https://www.ahewar.org/ - الحوار المتمدن


زمن جنكيزخان وتيمورلنك

كريستيان دوبري

2004 / 9 / 1

إن القرن العشرين لم يكن زمن ابتداع البربرية، فما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر زرع جنكيزخان ثم تيمورلنك الرعب والموت من آسيا وصولاً إلى أوروبا.

إن الرأي الشائع هو أن القرن العشرين كان الأكثر إجراماً في التاريخ. فتراكم الخسائر البشرية خلال الحربين العالميتين، فضلا عما سبقها وأعقبها من عشرات الحروب، وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي بلغت ذروتها مع مذبحة اليهود في أوروبا واستخدام أسلحة الدمار الشامل حتى القنبلة الذرية ضد المدنيين الذين تحولوا رهان هذه النزاعات، كل هذا يبدو انه ساهم في جعل هذا القرن "عصر الحدود القصوى"[1]، أقله لجهة حجم الدمار وعدد الضحايا ووحشية الجزارين.

لكن هذا الرأي يفتقر إلى الصحة. إلا إذا أردنا المقارنة مع بعض فترات الهدوء المؤقت في مناطق محددة أو إلى وهم "الحرب النظيفة". لكن إذا توسعنا في النظر إلى سكان مجمل الكرة الأرضية على مدى الألف الثاني الآفل فان الحقائق تصبح أكثر اهتزازاً.

وخلال هذا الأعوام الألف لم تكن على الأرض سنة سلام واحدة وإنما آلاف النزاعات، من الاجتياحات إلى الاحتلالات والحروب القبلية والاتنية والحروب الاتحادية والسلطوية والقومية والاستعمارية والإمبريالية والحروب الأهلية والدينية والعامية والميليشيوية وحروب التحرير والانتفاضات والثورات والغزو والقرصنة... والغالبية العظمى من حوالى 40 مليار إنسان عاشوا خلال هذه الألفية قد عانوا، خلال حيواتهم القصيرة حرباً واحدة على الأقل[2].

فالبؤس والجهل والخضوع كانت كلها النصيب المشترك لهذه البشرية الفلاحية بنسبة 90 في المئة[3]، تستغلها أقلية صغرى من النهابين الجشعين، إقطاعيين كانوا أم ملاكي أراضٍ أم مرابين، بشرية مسحوقة بالسخرة والضرائب، صامدة عند حدود الفناء في حال من الخطر الدائم ما بين حربين قاتلتين ومدمرتين تدفع هي دائماً ثمنهما وهي الفريسة والغنيمة في آن.

وتحت نير كوكبة لامتناهية من الطغاة ترتفع ألويتهم على كاهل الشعوب: أباطرة وملوك وسلاطين وشاهات وشوغن وجنرالات وكوديو ورؤساء وأمراء وبارونات ووزراء غرباً وشرقاً وباباوات وخلفاء... كلهم متعطشون إلى المجد، إلى السلطة والثروات، ومستعدون لارتكاب أي مذلة من أجل تحقيقها أو الحفاظ عليها، معجونين بالكراهيات التي لا ترتوي، يعيشون في حروب دائمة بعضهم ضد البعض الآخر باسم الله أو الحضارة أو العلم أو الحزب.

وفي الأمس كما اليوم لم يكن السلام والرفاه أبداً سوى امتياز مؤقت لعدد قليل من الناس. وليس علينا أن ننخدع بما تتمتع به منذ نصف قرن أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، حيث عشر سكان العالم فقط. ففي الوقت نفسه وفي كل مكان آخر نشبت أكثر من مئة حرب، وكان الغربيون في الغالب المحرضون عليها والفاعلون فيها من دون أن تطاولهم آثارها، سواء تلك الأكثر فتكاً[4] أم تلك التي توصف بأنها "من العيار صغير". لكن ما معنى الحرب "الصغيرة" بالنسبة إلى الذي قتلت نصف عائلته، أم إلى آخر غالباً ما يتعفن، بعد هجرة فاتكة لامتناهية، في مخيم للاجئين بدون أي أمل في العودة إلى موطنه المتحول رماداً؟

