https://www.ahewar.org/ - الحوار المتمدن


كتاب صوت سنبلة قمح لم تولد

نصيف الناصري

2009 / 9 / 11

حروب نووية

تحتاج البشرية الآن الى أدوية وعقاقير مهدئة غير الدين والفن وأساطير الرياضة التي جعلها مفهوم الاحتراف تخضع للابتزاز وضياع القيم الحقيقية في التمييز بين النبيل والحقير للشيء وماهيته. حياة الانسان الرتيبة التي يمضيها بين الأشجار الوارفة للسأم منذ بداية القرن التاسع عشر. تحتم عليه الآن أن يعمل بجدٍّ من أجل الاعداد لشن حروب طويلة وجديدة ، ليس على غرار تلك الحروب التي شُنّت في الماضي . اننا الآن نحتاج الى حروب نووية من أجل القضاء على بعض أجناس الجراد وازالة بلدان معينة من الأرض حتى تستطيع الشمس النبيلة ، أن تلبي حاجاتنا الملحة والتي انتظرناها طويلاً ، وحتى نستطيع اختراع تسليات جديدة قادرة على ازاحة العبء الثقيل عن رموشنا المريضة .

تلمس الفجر

قالت لي آندريه شديد مرة وهي تناولني أحد كتبها { لا يمنحنا الشعر الشهرة ولا الجاه ولا السلطان ، لكنه معلق بين أهدابنا ويدلنا على تلمس الفجر }. منذ تلك اللحظة العظيمة التي التقيت فيها آندريه . قبضتُ بقوة على الجمرة المشتعلة للكتابة وواصلت طريقي الطويل في الظلام من أجل أن أتلمس الفجر، لكنني حتى هذه اللحظة لم أكمل عبور الطريق وفجر حياتي ما يزال بعيداً ، بعيداً جداً.

شطحة صوفية لبودلير

بعض الشعراء الحمقى يتأثر في الشخصيات التي يقرأ نتاجاتها ويكثر من الاستشهاد منها. مصيبة الشعر العراقي الراهن انه خاضع لمفهوم الاشاعة. الاشاعة الآيديولوجية والثراثية واشاعات الخدائع المتواصلة التي تركتها لنا الأجيال الشعرية الماضية. قال شاعر ما { أظنه بودلير } في أحدى شطحاته الصوفية وهو يعرّف الشعر انه { الطفولة المستعادة قسراً }. أصبح هذا المفهوم الخاص و هذه الاكذوبة والهلوسة البودليرية حقيقة مؤكدة في أوساطنا الشعرية التي تقدس ثقافات الأحزاب السياسية والدينية. وصلت الى حدّ أن يعنون أحد شعراء السبعينيات مجموعته الأولى بسطرين من قصيدة للشاعر الاسباني انتونيو ماشادو { أنا صحوت من الطفولة. لا تصحو أنت أبداً } واعتقد أن كلمة { أبداً } هنا خاطئة والأصوب هي كلمة { قَط }. الفهم خاطىء والترجمة خاطئة والفعل الشعري خاطىء أيضاً. ما العمل الآن من أجل ترك الشعر يحلق بعيداً عن الأقفاص التي يحاول البعض حشره فيها؟

الطاقة الدائمة للعشق

العشق في الزمان النفسي طاقة مبطنة والسهر تحت ظلالها يمدّنا بالقوة الدائمة. للتسلط على لحظاتنا الخائبة في العيش. ينبغي للانسان أن يقذف نفسه في البركان وأن يعشق وأن { يكون وحيداً في العالم مع المحبوب كي يحتفظ الحب بطابعه كمحور اشارة مطلق } هكذا يقول سارتر في { الوجود والعدم } .


العدم ومتعة السرور

جئنا من العدم والى العدم ننتهي. لماذا يظن الانسان انه خالد في هذا العالم؟ حيواتنا تمرين دائم لتعلم الموت. ينبغي أن لا نبتأس من الحقيقة المرّة. ينبغي أن نحيا اللحظات القليلة الممنوحة لنا في الحياة ببراعة وخفة دم رشيقة من أجل الجمال الساحر للفصول وتنوعها والتعدد البرّاق لأجناس الطبيعة غريبة الجمال، ومتعة السرور التي نخلقها نحن في تخلينا عن الطمع والقسوة والبخل.



ديناصورات

لم أذبح في حياتي طائراً ما، لكنني أستطيع الآن ذبح الكثير من الديناصورات عبر احتقاري واشمئزازي منهم ومن أفعالهم الدنيئة. لا يمكنني تحمّل مشهد شاعر علا رأسه الشيب وهو يسعى الى ترويج بضاعته الحقيرة والكاسدة في هذه الصحيفة أو ذلك المهرجان، من خلال تنطعه ومسكنته وتوسله للشهرة والعطايا.


شارة الحسين

قبل سنوات كنتُ أعمل بالأسود في حانوت عطّار بمدينة مالمو، من أجل أن أتمكن من شراء زجاجات الخمر. ربّ عملي يعرف طربكَتي ويغض النظر أحياناً حين أجيء الى العمل ورائحة الخمر تعط من فمي. ذات يوم أعلن أحد الأحزاب الدينية العراقية نيته اقامة أمسية للشعر الحسيني في مالمو. وجهوا لي دعوة للقراءة مع عدد من الشعراء مع وعد بمكافأة. اعتذرت بحجة انني أعمل كل يوم 8 ساعات وصاحب الحانوت لا يمنحني اجازة. اتصلوا بالعطّار وطلبوا منه أن يفرغني يوم الأمسية. وعدهم بتأمين حضوري ومنحي مبلغ 500 كرون منه تأييداً منه لحزبهم. حاولت أن أشرح له أن الشعر الذي أكتبه لا يصلح لهذه الأمسيات والمهرجانات وانني شاعر سوريالي وصعلوك، لكنه أصرّ على حضوري بقوة. ماذا أفعل؟ بلوى كبيرة. من حسن حظي أن الموعد الذي حددوه هو يوم سبت. أخذت ال 500 كرون وذهبت الى حانة. بعد منتصف الليل بقليل دخلت ديسكو ورقصتُ حتى الساعة الخامسة فجراً مع نساء عديدات. في اليوم التالي وأنا أهم بارتداء ملابس العمل في الحانوت. قال لي العطّار. { كيف كانت قراءتك لشعرك؟ } { قراءة عظيمة. طلب مني الجمهور مرات كثيرة أن أعيد بعض السطور } قلتُ له وأنا أمسح حبيبات العرق من جبيني. بعد أيام حين علم انني خدعته وكذبت عليه. دعاني وقال لي بصوت هامس كمن يخفي سراً { أكَلك خالي. الحسين يشوّر لو لا؟ } { بالتأكيد يشوّر } قلتُ له وأنا أحاول تأكيد يقينه. { أنت مطرود من العمل الآن }.

تجربة جنسية

أول تجربة جنسية لي مع فتاة في السويد. كانت بعد وصولي بشهور قليلة عام 1998. حصل الأمر هكذا. لي صديق يعمل سائق تاكسي. يعرف انني جلاّق كبير. في يوم عطلة ما بعد أن احتسيت آخر كأس ويسكي وأردت النوم. اتصل بي عبر الهاتف وطلب مني أن أنزل وأفتح باب العمارة. كان يقف معه في الباب رجل بشعر رأس أبيض ويرتدي قرطين، وفتاة شقراء عمرها 19 سنة ترتدي ميني جوب وتزيّن سرتها حلية ذهب. طبعاً لا أعرف التكلم بالسويدية مع ضيفي صديقي. حييتهم باشارة مني وفهماها { هززت رأسي ولوحت بيدي }. أخبرني صديقي بقوله { نصيف. أعرف انك تحتاج الجنس بشدّة. هذا الرجل لا يستطيع أن يضاجع صديقته إلاّ اذا ضاجعها رجل أمامه } طبعاً لم أصدق كلام صديقي أنا الواصل الى السويد حديثاً ولا أعرف أيّ شيء عن هذا المجتمع ولا غرائبه. { هما الآن شاربين ويمكن محششين. حاول أن تضاجع الفتاة في غرفة النوم وهو ينظر اليك، وحين تنتهي اخرج الى الحمّام واتركهما وحدهما. لا تنس انه سيدفع لك مبلغاً من المال } { لا أصدق } قلت له، وأمام حيرتي وغرابة الموضوع طار السكر من رأسي. في النهاية بعد أن أفهمني صديقي أن هذه الأمور عادية هنا وتحصل عند الأشخاص الذين يعانون من البرود الجنسي أو لغرابة أطوارهم. وافقتُ وكأني سأحصل على كنز. سحبت الفتاة التي لا تتكلم من شدّة السكر الى غرفة النوم وتبعنا الرجل صاحب الشعر الأبيض. تجردت من ملابسها تماماً، أما أنا فتعريت أيضاً إلاّ من لباسي الداخلي مخافة أن يرى هذا الضيف الثقيل طيزي. مصصتها ولحستها وشممتها وشهقتُ ونهقتُ والرجل العجوز ينظر إليّ وأنا أطحر. حين انتهيت لم أشأ أن انهض واترك عاشقها يضاجعها. بقيت نائماً عليها وهو يجرّني ويلهث وأنفاسه تتقطع. أردت المزيد لكنهما لم يوافقا. أخذهما صديقي في التاكسي الى بيتهما وبقيت أضرب جلق الى اليوم التالي.

صوت سنبلة قمح لم تولد

تبقى القصيدة غير مكتملة حتى وان نشرت في صحيفة أو مجلة أو كتاب. لا تكتمل القصيدة التي هي مشروع محو واعادة كتابة دائمة إلاّ بموت الشاعر. تضجرني قراءة قصائد الشعراء الرسميين الأحياء في طبعات { أعمالهم الكاملة }. قصيدة الشاعر الحيّ في كتاب، أشبه بجثة في تابوت. في قصيدتها { شبح قايين } تقول إيدث سيتول في أحد السطور { صوت سنبلة قمح لم تولد }. كل قصيدة قبل موت شاعرها ينطبق عليها سطر ستول هذا.

أرض الجحيم

قبل ألف عام كتب أبو العلاء المعري { وبالعراقِِ وميضٌ يَستهِلُّ دماً. وراعدٌ بلقاءِ الشرِّ يرتجزُ }، ويبدو أن رعود وبروق الموت بالعراق ليست لها نهاية، وستبقى أنهار الدم التي يحفرها الانسان العراقي في ذبحه لأخيه وجاره في الحيّ الذي يقطنه على مدى التاريخ مستمرة دائماً، طالما أن الانسان في هذا المجتمع المزدوج الشخصية والممتهن لحرفة القتل وقطع الطريق والسرقة والايمان بالخرافات والعقائد المتناقضة. لا يستطيع التخلي عن الطينة التي جبل عليها. ليست الشرور الراهنة بالعراق الآن والمذابح الطائفية وتفخيخ السيارات والعمليات الانتحارية والقتل على الهوية وليدة صدمة ما أو نتيجة تغيير النظام السياسي الديكتاتوري السابق. انها الحصيلة المضمرة للشخصية العراقية التي تخزّن في ضميرها عبر كل الأزمنة. أنواع الشرور الفتاكة التي تحرق البيدر والحقل في أرض العراق. الشعر العراقي والمناهج المدرسية والنظريات الآيديولوجية لأحزابنا الوطنية، والتربية الفاشية الصارمة للأبناء من قبل الآباء. تغرس كلها بذرة التطرف والجنون في الأعماق السفلى لشخصية انساننا منذ طفولته ولا تدع له المجال لينمو بشكل حرّ وسويّ.

