزب في لبنان إلى ما يزيد عن عشرين ألف عضو، في حين لم يكن يزيد عدد سكان البلاد عن مليون نسمة. انتخب فرج الله الحلو في ذلك المؤتمر رئيساً للحزب اللبناني وخالد بكداش رئيساً للحزب السوري. وأقرَّ المؤتمر لكل من الحزبين ميثاقاً وطنياً تضمن كل منهما مهمات وطنية واجتماعية تخص كلا من البلدين. كما أقرَّ العلم اللبناني والعلم السوري علمين لكل من الحزبين، والنشيد الوطني في البلدين نشيد لكل من الحزبين.

كان قرار المؤتمر الأول للحزب الشيوعي في سوريا ولبنان بتشكيل قيادتين منفصلتين لكل من الحزبين ولجنة مركزية لكل منهما وبرنامجاً وطنياً خاصاً، إقراراً موضوعياً بقيام بلدين مستقلين، لكل منهما خصوصياته وأوضاعه. ورغم قرار انفصال الحزبين الذي اتخذه المؤتمر، استمر خالد بكداش في موقعه قائداً للحزبين بالتعاون مع القيادتين، من أجل الاستمرار في علاقة خاصة تربط بين البلدين والشعبين وتحافظ على الأخوة والمصير المشترك بينهما. وكان ذلك التاريخ شاهداً على المرحلة التي بلغها فرج الله في تطوره، وفي الموقع الذي احتله في حياة الحزب وفي حياة البلد. وصار مركز الحزب من المراكز التي تلتقي فيها الشخصيات السياسية على اختلافها، ومن بينها عدد من المسؤولين الحكوميين على اختلافهم من رئيس حكومة الاستقلال رياض الصلح إلى رئيس الحكومة الثانية ابن عمه سامي الصلح، إلى الزعماء الآخرين من عبد الحميد كرامي إلى حبيب أبي شهلا وكمال جنبلاط وحميد فرنجية وسائر زعماء البلاد الكبار. وكان فرج الله الحلو ورفيقه نقولا شاوي القائدان اللذان كانا محور العديد من تلك اللقاءات والاجتماعات والتحالفات والصراعات. ويمكن القول بأن قمة مجد فرج الله تجسدت في الفترة الممتدة بين عام 1937 وعام 1947. وتعبِّر عنها مواقف أساسية في ثلاثة قضايا جوهرية: القضية المتعلقة بمفهوم فرج الله للتنظيم في الحزب ولمكوناته وقواعده، والقضية المتعلقة بمفهومه للوطنية اللبنانية في ارتباطها بالعروبة وبالديمقراطية، والقضية المتعلقة بفهمه للقضية الفلسطينية كقضية عربية مركزية.

تشير إلى القضية الأولى النقاط البارزة الآتية التي وردت في التقرير الذي قدمه فرج الله في المؤتمر الأول للحزب حول التنظيم، وفيه تأكيد على علمانية الحزب وعلمانية أهدافه وسياساته. يقول التقرير بالنَّص: "... وأشكال التنظيم في الحزب تخضع لظروف الحياة. ولا يمكن إخضاع ظروف الحياة لأشكال التنظيم. وليس لأي حزب جدي أن يزعم أنه يستطيع ذلك. وكل محاولة من هذا النوع تعطي تنظيم الحزب طابعاً انعزالياً وتقوده حتماً إلى الفشل والإفلاس. ولذلك يجب أن يقوم تنظيم الحزب بصورة تعطي الحزب الحد الأعلى من الإمكان لتنفيذ خطته السياسية وأهدافه الوطنية. فلا بد إذن من إجراء تعديلات في قانون الحزب الداخلي، تجعله أكثر انطباقاً مع سياسة الحزب الحاضرة، وأشد ملاءمة للنضال في سبيل ميثاق الحزب الوطني، وأكثر انسجاماً مع ظروف حياتنا الوطنية والسياسية في المرحلة الراهنة. وتستهدف هذه التعديلات تسهيل الدخول للحزب. فيصبح لكل مواطن حق الدخول للحزب الشيوعي. ولا يطلب منه سوى إقرار الميثاق الوطني للحزب والانتماء إلى إحدى منظماته، وتقديم مساعدة مادية له، كل عضو حسب طاقته. إنَّ الحزب الشيوعي هو حزب تحرر وطني. وهو لذلك لا يمكن أن يكون حزب جماعة أو طائفة أو فئة اجتماعية معينة. بل هو حزب الشعب كله، حزب الأمة كلها، حزب كل وطني صادق مهما كان دينه ومهما كانت منزلته الاجتماعية. وهكذا يكون لكل وطني يبغي التحرر من نير الاستعمار مكانه الحق في حزبنا. ونحن نعلم أن الأفكار والآراء ليست أشياء ثابتة جامدة. بل هي تتأثر بالحوادث وتتطور في احتكاكها بهذه الحوادث. وقد أدت حوادث الحرب، من جهة، وسياسة حزبنا ونشاطه، من جهة ثانية، إلى إحداث تطور بالغ في نظرة الناس إلى الأشياء وإلينا. وهذه الحوادث تفعل فعلها كل يوم باستمرار. فينبغي على رفاقنا، في جميع نواحي نشاطهم، أن ينظروا إلى الناس نظرة متطورة أيضاً، وأن يعينوا موقفهم من الناس حسب تطورهم. وإذا كنا نعلم أن البلاد ما خلت بعد، ويصعب أن تخلو بسهولة، من الرجعيين والخونة وأنصار النازية والفاشستية، فيجب أن نعلم أيضاً أن ليس كل من أعجب، من قبل، بقوة ألمانيا العسكرية، غير وطني، ولا كل مَنْ شكَّ، في البدء، بانتصار الاتحاد السوفياتي، فاشستياً، ولا كل مَنْ لم يصوت لنا في الانتخاب رجعياً. ويجب أن نعلم أن الناس لم يولدوا خونة أو وطنيين، نازيين أو شيوعيين. وإنما يصيرون كذلك تبعاً للظروف التي تحيط بهم والبيئة التي يعيشون فيها، وتبعاً للمؤثرات التي تفعل فيهم فعلها. وطبيعي جداً أن يزداد إقبالهم على حزبنا بعد الذي شهدوه وعرفوه من الحوادث. إننا بحاجة إلى رفاق مسلحين بالمعرفة والثقافة والاطلاع، بحاجة إلى حزب مثقف مطّلع عارف، إذا كنا نريد أن نقوم بواجبنا الوطني الخطير، إذا كنا نريد أن نصبح حقاً طليعة الحركة الوطنية الصاعدة، إذا كنا نريد فعلاً تحقيق الاتحاد الوطني الصحيح في سبيل الاستقلال الوطني الصحيح. وليس يكفي الشيوعيين أن يعرفوا نظريتهم العلمية، وأن يرفعوا مستواهم السياسي، بل ليس يستطيع الشيوعيون أن يفهموا ويهضموا نظريتهم العلمية، إذا لم يكن لهم معارف عامة وثقافة عامة. ولا يستطيع الشيوعيون أن يرفعوا مستواهم النظري والسياسي، إذا لم يدرسوا أحوال وطنهم وتاريخ شعبهم. يجب أن نعرف بلادنا، أن ندرسها بكل بقعة من بقاعها، بجميع مميزاتها وخاصياتها، بثروتها وجمالها وبكل ما حبتها الطبيعة من منح غالية عزيزة. يجب أن ننفض غبار الأجيال عن مخلفات شعبنا الديمقراطية، وأن ننقب عن كل آثاره الثقافية وثروته الفكرية. يجب أن نبعث أمجاد آبائنا العرب وبطولاتهم في نضالهم التحريري خلال الأجيال الطويلة، مهما كانت أشكال ذاك النضال ومهما تنوعت مظاهره".