ومع حوالى 200 حرب و200 مليون قتيل، ما يشكل 2 في المئة من أهل القرن[5] يكون القرن العشرون ضمن حدود المعدل الوسطي للقرون التي سبقته. أضف إلى أنه ساد على مدى الألفية ما اعتقدنا انه من مميزات الاضطهادات في القرن المنصرم فقط، من إبادة شعوب بأكملها إلى التهجير ومسيرات الموت ومعسكرات الإبادة وتصفية الأسرى بشكل منتظم وأعمال الاغتصاب والتعذيب والإعدامات الفورية والترهيب في وجه أي مقاومة، إلى استرقاق الناجين واستعبادهم. كذلك النهب والإحراق ومحو المدن والقرى والمزروعات ووسائل الإنتاج. جرائم حرب وجرائم ضد البشرية أدت إلى تهجير مؤلم للشعوب الناجية المتروكة للصوصية والحروب الأهلية لتقع أيضا ضحية المجاعات الرهيبة وانتشار الأوبئة الأكثر فتكاً من المذابح. وهذا كله باسم الإيديولوجيات التبشيرية والعنصرية في أكثر الأحيان. بدءاً بتلك التي تدعو إليها التوراة حيث الله الفتاك في العهد القديم يمكن أن يمثل اليوم أمام محكمة الجزاء الدولية.

فالحروب والمجازر لم تتوقف عن إدماء العالم، ففي كل حقبة وفي كل مكان، كان هذا أكثر القواسم المشتركة في التاريخ غير الإنساني الذي لم ينتظر القرن الأخير أي الحرب الصناعية وتكنولوجيا أسلحة الدمار الشامل ومصانع الموت لارتكاب الأسوأ. وفي النهاية أنه مع 000 900 قتيل في غضون تسعين يوماً، من نيسان/أبريل إلى حزيران/يونيو عام 1994، أي بمعدل 000 10 قتيل يومياً، فان الإبادة الأخيرة في الألفية الثانية، أي إبادة التوتسي في رواندا، جاءت تذكّرنا بأن الساطور يمكن أن يكون "فعالاً" تماماً كأفران الغاز.

وفي اللائحة اللامتناهية من الاضطهادات التي سبقت تلك التي حدثت في القرن العشرين، هناك سلسلتان على الأقل تستحقان لفتة خاصة على أساس مدتهما وامتدادهما ووحشيتهما وقد أقامتا القيامة على مدى قرون بشكل يعجز عنه الوصف. المقصود بالأولى أعمال الفتك التي نشرتها قوات جنكيزخان ثم قوات تيمورلنك من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر في مجمل أوروبا وآسيا من الباسيفيك إلى الدانوب والصين والهند والشرق الأوسط حيث تركزت غالبية البشرية والحضارات الأكثر تقدماً. غزوات مجهولة تقريباً في الغرب تركت في ذاكرة الشعوب الشرقية آثارا لا تمحى نقلها الرواة والمؤرخون الصينيون والهنود والفرس والعرب والسلافيون[6]... أما الثانية، وهي لا تقل عن الأولى تخريباً فقد تزامنت مع غزو القوى الأوروبية العالم ما بين القرنين السادس عشر والعشرين.

وقد تطلب الأمر حوالى ثلاثين عاماً لكي يوحد جنكيزخان بالقوة وتحت قبضته الحديدية القبائل المنغولية المتعددة التي كانت تتنازع في ما بينها. وقد كان كافياً حوالى عشرين عاماً، أي من العام 1205 إلى العام 1227، لكي يشن حوالى 000 150 فارس هجمات وحشية أغرقت آسيا في النار والدم فقضت على عشرات ملايين الضحايا من الباسيفيك إلى البحر الأسود قبل أن ينقذ موت الخان الكبير أوروبا الغربية في اللحظة الأخيرة. وقد بدأت عملية الاجتياح بإبادة شعب الـ"تانغوت" في مملكة سي-هيا، في شمال غرب الصين. وقد دمرت كلياً عشرات المدن الزاهرة وخربت الأقاليم التي تحولت نهائياً إلى سهوب قاحلة في حرب شرسة سقط فيها مئات الآلاف من الضحايا وانتهت بمجزرة الـ000 600 "تانغوت" الرهيبة: "لقد تمت تصفيتهم إلى آخر رجل. لقد محا الخان شعبهم"[7].