حسين مردان

أصدرت دور النشر والمطابع في العراق خلال السنوات التي أعقبت موت حسين مردان. آلاف الكتب التي لم يقرأها أحد عدا استثناءات قليلة. لم تكلف جهة ما نفسها ولا اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق ولا دائرة تعنى في الثقافة. مهمة اصدار الأعمال الكاملة لحسين مردان، بودليرنا بامتياز. هل هو حظ الشاعر في أن يبقى في القلوب والضمائر بعيداً عن مؤسساتنا الطائفية والحزبية التي لا تهتم في الابداع الحرّ والحقيقي؟

العشيرة الفلسفية

عندما كنتُ في العراق لم يكن يسمح لي والى صلاح حسن في الجلوس بنادي اتحاد الأدباء على الطاولة الخاصة بالعشيرة الفلسفية. كنّا ننزوي وحدنا في طاولة بحديقة الورد ونشرب الخمر ونعاهد نفسينا على الاصرار في الامساك بجمرة الكتابة الى الأبد. كانوا يقولون اننا { لا نفهم ولا نناقش في الفلسفة }. هذه العشيرة كانت تتكون من شعراء وكتّاب ومن الفيلسوف خضير ميري والمفكر الشاعر عادل عبد الله. كل ليلة في جوٍّ صاخب من الخمر والنقاشات السخيفة المكررة. تدور الجلسة حول مفاهيم المطلق والصيروة و{ الاشكالوية } وما وراء الطبيعة والعدم والزمن والوجود والتحول. سمحوا لنا مرة واحدة في الجلوس معهم وحين حاول صلاح أن يبدي رأيه في مسألة معينة قمعوه وأجبروه على الصمت. الآن بعد أن { أخنى عليهم الذي أخنى على لبدِ } وتفرقوا شذر مذر والقسم الأعظم منهم هجره الشعر الى غير رجعة، وتخلى الفيلسوف والمفكر عن أحلام التحول والصيرورة. راح عادل يكتب عبر تقليده لمواقف ومخاطبات النفري. قصائد عن الحسين { نشرها بموقع ايلاف قبل سنوات } ويقارن في كتاب أصدره بعد التغيير ببغداد، بين فلسفة هيجل وفلسفة الصدر، وميري يعلن بعد أن استقر في القاهرة، انه كان يعارض نظام صدام حسين عبر ادعائه الجنون، ويكتب روايات عن بطولاته في محاربته للفاشية. ناسياً دراسته في كلية الفنون الجميلة التي لا تقبل إلاّ البعثيين وحفلات زواجه مرتين في نادي اتحاد الأدباء وسنوات بحبوحته عبر الراتب الذي خصصه عدي صدام للأدباء حين ترأس { التجمع الثقافي }. بعد سنوات عديدة كتب لي أكثرهم اهتماماً في الفلسفة والتاريخ والدين والفن ونظريات الشعر يقول { أشو قصيدتك هاي هم فلسفية؟ }.

قصيدة جورج سفيرس

في سنوات بلوغي الأولى عانيتُ صدمات كثيرة بسبب الجوّّ الصارم الذي نشأت عليه في محيط العائلة. العفة الزائفة والاحترام والخوف من ارتكاب المعصية والطاعة الشديدة لأوامر الزجر التي تتوالى عليّ. كانت رغباتي وأحلامي وكوابيسي الجنسية في صوب وضميري الذي يصرخ في زيفه بصوب آخر. أدمنتُ العادة السرية وظلت وظائف أعضاء جسدي المهمة معطلة تماماً. الآن وأنا أحاول استرجاع جحيم تلك السنوات البعيدة لمراهقتي. يحلو لي أن أغني هذه القصيدة لجورج سفيرس التي لا علاقة لها بمشكلتي هنا، لعلها تعينني على التخلص من ما أدمنت عليه حتى هذه اللحظة على الرغم من تملكي لنساء كثيرات في حياتي.

{ أنامُ ويظل هو يقظان
ملأه النوم أحلاماً عن فاكهة وأوراق شجر
بينما حالت اليقظة بينه وبين التقاط حتى حبة توت.
افترسه الاثنان معاً. اليقظة والنوم،
ووزعا أطرافه على الباخوسيات }.

امرأة الأرض الخراب

تعرفتُ في حانة الى امرأة تعيش وحيدة { أعمل موظفة كومبيوتر في دائرة الكهرباء وأسكن وحدي في شقة صغيرة. راتبي بالكاد يكفيني. الحياة ومتطلباتها ومصاريف المعيشة صعبة جداً } قالت لي. بعد أن أغلقت الحانة دعتني الى شقتها. حين وصلنا وفتحت الباب اكتشفت انني التقيت هذا المرأة في مكان وزمان ما. نعم أعرفها، لكن أين؟ لست أدري. ربما في { الأرض الخراب } ل ت س اليوت.

{ عاملة الآلة الكاتبة في منزلها في وقت استراحة الشاي
تنظف بقايا فطورها. توقد مدفأتها..
تفرغ الطعام المعلب
و خارج النافذة انتشرت باهمال
قمصانها الداخلية التي لفحتها آخر آشعة الشمس
و على الأريكة - وهي سريرها في المساء -
تكومت الجوارب، الخف، الصديريات، المشدات }.

في هاوية رعونتي

في السنة الرابعة من الحصار الذي فرضته الأمم المتحدة على نظام صدام حسين. دعاني صديق مطرب مزعوم في يوم ما وكنت جائعاً ومستلباً الى حفلة خاصة مدعو هو اليها. زوجته راقصة متقاعدة وتعمل قوادة ارستقراطية، الحفلة يقيمها أحد الضباط الذين منحهم الطاغية { وسام الرافدين } أعلى وسام بالعراق. لدورهم في قمع انتفاضات الشعب العراقي ضد الظلم والقهر. { كل شخص ينعم عليه الريس بوسام الرافدين. يشتري بستان فيه منزل بمنطقة خان سعد على ضفة نهر ديالى ويشّغل فيه عامل مصري، يكون حارس وبستنجي وخادم } قال لي المطرب المزعوم. { الوسام فيه امتيازات كبيرة. شقة فاخرة. سيارة حديثة. أموال طائلة } قال لي مرة أخرى وهو شعر بنشوة عظيمة. { أنا أعرف أغلب هؤلاء. انهم يدعونني دائماً لأغني لهم } قال المطرب مرة ثالثة. حين وصلنا الى بستان الضابط صاحب وسام الرافدين. كانت الراقصات الجميلات اللاتي يتم جلبهن من الملاهي والذبائح المشوية التي قُدمت وأصناف الفاكهة والخمور التي أريقت وكروصات السكائر الفاخرة. أشياء لا تصدق. هل نحن في الفردوس أم نحنُ في سنوات الحصار الرهيب الذي أطبق على كل شيء في حياتنا بسبب مغامرات طاغيتنا؟ تعتعتني الخمرة ووجدتني أهوي في هاوية رعونتي وأقف على المنصة الى جانب المطرب ملقياً خطبة عصماء على صاحب الحفلة وضيوفه الجنرالات الكبار، حول ضرورة ترشيد الاستهلاك ومساعدة الفقراء بدلاً من هذا البذخ غير المبرر. حاول صاحب الدعوة في البداية اسكاتي بلطف كونني صديق مطربهم المزعوم وسكراناً. حاول آخر وآخر لكنني بقيت أرتجل خطبتي الاخلاقية، وحين انتهيت بعد أن ماتوا من الضحك والسخرية من بلاغتي المفتعلة. أمسكني أحدهم ورفعني في الهواء. سقطت على الأرض مغمى عليّ وتناوب بعدها أكثر من 34 شخصاً على ركلي وصفعي وشتمي. احدى الراقصات السكرانات لم تكتف بركلي، بل حاولت وضع حبة خيار في طيزي. أتساءل الآن: أين حلّ الدهر بهؤلاء الذين كان يقمعوننا وينعم عليهم الرئيس في الأوسمة والأوشحة والأنواط؟ هل ظلت لهم لقية أو أثر، أم ترى نهبت بساتينهم وقصورهم وأطبق عليهم هادم اللذات؟

قوة الشعر

حين شعرتُ أن صديقتي الأولى بدأت تتململ مني وتحاول قطع علاقتها بي. تذكرتُ بيت شعر لأعرابي يقوله عن زوجته التي كانت تسعى الى طلاقه، في حمّاسة أبي تمّام بباب المُلح والطرائف. أكثرتُ عليها النيك فصارت لا تتخلى عنّي حتى مللتُ منها.

بعوضة الطاغية

كان صدام حسين قد أمرّ بتجفيف المستنقعات المائية بجنوب العراق وردم كل الأنهار والحقول، عقاباً للناس الذين عارضوا سياساته المدمرة. أولئك الناس كانوا يعيشون في هذه المستنقعات منذ العهود السومرية على زراعة الرز وصيد الأسماك والطيور وتحدوا جميع الجبابرة في تاريخنا. حين أصعدوا الطاغية الى منصة الاعدام. جاءت بعوضة مهاجرة من الأرض المردومة وراحت تطنّ في اذنه. بين لحظة اعدامه ومحاولته طرد البعوضة. نسى قبل الشنق أن يهتف ويحيي سنوات حكمه المقيتة ونضال حزبه في قمع الناس الفقراء.

الأفاق الرحبة للقلق

هل يتوجب علينا أن نرفض التصور الحتمي للتاريخ؟ الذوبان في الديمومة هو ما يجعلنا نواصل العيش في اللحظة الراهنة واللحظة الماضية. كل فعل يخلو من حرية الارادة ناقص ويدمر الطاقة العظيمة للمادة. يخفي الوجود نفسه دائماً، لكننا نستطيع تلمسه عبر العلو المعلق في جباهنا. يسطع القنديل الأزرق للكينونة بين المتناهي واللامتناهي كلما تخلصنا من عبوديتنا وصعدنا صوب الأفاق الرحبة للقلق.

التحرش بالأطفال في الشعر العربي

كتب الإمام والفيلسوف شيخ مشايخ الصوفية محيي الدين ابن عربي ديوانه { ترجمان الأشواق } عن ابنة شيخه مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم أبي الرجا الاصفهاني. { النظام وتلقب بعين الشمس والبها }. يعرّفها في مقدمة شرحه للديوان بعد أن سمع بعض الفقهاء بمدينة حلب ينكر أن هذا من الأسرار الإلهية، بقوله: { وكان لهذا الشيخ رضي الله عنه، بنت عذراء، طفيلة هيفاء، تقيّد النظر، وتزيّن المحاضَر، وتحيّر المناظر، ساحرة الطرف، عراقية الظرف. إن أسهبت أتعبت وإن أوجزت أعجزت. حقة مختومة، واسطة عقد منظومة. يتيمة دهرها، كريمة عصرها } الخ. هذا الامام الكبير في تاريخ تصوفنا الاسلامي وفلسفته. عاش حياته في ظل الاستيهامات الجنسية الحارة لامتلاك هذه { الطفيلة } من دون أن يحظى بها. بعد أن سمع فقهاء حلب يشنعون عليه غزله بابنة شيخه. ابتكر طريقة طريفة للتخلص من تشنيعاتهم. كتب شرحاً مطولاً ل { ترجمان أشواقه } للطفلة { عين الشمس والبها } وأسماه { الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق } وحاول أن يخدعنا في شرحه لكل بيت عبر اعلانه انه يخاطب الذات الإلهية وأسرارها في هذا الديوان من خلال قناع النظام الذي اتخذه معبراً لبث لواعجه للحضرة الإلهية. على سبيل المثال هذا البيت { وغادرةٍ قد غادرت بغدائرٍ. شبيه الأفاعي مَن أراد سبيلاً } يشرحه هكذا { وغادرة، يشير الى صفة مكرية تركت بفنون علومها الغيبية التي هي من حضرة الهيبة والجلال من أراد الوصول اليها لذيعاً من حبها } والبيت الذي يليه { سليماً، وتلوي لينَها فتثذيبُهُ. وتتركهُ فوقَ الفراشِ عليلا } يشرحه بقوله { وتلوي لينها، يريد نظرة عطف من الجانب الأيمن فتذوب تلك النظرة كما قتلته أيضاً من خلف بغدائرها } في البيت الثالث والأخير من المقطوعة. يشطح في شرحه ويتناسى علته. يقول { رَمت بسهام اللحظِ عن قوس حاجبٍ. فمن أيّ شقّ ٍ جئتَ كنتَ قتيلا } ويشرحه هكذا { رمت بسهام اللحظ عن قوس حاجب، يقول، وهو أيضاً قتيل بما حصل له من المناظر العلى عند الشهود بالوسائط وغير الوسائط } الخ طبعاً كلنا نعرف أن التحرش بالأطفال وعشقهم والتغزل بهم في تاريخ شعرنا العربي، مشكلة واضحة ومقبولة في أغلب بيئات هذا الشعر المكانية والاجتماعية. يفخر المنخل اليشكري في قوله:

{ ولقد دخلت على الفتاة الِخدر فى اليوم المطير.
الكاعب الحسناء ترفل فى الدمقس وفى الحرير }

والكاعب الحسناء هذه هي الفتاة التش ظهرت للتو أثدائها. ربما كان عمرها 12 سنة أو 13 أيّ طفلة. ليس هناك فخر في الدخول عليها وهي في خدرها، ولو تصفحنا آلاف الدواوين التي خلفها لنا أجدادنا البدو لوجدنا مشكلة التحرش هذه والاغتصاب التي تعرضت لها الفتيات الصغيرات موجودة في ديوان كل شاعر.

هواة ما بعد السيّاب

من المعلوم اننا ورثنا أشكالاً وأساليب تمتد جذورها الى العصور السومرية وبما انني اعتبر نفسي شاعر { حداثة } فأسعى من هذا المنطلق الى تقديم قصيدة تغاير ماسبقها ذلك لأن التجارب التي سبقتني كانت محكومة بهموم وموضوعات فيها الكثير من { اللاشعر } وهذا ماحصل في مسيرة ثورة الشعراء الرواد، لكن الخطأ الاساسي في التجني على فهم وظيفة الشعر كان على أيدي { هواة مابعد السياب }. لم يعد شاعر الحداثة الآن { فطرياً } يكتب قصيدته وفق ما تمليه الظروف الاجتماعية والايديولوجية بل أصبح الشعر من خلال وجهة نظري عملية خلاص شخصي. اختراق الواقع وتهريج بوجه الحياة.