وكان من روائع ما قاله فرج الله الحلو في المعنى الذي ترمز إليه علاقة لبنان بأشقائه العرب، في الماضي وفي الحاضر، ولا سيما في المستقبل، هذه الكلمة التي حوّلها الحزب الشيوعي، في أعقاب المؤتمر الثاني وفي وهج قراراته، وتخليداً لذكرى القائد الشهيد، إلى شعار للوسام الذي حمل صورة فرج الله، والذي قدم للمتميزين من نشطاء الحزب في تلك الحقبة التاريخية: "نريد أن يكون هذا الساحل العربي منبت حركة وطنية جديدة أكثر وعياً وأسلم محتوى تحتل مكاناً في الطليعة بين الحركات الوطنية في الأقطار العربية الشقيقة."

أما في المسألة الوطنية اللبنانية فتشير إلى موقف فرج الله كتاباته المتعددة في جريدة "صوت الشعب". ويبرز في مقدمة مواقفه تأكيده على ضرورة إنهاء الجدل بشأن الكيان اللبناني، وحول هويته وحول موقعه في المنطقة، الجدل الذي كان يدور بين اللبنانيين وأحزابهم وزعاماتهم السياسية والدينية خلال النضال من أجل الاستقلال، وبعد تحقيق الاستقلال، داخل المجلس النيابي وخارجه. وهو الجدل الذي حسمه بيان رئيس حكومة الاستقلال رياض الصلح، و حسمه الميثاق الوطني غير المكتوب، البيان والميثاق اللذان يقرّان بأن لبنان وطن حقيقي لجميع اللبنانيين، وأنه ذو وجه عربي، وأنه لن يكون مقراً ولا ممراً للعدوان على سوريا أو على أي بلد عربي آخر. يقول فرج الله بالنص حول هذا الجدل في مقال نشر في جريدة "صوت الشعب" بعنوان "لبنان في طريقة تطوره الديمقراطي": "... ولا يخفى على أحد أن بين النواب الذين أولوا حكومة الصلح ثقتهم وتأييدهم عدداً غير قليل من أصحاب النزعتين المتطرفتين في لبنان. إحداهما هي التي يقول أصحابها أو كانوا يقولون أن لبنان يجب أن يولي وجهه شطر البحر، أي نحو الدول الأوروبية أو نحو إحداها، ويقيم بينه وبين البلاد العربية سوراً كسور الصين، وينعزل عنها عزلة تامة. فالخطر كل الخطر على لبنان واستقلاله، في نظر أصحاب هذه النزعة، كان في تقرب لبنان من كل ما هو عربي أو سوري أو شرقي. والنزعة الثانية هي التي ينكر أصحابها أو كانوا ينكرون وجود لبنان السياسي، ويسعون إلى هدمه ومحوه مهما كلفهم ذلك. فالاعتراف بشيء لبناني كان في نظر هؤلاء خروجاً على الوطنية، بل خيانة.ومهما تكن الدوافع التي حفزت كلا من الفريقين إلى موقفه ذاك، فيمكن القول، بعد تجربة السنين الطويلة، أنهما أضاعا وقتهما عبثاً وأضاعا على لبنان وقتاً ثميناً في تطرفهما وإغراقهما وبعدهما عن واقع الحياة وجهلهما طريق التطور الطبيعي الذي لا مندوحة للبنان من سلوكه. وقد قلنا ولا نزال نقول أن السياسة الوطنية الرشيدة ليس معناها احتقار لبنان وكره لبنان وبغض لبنان. وقلنا ولا نزال نقول أن السياسة اللبنانية الرشيدة، أيضاً، ليس معناها مقاطعة جيران لبنان، والنفور من جيران لبنان، وتفضيل الأباعد عن جيران لبنان. كما أن لبنان المستقل، المتمتع بحريته الوطنية، لا يشكل أي خطر على سوريا أو على أي قطر عربي آخر، بل هو عون وقوة لجميع الأقطار العربية. وسوريا والأقطار العربية الأخرى، تشكل بدورها ضمانة لاستقلال لبنان وحريته الوطنية وعزَّته بمقدار ما تتمتع به من حرية وطنية ومن استقلال. لقد كان هذا صحيحاً منذ أن كانت هناك أقطار عربية متجاورة. وإذن فاللبنانيون والسوريون، وسائر العرب في سائر أقطارهم، يجب أن يتعاونوا ويتساندوا تعاوناً صريحاً وتسانداً متيناً في نضالهم من أجل حرية أوطانهم واستقلالها ومن أجل توطيد حرية أوطانهم وتوطيد استقلالها".

ويعود فرج الله فيؤكد، في مقال آخر، بعد انتصار الشعب اللبناني في انتزاع استقلاله، وبعد الإفراج عن حكومة الاستقلال التي كانت قوات الإنتداب الفرنسي قد اعتقلتها بعد تشكيلها إثر الانتخابات النيابية وإعلان قرارها باستقلال لبنان، يعود فرج الله ليؤكد بأن ذلك الانتصار لا يعود إلى عوامل دولية فقط، بل إلى وحدة اللبنانيين على اختلاف أديانهم ونزعاتهم وميولهم السياسية، صوناً لحقوقهم الوطنية ولكرامتهم الوطنية. ويشيد ، في الوقت نفسه، بالدور الذي لعبه "المؤتمر الوطني" المشار إليه آنفاً في معركة الاستقلال، من حيث كونه ضمَّ ممثلي كل القوى والاتجاهات الوطنية اللبنانية. وكان له دور كبير في قيادة الحركة الشعبية التي اتخذت طابع إضرابات ومظاهرات شملت مناطق البلاد كلها.