ثم جاء دور إمبراطورية "كين" في شمال شرق الصين. فبعد أن سحقوا في ربيع العام 1211 عند شمال السور الكبير جيشاً من 000 500 مقاتل ظلت هياكلهم العظمية التي ابيضت تحت أشعة الشمس، حتى بعد عشر سنوات، معروضة للأنظار إلى ما لا نهاية، اندفع المغول داخل البلاد مبيدين، إلى جانب غيرهم، جميع سكان العاصمة مطاردين الشعوب المرتعبة في هجرة ضخمة، مخربين القرى والزراعات، مجوعين المدن، حارقين سالبين مغتصبين قاتلين كل من يعترض طريقهم.

وفي العام 1215 حاصروا مدينة بكين ثم استولوا عليها. وفي محاولة للنجاة من الغالبين رمت 60000 امرأة أنفسهن من أعلى الأسوار التي تحيط بالمدينة على طول يبلغ 43 كيلومتراً. وقد تم القضاء على عشرات الآلاف من الأشخاص بعد أن كان الجوع قد أوهنهم حتى تحولوا أكلة للحوم البشر. وقد تفشت الأوبئة، وبنوع خاص التيفوس، وأودت بحياة عشرات الآلاف الآخرين مما اجبر المحتلين على مغادرة المدينة محملين بغنائمهم من النساء والفتيان والذهب والحجارة الكريمة والحرير... بعد أن نهبوا وأحرقوا كل شيء. أما من نجوا فقد حاولوا الصمود للبقاء، بدون ملاذ ولا غذاء ولا مياه وسط الأنقاض حيث كانت الجثث تتعفن على مدى أشهر عدة.

وسرعان ما امتدت المجاعة إلى مقاطعات أخرى ملاحقة على الطرق آلاف الصينيين الذين التحقوا في هجرتهم بأولئك الذين فروا من وجه المغول، في حالة رهيبة من الفوضى حيث انتشرت أعمال الابتزاز واللصوصية والميليشيات وثورة العاميات، مثل "انتفاضة المعاطف الحمر" التي قمعت كالعادة بوحشية لا سابق لها. وفي كل مكان وعلى مدى عقود انحسرت الأراضي الزراعية وانهارت المدن والقرى المخربة وسيطر الاضطراب الأمني والقوة الوحشية على العلاقات الاجتماعية. وهو السيناريو نفسه المعد جيداً والذي سيتكرر في مجمل آسيا والعالم أجمع حتى أيامنا هذه.

أما عملية الاجتياح الثالثة، وهي أسوأ من كل ما عداها، فقد طالت إمبراطورية "خوارزم"، التركية الإيرانية الضخمة التي شملت إيران وترانسوكسيان وأفغانستان. وقد كانت مهد حضارة عمرها ألوف السنين بمدنها الزاهرة مثل سمرقند وبخارى وغورجندج وبلخ ومرو ونيسابور وباميان وحيرات وغازني... ولم يلزم المغول سوى سنتين، من 1220 إلى 1222، لكي يزيلوا إحدى البقع الأكثر تقدماً على الكرة الأرضية ولكي يخربوا الأرياف والأراضي الزراعية، ولكي يسلبوا ويرمّدوا المدن الأكثر ازدهاراً ويخربوا التجارة والصناعة ويستعبدوا ويرحّلوا شعوباً بأكملها ويبيدوا ملايين البشر.