صعاليك 1

كنّا جنوداً نهرب من الخدمة العسكرية الاجبارية دائماً ونسير في الطرقات والميادين العامة بنماذج اجازة مزورة { جان دمو لم يكن يملك حتى بطاقة الأحوال الشخصية }. كان انحدارنا الطبقي من قاع المجتمع وكان أقراننا طلبة في الكليات والمعاهد أو يمضون خدمتهم العسكرية في { دائرة التوجيه السياسي } التابعة لوزارة الدفاع ببغداد. لم نستطع أن نصدر كتبنا في طبعات أنيقة عند دار الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة والاعلام مثلما كانوا يصدرون كتبهم لنتمكن من الحصول على عضوية الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العراقيين الذي يشترط في الحصول على العضوية أن يقدم الأديب مع استمارة القبول على الأقل كتاباً مطبوعاً. عشنا على الهامش حياة حرّة وكان دخولنا الى اتحاد الأدباء يتم عبر شخص منتسب وحاصل على بطاقة العضوية. يدخل أحدنا بحجة ضيف عليه مقابل دفع ربع دينار الى مسؤول الاستعلامات. سنوات طويلة كانوا يمنعون جان دمّو ويمنعون حسن النواب من الدخول ويمنعوني أنا وربما منعوا كزار حنتوش في مناسبات ما ويعلقون اعلاناً في الباب الرئيسي لمبنى الاتحاد يؤكد المنع { منعاً باتّاً ولمدة سنة }. هل كانت قصائدنا تفي بالغرض المطلوب في سنوات الحروب الظالمة التي كان يشنها النظام الديكتاتوري على جيران العراق؟ يعتقد الكثير من الأوباش أن مجموعة كزار { الغابة الحمراء } التي صدرت عام 1986 عن دار الشؤون الثقافية مكرسة كلها للحرب. لقد أًصرّ كزار الشيوعي القديم على اختياره للعنوان وكان له ما أراد. طوال عشر سنوات في الأوساط الأدبية والثقافية لم نتمكن من انتزاع فرصة واحدة للاعتراف بنا أننا شعراء وبشر لنا طموحاتنا وأحلامنا الشعرية والانسانية. كان عزاؤنا يكمن في حياة البارات التي كانت ملاذنا الأخير من التفاهة الرسمية والهروب من أولئك الذين يرتدون البدلات الكلاسيكية السود وبدلات الزيتوني العسكرية مع حقائبهم اليدوية ومسدساتهم. لماذا كانت موائدنا محاطة دائماً في بار اتحاد الأدباء وبارات { الباب الشرقي } و{ ساحة النصر } وغيرها من البارات بالمتزوجين والرسميين والأكاديمين وأدباء دائرة التوجيه السياسي؟ هل كنا نذكرهم وننبهم من دون قصد الى تفاهاتهم وتفاهات حيواتهم المستكينة والمتنطعة؟ هل كانت ثقافاتنا ورؤيتنا الى الشعر والحياة تدغدغ ما عجزوا عنه على مستوى الحياة والانجاز؟ كانت الأمسية الشعرية اليتيمة للصعاليك في اتحاد الأدباء العتيد فضيحة كبيرة لتلك المؤسسة الرسمية عام 1993 حيث كان حضور الجمهور كبيراً وبشكل لافت للنظر لم تألفه أمسيات الاتحاد الثقافية { أقيمت في الحديقة وليس في القاعة الكئيبة }. قال لنا جان في ذلك اليوم الصيفي:{ اليوم سيتم الاحتفال بنا لأول مرة منذ أكثر من عشر سنوات وسنشرب بالمجان وننام في أراجيح حديقة الاتحاد. لا فندق ولا مصطبة. لا تطيلوا القراءات من أجل الشراب المبكر }. كان جان قد قرأ قصيدة قصيرة جداً وأثناء قراءته صرخ رجل يرتدي بدلة سوداء اللون وتجلس الى جنبه امرأة انيقة: { الله. أحسنت. أعد. أعد } نظر اليه جان دمو بامتعاض وغضب وصرخ في وجهه: { إنجب لك }. بلع الرجل الذي فاجأته المصيبة ريقه وإنجب طوال الأمسية التي لم تستغرق أكثر من نصف ساعة { الأمسية خصصت ل جان دمو. كزار حنتوش. حسن النواب. نصيف الناصري }. فتح بعدها بار الاتحاد للرواد أبوابه التي كانت تفتح دائماً بعد نهاية كل أمسية.

تجمعات

لم يتغير فيّ أيّ شيء على صعيد التمرد. أنا مطرود هنا من كل التجمعات العراقية التي يسمونها الثقافية { دكاكين حزبية }. أقيمت هنا في السويد قبل مدة { أيام الثقافة العراقية } بتنظيم من السفارة العراقية وبمشاركة 17 حزباً سياسياً وحركة وقد شارك فيها أدباء وكتّاب وووالخ ولم تتم دعوتي اليها لأنني خارج هذه التجمعات الرسمية والطائفية.

استلاب

لطالما بحثت في شعري عن الماوراء وعن الحيرة في متاهات الوجود واللاوجود. ليست هناك بيئة معينة تشغل قصيدتي. ماذا يمكنني أن أكتب عن مقهى { حسن عجمي } أو ساحة { الميدان }؟. هذه المهمة ليست مهمتي. طوال 34 سنة أمضيتها بالعراق كنت أشعر دائماً في الاستلاب والاغتراب الروحي والجسدي ولم أشعر بانسانيتي قط.

أبي جان دمّو

من الصعب محو جان دمو من الضمير الشعري العراقي، وكونه ظاهرة فريدة من دون انجاز فهذا لايعني انه سيموت، ذلك لأن هذه الظاهرة لن تتكرر في يوم ما. جان كان أحد الأدلاء الكبار في شعرنا العراقي، وقد أرشدني في بداياتي الى المنابع الأصلية للشعر. حين تعرفت اليه عام 1980 في مقهى { البرلمان } كان أبي وأمي قد أكملا استعداداتهما لتزويجي من ابنة عمتي وكنت أرتدي دائماً الملابس الأنيقة، واستلم راتبي من وزارة النفط. سحرتني شخصيته الصعبة المتحررة والنبيلة منذ البداية. دعوته الى حانة، وحين بدأ يسكر تجرأت وقلت له: هل أستطيع أن أقرأ لك قصيدة كتبتها قبل أيام. قال: حسناً اقرأ. قرأت قصيدتي وقبل أن اكمل. صرخ في وجهي: اسكت يا حمار، يا قاذور، هذا ضراط وليس شعراً. في نهاية الجلسة وكان يترنح وعدني انه سيعيرني في المرة القادمة قصائد لعبد القادر الجنابي وسركون بولص ومجموعات لسعدي يوسف وانسي الحاج وتوفيق صايغ وشعراء آخرين { طبعاً لم يقدم لي أية مجموعة لكنه دلّني على هؤلاء الشعراء }. في اليوم التالي استلمت خرقة التصوف منه وخلعت ملابسي الرسمية وخسر أهلي مشروع زواجي واعادتي اليهم الى الآن. طوال 18 عاماً مع جان استطعت أن اكتشف الجوهر الحقيقي للشعر وعرفت انه لا يكمن في تلك الأصوات المشهورة والمهووسة بالمشاريع القومية والخزعبلات السياسية، وحتى الآن مازلت أعرف أن الشعر الأصيل والذي يبقى ولا يزول، هو ذلك الشعر الذي يكتبه أولئك الذين ابتعدوا منذ البداية عن طلبات القطيع ومشاريع السياسين، وأود هنا أن اذكر حادثة تتعلق بما أقول: أقيمت أمسية للشاعر سميح القاسم عام 1996 في غاليري الفينيق بعمّان وحضرها جمهور كبير غصت به القاعة حد التخمة. أخبرنا سميح انه سيقرأ لنا قصائد من مجموعته { الكتب السبعة } الصادرة حديثاً { عن دار الجديد } وقال: انها مجموعة جديدة في رؤاها وموضوعاتها وأساليبها وراح يقرأ. ظل الجمهور واجماً طوال نصف ساعة، وبدأ البعض يتململ والبعض الآخر خرج من القاعة، وحين تنبه سميح الى حالة الجمهور قطع القراءة وقال: سأقرأ لكم الآن قصيدة عن فلسطين. أظن أن عنوانها { جئتم أولاً } وحين بدأ يقرأ هذه القصيدة التهبت القاعة بالتصفيق الحاد ، وعاد أولئك الذين خرجوا. بصراحة لقد أشفقت على سميح في تلك الأمسية حين تخلى عن قراءة قصائد من مجموعته الجديدة وراح يلبي ما يريده هذا الحشد الذي يجهل الشعر. الشعر من أصعب وأقدس الفنون التي تستطيع كشف وتعرية الوجود والموت والميلاد، ولذلك نلاحظ أن المنجز الأصيل في جميع العصور قليل جداً. لا يمكن للشعر أن يكون وثيقة أو تسجيل وقائع آنية، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نعول على جلاله ومجده. أردت عام 1987 أن أحيي جان دمو وصداقته من خلال الشعر، فكتبت عنه 37 قصيدة ضمتها مجموعة { ولاء الى جان دمو } وذكرت في كتابي { معرفة أساسية } أن اختي الكبرى كانت تسخر مني عندما أهرب من الخدمة العسكرية وأعيش متخفياً خوفاً من عقوبة الاعدام وتقول لي: { لماذا لا تكتب مجموعة ولاء الى الريس حتى يتم نقلك الى بغداد في دائرة التوجيه السياسي؟ }. كانت الصعلكة مع جان بالنسبة لي اختياراً واعياً وحراً، لأنها تمنحني فرصة أن أعيش للشعر وحده وأكرس كل حياتي له بعيداً عن الالتزامات السياسية والاجتماعية وسواها اعترف. لقد حاولت أن أتبرأ من تهمة الصعلكة عدة مرات لكنني أخفقت. ماذا أفعل؟ لقد تشكلت حياتي على هذا المنوال منذ جان دمو، وبالنسبة للافلاس فلا شيء تغير هنا. مرت وستمر أيام يكون طعامي فيها العجين بالزيت والشاي والبطاطا وأحياناً البيض، من أجل أن أوفر مبلغاً لشراء الكتب أو احتساء بضعة علب من البيرة. ينبع حزني الدائم وهو حزن سري. من اللاجدوى وخواء الحياة الانسانية في هذا العالم الذي يستلبنا في كل لحظة. يظن الانسان انه مقدس، لكن الحقيقة أن هناك أشياء في الوجود أعمق من القداسة. بحثي عن الشعر الذي كلفني حياتي كلها. كان شبيهاً بالبحث عن الذهب وسط أكوام عظيمة من التراب والرمال والقمامة. لم أعثر على القصائد الأصيلة والبهية على الرغم من ملايين الشعراء العرب، إلاّ عند أولئك الشعراء العظام القلائل الذين أداروا ظهورهم منذ أول حرف كتبوه للمؤسسات بكافة أشكالها. هذه المؤسسات المنحطة لم تقدم أي منجز حقيقي طوال ربع قرن في العالم العربي، وأسألك هنا: ماهي الرواية العظيمة أو المجموعة الشعرية أو المجموعة القصصية أو أي كتاب آخر له علاقة بالفكر. استطاع أن يشدنا ويجبرنا على قراءته طوال هذه المدة ؟ هل تعلم أن الشعراء في العراق الآن بعد زوال نظام البعث قد بدأوا يكتشفون تجارب هؤلاء الذين أعنيهم. كانت أعمال هؤلاء الشعراء تكاد أن تكون شبه مجهولة بسبب منعها والتعتيم عليها في سنوات الطغيان. ويطيب لي أن أذكر لك هنا هذه الحادثة التي تتعلق بالشعر الأصيل. أردت مرة بعد التعرف على جان دمو أن أشتري ديوان محمود درويش وفي الطريق الى المكتبة صادفني جان في شارع الرشيد فأخبرته بالأمر. اقترح عليّ أن نذهب الى غرفته المقابلة لمقهى { حسن عجمي } ويبيعني كتاب { السوريالية وتفاعلاتها العربية } لعصام محفوظ، وفيه ملحق عن عبد القادر الجنابي، يتضمن سيرة ومختارات، ونشرب الخمر بالثمن. أضاف لي هذا الكتاب الكثير ودلّني على الينابيع الشعرية التي لم تلوثها العنتريات العربية الثقافية، حتى انني عندما طلب مني أن أشترك في ملف { فضاء الحداثة } الذي أعده صديقنا الشاعر سلام كاظم بعد سنوات ونشر في مجلة { الطليعة الأدبية } وخصص ل5 شعراء. سطوت على كتابة عبد القادر فيما يخص سيرته ونسبت أسلوبه وطريقته الى نفسي. هذا الكتاب الذي عرفته من خلال جان دمو، هو الذي جعلني أكتب تلك القصائد التي ظنها ذلك الجهبذ { الشاعر المفكر } انني قد سرقتها من الشعر الفرنسي. لقد منحني جان فرصة مناسبة لكي اقترب قليلاً من السوريالية وابتعد عن الشعر الجماهيري الآني.