وإذ نتذكر دور الحزب الشيوعي وفرج الله الحلو في معركة الإستقلال، فإننا لا نستطيع إلا أن نعبّر عن الأسف والمرارة والإستغراب والإستنكار لكون المسؤولين اللبنانيين قد مارسوا طمساً متعمداً لتلك الأدوار التاريخية لقادة الحزب الشيوعي اللبناني، وفي مقدمتهم فرج الله الحلو، في صنع الإستقلال، وفي استكماله بتحقيق الجلاء. لكن هذا الطمس المتعمد لتلك الأدوار لن يغيّر من الوقائع التاريخية، ومن الأدوار التي لعبها قادة تلك الحقبة من تاريخ لبنان. وسيظل دور الحزب الشيوعي ودور قياداته محفوظاً بأمانة في تاريخ وطننا، وفي ضمير شعبنا.

لم ينسَ فرج الله، وهو يهلِّل للانتصار الذي حققه الشعب اللبناني في انتزاع حريته واستقلاله، أن يعلن في مقال نشر في "صوت الشعب" في عام 1945، إثر العدوان الذي تعرَّض له البرلمان السوري في دمشق وتعرَّضت له مدينة حلب من قبل قوات الإنتداب الفرنسية، بأن الشعب اللبناني يقف بكل قواه إلى جانب شقيقه الشعب السوري. ويؤكد، في السياق ذاته، بأن الشعبين سيتابعان نضالهما المشترك للدفاع عن استقلال بلديهما، معلناً بأن الدماء التي سالت في دمشق وحلب لم تبذل في سبيل حرية سوريا وحدها بل في سبيل حرية لبنان، وأن لبنان سيقف إلى جانب سوريا في نضالها من خلال تمسكه باستقلاله وسيادته وصون جمهوريته الفتية.

ولعل من أكثر المفارقات في ذلك التاريخ الأول من استقلال البلدين، أنه، في الوقت الذي كان فيه الحزب الشيوعي اللبناني يعلن موقفه المشار إليه، على لسان فرج الله الحلو، وفي البيانات الرسمية للحزب، دعماً لسوريا ولنضال شعبها، وتأكيداً على العلاقات التاريخية بين البلدين والشعبين، كان المندوب السوري إلى اجتماع الإسكندرية الذي عقد في عام 1944، لتوقيع بروتوكول تأسيس الجامعة العربية، يتحفظ على توقيع لبنان، لأن هذا البلد كان، بنظر ذلك المندوب الرسمي للدولة السورية الجديدة، غير مكتمل العناصر التي تؤهله لأن يكون واحداً من البلدان العربية، التي يوقع معها على بروتوكول تأسيس الجامعة. وحين واجه رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس باشا ذلك المندوب السوري بالتأكيد أن للبنان كيان مستقل، وشخصية واضحة المعالم، حتى في ظل السلطنة العثمانية، وأنه سبق سوريا في الحصول على استقلاله، وقـّع ذلك المندوب البروتوكول المشار إليه مرفقاً توقيعه بالتحفظ. ويشير هذا الموقف القديم للنظام السوري، الذي تكرر في العهود المختلفة، إلى أن إلحاق لبنان بسوريا، أو اتخاذ صفة الوصاية عليه، هو هدف دائم. وهو ما نشهد في أيامنا هذه أمثلة صارخة عليه. إذ يفضل أهل النظام في سوريا توجيه كل سياساتهم في اتجاه منع لبنان من العيش بسلام، وحرية، ومنعه من تعميق ديمقراطيته التي هي تقليد عريق في تاريخه، يفضلون ذلك على الإهتمام بتحرير أرض لهم محتلة من قبل إسرائيل منذ أربعين عاماً، هي الجولان التي تبلغ مساحته 1400 كلم 2 . ويستخدمون في سياساتهم هذه إزاء لبنان كل ما لديهم من وسائل وأدوات تخريب. يساعدهم في بعض سياساتهم هذه بعض حلفاء لهم في لبنان، وخارج لبنان. ويساعدهم عملاء لهم من أهل لبنان مستقيلين من انتمائهم إلى وطنهم ومن واجبهم في الدفاع عن حريته وسيادته واستقلاله.

لكن فرج الله، إذ يحرص على التأكيد على استقلال لبنان وسيادته وحريته، وإذ يؤكد للأشقاء السوريين تضامن الشعب اللبناني معهم من أجل صيانة استقلالهم وحريتهم وسيادتهم الوطنية، يحرص على إظهار موقف الشيوعيين اللبنانيين غير القابل للجدل من التضامن العربي في المعركة المشتركة من أجل الحرية والاستقلال والتقدم الاقتصادي والاجتماعي ومواجهة العدوان الخارجي. وهو يعلن ذلك في أكثر من مناسبة وفي أكثر من مقال افتتاحي في "صوت الشعب". ويبدو ذلك بوضوح في مقاله الذي نشر في عام 1947 في مجلة "الديمقراطية الجديدة" الفرنسية التي كان يصدرها الحزب الشيوعي الفرنسي. وكان عنوان المقال "الشرق العربي يتحرك". فهو يستعرض في هذا المقال الأحداث التي كانت تجري في البلدان العربية، بلداً بلداً، ويعلن تضامنه مع الشعب العراقي ضد المؤامرات الاستعمارية التي كان يتعرض لها، ومع الشعب المصري في مقاومته في منطقة القتال ضد الوجود العسكري البريطاني، ومع الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل إقامة دولته الوطنية المستقلة، اسوة بالشعوب العربية الأخرى التي حققت استقلال بلدانها. وكان يدعو إلى وحدة الشعوب العربية في النضال من أجل الحرية والديمقراطية والتقدم. فقد كان موقف الحزب الشيوعي واضحاً منذ البدايات من موضوع الوحدة العربية. يشير إلى ذلك البيان المشترك الذي صدر في عام 1932، بين الشيوعيين السوريين واللبنانيين والشيوعيين الفلسطينيين. وتعبر الفقرة التالية عن مفهومه الديمقراطي التحرري للوحدة العربية: " إن طموح الجماهير الشعبية العربية هو إلى الوحدة القومية ضمن حدود الدول تقام، ليس حسب تعليمات الإمبريالية، بل على أساس القرار النابع من هذه الجماهير ذاتها والمتخذ بحرية والمرتبط بلا فكاك بطموحها للتخلص من نير الإمبريالية، الإنكليزية والفرنسية و الإيطالية والأسبانية. إن الجماهير الشعبية العربية تشعر أنه يتوجب عليها من أجل إلغاء نير الإمبريالية، أن توحد جهودها في ما هو مشترك بينها من وحدة اللغة والشروط التاريخية، واضعة نصب عينيها عدوها المشترك. إن تلاحم هذه الجماهير في النضال الثوري ضد الإمبريالية واتساع نضالها هذا، يظهران أنه تتوفر لدى الشعوب العربية كل الشروط التي لا غنى عنها من أجل إزالة النير الإمبريالي، والحصول على الإستقلال الوطني وخلق دول عربية تتمكن بعد ذلك، على أساس قرار متخذ بحرية، أن تتوحد على أسس فدرالية".