ولم يكن الأسر معتمداً، فالمهزومون من الجيوش والحاميات الذين لم يقتلوا في ساحات المعارك كانت رؤوسهم تقطع بشكل منظم، وكذلك كل الأحياء في المدن المحاصرة من الذين أبدوا مقاومة طويلة، فيسجنون على مدى اشهر "مثل الخنازير في الزرائب قبل ذبحها" فيعدمون بعشرات الآلاف في بحار من الدماء وتترك جثثهم للعقبان، وتكدس رؤوسهم في أهرام عالية، الرجال إلى جهة والنساء والأولاد إلى الجهة الأخرى، وهي ممارسات سوف تستمر على مدى قرون حتى في الإمبراطورية العثمانية وفي دول البلقان. ففي نيسابور كما في حيرات "ما من رأس ترك على جسم، وما من جسم احتفظ برأسه". لقد أبيد الكل "حتى الكلاب والقطط".

وفي الوقت نفسه كانت حملة وحشية أخرى قائمة في الغرب تدمر أذربيجان، حارقة سالبة قاضية على كل شيء في طريقها، ماحية عن الخريطة مدن قم وزندجان وقزوين، وذابحة كل سكان همذان ثم ألحقت المصير نفسه بجورجيا، مقطعةً أوصال الجيوش المسيحية قبل أن تصل إلى سحق تحالف الأمراء الروس في معركة كالكا في 31 أيار/مايو عام 1222. وقد تمت تصفية جميع الأسرى المهزومين فيما راحت خيول المغول تدوس الأمراء الذين أجبروا على الانبطاح تحت ألواح خشبية. وهذا اليوم المأسوي في التاريخ الروسي كان فاتحة عبودية الروس لمغول "الرهط الذهبي" والتي ستدوم أكثر من قرنين.

ذاك أن ورثة جنكيزخان الذي توزعوا الأمبراطورية بعده سوف يستمرون في ما بدأه من توسع بالأساليب نفسها قبل أن يرسخوا هيمنتهم الشرسة طوال مئة وخمسين سنة على الشعوب المستعبدة محققين الازدهار على حساب بؤس الشعوب الفلاحية الرازحة تحت عبء الضرائب الفادحة، والتي ظلت تحت جزمة الإقطاعيين المحليين المتعاملين مع الأسياد الجدد الذين لا يقهرون والمستعجلين لخدمتهم.

وفي أوروبا الوسطى تم اجتياح كل شيء خلال أربع سنوات، بين العامين 1237 و1241. وقد قضي على الملوك والأمراء البلغار والمجريين والروس والبولونيين والألمان، وعلى نخبة فرسانهم وجيوشهم العظيمة. وإذ اندفع المغول الى روسيا من الشمال فقد استولوا على ريازان حيث ذبح نصف السكان فيما أحرق النصف الآخر حياً. وقد سقطت كل المدن، الواحدة تلو الأخرى، وشهدت المصير نفسه ومنها بيالغورود وموسكو وفلاديمير وسوسدال وروستوف وياروسلاف...

أما أوروبا الغربية، التي ظلت غير مبالية بكل هذه المذابح السابقة، فإنها، إذ شعرت بالخطر حين اجتاحتها موجات من اللاجئين الذين نشروا رعب "عرق من البشر وحشي وإجرامي خرج من أطراف الأرض"، جندت لوقفهم حملة من 000 40 مقاتل وفارس من التوتانيين (من شعوب جرمانيا الشمالية). وقد تمكن المغول، وهم يبلغون ضعف هذا العدد، من القضاء عليهم بالقرب من لايتنز، وحملوا رأس قائدهم العسكري هنري السيليزي على رأس رمح وراحوا يتجولون به وأرسلوا إلى الخان أوغوديي 500 كيس من آذان البشر.

وفي غضون ثلاثة أسابيع تحولت البلاد صحراء بعد أن سلبت ودمرت كلياً، وقتل السكان جميعاً "من العجزة إلى الشبان والمواليد الجدد". والمصير نفسه واجهه مقاتلو بيلا الرابع الـ000 100 والمجر كلها التي تم القضاء على نصف سكانها في غضون بضعة أشهر. وإذ شارفوا على الرين وفيينا والبندقية انكفأ المغول لكي يحضروا لهجومهم الأخير. لكن موت أوغودايي وما أعقبه من خلافات بين أفراد أسرته جعلت الأمور تتخذ منحى آخر.