شاعر غجري مجنون

أنا الوحيد من الشعراء العراقيين مكتوب في جواز سفره. المهنة شاعر. وربما كان المرحوم جان دمو أيضاً. طوال 30 عاماً كرّست حياتي كلها من أجل الشعر الذي لا يعنى بقضايا وموضوعات الإيديولوجيا. في العام 1986 أصدرت بخط اليد مجلداً ضم 4 مجموعات شعرية بعنوان { جهشات } وصرفتُ راتبي من أجل 50 نسخة فقط، وزعتها على عدد من الشعراء الأصدقاء العرب والعراقيين. حين كتب الناقد حاتم الصكر عن هذا المجلد في العام 1989 في صحيفة { الجمهورية } مقاله {جهشات الغجري الملعون } قال: ان شعر نصيف الناصري لا يشبه أيّ شعر سوى شعر الغجر في العالم، ومن هنا جاءت هذه التسمية التي التصقت بي { الغجري }. في تلك السنوات كانت وزارة الثقافة عندنا تطبع المجموعة الشعرية للشاعر ب 5000 نسخة وتمنحه مكافأة يحلم فيها أيّ شاعر في البلدان العربية. لم تكن أيّ من مجموعات { جهشات } صالحة للنشر في وزارة الثقافة، والسبب أنها لا تعنى إلاّ بالشعر وجماله الخالص. لا تمجيد للحرب ولا اشادة بنظام الطغيان ولا ولا الخ...

حرب ضد الرداءة

أعترف أن حربي ضد الشعر الرديء في العالم العربي قد خلقت لي عداوات مع المافيات الشعرية في لبنان ومصر والأردن والعراق وسواها من البلدان. حاول ويحاول الكثير من هؤلاء الذين يتحكمون في المواقع الشعرية في الإنترنت والصحف والمهرجانات التعتيم على كتاباتي، ولكنني لا أعيرهم أيّ اهتمام. قبل أيام قرأت المجموعة الرابعة عشرة لفاروق شوشة { الجميلة تنزل الى النهر } من أجل الكتابة عنها. بعد جهد وضياع وقت ثمين اكتشفت أن هذا الشاعر الفطحل يمدح عمرو موسى أمين الجامعة العربية ويثني على الرئيس حسني مبارك ويتغزل بـ 400 سيدة كنّ يحضرن أحد المؤتمرات الدعائية لنظام صدام حسين ب { فندق الرشيد } في احدى سنوات الثمانينيات. صرفتُ النظر عن الكتابة حول هذه المجموعة التافهة لأنني أحسستُ أنني لا أستطيع أن أغيّر شيئاً في هذه الرداءة المقيتة.

الشاعر الغطّاس والشاعر العائم

1

أدونيس
انسي الحاج
سركون بولص
عبد القادر الجنابي
سليم بركات
أمجد ناصر
عباس بيضون
خزعل الماجدي
وديع سعادة
سيف الرحبي
زاهر الغافري
سماء عيسى
قاسم حدّاد
جمانة حداد الخ

2

أحمد عبد المعطي حجازي
أمل دنقل
أبو سنّة
أبو دومة
شوشة
الفيتوري
شوقي بزيع
محمد شمس الدين
نور الدين الجرّاح
فاضل العزاوي
شوقي بغدادي
ممدوح عدوان
سعدي يوسف
محمد جميل شلش
رشدي العامل
هاشم شفيق
عدنان الصائغ
ابراهيم زيدان
محمد الكعبي
الصغير أولاد أحمد
أبو الشمقمق
دريد ابن الزفرة الخ .


رغبات مؤجلة

قلت لأبي: اعطني نقوداً لأسكر
فتح فمه فخرج منه أسد جائع
قلت لحبيبتي: اعطني قبلة
فتحت فمها فخرجت منه لبوة
قلت لآمر سريتي: اعطني اجازة يا سيدي
{فتح فمه فخرجت منه دبّابة}
الأسد الجائع
واللبوة
اصطحبتهما معي في نزهة على الدبّابة
ثم عدت الى السجن مصدوع الرأس.


لقاء الملوك

في مدينة مبادة ومخسوفة التقيت ملك سدوم
وملك بابل
وملك مصر
وامبراطور اثيوبيا
والسلطان التركي سليمان القانوني
{ كف عن سنّ القوانين منذ أمد بعيد طبعاً }
وبدلاً من أن أحييهم باجلال وفخامة
شتمتهم واحداً واحداً
وتزحلقت فوق عمائمهم الحريرية الشبيهة بأعشاش لقالق.


تحولات / قلوب الأسماك

هناك نوع من الأسماك يتحول فيه الذكور الى اناث في موسم التكاثر اذا كانت نسبة الاناث في منطقة ما أقل من نسبة الذكور. في الغناء الخليجي يظهر الرجال الذين يحجبون النساء خلف أبواب البيوت ويعتّمون عليهن بمظاهر شاذة وحقيرة عبر رقصهم السخيف وميوعتهم التي تتمثل في هزهم وفرّهم للطيز وسط تصفيق وصيحات الرجال الآخرين. كل حفلة غناء خليجي تخلو من النساء ويظهر فيها الرجال فقط. أعتقد انهم بحجبهم النساء عن هذه الحفلات يتحولون الى نساء لأن لهم قلوب الأسماك.


شيزوفرينيا اللغة

مات كلب في غابة. جاءت الأمطار معزية. زعلت الأشجار. بال الكلب على الأمطار.


عاطفة بغيضة

كل كتابة تحتوي على عاطفة أو انفعال غير مسيطر عليه. لا عمق فيها وتشبه تلك المنحنيات المعوجة وغير المتناسقة في فن عمارة عصر الباروك. الانفعال يهدم { التوازن التماثلي } لجمال اللغة ويضفي طابعاً دينياً على النص. يجب التخلص من هذه الدمامل حين نرغب في تقديم ما يتوق الى الظهور ونحن نغطس في الأعماق السحيقة للحلم أثناء لحظة الكتابة.


موسيقى فيفالدي الباروكية

كل عمل موسيقي أسمعه للكاهن الأصهب انتونيو فيفالدي. يحيلني مباشرة الى رائعته { الفصول الأربعة }. موسيقى فيفالدي الباروكية تضفي روعة على الأشياء من خلال تضخيمها للشحنات العاطفية السريعة للزمن والتحولات الغريبة في الطبيعة.


أسباب طقوسية

لأسباب طقوسية يقوم جاري بالاغتسال 5 مرات يومياً، لكن رائحة الكذب والدجل التي تخرج منه. تمتد من اسبانيا الى الصين، وتتسبب في تعثر الكثير من المفاوضات التي يحاول أن يجريها الناس لعقد صداقات جديدة مع الأشياء في العالم.



السادو / هدف اللاهدف


عند الهندوس الآن 5 ملايين { سادو }. هداة الروح والجسد. ينتشرون في أنحاء الهند. هؤلاء الفلاسفة العراة هدفهم في الحياة هو اللاهدف. يطرق الواحد منهم في كل يوم أبواب 5 بيوت من أجل الطعام والنوم وما شابه. يقولون: {طالما نحن جئنا من العدم والى العدم ننتهي، فما جدوى امتلاكنا شيء ما؟}.


ايمان


كنت أجادل السيدة فريدا يوهانسون معلمتي في درس اللغة السويدية من أجل التخلي عن تدينها وايمانها. فجأة هبّت عاصفة وأسقطت فوق رأسي لوح جينكو. السيدة فريدا قالت { انظر كيف غضب الله من تجديدافتك } { مفهومكِ للألوهية هو أشبه ما يكون بالقدر الأعمى المجرد من المشاعر والعقل } قلت لها. سقط لوح جينكو آخر فوق رأسي. سقط آخر ثالث. سقط سابع. تاسع. لا فريدا تخلت عن ايمانها ولا أنا آمنت.


تهديد من شخص كحولي


{ وآخرون لا يشعرون أساساً بمأساة الوطن وهم يتجولون في حانات اوروبا وحدائق البلدان العربية. أقول لهؤلاء وهؤلاء أن الوطن سوف لن يتسامح مع الذين خذلوه أو ألقوا الستار على حروفه، وأن الحساب الأخلاقي والاجتماعي والفكري أيضاً سيظل يلاحق حتى كلماتهم القاتمة. عاشوا في شقق تطل على البارات وحدائق الأنس. أدعوهم بصراحة الى المشاركة الحقيقية في تضميد جراحات شعبهم الذي منحهم الحياة وسّهل لهم طريق الهرب }.
{ أصوات من الداخل. أصوات من الخارج }
بيان أصدره الأمين الحالي لاتحاد الأدباء والكتّاب بالعراق المدعو الفريد سمعان
ونشره في صحيفة الصباح التي تصدر ببغداد في 12 / 8 / 2006


في مديح الخيانة الزوجية

يشكو الكثير من الرجال من مشاكلهم الزوجية والملل والخواء مع زوجاتهم. هؤلاء البعران تنقصهم الثقة بأنفسهم والثقافة العامة. ينبغي عليهم للخلاص من الشكوى والضجر الذي يغلف حيواتهم أن يطلقوا زوجاتهم أو تحريضهن على الخيانة. الخيانة الزوجية مهمة جداً للشخص الذي لا يستطيع طلاق زوجته بسبب الأولاد ووالخ. الرجال أكثر خيانة من النساء والسبب يكمن في الضمير المعذب للمرأة. النساء اللاتي يمارسن الخيانة الزوجة أقل بكثير من الرجال. الحاجة الآن ماسة جداً لتعليم المرأة التي يشكو منها زوجها الخيانة الزوجية، لأن الزوج هنا سيقوم في البحث عن متعه الجنسية مع نساء اخريات أكثر جمالاً من زوجته ويتخلص من شكواه الدائمة.




تقاليد البغاء

كانت تقاليد البغاء في العراق قبل انقلاب عام 1958 وهي تقاليد عريقة تعود الى العصور العباسية. تقوم حسب الصيغة التالية: من يريد ممارسة البغاء مع النساء يذهب الى محلة {الصابونجية} المقابلة لوزارة الدفاع في الرصافة، وهي منطقة محاطة بسور ويوجد فيها مركز للشرطة ومستشفى، ويبدو أن هناك أنظمة معينة كانت لممارسة البغاء في هذه المنطقة، وكان أب رئيس الوزراء العراقي في العهد الملكي نوري السعيد، مديراً لبلدية بغداد في العشرينات من القرن الماضي، ولكي يتخلص هو والناس المحيطين بهذه المنطقة من سكان { الصابونجية }. قام بتشييد سور كبير حولها، أما من كان يرغب بممارسة اللواط مع الغلمان { وما أكثر الذين يرغبون } فيتوجب عليه الذهاب الى محلة { الذهب } في الكرخ، وكان أهل بغداد يطلقون التسمية الايرانية على الذي يمارس اللواط مع الغلمان { قرم باره } أما الغلام فيطلقون عليه { صرم باره } ويبدو أن صرم باره مشتقة من الكلمة العربية { السرم } وهي المؤخرة.


مؤخرات النساء الصوماليات

في الشهور الأولى لدراستي اللغة السويدية طلب مني الذهاب الى العمل في مكتبة من أجل تعلم النطق الصحيح واكتساب الخبرة اللغوية من السويديين. ذهبت الى المكتبة وكأنني أصم أبكم. كانت مسؤولة المكتبة مولودة في فنلندا وتربت مع عائلتها في السويد، حاولت في اليوم الأول أن تساعدني من خلال التحدث معي، لكنني كنت أفهم ما تقول ولا أستطيع اجابتها بحكم أنني أمتلك كلمات قليلة. سألتني من أجل تشجيعي على الحوار { لماذا برأيك ترتدي النساء الصوماليات هنا العباءات والمعاطف الطويلة في الصيف والشتاء ؟} دهشت { لا أعرف } قلت لها. لقد حيرتني هذه المسألة جداً. سألتها: { لماذا ؟} قالت: { لأن مؤخراتهن كبيرة جداً والرجال في بلدانهن تعودوا النظر الى مؤخراتهن }.