هذا الموقف الذي كرره الشيوعيون السوريون واللبنانيون عام 1956، ثم بعد قيام الوحدة عام 1958، حرصاً على نجاح الوحدة وديمومتها، قوبل بالقمع من قبل دعاة الإندماج، ودفع فرج الله حياته ثمناً لذلك.

وتكتسب قضية الحرية أهمية خاصة في كتابات فرج الله. ذلك أن بوادر الالتفاف على الديمقراطية كانت تبرز منذ السنوات الأولى لحصول لبنان على استقلاله. وكانت انتخابات 25 أيار في عام 1947 المزورة المشهد الخطير الذي يعبّر عن ذلك الاتجاه. وقد كتب فرج الله بهذا الصدد حول تلك الانتخابات العديد من المقالات التي حذر فيها من الانزلاق في ذلك الطريق. وجاء بالنص في مقال له نشر في أواخر عام 1946 تحت عنوان "لبنان سيبقى في واجهة الحرية": "... فاتساع الحريات الديمقراطية في لبنان، بعد تحرره من الاحتلال الأجنبي، شرط ضروري لتوطيد استقلاله وتثبيت نظامه الجمهوري، كما هو شرط ضروري لتوطيد الاتحاد والأخاء بين جميع اللبنانيين وإحباط المؤامرات الأجنبية ومحاربة التدخل الأجنبي في شؤون لبنان. ولا يمكن أن يسود الاستقرار الداخلي في البلاد إلاَّ على أساس احترام حرية الرأي والفكر وحرية الصحافة والاجتماع وسائر الحريات الدستورية الديمقراطية. ولا يمكن أن تنجح خطة إصلاحية إن لم تكن قائمة على احترام الحرية. ولا يمكن أن تربح حكومة في لبنان ثقة الشعب واحترامه إن لم يكن إطلاق الحرية أساس سياستها الوطنية. ونحن الشيوعيين اللبنانيين موطدو العزم على الدفاع عن الحرية، تراث الآباء والأجداد. ولسنا وحدنا في نضالنا. ففي لبنان نخبة لها شأنها من كبار رجال السياسة أنفسهم والذين قاموا بدور كبير في الانتصارات التي أحرزها لبنان في عهده الاستقلالي هذا، نواباً وزعماء وكتّاباً وشعراء وأدباء وصحافيين وألوفاً من العمال التقدميين والفلاحين الواعين والشباب، يؤمنون بأن الحرية كانت ويجب أن تبقى طابع لبنان الأساسي. وجميع اللبنانيين يدركون أن قضية الحرية ليست قضية حزب أو هيئة أو كتلة، بل هي قضية الشعب اللبناني كله، قضية الاستقلال والسيادة في الحاضر والمستقبل".

ويعلِّق فرج الله على الانتخابات المزورة التي جرت في 25 أيار من عام 1947 في مقال نشره في جريدة "صوت الشعب" بالكلمات التالية: "حقاً إنني كلبناني وكعربي لم أشعر بمثل الخجل والخزي الذي شعرت بهما أمس لمّا التقيت ببعض المناضلين العرب من فلسطين فقالوا لي: أهكذا تصنعون بلبنان؟ لقد جعلتمونا موضع شماتة المستعمرين والصهيونيين وأتباعهم الذين يتهمون العرب بعدم الأهلية لتفهم الديمقراطية ولممارسة الاستقلال".

ويذهب فرج الله في دفاعه عن الحرية إلى اعتبارها مهمة عامة وشاملة لكل قوى المجتمع، وفي المقدمة من هذه القوى المثقفون، معتبراً أن أقدس مهمات الثقافة هي النضال من أجل الحرية، حرية الأفراد وحرية الشعوب. ولا يحصر مهمة دفاع المثقفين عن الحرية في بلدهم، بل يعتبر هذه المهمة عامة وشاملة. لذلك فهو يكتب العديد من المقالات دفاعاً عن حرية الفكر والمفكرين في مصر، وعن حرية الشعب العراقي في النضال ضد القوى التي تريد تكريس ارتباطه بمعاهدات مع المستعمرين، ويحيي انتفاضة الشعب العراقي ضد "معاهدة بورتسمارت" التي أرادت الحكومة العراقية ربط العراق بها. وهي الانتفاضة التي أسقطت الحكومة والمعاهدة معاً. وكان ذلك في مطلع عام 1948.

مجمل هذه المواقف التي أعلنها فرج الله من موقعه كرئيس للحزب الشيوعي اللبناني، وكعضو في القيادة المشتركة للحزبين اللبناني والسوري، أثارت حفيظة خالد بكداش الذي كان يمارس دور القائد الأعلى للحزب. ذلك أن تلك المواقف كانت قد أعطت لفرج الله صورة فيها بعض الاختلاف عن الذي كان سائداً في الحركة الشيوعية العربية والعالمية، بمعنى التركيز على الطابع الوطني، بكل المعاني، للانتماء إلى الشيوعية وإلى مرجعيتها الماركسية. وسيظهر ذلك في مواقف لاحقة عند فرج الله تفقده كل مواقعه. ففي أواخر عام 1946 طلبت القيادة الحزبية المشتركة من فرج الله الذهاب إلى فرنسا، فيما اعتبر معاقبة له على مواقفه المتميزة المشار إليها آنفاً. ورغم الطابع الإنتقامي الذي اتخذه القرار بحقه نفذ. وكان في وداعه على ظهر الباخرة التي أقلته إلى فرنسا عدد من كبار المسؤولين في الحزب اللبناني والحزب السوري، وفي مقدمتهم نقولا شاوي وخالد بكداش. وربما كان ذلك للتقليل من الآثار السلبية لذلك القرار في وسط القاعدة الحزبية. فقد صدر في اليوم ذاته البيان الآتي من المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني" " عقد المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني اجتماعاً في بيروت حضره كل من فرج الله الحلو ونقولا شاوي وفؤاد قازان وحسن قريطم وهاشم الأمين ومير مسعد ويوسف خطار الحلو وأرتين مادايان. وقد تقرر بالإجماع الموافقة على سفر فرج الله الحلو إلى باريس ولندن. وقرر المكتب السياسي بالإجماع انتخاب نقولا شاوي رئيساً للحزب الشيوعي اللبناني".

إلاَّ أنَّ فرج الله لم يبقَ أكثر من ثلاثة أشهر في الخارج، عاد بعدها إلى لبنان، بعد أن كان قد حضر مع خالد بكداش مؤتمراً للأحزاب الشيوعية في بلدان الكومنولث. وقد استقبل فور عودته استقبالاً جماهيرياً من الشيوعيين ومن مناصريهم الكثر.

ويذكر نقولا شاوي في بعض أحاديثه الشفهية لرفاق الجيل الثاني من قياديي الحزب اللبناني، بعد انفصاله عن الحزب الشيوعي السوري، أنه ارتكب خطأً فادحاً بموافقته على إقصاء فرج الله من موقعه في رئاسة الحزب والحلول محله في ذلك المركز الذي كان يملؤه فرج الله بامتياز.