وفي آسيا دمر المغول كلياً الأناضول التابعة لمملكة السلاجقة ثم، إنطلاقاً من خوارزم التي اكتسحت ومحيت، أطلقوا على مدى ربع قرن غزوات مدمرة على كشمير والبنجاب، لكنهم لم ينجحوا في التغلب نهائياً على سلطنة دلهي.

وبقي الخليفة العباسي في بغداد. وقد لاقى مصير الآخرين ذاته، إذ سحقت جيوشه في العام 1258 وحوصرت المدينة بسكانها المليون واقتحمت لتبقى على مدى ثمانية أيام عرضة لأعمال النهب التام وقتل السكان. أما الخليفة، أمير المؤمنين وسليل النبي محمد، فقد نفذ فيه حكم الإعدام مما أثار اغتباط المسيحيين جميعاً إزاء محو الإسلام. ثم في العامين 1259-1260 كان دور سوريا الأيوبية التي نهبت ودمرت من حلب إلى غزة مروراً بدمشق وجامعها الكبير وذلك بمساهمة القوات المسيحية المندفعة من أرمينيا وبتواطؤ الصليبيين على الساحل. ولم ينجُ من المغول سوى مصر المماليك وحدها، وهي كانت آخر حصون الإسلام الذي كان قد استسلم أمامه القديس لويس قبل عشر سنوات.

لكنهم لم يحققوا النجاح نفسه في جنوب شرق آسيا في إمبراطورية بورما وفي مملكة الخمير وفي تشامبا وأنام حيث لم يستطيعوا الصمود بالرغم من غزواتهم المدمرة. ففي كوريا، وبعد سحقهم جيشاً مؤلفاً من 000 300 مقاتل جند فيه جميع الكوريين من عمر السادسة عشرة إلى عمر الستين، تطلب الأمر عشر سنوات من المذابح وأسوأ أعمال القتل من أجل القضاء على الميليشيات والمقاومة الوطنية.

وإثر انهيار حكم الـ"كين" في العام 1234 في شمال الصين بعد أن فتكت بها المجاعة والطاعون اللذان أوديا بما يزيد على مليون ضحية، انطلق المغول لغزو الجنوب حيث إمبراطورية سلالة "سونغ" الأكثر اكتظاظاً بالسكان على وجه الأرض ومهد القومية والحضارة الصينية. وقد لزمهم عشرات السنوات لكي يقضوا، بأساليبهم المعهودة، على العديد من الحواضر الكبرى، واحدة تلو الأخرى، ولكي يوحدوا بعدها كل الصين تحت قبضتهم الحديدية ويؤسسوا فيها حكم سلالة "يوان" التي دامت أقل من قرن (1279-1367).

فهناك لم يتقبلهم أبداً الشعب الذي بالرغم من أن عديده قد تراجع من 100 الى 60 مليون نسمة في غضون 75 عاماً من الحرب، ظل في حالة تمرد دائمة. وذلك إلى أن نجحت إحدى حركات التمرد هذه بقيادة راهب بسيط تخلى عن رهبنته ومن حراس القطعان، يدعى زهو يوان تسانغ، في طردهم منها بعد سنوات من حروب العصابات الدامية. وإذ أعلن نفسه امبراطوراً فقد أسس لحكم سلالة "مينغ" على مدى ثلاثة قرون استهلها بحكم كان، على مدى ثلاثين عاماً، من الأكثر طغياناً ودموية في تاريخ الصين.