صديقة الكترونية


سافرت قبل أعوام الى بلد مجاور للسويد للقاء أصدقاء شعراء. أخبرني أحدهم أنه تعرف على امرأة من خلال الانترنت تقيم خارج البلد الذي يقيم هو فيه وذهب لزيارتها والتعرف اليها، وقال: { التقينا في مقهى لمدة ساعتين وتحدثنا عن العراق وعن الثقافة وأشياء أخرى. عدت بعدها الى بيتي ومازلت متواصلاً معها عبر الماسنجر }. في الليل بعد أن سكرنا في جلسة شراب صاخبة، دخل علينا أحد الأصدقاء واستفسر من صديقي الشاعر العاشق عن صديقته الالكترونية وعن أخبار اللقاء. قال له: { جميلة جداً. نكحتها من الخلف 3 مرات } وهنا صرخ السائل من دون أن يريد معرفة أين حصل ذلك وكيف ومتى: { عظيم. عظيم. وبعد. أحكي احكي }. طبعاً كان صديقي الشاعر هذا يمارس العادة السرية بالكلام. لم أسأله في تلك الحظة عن ما ذكره لأنني أعرف طريقة تفكيره وتعامله مع المرأة. صديق شاعر آخر أرسلت له امرأة معجبة بشعره رسالة عبر الانترنت تطلب فيها التعرف اليه واقترحت أن يلتقيان في كازينو. جن جنونه من الفرح ومزق ثيابه وفقد عقله وضرط ونهق وبهق. هاتفني وقال: { سنلتقي غداً في كازينو وسأنام معها في بيتي }. قلتُ له: { ربما تكون مرتبطة بشخص آخر أو تكون متزوجة وتحب زوجها }. قال: { لا. يمعود. هي تريد تتعرف عليّ ويمكن تحبني }. طبعاً صديقي هذا كان يمارس العادة السرية هنا. ذهب الى لقاء تلك المرأة وهربت منه قبل أن تحتسي فنجان قهوتها الى الأبد.


قتل الشاعر الناشىء

اعتاد الكثير من الشعراء والكتّاب الأغبياء الذين يشرفون على تحرير الصفحات الثقافية في الصحف والمجلات حين تصلهم قصيدة ما من شاعر ناشىء يرغب في نشرها، أن يسدوا له هذه النصيحة الحقيرة { يجب عليك قراءة الكثير من الشعر. اقرأ التراث. اقرأ المتنبي. اقرأ السياب. أدونيس الخ}. طبعاً هؤلاء يجهلون بحكم غبائهم وفقر مواهبهم. أن تلويث عقل الشاعر الناشيء في قراءة هذه الترهات التي أدمنوا هم قراءتها ولم تضف لهم شيئاً طوال حياتهم. كفيل بامتلاكه الموهبة والمغامرة لينطلق في آفاق التجريب والابداع واضافة أشياء جديدة الى شعرنا العربي. أغلب الانحطاط والتشابه في التجارب الشعرية لشعرائنا منذ أكثر من قرن من الزمان. يعود الى النصائح الغبية التي يقدمها هؤلاء البعران الى الشعراء الناشئين. عزيزي الشاعر القادم. أهلاً بك. لا تنسى أن تتغوط على من سبقك من الشعراء وأنت تحرث في حقول مغامرتك التي ستكون طويلة.


أغاني العشّاق

يدمنُ العشّاق سماع الأغاني لأنهم يضفون أهمية زائفة على من يعشقون.


برق العشق

أغلب الرجال يتنطعون في تقربهم من النساء من أجل الحب ومحاولة الدخول الى قلب المرأة، ويخفى عليهم أنها مهما تعددت أساليبنا ومهاراتنا في فن الخداع واظهار التحضر والطيبة الزائفة. لا تعيرنا أهمية ولا تطلق برق المحبة صوبنا ولا أساليبنا تنفع في كسب ودّها. حذار من استجداء الحب من المرأة. اشارة ظاهرة منها هي التي تحقق الهدف { المرأة هي التي تختار الرجل وليس الرجل هو من يختار المرأة }. كل العشاق الذين طاردوا النساء من أجل الحصول على الحب فشلوا، لأن حبهم المزعوم كان من طرف واحد.


ربطة عنق

معاون مدير ناحية. موظف مسلكي ذلك الشاعر الذي يظهر دائماً وهو يرتدي بدلة رسمية كلاسيكية وربطة عنق. هل يعلم هذا المسكين أن الضراط الذي يكتبه. يشبه لون واناقة بدلته وربطة عنقه؟



كاكا ناصح

بعد نهاية الحرب العراقية الايرانية. أصدر صدام حسين القائد العام للقوات المسلحة عفواً سرّياً عن الجنود الأكراد { المخربين } كما أسماهم. الفارين من الخدمة العسكرية. تقرر فيه أن يعفى كل جندي كردي هارب من الخدمة العسكرية والتحق في قوات البشمركة من عقوبة الاعدام عفواً تاماً ويتم تسريحه من وحدته فوراً. هذا العفو خاص بأولئك الذين هربوا من وحداتهم والتحقوا بقوات البييشمركة فقط. بعض الجنود الهاربين ولم يلتحقوا بقوات البيشمركة. عادوا الى وحداتهم وادعوا انهم كانوا مع البيشمركة طمعاً في الخلاص من الخدمة العسكرية. ينص العفو المشروط أن يؤكد الجندي الهارب لدى مكتب استخبارات وحدته انه كان مع قوات البشمركة ليتم تسريحه فوراً. كاكا ناصح المنتسب الى سريتي عاد في هذا العفو لكنه لم يتم تسريحه. أصرّ أمام ضابط استخبارات الفوج انه كان مهرباً وليس مخرباً { الكثير من هؤلاء الجنود يهربون بسبب رفضهم لنظام صدام وحروبه وبسبب الموت في الجبهات والوضع الاقتصادي الصعب ويعملون في تهريب الأشياء البسيطة بين العراق والمناطق الكردية في ايران }. قسم كثير من الهاربين الذين عادوا تسرحوا فوراً وذهبوا الى بيوتهنم. اكتفى ناصح بالعودة { نادماً } وظل يرفض كل الاغراءات التي تطلب منه أن يقول انه كان مع البشمركة ليتسرح من الخدمة المشؤومة. كنّا نحن الجنود العرب نقول { آهٍ، يا لحظنا السيء. لو كنّا أكراداً مخربين لكان شملنا هذا العفو وتخلصنا من الجحيم }. بعد 6 شهور انكشفت الحيلة الصدامية التي لا ترعى ذمة ولا ضمير. راحت الدوائر الأمنية حسب توجيهات { القيادة } الى عناوين هؤلاء الشباب المساكين والقت القبض عليهم ليحاكموا بتهمة {التخريب والالتحاق بعملاء العدو الايراني الصهيوني}. طبعاً التهمة جاهزة والعقوبة جاهزة. بالنسبة لي فقد تم تسريحي بعد أن تسرحت مواليدي بسنتين حسب أمر صدام القاضي بتأجيل تسريح المواليد التي تهرب من الخدمة مرة واحدة أو أكثر مدة سنتين. { لم أهرب سوى 7 مرات }. عام 1996 في العاصمة الأردنية التقيت بالصدفة كاكا ناصح في مطعم للكباب. يا إلهي { كيفك يا ناصح ؟ ما هي قصة اصرارك على انك كنت مهرباً وليس مخرباً }. { لا أثق بوعود وعهود نظام صدام } قال لي بثقة تامة.


عبودية اجبارية


تسمى الخدمة العسكرية الاجبارية بالعراق والتي يجب أن يؤديها الذكور حيم يبلغون سن 18 عاماً { خدمة العَلم }. عَلم جمهورية العراق. الغرض من هذه العبودية الاجبارية هو الدفاع عن أرض الوطن ضد الأخطار الخارجية التي تتهدده. 3 سنوات للذين لا يملكون شهادة جامعية ويخدمون في صنوف المُشاة، وأقل من سنة للذين يتخرجون من الجامعات { أغلب هؤلاء يعينون ضباطاً }. تدفع الحكومة للجندي مبلغاً لا يكفي أجور النقل. تحت هذا العَلم الحقير. أمضيت في الخدمة العسكرية 12 عاماً وأنا أشنّ الحروب العنصرية ضد الأكراد في أرض الوطن وقوميات وطوائف أخرى. بعد تسريحي من الجيش في أعقاب هزيمة { أم المهالك }. وجدت نفسي أجلس على الرصيف من دون وظيفة أو شبر واحد من أرض الوطن الذي أمضيت سنوات شبابي في خدمته التي كانت موجهة لقتل وهتك أعراض شعبه والاعتداء على الجيران.


خفيف. خفيف كصخرة

مرض شعري عراقي جديد بدأ يتوسع الآن بتأثير من بيئات وعصابات شعرية مصرية ولبنانية وخليجية. شاعر مزعوم يتوسل حد الخنوع هذا وذاك من أجل الكتابة عن شخابيطه وشاعريته الحلزونية. أغلب هذه الكتابات يقوم فيها هواة صحافة وليسوا نقاداً. يقوم هذا البغل الشعرور بعد ذلك باعادة نشرها في صحف ومواقع كثيرة ومن ثم يطلب من أحد ما كتابة مقدمة لها وتصدر على حسابه الشخصي في الأردن أو لبنان. لماذا يتكلف هذا الطحال المنفوخ كل هذه الخسائر في التنطع والجهد والوقت والمال؟ { هل لأنه عديم القيمة } وخفيف. خفيف كصخرة.


قضيب آلن غينسبرغ وعنّة الشعر العربي


{كم سنة استلقي على السرير وحيداً وأداعب قضيبي} هكذا يقول آلن غينسبرغ في قصيدته { أيام مايو 1988 }. ويقول الشاعر الأمريكي دونالد هال في قصيدته { الأيام الأخيرة }:{ انفجرت جين في البكاء وصرخت: كفى نكاحاً. كفى نكاحاً، اذ فقدت السيطرة على نفسها }. في شعرنا العربي المصاب بالعنّة المزمنة، لا نجد مثل هذه اللغة التي تتحدث عن موضوع شخصي عادي بهذا الوضوح والبساطة. أكثر شعرائنا الكبار أخصتهم الأحلام القومية والتنطعات الحزبية حتى اننا صرنا نعتقد بيقين تام أن كل واحد منهم ماهو إلاّ عنّين أو لا يملك قضيباً يتحدث عنه ولو مرة واحدة في حياته. المرحوم نزار قباني هو المسؤول الأول عن اجهاض الثورة الجنسية التي اجتاحت العالم في ستينيات القرن الماضي في عالمنا العربي. عبر حجبه لحقيقة الجنس الانسانية عن قرائه الأغبياء والأميين في تأوهاته وفحولته المزعومة وانشغاله بكتابة قصيدة لا هي غزل ولا هي قصيدة حب يوصل الى الجنس. عنّين. عنّين. حتى قاموسه الشعري ضئيل. المسكين حافظ على كلمات قليلة بسبب عدم تجديد نفسه وراح يطشها في كل مجموعة عبر نصف قرن من الكتابة المتشابهة جداً. قومي بغل.


عقدة الشاعر اللبناني الاوديبية


تعود جذور وتقاليد عمل الشاعر اللبناني في الصحافة الى عهود طويلة، سواء في المهاجر أو في لبنان. تكمن المشكلة في أن هذا الشاعر ما أن يقرزم الشعر حتى { يحط عينه } على العمل في الصحافة. نستطيع أن نطلق عدا استثناءات قليلة، على الشعر اللبناني مفهوم { شعر صحفي }. كل فطحل من هؤلاء لديه مهمة واحدة خطيرة وتشغل باله ليل نهار في الصحيفة التي يعمل فيها، وهي التعتيم وحجب الانجاز الشعري العراقي دائماً. { هل هي عقدة اوديبية ؟}. لكن الأب لا ينقتل مهما حاول الشاعر اللبناني قتله. ما أن يتم طرد هؤلاء المافيات من عملهم حتى تنام فوقهم { الطابوقة }. لا ضجيج ولا ادعاءات ولا دعوات الى مهرجانات ولا لقاءات مدفوعة الثمن. لا ابداع مع الفهلوة.