إلاَّ أن قضية فرج الله لا تنحصر في تلك الحادثة التي تشير إلى أساليب ذلك الزمان، الستالينية الطابع. بل هو سرعان ما وقع في مشكلة من نوع آخر، كان مصدرها والسبب في وقوعها ما اشرت إليه من نزعة تجديدية تحررية في فهمه لمعنى أن يكون الإنسان شيوعياً، وأن ينتمي إلى حزب شيوعي في بلده، الذي هو في مثالنا لبنان الخارج حديثاً من الانتداب إلى الاستقلال، والمرتبط، بفعل موقعه، بمحيطه العربي، تاريخاً وثقافة ومصالح مشتركة في النضال من أجل التحرر والتقدم. وكانت المشكلة هذه المرة ذات صلة بالقضية الفلسطينية. فعندما اتخذ قرار تقسيم فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، بموافقة الاتحاد السوفياتي، صدر بيان مشترك من الأحزاب الشيوعية المشرقية بالموافقة على قرار التقسيم. وكان لفرج الله تحفظ حول موافقة الحزب الشيوعي اللبناني على ذلك القرار، لكونه ينال من حقوق شعب فلسطين، معتبراً أن للاتحاد السوفياتي ظروفه ومصالحه واعتباراته التي يقدرها هو ويتحمل مسؤوليته فيها. ولم يكن فرج الله يرمي قط إلى اتخاذ موقف عدائي من الاتحاد السوفياتي. يضاف إلى ذلك، في تبرير فرج الله لموقفه، أن كل سياسة الحزب وكل مواقفه كانت على امتداد أعوام طويلة، لا سيما في الفترة التي سبقت قرار التقسيم، تندد بالتقسيم وتعتبره مشروعاً استعمارياً. وكان ذلك يقضي بألاَّ يتغير موقف الحزب إلى نقيضه لمجرد أن الاتحاد السوفياتي غيَّر موقفه، لأسباب كان يبررها القادة السوفييت بتفاقم الصراع بين العرب واليهود، أي من دعوتهم الأولى إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة لسكانها العرب واليهود إلى الموافقة على قرار التقسيم، الذي اشترط السوفيات أن تتتخذ خطوات لاحقة لإنشاء اتحاد فدرالي بين الدولتين وصولاً إلى إنشاء دولة فلسطين ثنائية القومية. واتخذ الموقف نفسه رشاد عيسى الذي كان في حينه سكرتيراً للحزب الشيوعي السوري، وكلّفه هذا الموقف الخروج من الحزب. لكن كل تلك التبريرات التي قدمها فرج الله بعدم التبني الحرفي لقرار التقسيم لم تقنع القوى المسيطرة داخل الحزبين اللبناني والسوري، بقيادة خالد بكداش. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تحفظ فرج الله على قرار التقسيم، ترافق بمواقف إنتقادية له في قيادة الحزب في سوريا ولبنان، مواقف كانت تتهمه أحياناً بانعزالية لبنانية. وكانت تتهمه في أحيان أخرى بميول برجوازية صغيرة، وباعتداد مفرط بالنفس، وبفقدان الروح الثورية، وبضعف الثقافة الماركسية. وبدأت عملية تجريده من المسؤوليات الحزبية تحصل بالتدريج، وصولاً إلى المحاكمة الحزبية التي جرت في نهاية الأربعينات، وتوجت برسالة سالم (اسم فرج الله السري في حينه). وهي رسالة النقد الذاتي التي أمليت عليه إملاءاً. وهي كانت نموذجاً لهذا النمط الستاليني في معاقبة الخارجين عن سلطة القائد الأوحد. واستناداً إلى هذه الرسالة جُرِّد من كل مسؤولياته، وفرض عليه أن يتحول من قائد سياسي أساسي في الحزب إلى مجرد مترجم لمجلة الحركة الشيوعية العالمية في ذلك الحين: "في سبيل سلم دائم في سبيل ديمقراطية شعبية".

ومعروف أن السلطات في سوريا ولبنان حلـّت الحزبين وأقفلت الجريدة الناطقة باسمهما "صوت الشعب" عقاباً للحزبيين على موافقتهما على قرار التقسيم وفضحهما مؤامرة الحكومات العربية في الحرب التي خاضتها ستة جيوش لمنع قرار التقسيم ثم انهزمت هزيمة نكراء أمام العصابات الصهيونية في عام 1948. فأسهمت تلك الحكومات، بفعل هزيمتها في الحرب، في إنشاء دولة إسرائيل. وعاقبت الشعب الفلسطيني بمنع إقامة دولة له، وفق قرار التقسيم. وعملت على توزيع ما تبقى من أرض فلسطين بين مصر، قطاع غزة، والأردن، الضفة الغربية. أما الشيوعيون اللبنانيون فقد عوقبوا على موقفهم المشار إليه، أي الموافقة على قرار التقسيم وانتقاد خيانة الحكومات العربية في الحرب وتحملها مسؤولية "النكبة"، باعتقال عدد كبير من قادتهم وكوادرهم في قلعة بعلبك التي حوّلتها السلطات إلى معتقل. وساهم في ذلك رياض الصلح الذي كان في فترات سابقة صديقاً وحليفاً للشيوعيين في النضال من أجل الإستقلال ومن أجل تحقيق الجلاء.

كان فرج الله من أكثر الذين كتبوا حول القضية الفلسطينية، ومن أكثر الذين نبهوا إلى المخططات الاستعمارية والصهيونية، ونددوا بها، ورفضوا وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وكان من أكثر الذين اعتبروا أن فلسطين عربية وأن حصول الشعب الفلسطيني على استقلال بلاده وإقامة دولته الفلسطينية عليها هو حق شرعي له لا ينازعه فيه أحد، آخذاً في الإعتبار وجود أقلية يهودية، لها الحق في الوجود، ضمن الدولة الفلسطينية المنشود قيامها. يقول فرج الله في مقال له نشر في عام 1941 بالنص: "... والصهيونية بحكم كونها حركة استعمارية فهي تناقض أهداف العرب التحررية الاستقلالية على خط مستقيم. فهدفها السياسي هو خلق نقطة ارتكاز متينة للنفوذ الاستعماري الأجنبي في فلسطين أولاً، ونقاط ارتكاز أخرى أو طابور خامس للاستعمار في بقية الأقطار المجاورة، يستخدمها ضد الحركة العربية الوطنية. ومن هنا أيضاً خطر الصهيونية في الوقت الحاضر على الحقوق الوطنية التي نالها كل من لبنان وسوريا والبلاد العربية بدرجات مختلفة، وخطرها في المستقبل القريب على نضال العرب في سبيل استكمال معالم استقلالهم والتحرر من كل نفوذ أجنبي. ولذلك فتضامن العرب في مختلف أقطارهم مع فلسطين لم تدفع إليه العاطفة الأخوية فقط، ولم تدفع إليه اعتبارات أخلاقية وحقوقية فحسب، بل أيضاً وقبل كل شيء تضامن وطني في النضال ضد عدو واحد يهدد مصالح العرب جميعاً تهديداً مباشراً شديداً. ولعلَّ أقرب بلد عربي يتناوله الخطر الصهيوني هو لبنان. فقد كان هذا القطر الخصب الجميل محط أنظار الصهيونيين والاستعماريين، وهدف مطامعهم. وقد أخذ الرأسمال الصهيوني، لا سيما خلال هذه الحرب، يتسرب هنا وهناك في بعض المرافق والصناعات اللبنانية، متستراً بأستار متنوعة. لقد كنا وما زلنا نقول أن نضال العرب في فلسطين ضد الصهيونية هو نضال سياسي، نضال وطني ضد شكل من أبشع اشكال الاستعمار الأجنبي. وجميع العرب في لبنان وفي كل مكان يعتبرون نضال فلسطين هذا جزءاً من نضالهم الوطني جميعاً في سبيل تحرر أقطارهم وسيادتهم واستقلالها".