وكان ورثة جنكيزجان، بعد أن أعاقتهم خلافاتهم المستمرة والخيانات والتصفيات في أوساط الأسر الحاكمة، في حالة انحطاط تام عندما تدفقت على آسيا، ابتداء من العام 1370، جموع فرسان تيمورلنك من البدو الأتراك، وتيمور الأعرج وتاميرلان الفارس الجديد لنهايات العالم، في سياق موجة أخرى كانت قد سبقته هي موجة الطاعون الكبرى. فهذه الحملة التي انطلقت من سهوب القرم الشمالية في العام 1247 اكتسحت عبر البحر الأسود مجمل حوض البحر الأبيض المتوسط من بيزنطيا إلى سوريا ومصر وإفريقيا الشمالية وأوروبا الغربية واسبانيا وإيطاليا وفرنسا في حرب شرسة دامت مئة عام... وخلال سنتين قضى ما بين الثلث والنصف من الشعوب التي طاولتها. وخلال خمسة وثلاثين عاماً حقق تيمورلنك، سيد المراوغات والخيانات، نتائج مشابهة متجاوزاً، في أعمال القتل والتدمير، المغوليين زاعماً أنه من ذريتهم، جامعاً ما بين الوحشية والتعصب الديني لدى المقاتلين من الديانة الإسلامية، حتى وإن كان المسلمون، وهم لم يكونوا مؤمنون على طريقته على الأرجح، الأكثر عدداً بين ضحاياه، حتى بلغوا الملايين. واحدة تلو الأخرى دمرت بشكل منهجي كل من إيران والقوقاز وروسيا والهند وسوريا والإمبراطورية العثمانية في ظل بايزيد ("هل يمكن لأمير صغير مثلك أن يساوي نفسه بنا؟")، فذبح السكان وأحرقت المدن والأرياف والزراعات وتصحرت الأراضي المروية. وبدون أي اهتمام باستغلال الأراضي المحتلة، فقد كان المهم التدمير بعد معارك فتاكة بين البدو والسكان المقيمين، بين الفرسان والمشاة. لكن "ما الذي يستطيعه قطيع من الدجاج والعجول أمام النمور وعصابات الذئاب؟".

وقد اعتمد التيموريون ضد الشعوب المدنية أساليب المغول نفسها. أليس أن كليهما قد تلقوا مهمة الرسالة الإلهية بإقامة السلام الشامل بواسطة الحرب في ظل سلطة وحيدة هي سلطتهم؟

كان الغزاة يجرون وراءهم عشرات الآلاف من الأسرى، يبيعونهم كالمواشي من النخاسين، ويذبحونهم في كل مناسبة عندما يصبحون عبئاً ثقيلاً عليهم (تيمورلنك قتل 000 100 دفعة واحدة على أبواب دلهي)، أو يستخدمون على نطاق واسع كأكباش محرقة يضحى بهم. فيدفعون وهم عزّل أمام القوات ليتلقوا الضربة الأولى من العدو أو عند مهاجمة أسوار المدن المحاصرة، في موجات متلاحقة، يدوس بعضهم فوق جثث البعض الأخر. وكان ينقل بالقوة عشرات الآلاف من الحرفيين والنساء والفتيان الذين يشكلون جزءاً من الغنائم في مسيرات موت لامتناهية مليئة بالجثث. وهكذا ينتشر في كل مكان الرعب الذي يفوق الوصف حيث تضخم آلاف الشائعات التي تروي إن الغزاة يحافظون مع وحشيتهم على قوتهم التي لا تقهر، وأنهم يفتقدون كلياً الشعور الإنساني إلى أن تنعدم كل رغبة في المقاومة. ويروي المؤرخ ابن الأثير أن "فارساً مغولياً دخل يوما بمفرده إحدى القرى وجعل يقتل جميع السكان الواحد تلو الآخر من دون أن يفكر أي منهم في المقاومة. وفي يوم آخر اجبر مغولي أعزل فرداً كان قد استسلم له على الانبطاح أرضاً ومنعه من الحراك إلى آن أحضر سيفاً وقتله".