القائد والقطيع


أضفينا في أعقاب الانقلاب العسكري الدموي الذي حصل بالعراق عام 1958 وتم فيه قتل الملك وعائلته وسحل رئيس الوزراء نوري السعيد في الشوارع. لقب { القائد الأوحد } على قائد هذا الانقلاب الزعيم عبد الكريم قاسم. هذا المفهوم { القائد } سيعشش من ذلك التاريخ في عقول العراقيين ولو بالقوة. جاء انقلاب حزب البعث الثاني في تموز عام 1968 ليفرض علينا هذا المفهوم من جديد ويتوج بطل هذا الانقلاب أحمد حسن البكر ملكاً، عبر منحه أعلى رتبة عسكرية في العالم { مهيب ركن } ولقب {الأب القائد}. كيف يكون الأب القائد للعراقيين وهو جاء الى الحكم تحت جنح الظلام بدباباته وبيارقه وطبوله العشائرية وتحالفاته الحزبية؟ بعد سنوات من هذا الانقلاب و { قيادة } حزب البعث وهي تنخر العراق بجرائمها ودسائسها. ستتم دعوة مؤسس هذا الحزب الفاشي ميشيل عفلق {بيضة من بيوض هتلر} الى الاقامة بالعراق وفرضه ك { القائد المؤسس }. يا سلام. الأب القائد. القائد المؤسس. بعدها جاء أكبر سفّاح في تاريخ العراق { السيد الرئيس القائد }. هل تخلصنا من مفهوم { القائد } بعد الاطاحة بنظام صدام حسين؟ منذ لحظة اسقاطه خرجت الجماهير الفقيرة في تظاهرات صاخبة { الجماهير في اللغة العربية تعني الرمال } لا لتبحث عن نسمة حرية أو فجر جديد، بل لتبحث عن قائد جديد. نصبّت مقتدى الصدر قائداً فأطلقت عليه { السيد القائد }. نفس ثقافة نظام صدام وأساليبه الفاشية . المفروض أن يفرّ القطيع من قائده الى الحقول والمروج . وحدها قطعاننا في العراق تتمسك بالقائد وسياطه دائماً ولا تريد التحرر من العبودية له. 5 قوميات بالعراق و4 أديان و5 لغات ولست أدري كيف يمكن للقائد أن يقود هذا التعدد والتنوع من دون أن يبطش أو ينكّل به ؟



Billie Holiday

على الرغم من موتها في العام 1959 تبقى بيلي هوليداي مغنية عظيمة عبر أغانيها التي ظلت حيّة حتى الآن. كان صوتها العميق الحزين والمؤثر قد أضفى على أغاني الجاز لمسات فريدة وقوية وتعتبر أغنيتها الشهيرة { ثمار غريبة } أو { فاكهة عجيبة } التي تتحدث عن جثث السود المعدومين والمعلقة على الأشجار من أجمل الأغنيات الرائعة والمعبرة في القرن العشرين.

{ الأشجار الجنوبية تثمر فاكهةعجيبة
على أوراقها دماء، وفي جذورها دماء
أجساد سوداء تتأرجح مع هبّات نسمات الجنوب
الفاكهة العجيبة تتدلي معلقة على أشجار الحور
منظر ريفي للجنوب اللطيف
العيون المنتفخة والأفواه الملتوية
أريج أزهار المغنوليا، حلو ومنعش
ثم تأتي الرائحة المفاجئة للحم البشري المحترق
هنا فاكهة للغربان كي تنقرها
للأمطار كي تجمعها، للريح كي تمتصها
للشمس كي تفسدها، وللأشجار كي تسقطها
هنا يثمر محصول غريب ومرّ }.

في الفيلم الذي يجسد حياتها المعذبة { السيدة التي تغني الجاز } والعنوان احدى أغنياتها ومثّلته المغنية ديانا روس وحصلت على الاوسكار من خلاله. تظهر هوليداي صبية معذبة تغني في الشوارع وفي فترة مراهقتها تغني للسكارى في البارات ويغتصبها البعض منهم، وحتى حين كبرت وأصبحت شهيرة. ظلت تشعر في الوحشة والحزن من ماضيها المعذب والمؤلم. { ماتت وحيدة في عزلة معوزة ومريضة }. هل حقاً ماتت بفعل المخدرات ؟



مرثية الى جان دمو


لا يوجدُ حارسٌ لحمايةِ جثتكَ يا جان دمو
أنت الأكثرُ شبَهاً بالشّيطان
كنتَ رجلاً مريضاً على الدوام
تبكي كلَّ يومِ أحدٍ عندما تشاهدُ نفسَكَ في التلفاز
{ وعلى الرغمِ من أقوالِ الصحف، فأنك لم تكنْ مثقفاً أبداً }
الآن أبكي حداداً عليك
البكاء يغسلُ الأحقاد.
وداعاً يا صديقي الإله
موتكَ كانَ له أثرٌ بالغٌ في مسارِ الشعر الحديث
وأنتَ تمثلُ دورَ السيدِ البدينِ صاحبِ دار النشر
لكنك كنتَ متورطاً بأشياء يعاقبُ عليها الرئيس.
وداعا أيها الطفل
يا من كنتَ لا تعترفُ إلاّ بعبقريتين:
التجديف والجحيم
وبدلاً من أن يخنقَكَ عطيل، ذهبتَ إلى الهاوية وحيداً
وداعاً وداعاً وداعاً
لماذا ذهبتَ إلى الأبديةِ وفي جيبِكَ أقراصُ فاليوم ؟

كانت مراسيمُ الدفنِ حزينةً جداً جداً
بكى الجيرانُ قائلينَ: {آه، أيها السّيدُ اللطيف، كم كان يحبُّ
الشكولاته مسكين مسكين مسكين
كم كان يحبُّ الشكولاته}
ويقالُ أنَّ عانساً عدوةً لقصيدةِ النثر، اشترتْ أربعةَ أطقمِ أسنان
من النيكل، لتهزأ من مراسيمِ الدفن.


قبر في الذاكرة

كنتُ أحفر قبراً مهيباً في مدفن العائلة أعمق من جميع القبور وشواهدها التي علاها الصدأ والنسيان. كانت جهشاتي تفيض ينابيع تلبط فيها الأسماك والطيور. كانت عيناي محمرّتين كصيدلية، وعندما تعبت من الحفر، توقفت ريثما يطلع الصباح. في اليوم التالي كنت أشعر بصدع عظيم. استيقظت فلم أجد القبر. بحثتُ في جميع الأماكن التي من الممكن أن أدفن فيها الخالة العزيزة. في المساء شاهدت افعى رقطاء فوق شجرة صفصاف تتسلل بحذر وتقتنص عصفورة نائمة. يا إلهي. لقد كنت أحفر القبر في الذاكرة.

أحلام المجيء

تحلم الزوجة بمجيء الزوج
والأم بمجيء الابن
والفتاة بمجيء العاشق
والخزانة بمجيء اللص.
الزوج يكتب رسائل من السجن
الابن تلدغه حنينات في الخندق
العاشق يغني في الاسر
اللص يتسكع مخموراً في الشوارع.
الزوجة ترملت وذهبت الى مدينة بعيدة
الأم تجهش بالبكاء
الفتاة تترقب كحديقة مهجورة
الخزانة امتلأت من جديد وتحلم بمجيء لص آخر.

العائلة في النهر

الأب في النهر
النهر شبكة
الأم في النهر
النهر سمكة
الولد في النهر
الولد نورس
البنت في النهر
النهر نورسة
الشرطي في النهر
النهر سمكة قرش.


حبال دموع

الماضي من أيامي الذهبية. يجرح نفسي بكآبات ضخمة وطويلة
ويخنقني بحبال دموع.


روح السيّاب المستمرة

تقبلي يا روح السيّاب المستمرة تقدمات محاصيلنا
كلمة من الشاعر. كلمة لامعة كاللهب فوق الذهب
تمزق الصمت المظلم للبوق الذي لا يقبل العزاء.


الى الشعراء الخصيان

لا نريد من ينابيعكم الآسنة التي عطّرتها الشمس بعفونات جثث منتفخة.
{ لسنا أولاد كلمات وحيوانات فظة *
{وآباؤنا ليسوا خيالات تافهة على الطريق }
الله ينسى قصائدكم كعجائز في مأتم
ويحفظ قصائدنا كفتيات في عرس.
*. بول كلوديل


موت الرجل الوقور

الرجل الوقور
الرجل المهذب
وقف على شاطىء النهر يلقي الخبز الى طيور النورس
تكاثرت النوارس الجائعة مسرورة
الرجل الوقور مسرور أيضاً
رمى المزيد من الخبز
منحته النوارس صخبها وحنينها وأغنياتها.
فكّر الرجل المهذب مسروراً لرؤية أسراب النوارس متجمعة أمامه.
- ملكي هذه النوارس. قال الرجل. كلها لي.
أخيراً – حين نفد الخبز وشعرت النوارس بالنعاس
أخرج حجراً ثقيلاً من جيب معطفه
ورماه بقوة صوب النوارس.
سقط الحجر على صورته المنعكسة في الماء.
مات الرجل الوقور
مات جريحاً بغطرسته.


فتح روما

بخفته التي لا تحتمل وادعاءته الدونكيشوتية. افتتح السيد محمود المشهداني { من الاخوان المسلمين } رئيس البرلمان العراقي قبل 3 شهور مؤتمر الكفاءات العلمية العراقية في الخارج. أثناء خطابه الذي ألقاه بعصبية واضحة. أخبر كل الكفاءات الموجودة انه قد كتب 3 أبيات من الشعر العمودي للترحيب بهم. بعد أن ألقى شعره الحلمنتيشي المتكلف راح يرتجل خطبة أخرى حول دحر الارهاب بالعراق وتوفير فرص العودة لهذه الكفاءات العلمية لخدمة العراق وأشياء غريبة أخرى. كان أغرب ما في خطبته قوله في نهايتها بعصبية واضحة أيضاً: { لن تقوم الساعة حتى يفتح المسلمون روما }. رئيس البرلمان هذا نسى هنا وظيفته البرلمانية الديمقراطية وراح يبشر بقرب فتح روما من قبل جهاد وصولات وجولات المسلمين وفاته أن روما مفتوحة لكل من يريد دخولها. لا البابا ولا الحكومة ولا الشعب الايطالي يمنع أولئك الذين يريدون دخولها والاقامة فيها.


لا جلجامش ولا داروين في العراق الآن

يضفي التراث الميثولوجي الشيعي على شخصية الامام علي ابن أبي طالب صفات ومناقب تتنافى وشخصيته الواقعية الطيبة السمحة والمعروفة لنا. احدى هذه الاساطير تجرده من انسانيته الحقيقية وتقوّله مالم يقله في حياته، و تتحدث انه حين طعنه ابن ملجم بخنجره المسموم وشعر بدنو أجله. قال لولديه الحسن والحسين اذا متُّ احملا تابوتي وامشيا وسيكون هناك ضياء. اتبعا الضياء الى النهاية. هناك قبرا آدم ونوح، ومن ثم ادفناني بينهما. حملا التابوت وسارا خلف الضياء وفي النهاية وجدا القبرين ودفناه وسطهما. في تراثنا الشيعي يقرأ الشيعة دعاء زيارة الامام علي وفيه ما يؤكد هذه الاسطورة عبر القول: { السلام‌ عليك‌ يا مولاى‌ و على‌ ضجيعيك‌ آدم‌ و نوح‌ و رحمة‌ الله‌ و بركاته}. قبل أسابيع شاهدت عبر القناة الفضائية العراقية أحد البرامج التي دأب على اعدادها وتقديمها مدير القناة واستضاف فيها شرذمة من أدعياء الشعر والمسرح. أحد الشعراء المزعومين ادعى وهو يتكلم عن عظمة العراق انه يضم ملحمة جلجامش وحمورابي وسنحاريب وقبور آدم ونوح الخ. هل قرأ هذا الشاعر { أصل الانواع } و ملحمة جلجامش ؟ بالتأكيد انه لا يعرف دارون ولا يعرف اننا من سلالة قرود، كما انه لا يعرف أيضاً أن نوح هو { اوتونبشتم } في ملحمة جلجامش. تكمن مصيبتنا العظمى الآن في هذا الفهم السطحي للأمور وقلة المعرفة عند هذا الشاعر وأمثاله. يا ويلنا لو حصل هذا العبقري على وظيفة معلم تلاميذ في المدارس الابتدائية.


موت الحزب والشاعر والاشتراكية

{ كان ذلك في أواسط السبعينات، عندما كلفتني قيادة الحزب الشيوعي العراقي وهي تحتفل بالذكرى الاربعين لميلاد الحزب في 31 / 3 / 1974 لعمل حوار مع الشاعر عبد الوهاب البياتي، وكان يومذاك قد جاء بغداد من القاهرة، وفي الجو ثمة ملابسات حول ما اذا كان الشاعر عبد الوهاب ما يزال على علاقة بالحزب أم لا ؟ والعلاقة التي أعنيها هنا، هي هل يقبل أن يعطي حواراً في الذكرى الاربعين أم انه ما يزال يحتفظ بمسافة عن الحزب برغم انه { على الرغم من انه } لم يكن يوماً ضده منهجاً أو تفكيراً، وعندما وضعنا أوليات مثل هذا الفهم أمامنا ونحن نناقش الموضوع، كان الدكتور صفاء الحافظ والاستاذ عبد الرزاق الصافي والاستاذ فخري كريم زنكَنة والمرحوم شمران الياسري {أبو كاطع} مع اجراء الحوار، وهكذا كلّفت بوصفي أحد أصدقاء الشاعر بأن أجري معه حواراً مفتوحاً حول الشعر والثقافة والجبهة الوطنية والذكرى الاربعين، ودور المثقفين في العملية السياسية وآفاق الحياة الاشتراكية. كان الحزب الشيوعي علنياً في بغداد وفي المحافظات، وله جريدته { طريق الشعب } ومجلته { الثقافة الجديدة } والمقابلة كانت مخصصة للثقافة الجديدة }.
ياسين النصير: { مدن البياتي الآتية } مقال في كتاب { عبد الوهاب البياتي في مدن العشق }
المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1995 بيروت.