ويقول فرج الله بالنَّص في الكلمة التي ألقاها في الاجتماع الذي تأسس فيه في عام 1944 اتحاد الأحزاب اللبنانية المناهضة للصهيونية: " إذا اتحدت أحزاب لبنان المتعددة وهيئاته المتنوعة ونقابات عماله الكثيرة لمكافحة الصهيونية، وإذا أقبل اللبنانيون اليوم إلى هذا الاجتماع الذي يعقده اتحاد الأحزاب اللبنانية احتجاجاً على وعد بلفور المشؤوم وعلى المحاولات الرامية إلى تجديد هذا الوعد وبعثه إلى الحياة، فذلك لا يعد مظاهرة للعدل على الظلم والحق على الباطل فقط، ولا مظاهرة لمتانة التضامن العربي والأخاء بين فلسطين ولبنان وحسب، بل هو، قبل كل شيء وأكثر من كل شيء، مظاهرة لبنانية ديمقراطية للدفاع عن أرض لبنان وكيان لبنان وسيادة واستقلال لبنان. أقول ذلك لأن الصهيونية ليست خطراً موضعياً سيتناول بقعة دون غيرها من هذا الشرق العربي، بل هي حركة رجعية استعمارية غرضها جعل فلسطين رقبة جسر للاستعمار ولكل استعمار أجنبي، يبسط فيها نفوذه الاقتصادي والسياسي وسيطرته على جميع الأقطار العربية وما جاورها من بلاد الشرق".

ويضيف بالنص إلى ما سبق تأكيداً على مخاطر إنشاء دولة يهودية في فلسطين، في مقال نشره في عام 1946 ما يلي:" أما مشروع إنشاء دولة صهيونية أو وطن قومي لليهود في فلسطين فهو يشكل اعتداءً صارخاً على حقوق فلسطين. كما أنه لا يؤدي لا إلى حل القضية الفلسطينية ولا إلى حل ما سموه القضية اليهودية المزعومة. بل هو يزيد الموقف تعقيداً وخطورة. إذ يساعد على استمرار جو العداء والحذر المتبادل بين سكان فلسطين انفسهم، من جهة، وبين الدول العربية والدولة الصهيونية الاصطناعية، من جهة ثانية".

لم يكن بمقدور فرج الله أن يتراجع عن مواقفه تلك الواضحة وضوح الشمس في رفضه قيام دولة يهودية في فلسطين، بمجرد أن الاتحاد السوفياتي اتخذ قراراً في الاتجاه المعاكس. وكان تمسكه بموقفه تعبيراً مميزاً عنده عن الصدق في تعامله مع الأحداث، ليس تمسكاً أعمى بمواقفه، بل محاولة منه للالتزام بالشروط الحقيقية التي تستدعي تلك المواقف، والتي لا يجوز التراجع عنها وتغييرها إلاَّ عندما تتوفر شروط أخرى تستدعي التراجع عن مواقف سابقة لصالح مواقف جديدة. وكان يرى بحسه العميق مدى الأثر السلبي الذي سيتركه على الحزب ذلك الموقف الخاطئ في حينه بالموافقة على قرار التقسيم، والتراجع الكامل عن المواقف السابقة المعترضة على ذلك القرار. وقد حصل بالفعل ما كان يخشاه فرج الله. وحين وافق على كتابة رسالة النقد الذاتي فإنه فعل ذلك تلافياً منه لاحتمال وقوع مشكل في الحزب، وتمسكاً بعضويته فيه، وليقينه بأن الظروف ستتغيرفي زمن لاحق قريب، فيعود عندئذ إلى موقعه، ويعيد معه الحزب إلى ذلك الموقف. وبالفعل فقد عاد فرج الله إلى موقعه القيادي، لكن في صورة مختلفة. ففي المرحلة التي أعقبت دخول الحزبين اللبناني والسوري في السرية، ذهبت أدراج الرياح كل الاعتبارات التي كانت في أساس تشكيل حزبين. إذ صار الحزبان حزباً واحداً بقيادة جديدة واحدة هي قيادة خالد بكداش. وكان بكداش شخصية كبيرة في كل من البلدين. وكان زعيماً وطنياً حقيقياً. وكان حضوره مميزاً في كل من البلدين. كما كان قد أصبح شخصية شيوعية عالمية، فضلاً عن كونه قد أصبح الشخصية الشيوعية الأولى على الصعيد العربي. وقد أهَّله لذلك، إلى جانب سطوته الستالينية، كفاءاته السياسية وثقافته الواسعة وشخصيته القوية.

في عام 1954 أتيحت لي أول فرصة للالتقاء بفرج الله. كنت قادماً إلى بيروت من مركز عملي في اتحاد الشباب الديمقراطي العالمي في بودابست، حيث كنت أمثل في قيادة ذلك الاتحاد الشبيبة الديمقراطية العربية. استقبلني فرج الله في شكل سري للغاية، في أحد الشوارع الضيقة في شرق العاصمة بيروت. أخبرته بمهمتي الشبابية الأممية. واستمعت إلى نصائحه. ثم عدت فالتقيت به بعد أيام في دمشق في منزل خالد بكداش، الذي كان قد انتخب نائباً في دمشق بعد سقوط حكم الدكتاتورية العسكرية وانتقال سوريا إلى النظام الديمقراطي.وكان لقائي ببكداش في ذلك الوقت أول لقاء مباشر معه. استقبلني بكداش والحلو بحفاوة. وجلست أحدثهما عن انطباعاتي عن المجر وعن العمل في الاتحاد، وعن أمور سياسية وفكرية كانت تمتلئ بها جعبة الشاب القادم من مركز أممي إلى حزبه ووطنه. وكان ذلك اللقاء مصدر اعتزاز بالنسبة إليَّ، تحدثت عنه طويلاً إلى اصدقائي ورفاقي. ثم عدت فالتقيت بفرج الله في مدينة سوتشي السوفياتية على البحر الأسود في صيف عام 1957، حيث كنت أقضي فترة إجازتي الصيفية. أما هو فكان خارجاً من الإجتماع الأول للأحزاب الشيوعية الذي عقد في موسكو في ذلك التاريخ، وهيأ الشروط للانقسام الكبير في الحركة الشيوعية بين المعسكر السوفياتي والمعسكر الصيني. لكن فرج الله لم يحدثني عن ذلك الاجتماع، الذي علمت به وعرفت بعض أسراره من اصدقائي في الاتحاد، الهنود والإيطاليون على وجه الخصوص.