وهل من الضروري أن نسرد مجدداً هذه السلسلة من المجازر بحق "الرجال والنساء، الشبان والشيوخ، من العجزة في سن المائة عام إلى الأطفال في مهودهم"، وأسابيع العربدة في المدن التي تنهب ثم تحرق، والغنائم من "الذهب والفضة والياقوت والفتيان والفتيات الفائقي الجمال جميعاً" في حيرات وسبزوار وزرندج وقندهار وشيراز وأصفهان وبغداد وموسكو وفلاديمير وموجاييسك وأستراخان وساراي ولاهور ومولتان ودلهي وحلب وحمص وبعلبك ودمشق وبروس واسمره...

أم نكتفي بما هو من اختصاص التيموريين الأكثر شهرة، ومنها أهرام وأبراج بنيت بالرؤوس (حيث نذكر فقط الأرقام القياسية: 000 90 في بغداد و 000 70 في أصفهان و000 100 في دلهي) أم بالمستهدفين أكثر من غيرهم من الكفار، مثل آلاف الهنود الذين سلخوا أحياء والمسيحيين الذين بترت أيديهم وأرجلهم قبل أن تقطع رؤوسهم، أو يدفنوا أحياء (منهم 000 4 ارمني في الأناضول)، أو الذين أحرقوا أحياء في كنائسهم.

ونود لو أمكننا الوثوق من أن كل هذه الفظائع لم ترتكب إلا على أيدي شعوب بربرية وبدائية من زمن آخر. لكن هذا يعني أولاً أننا نتناسى أنه في عصر غزوات جنكيزخان لم يكن المسيحيون البالغو التدين والشهامة من فرسان الحملات الصليبية يتصرفون بشكل مختلف. فان ريشارد قلب الأسد الطيب مثلاً، وهو عمليا بطل الرسوم المتحركة في خيالنا الشعبي لم يتورع عن حمل عقد من جماجم الأعداء على حصانه، وقد أشرف في عكا وبدون أي تردد على قتل 5000 أسير من المسلمين كان قد عمد إلى قطع رؤوسهم حانثا بالعهد الذي قطعه لأعدائه.

لو فعلنا ذلك لتعامينا عن واقع أن كل المسيحية الأوروبية لن تتأخر عن مواصلة هذه الأعمال بأساليب ونتائج لا تقل رعباً. فمن القرن السادس عشر إلى القرن العشرين، وفيما كانت تمزقها في ما لا معنى له حروب دينية وسلطوية وقومية، سوف تفتك بمجمل الكرة الأرضية وتقتل وتهجر وتستعبد وتخضع وتستغل الشعوب في أميركا وإفريقيا وآسيا وأوقيانيا. في ما اعتبر رسالة وضريبة الرجل الأبيض، باسم الله وباسم التحضر.



* مقالة صدرت في عدد تموز/يوليو –2004 من مجلة Manière de Voir التابعة للعالم الدبلوماسي، وكان عدداً خاصاً عن المجازر والإبادة الجماعية.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] Eric J. Hobsbawm, L’Age des extrêmes, Editions Complexe - Le Monde diplomatique, Paris, 1999.



[2] Gaston Bouthoul, Les guerres, éléments de polémologie, Payot, Paris, 1951.



[3] أقله حتى أواسط القرن التاسع عشر قبل أن يقلصها النمو السكاني والهجرة الريفية إلى 50 في المئة في نهاية الألفية الثانية.





[4] 3 ملايين قتيل في كوريا ما بين العامين 1950 و1953، و3.5 مليون في الهند الصينية وفييتنام ما بين 1945 و1975، ومليونا قتيل في الجزائر ما بين 1954 و1962.



[5] عاش في القرن العشرين حوالى 10 مليارات نسمة.

[6] René Grousset, L’Empire des steppes, Payot, Paris, rééd. 2001 ; et Jean-Paul Roux, Histoire de l’empire mongol, Fayard, Paris, 1993.



[7] المرجع السابق

جميع الحقوق محفوظة 2004© , العالم الدبلوماسي و مفهوم


https://www.ahewar.org/ - الحوار المتمدن

للاطلاع على الموضوع :

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?t=0&aid=22812