وصايا بوذا وزواج المتعة

{ لا تقض على حياة حيّ
لا تسرق ولا تغتصب
لا تكذب
لا تتناول مسكراً
لا تزنِ
لا تأكل طعاماً نضج في غير أوانه
لا ترقص ولا تحضر مرقصاً ولا حفل غناء
لا تتخذ طيباً
لا تقتنِ فراشاً وثيراً
لا تأخذ ذهباً ولا فضة }.
وندي التي تحفظ وصايا بوذا هذه، من تايلند، صديقتنا، آنّا وأنا. تعيش بالسويد منذ 9 سنوات. انفصلت عن زوجها السويدي وتعمل في تنظيف المستشفيات وتعيش وحدها في كوخ { ستوكَة } في غابة من أجل توفير المال لافتتاح كازينو أو مطعم في المستقبل. تزورنا ونزورها أحياناً. هي متدينة وملتزمة بوصايا بوذا وتحتفظ له كعادة الكثير من البوذيين التايلنديين بتمثال يجسده ضخماً على العكس من البوذيين في بورما والهند وبعض البلدان الفقيرة حيث يظهر بوذا بمظهر شخص ضعيف البنية. ربما لأنهم جياع ويعتقدون انه جائع مثلهم. ألم يشكّل البشر على مرّ العصور آلهتم على أشكالهم ؟ السيد المسيح في كمبوديا وفيتنام يظهر بعيون صغيرة ووجه مثل وجوه محبيه وعُبّاده في هذين البلدين. في يوم ما دعتنا وندي الى كوخها وقالت: { انني نذرت الى بوذا كيلو تفاح }. ذهبنا الى الكوخ وتحت لهب الشموع ورائحة البخور صلّت الى معبودها وقدمت لنا تقدمتها. أثناء تناولنا للنذر أخبرتنا وهي مهمومة أن حياتها التي تحياها الآن على الأرض هي السابعة والأخيرة ويتوجب عليها أن تحافظ على وصايا بوذا والصلوات اليه من أجل أن تدخل النيرفانا وإلاّ فأن مصيرها سيكون الجحيم. واسيناها وتمنينا لها حياة طيبة مريحة في الحياة وما بعد الموت. صديقي العراقي عبد الكريم سلمان الذي ملّ من حبيته السويدية الثرية والتي يعيش في بيتها منذ 4 سنوات وراح يغازل ويخابر صديقتها. تم طرده شرّ طردة من قبل حبيبته حين أخبرتها صديقتها انه لا يحبها وانه بدأ منذ مدة يعاكسها ويتودد اليها. الملعون في كل مرة التقيه يجعلني أشعر بالغيرة والحسد منه: { هل تعرف يا نصيف كم ثمن هذه البدلة ؟ هل تعرف كم ثمن حذائي هذا ؟ هل تعرف كم ثمن هذه الساعة الخ } أعرف طبعاً أن المرأة الثرية هي التي تشتري له هذه الأشياء وسواها. سلمان متدين ويحرص على اقامة الصلوات كل يوم في أوقاتها وحين أسأله: { كيف تسمح لنفسك أن تعيش مع هذه المرأة خارج طقس الزواج وأنت مسلم متدين ؟} لا يجيب. انه راض طالما انها طيبة معه وجميلة وثرية. بعد طرده ظل أكثر من 4 سنوات يبحث عن امرأة فلا يجدها. في يوم ما وأنا ووندي وآنّا في بيتنا نشاهد فيلم العرّاب بأجزائه الثلاثة طرق سلمان الباب. استقبلناه بهلا ومرحبا. لغته السويدية لا بأس بها ويستطيع قراءة الترجمة لكنه لا يعرف أيّ شيْ عن ماريو بوزو ولا عن فرانسيس فورد كوبولا أو مارلون براندو وآل باشينو. شرب القهوة ودخّن في الشرفة وبدأ يضجر من مشاهدة الفيلم الطويل. دعاني الى الشرفة وقال لي: { هاي شنو المرأة اللي عندكم ؟}. { صديقتنا } قلت له. { هل هي متزوجة أو مطلقة أو عندها صديق ؟} { لا } أجبته. انفتحت أساريره وقندل وصندل وركب بعيره. { هل تستطيع أن تعرّفني عليها. لك بشرفي قتلتني العادة السرية }. { بس هي بوذية متدينة وأنت مسلم }. { سأحاول أن أقنعها ونتزوج زواج متعة } قال لي البغل بثقة. { لماذا تعتقد انها توافق على اقتراحك ؟}. لم أفلح في اقناعه طوال أيام وأمام الحاحه وكثرة اتصالاته المزعجة في الليل والنهار طردته وقطعت علاقتي به.


طائر البلشون

طائر البلشون يجرح نفسه عند الظهيرة. محاطٌ في التحننات والعطور التي بعثرها الزمن. طائر البلشون ملك المغامرين في حلبة أعياد العالم. يراقبكم في ظهيرته التي لا تنتهي. لماذا تنسخق الكلمة على اللاهوت ؟ طائر البلشون يتكىء على جرحه. أنهار كلمته تضيء تحت أرض الليل.
سنبلة الرأس
قلعة الضوء
وسطوع الحشرة
رموز للعزلة الداخلية.
يد التمثال المشققة التي يبللها في الينابيع
يد وديعة تكتظ بخرائب نجوم أخرى.
تتألق التجديفات مع اللذة المولودة في العزلة.
طائر البلشون وقصيدته يتنفسان الهواء الطلق في غابة الرموز.
القنديل على ضوئه
حصان يحمحم عند نبع.


غيوم كثيفة

العشب فوق السفوح، مرايا ضخمة تعكس جمال الهاوية. شمس الجسد. شمس عذراء تلتحم مع الثلج في شوقها لعناق الليل. هذه سماء تتشقق في صعودها النابوليوني. سماء غيوم مشققة. المنفى قصيدة تقاد عبر التخوم الغريبة. ظلال فوقية. ظلال التعارضات التي تهدم التعارضات.
العقائد مصائد.
الظلال العاطفية للماضي تجمد ظهورنا المحدودبة والمعضوضة من قبل الحاضر.
ثآليل. كدمات. يرقات تئن في سجون أرواحنا.
نظراتنا تتقلص من شدّة الرصد. تنسحب مهزومة الى الداخل.
النهارات سود وتبتسم كالدم.
هل الشمس اليابينة تشبه الشمس الصينية؟
متى تعفى الذبيحة من الذبح؟
نندب المعصية
نندب الغفران.
رواد الفضاء الأوغاد حطموا أحلامنا في الوصول الى جنة ما.

حسب الشيخ جعفر 1

حسب الشيخ جعفر المولود في مدينة { العمارة } عند ناحية هور { السلام } عام 1942. كان مكلفاً بنقل البريد الحزبي الى الحزب الشيوعي في سن ال 16 سنة وكان ينقله في ياقة قميصه من العمارة الى بغداد ويسلمه الى صالح دكله في مقهى بساحة {السباع} { هل كان أخيه الأكبر د صاحب أبو جناح شيوعياً قبله ؟}. كانت الكتب الممنوعة والأدبيات الثورية التي يقرأها، يخفيها بين طيّات نخلة في دار العائلة { مجموعته الأولى عنوانها نخلة الله }. عام 1960 يرشحه الحزب الشيوعي العراقي في بعثة دراسية الى موسكو {معهد غوركي للآداب} وهو بعمر ال 18 سنة حيث سينال شهادة الماجستير في الآداب بعد 5 سنوات في الأدب الروسي. عند انهاء دراسته وعودته الى بغداد، سيحاول تغيير هيئته بسبب ملاحقات النظام العارفي له وللشيوعيين { لحية طويلة. سروال جينز. نظارة سوداء } كما يقول د خالد السلطاني في مقال له منشور بموقع { الحوار المتمدن }. بعد سنوات من الاستقرار ببغداد والبطالة سيجد لنفسه وظيفة { مترجم } في السفارة الروسية ببغداد. يذكر فاضل العزاوي في كتابه { الروح الحيّة } أن حسب العائد للتو من موسكو. طرق باب شقته في مطلع العام 1966. سكن معه وغادر الشقة بعد اسبوع بحجة انها تخلو من ورق التواليت. حسب سيستأجر شقة مع حميد سعيد الذي كان يواصل دراسته في الجامعة المستنصرية. في أعقاب انقلاب عام 1968 الذي قاده حزب البعث وفي ما أسموه { 30 تموز } الذي تم فيه الانقلاب على رئيس الوزراء عبد الرزاق النايف وعلى ابراهيم الداوود. عاد حسب في أواخر الليل في ذلك اليوم من حانة الى الشقة، لكنه فوجىء بمجموعة من المدنيين المسلحين الذين كانوا يملأون الشقة وطلبوا منه الصمت والنوم. هذه المجموعة كان يقودها صباح ميرزا الذي أصبح فيما بعد المرافق الشخصي لصدام. بعد سنوات سيعرف حسب من خلال حميد سعيد أن هؤلاء وغيرهم كانت لديهم أوامر حزبية في الانتشار بعدة مناطق من بغداد لغرض انجاح الانقلاب الذي تم فيه ابعاد رئيس الوزراء خارج العراق.

الفردوس في نهدي الشجرة

نريد من اللامكان مساحة مزروعة بالبياض
نريد من الماوراء. من اللاشيء، الديمومة التي تتمدد في الفضاء الرحب.
في مرايا الأموات
في مرايا الكوارث. تصعد أشجارنا ملطخة في ذرقها اليابس.
هنا تماثيل حيوانات تغني على قمم الفجر
تماثيل غاليلو وانعكاس مرآته الخضراء.
تماثيل الشاعر التي تحملق في قرونها وتأسر الفراغ.
الفردوس في نهدي الشجرة.
أين ولّت ابتهالاتنا في المعبد ذي السلالم الضوئية ؟
كلمات تناسلية تنفصل عن مياه الأنهار وتصعد الى الأعلى
الى منارات الصيف. كلمات الصاعقة والجذور الجائعة والنهمة للشمس.
هذا هو بيت الكائن وصمته المرفوع فوق المرايا.
صمت الطير المعلق بين الأرض والسماء
صمت الليل الذي يتمرد في اللهب
صمت يتماثل للشفاء ويمطر على الكهوف
صمت الماوراء
صمت المسالك المهجورة التي تواري الشمس
صمت الموت الذي بلا عمر.
خشخشات
وخطوط منحوتة في اليد من أجل البياض وعصائره المتشابهة دائماً.
قبور تولد في الظل.
زمن مستعاد
زمن غيوم مقذوفة على الأرض الخربة.



حسب الشيخ جعفر 2

في الشهور الأولى لوصول حسب الى عمَان من عام 1996، تلقى دعوة من جهة ثقافية في دولة الامارات العربية عبر الشاعر أحمد راشد ثاني وكان قلقاً بسبب ضيق الوقت والاجراءات التافهة التي تتعلق بدخول العراقيين. ذهبنا الى غاليري الفينيق وتولى الشاعر علي الشلاه مهمة مخاطبة تلك الجهة الثقافية عبر الفاكس. أجابوه أن تذكرة الطائرة والفيزا وبطاقة الدعوة ستكون جاهزة خلال أيام قليلة. حسب لم يصدق وشعر بالخوف واعتبر أن التعامل عبر الفاكس ربما يكون ممنوعاً. أخبره علي أن الفاكس غير ممنوع في الأردن وانهم بصدد شراء جهاز كومبيوتر ووالخ. في أبو ظبي بعد تقديمه قراءات شعرية ستتم دعوته الى جلسة خاصة يقيمها المطرب أبو بكر سالم ويحضرها الرئيس اليمني المخلوع علي ناصر محمد وفخري كريم وهو. صاحب الدعوة الثري سيجلب فتيات راقصات وما بين الطرب والشراب { توهمت انني في ليلة أنس من ليال العهد العباسي. السقاة والجواري والطرب } قال لي بعد عودته. في اليوم التالي لهذه الحفلة ذهبوا الى البحر وأحضروا له ملابس السباحة وفاتهم أنه عندما يكون معي بالبيت لا يخلع بيجامته أو بنطاله إلاّ اذا اختفيت في المطبخ أو الحمام. وهذه الحالة نعرفها نحن الذين عشنا معه. لم يسبح حسب في البحر معهم قط.