عاد فرج الله بعد تلك النكسة التي أصابته بسبب موقفه من قرار التقسيم إلى الصعود مجدداً في مراتب الحزب العليا. وعادت معه تقاليده في التعبير عن مواقفه في شكل مختلف هو الشكل الذي كان قد اختاره منذ وقت مبكر، أي الشكل الذي يحدد فيه فهمه الصحيح للانتماء إلى الشيوعية وإلى مرجعيتها الماركسية، الذي يراعي فيه ظروف بلاده، ليس في مستوى تطورها الاقتصادي والاجتماعي وحسب، بل كذلك في كل ما يتصل بالثقافة وخصوصياتها القديمة والحديثة.

ومعروف أن فترة الخمسينات قد شهدت تطورات عاصفة في المنطقة وفي العالم. أبرز تلك التطورات في المنطقة كان قيام ثورة يوليو الناصرية، ثم تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي الذي تعرضت له مصر، والإنذار السوفياتي المعروف بإنذار بولغانين الذي، بالاشتراك مع الموقف الأميركي برئاسة أيزنهاور، فرض على المعتدين الانسحاب من مصر خاسرين. أما أبرز الأحداث على الصعيد العالمي فتمثل بوفاة ستالين وصعود خروشوف إلى موقع الزعيم السوفياتي الأول بعد ستالين، ثم انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي الذي شكلت قراراته ثورة في الحركة الشيوعية العالمية في اتجاه التحرر من القيود الستالينية السابقة والتجديد في فهم الاشتراكية وفي تعدد طرق الانتقال إليها وتعدد نماذجها. وفي ظل تلك التطورات، وانسجاماً معها وارتباطاً بها، جرت تحولات في سياسة الحزب السوري اللبناني في اتجاه الانفتاح على القضايا العربية والدولية.

في ذلك المناخ الجديد في الحركة الشيوعية عقد اجتماع موسع للجنة المركزية في عام 1956 للبحث في مجمل القضايا التي تهم الحزب، المحلية منها والعربية والدولية. واتخذت قرارات جديدة ذات أهمية كبيرة تتعلق بالقضية الفلسطينية، أعيد النظر فيها بالموقف السابق للحزب، وبقضية الوحدة العربية، لجهة التأكيد على أهميتها كقضية مشتركة للشعوب العربية، لكن على قاعدة الديمقراطية، في ما يشبه التذكير بما كان قد اتخذه الحزب في عام 1932 في بيان مشترك مع الحزب الشيوعي الفلسطيني. وهو البيان الذي أشرت إليه آنفاً. كما اتخذت قرارات أخرى هامة في ذلك الاجتماع، اجتماع 1956، تتعلق بالمهمات الخاصة بكل من الحزبين في لبنان وسوريا. وكان الموقف من قضيتي فلسطين والوحدة هو الأساس في السياسة التي سلكها الحزب في الأعوام اللاحقة، بما في ذلك في فترة الوحدة المصرية ـ السورية. وكان بين تلك القرارات قرار يدين ظاهرة عبادة الفرد، التي كانت سائدة في الأحزاب الشيوعية، تقليداً للدور الذي كان لستالين في الإتحاد السوفياتي وفي مجمل الحركة الشيوعية. والغريب في هذا القرار أنه، إذ يدين الظاهرة، فإنه يحمّل مسؤولية وجودها إلى الرفاق في قيادة الحزب، كبارهم وصغارهم، ويبرّئ القائد المعبود من المسؤولية عنها. وكان فرج الله من الذين وافقوا على القرار، وساهموا في صياغته. وتلك كانت إحدى مفارقات شخصية هذا القائد، اسوة بسواه من القادة الشيوعيين في ذلك العصر.

في أواخر عام 1957 عدت من عملي في اتحاد الشباب الديمقراطي العالمي . وسرعان ما تلقيت دعوة للذهاب إلى دمشق للعمل في جريدة الحزب "النور" التي كان يرأس تحريرها فرج الله الحلو. وقد استقبلني فرج الله كعادته بحفاوة. وطلب مني أن أكون شريكاً له في العمل في الجريدة، حاملاً معي كل ما اكتسبته من تجربة في عملي في تلك المنظمة العالمية. إلاَّ أنه نبَّهني إلى ضرورة أن أكون واقعياً، وألاَّ أنقل تجربة غربية في شكل ميكانيكي إلى العمل في بلد عربي مختلفة فيه الظروف عن البلدان الأوروبية. وكانت تجربة العمل معه غنية. إذ كان يعلمني الكتابة الصحفية المكثفة الواضحة، التي تختلف عن الكتابة الأخرى، بسبب خصوصيتها، من حيث كونها تتطلب إيصال الموقف ببساطة، ومن دون تعقيد، وبأكثر ما يمكن من الوضوح. وبفضل نصائحه وتوجيهاته تحولت فيما بعد إلى كاتب افتتاحيات قصيرة في الصحف الحزبية التي عملت فيها عدة سنوات في الستينات والسبعينات وما بعدها.

ثم دخلت سوريا في الوحدة مع مصر في ذلك الشكل المتسرع الذي لم يخضع القرار بإعلانها للوقت الكافي من الدرس لكي تتمكن من النجاح والاستمرار، كخطوة أولى في طريق الوحدة العربية المنشودة. وأدى ذلك التسرع إلى الخلل الذي قاد الوحدة إلى الانهيار. وكان من مآسي تلك المرحلة دخول الشيوعيين في حالة صراع مع دولة الوحدة ومع الرئيس عبد الناصر، بسبب موقفهم الذي عبروا عنه في البنود الـ13، التي كانوا يرمون من ورائها إلى جعل هذه الوحدة أكثر ديمقراطية وأكثر احتراماً لخصوصيات البلدين، لكي تكون قادرة على الحياة. وكان من نتائج ذلك الصراع أن مات تحت التعذيب في سجون شطري الوحدة، مصر وسوريا، عدد من الشيوعيين البارزين كان فرج الله واحداً منهم. ولم يكن الرئيس عبد الناصر على علم باعتقال فرج الله، كما قال لكل من تيتو ونهرو اللذين تدخلا لمعرفة مصير فرج الله، معتبراً أن عبد الحميد السراج، وزير الداخلية في ذلك الحين، هو الذي وضع دولة الوحدة والرئيس عبد الناصر في إحراج كبير باعتقال ذلك القائد الشيوعي اللبناني في دولة الوحدة. إلا أن الذين عذبوا فرج الله حتى الموت اضطروا إلى الإعتراف بالجريمة خلال المحاكمة التي جرت لهم في أعقاب الانفصال. وكان قرار الاتهام الذي أصدرته النيابة العامة واضحاً. كما أصدر قبل بضعة أعوام أحد المساهمين في اعتقال فرج الله (سامي جمعة) كتاباً يروي القصة الكاملة حول اعتقال القائد الشيوعي، لكن على طريقته هو، وبكثير من التصرف، من دون أن يتجاوز الحقيقة في موضوع الاعتقال والتعذيب حتى الموت وتذويب جسد فرج الله بالحامض الكبريتي لإخفاء الجريمة وآثارها. لكن تحميل المسؤولية عن قتل فرج الله الحلو للسراج لا يلغي المسؤولية عن الرئيس عبد الناصر الذي كثرت في تلك المرحلة خطبه التي يتهم فيها الشيوعيين بالخيانة. وكان للشهيد فرج الله الحلو رفاق في الشهادة في مصر، كان أبرزهم أحد قادة الحركة الشيوعية شهدي عطية الشافعي الذي قضى تحت التعذيب في إحدى زنزانات تلك الحقبة من تاريخ مصر، حتى قبل قيام الوحدة المصرية السورية.

كان فرج الله خلال فترة طويلة مسؤولاً عن الحزب في سوريا. وكان ذلك واحداً من تقاليد الحزب في البلدين. إذ كان يرسل قادة من كلا البلدين إلى البلد الآخر بهدف تعميق الوحدة السياسية والفكرية والتنظيمية داخل صفوف الحزب. لكن فرج الله كان ينتقل بين البلدين، ذهاباً وإياباً، لا سيما خلال فترة الوحدة.

اختلف الحزب مع دولة الوحدة حول طريقة إقامتها. لكن الحزب دعا جماهيره إلى الاشتراك في مظاهرات التأييد لها. وقدمت وفود حزبية جماهيرية من لبنان لتحية الرئيس عبد الناصر عندما زار دمشق. كما أمّت دمشق من كل أنحاء سوريا جماهير حزبية للغرض ذاته. لكن الخلاف بدأ عندما امتنع خالد بكداش عن حضور جلسة المجلس النيابي السوري التي أقرَّت الوحدة، رغم مطالبة عدد من قادة الحزب، ومن بينهم فرج الله، بضرورة ذلك الحضور وإعلان الملاحظات حول الوحدة بصراحة من موقع الحرص عليها. وازداد الشرخ بين دولة الوحدة والحزب الشيوعي بعد أن صدر عن الحزب البيان المشهور ذي البنود الثلاثة عشر الذي يتضمن اقتراحات ترمي إلى تصحيح الوحدة من أجل ترسيخها وثباتها. ثم صار ما صار من صراع، ثم من انهيار للوحدة بعد ثلاثة أعوام من قيامها. وكان للذين شاركوا في قيامها من دعاة الوحدة الإندماجية من السوريين دور أساسي في وأدها. وكان البعثيون في مقدمة هؤلاء الإنفصاليين. لكنهم ظلوا يعتبرون أنفسهم وحدويين، وظلوا يعتبرون الشيوعيين إنفصاليين.

ظلَّت علاقتي بفرج الله تتطور خلال تلك الفترة إلى أن اصبحت واحداً من أكثر الرفاق اللبنانيين من الجيل الجديد ارتباطاً به. وعندما أصدر الحزب جريدة "النداء" اليومية في مطلع عام 1959 دعاني فرج الله، الذي كان المسؤول الأول عن سياستها، إلى أن أكون عضواً في هيئة تحريرها. وكانت لي زاوية يومية كنت أتناول فيها قضايا عربية ودولية. وكان كلما أعجب بمقالة من تلك المقالات يأتي إليَّ مهنئاً ومشجعاً. وقبل يومين من مغادرته بيروت إلى دمشق في واحدة من رحلاته المتكررة إليها للقيام بمسؤولياته الحزبية، جاءني فرج الله مهنئاً إياي على مقال أذكر بأنه كان يتعلق بأحداث ذات صلة بولاية كرالا الهندية التي كان يتولى قيادتها الحزب الشيوعي في ذلك الحين. لكنني فوجئت بعد يومين بالخبر الفظيع: اعتقال فرج الله في دمشق. وكانت تلك نهاية ذلك القائد الشجاع، الذي تميز بالجرأة في قول ما كان يعتقد أنه الموقف الصواب. وتميز في رغبته في التجديد في الفكر وفي السياسة وفي أشكال التنظيم. وتميز بالتحديد الدقيق للوطنية اللبنانية التي لا تتعارض، بل تكمل بشكل صحيح، الالتزام بالموقف العربي المشترك. وتميز بأخلاق رفيعة، وبدماثة قلَّ نظيرها، وبعلاقة إنسانية يصعب أن تنوجد عند الزعماء الكبار، سواء داخل الأحزاب أم على مستوى السلطات الرسمية.

هذا هو فرج الله الحلو، وتلك هي ملحمة حياته. وتشير سيرة هذا القائد، وسيرة قائد آخر من النمط ذاته هو كمال جنبلاط، وسيرة آخرين من الكبار في لبنان، كم أن لبنان الحديث، لبنان ما بعد الحرب الأهلية على أقل تقدير، لبنان الزمن الحالي، زمن الإستقلال الثاني، يفتقد في هذه الظروف الصعبة الراهنة بأمثالهم من أجل إعادة صياغة مشروع بناء وطن لبناني حقيقي، ديمقراطي تعددي، وتحرير المجتمع اللبناني من الآفات العديدة التي تفتك به من جراء هيمنة الطائفية على مصائر السياسة فيه، ومحاولات تحكيم الخارج بمصيرنا، الخارج بكل تنويعاته، الشقيق منه والصديق والعدو، القريب من حدودنا والبعيد منها، على حد سواء. وهو تحكم تستدعيه قوى طائفية بعينها، وتمنع بذلك قيامة لبنان الوطن، بعد كل الأعوام السابقة من تاريخه، الحافلة بالإنقسامات وبالصراعات وبالحروب الأهلية على اختلاف أنواعها، وبالحروب مع إسرائيل، حتى بعد تحرير أرضنا من احتلال قواتها لها.

إن لاستحضار سيرة فرج الله الحلو الملحمية أهمية خاصة في هذا المنعطف الصعب في تاريخ لبنان الحديث.