المنفى

شواطىء ونافورات نجوم لا ترى إلاّ باللمس.
بوابات كبيرة من الفضة مرفوعة بين الليل والنهار.
لماذا تعبد الماضي وتبكي عليه؟
المنفى يخترع الأضواء وأعياد المستقبل الذي يتكىء على نفسه في صفاء الفجر.
المنفى يفتح أمامك طرقه اللامتناهية والنوافذ المجهولة للغتك التي تكاد تنقرض.
المرايا العميقة التي تصالح المنفيين. تصطف بانتظارك عارضة نيرانها الساهرة
بكتاباتها حائلة اللون لتدلك على الساعات اللازمنية.على الجوهر المحروس
الذي يصارع داخل نفسه من أجل الشعلة الأسيرة، حيث يتسلل النهار ويرفع
الغيوم من حدائقها النائمة.
المنفى وقت البحر وأرضه المتحركة حيث لا ظل أسود ولا صدأ.
وقت الصقور التي تتضرع لذهب الصيف.
وقت الميت الذي يرفع بيت الثعلب.
وقت اخوة العظم وهو يلمع بين أذرع العشب للسنة المكسوة بصفرة الشمس.
هل هذه أشجار حياتك، تأكلها العفونة، أم عظام منقوشة في أروقة الهاوية ؟
تسلحت بالتعب. التعب الذي ينفتح فوق شفتيك.
فراشاتك التي بلا ريش تطير لا في الحدائق المليئة بالقناديل.
تطير في الرماد الذي يضيئك، ورسائلك المتحمسة للهواء تنقصها النجمة المستريحة فوق حافة الظلام.
يا تلميذ الألم
أنت نفسك
يا ابن التراب وأغنيته الشجية
يا ابن رمادع
وابن لوعته.
المنفى سماء عظيمة من الهواء الحرّ يربض فوق انعكاساتها اللامرئية
الليل بكل أحجاره وضفافه الفسفورية.
مدن / أمهات، تلمع كما لمعان عقيق في الحماد الغريب.
أعشاش طواويس في أشجار لغات.
لا الحروب
لا الخشخشات
لا ليل الجروح
لا الندبات
لا منعطفات الثلوج العابثة في داخلها الأسلحة المحطمة
لا القتلى في أقنعتهم التي من زبد متجمد.
مياه نجوم خضر على الصلصال.
أزمان ظلال تختفي خلف معناها
ودائماً نفس الشفاه الممسوكة بالأرجوان.
لماذا لا ننثر بذور الشمس على الأرض كلها ؟
لماذا لا نعلق القناديل فوق ليل الشاعر ؟
الوطن أصغر من حبة قمح والمنفى ينفتخ على طرق المرتفعات اللامتناهية.
أرض ضروع تضمّد جروحك وتستقبل أحلامك
وتحنو عليك مثل نهر أشدّ حنوّاً من صاعقة.



السيدة الشفيعة


• للحب صورة اخرى قد تختلف عن صور مجايليك من الشعراء بماذا تبرر ذلك..؟

ربما لعلني عاشقاً طوال حياتي وقد أضفيت قيمة زائفة على المرأة التي أحببتها من خلال الشعر وحوّلتها الى رمز لكي أحتفظ في الجوهر المثالي للحب. للحب كما هو معلوم طاقة عظيمة في الشعر وهو أحد الموضوعات الكبرى طوال التاريخ وفي سعينا الدائم الى امتلاك المحبوب، نعرف اننا مرضى وأنا أعتبر نفسي من مرضى الوجود. حاول الكثير من شعراء الثمانينيات تقديم قصيدة حبّ لكنهم فشلوا ولا نتذكر الآن أيّ قصيدة حبّ لشاعر منهم والسبب يعود الى انهم كتبوا قصائد حبهم وفق التقليد والذاكرة الجمعية للشعر العربي والتجارب التي سبقتهم. امتزج حبي دائماً في الموت والتحولات الكبيرة في الزمن ولذلك بدت قصيدتي وكأنها محاولة للخروج من نفق الموت / الزمن، وعلى الرغم من امتلاكي لنساء كثيرات في حياتي وآخرهن اوروبية شقراء تعيش معي منذ 8 سنوات، لكن صورة تلك الفتاة السمراء التي أدعوها السيدة { الشفيعة انخيدوانا } ظلت عالقة في ضميري طوال حياتي. نعم انها تجربة عاثرة وحب من طرف واحد ويبدو انني أحبّ الحبّ وليس امرأة واقعية من لحم ودم. يكمن عزائي الآن في العيش بالجوهر الحقيقي للحبّ عبر معايشتي له في الأحلام والأشواق والذكرى الحارة لصورة المحبوب وأنا أتكبد الخسائر الكبيرة في ناره ورماده. وفي سعيي للخلاص من هذه النار وهذه المتاهة اكتشفت انني لم أقطع علاقتي مع فتاتي هذه وظل تواصلي الحميم معها يتم عبر اللقاءات العابرة والرسائل الدائمة والمحبة التي تستعر جذوتها عبر كل لقاء وكل همسة أو لمسة. حبي هذا كان وما زال أحد الينابيع الشعرية في حياتي ولولاه لكنت قد تحجرتُ أو انتحرت.


غجري

تحت ظلال أشجار البنايات المثمرة طوال العام
عيناك تدمعان في وهج الظهيرة وحبيبتك تغني في غرفة المحررين
هي في الأحجار المبعثرة من حولك
وهي في الظلام
وهي في السواد الذي يلفك
أنت الغجري الذي لا تعرف شيئاً عن شجرة نسبك ولا الألقاب الفخمة
ستهجر الأرض الخادعة والمرأة الخادعة
ستحفر تراباً بلون الذهب
وتشم عطوراً بلون الشعلة
تعرفك الجبال والثكنات والأرصفة
ويعرفك الجياع العزّل الذين يحيون بلا مستقبل
لأن المتسلقين كانوا يحتشدون تحت السلالم
كنت تحلم أن تكون حرّاً وطليقاً لتنام في بيت أو على مصطبة في
ساحة { النصر } مع جان دمّو.
كانوا يودون لو تقتل فوق جبل { كردمند } بينما هم يأخذون
رغيفك الحار أو يتفيأون تحت ظلال موتك الباردة
لأنك لم تبحث يوماً عن المجد في الرمال ولا عن الطحالب في المستنقعات
ولا عن العطايا القذرة التي يحصل عليها المتسلقون بينما العفن يأكل أرواحهم.
ها أنت في {قصروك} تنام في مخفر وتحلم بتجوالات طويلة مع انخيدوانا
وها أنت في { أربيل } تسكر في فندق { نركّز }
وها أنت في { بعشيقة } تقود فصيل استطلاع عبر غابة زيتون
وها أنت في { ديكَه له } جالساً تحت ليل مقبرة تكتب رسالة الى صديق
-: { ما الذي تفعله بنا النساء يا صديقي ؟ لسنا خنازير ولا لصوصاً
ولا تجّاراً ولا ضبّاطاً وسقف بيتنا ليس من خشب الدولة }
وها أنت في بغداد مع شاعرة تراها جميلة وهي قبيحة
وتتسكع مع كاظم النصّار في { الوزيرية } و { الباب الشرقي }
الجيوب فارغة إلاّ من قصائد لا تنشر والعيون تدمع من شدّة الجوع
تفكران في السرقة وتحلمان بالخبز والنبيذ والسفر.
{ عبثاً تحاول الاستراحة. عندما تملك الوقت، تملك الحرية }.
ها أنت في {الرفاعي} لدى قاضي التحقيق وكمجرم يضعونك رهن التحقيق
تفكر في امرأة تغني في غرفة المحررين:
{ يا أم الرحمة
هل هذه نهاية شفاعتك؟
هل يتوجب عليّ أن أموت وأنا في ذروة المأساة؟
لستِ جميلة يا شفيعتي
لستِ جميلة
والعاشق الأكثر روعة هو الشفيع
هكذا كنت تقول لنفسك وأنت تتمزق
أنت الذي تلاحقك الأحقاد
أحقاد الطحالب ويحاولون تهميشك ويطرودنك من جنتهم العفنة
لأنك كنت عاشقاً وأخفيت عنهم.
سلام على ليالي السجون العادلة
على التقززات
والتنكيلات
سلام على النهارات السود والسفوح.
أنت الآن في شارع { الرشيد } تضمّد جروحك التي تلتئم ولا تلتئم
تحت ظلال أشجار البنايات القديمة المثمرة طوال العام
وتتأمل بذعر رجال الشرطة في المنعطفات
واذا كنت في بار { شريف وحدّاد } فانك تكون سعيداً
وعلى الطاولة زجاجات بيرة وليمونة جافة.
أنت مذعور، ترى نفسك مشنوقاً على أيّ شيء
وتسير عقارب ساعة { القشلة } سيراً عكسياً
وأنت تعد أعوامك التي تذبل بسرعة
{لقد قمت برحلات ومررت بتجارب
مفرحة ومؤلمة
قبل أن تلاحظ الخداع والتقدم في السن.
غداً تصبح المروءات صخراً
والزمن نسمة تهب نائمة على الغصون }
لهذا لم تقرف من الشاعر الذي كتب اسم حبيبته على زنده
وارتدى أسمالاً بالية في الهجوم على { سيدكان } ليلة 9 / 9 / 1985
في تلك الليلة كانت الأرض حمقاء والسماء سافلة.
شاهدت أحشاء الزهور ولا تريد نسيان طبعات غدرها
هي الشفيعة والجريمة المنقسمة كشجرة صبّار
حين تفتح فمها وتتحدث. تسمع الأكاذيب في العشب.
وجهها السخام
وجهها حشرة
كانت شفاعاتها فحماً راسخاً كشعلة الخديعة
كنت تتمزق في عزلتك وهي تتعهر مع أشباه رجال
كنت كنار تطاردها الأنهار ولم تقرف من الذين يجرعون ماء البغاء
والعجائز ذوي النظرة الخضراء الذين يعشقون الغلمان ويحرقون
شفاههم في الصمت
بل سخطت عليهم وقلت { نعم يا مخنثي الشفيعة
ذوي اللحم الورم
والعقول القذرة.
مجاري الوحل
أيها الأعداء الساهرون }.
تحت ظلال أشجار البنايات المثمرة طوال العام
تألمت في الحب في العشرين والثلاثين من عمرك
ولقد عشت كمجنون وأضعت أيامك
انك تنظر وعيناك تسكبان الدمع الى هؤلاء الأكراد المهجرين
انهم يعشقون فضاءاتهم وتراب حقولهم والنساء يرضعن أطفالاً
انهم يملأون بعطورهم ومواشيهم سماء { ديبه كَه } ويأملون أن يجمعوا
مالاً في { دشت حرير }.
انك تجلس مفلساً في بار قديم بحي { آزادي } تحتسي الخمر مع العمّال
{ الخمر يزيل الرائحة. رائحة الفقر، والنقود لا رائحة لها }
وفي الليل عندما تعود الى الثكنة وتسرق النقود من حقائب العرفاء وتكون
في مطعم كبير.
تفكر في شاعرة تراها جميلة وهي قبيحة:
{ أرغب أن أموت وأنت ما زلت تحبني
وأنت تراني جميلة }.
كانت تقول لك ذلك قبل أن تهجرك.
أن يديها اللتين لم أرهما قاسيتان ومشققتان
أشعر الآن بالعطف الذي لا حدّ له لشحوب وجهها وهزالها.
تلك كانت أيام سرورك
أيام حزنها وترملها.
انك عريان والبرد قادم
وأنت تفترش هذه الأرصفة المهدمة
كما تفترش حياتك.


صعاليك 2

تطالعنا بين آونة وأخرى كتابات صحفية سريعة شأنها شأن الثقافة العراقية في الداخل، لصحفيين هواة وبعض الكتَاب تتحدث عن الصعلكة والصعاليك من دون تمييز بين من اختاروا الصعلكة اختياراً واعياً كموقف من العالم والمجتمع والسلطة والعائلة، وبين بعض الناس اللطفاء ممن ابتلوا بالادمان المفرط في احتساء الكحول. ويعتقد أغلب أصحاب هذه الكتابات انهم في عملهم هذا يحققون فتحاً أو يكشفون
عن طرافة عبر التحدث عن بؤس وفقر ونبل الصعلوك، لكن الحقيقة المرّة هي انهم يقدمون اساءة بالغة لمفهوم وشرف الصعلكة الذي نعرفه، وللتمييز بين الصعلوك وبين الكحولي أود القول أن الأول ينتج ابداعه دائماً ويكرس له حياة كاملة ويتصف بطباع وشخصية لطيفة ومرحة، تمتزج أحياناً بفذلكات سوريالية محببة يفتقدها أولئك الذين يحيطون به والذين يهربون من دفء بيوتهم وصرخات زوجاتهم وأولادهم ومحيطعم الاجتماعي المعادي للحرية التي يحملها الصعلوك. بغض النظر عن حبه للكحول وعدم وجود وظيفة رسمية ثابتة له في مؤوسسة ما تمنحه الراتب الوظيفي ومعيشته شبه الدائمة على عطايا الأصدقاء و الجوقة التي تحيط به أينما حلّ وارتحل، أمّا الكحولي فهو ذلك الانسان الذي أصيب بمرض الادمان ولا يستطيع التخلص منه إلاّ بخضوعه لأشراف وعناية طبية في مراكز معالجة الادمان، ومعلوم أن الانسان الكحولي ينسلخ بمرور الأيام عن محيطه العائلي والاجتماعي ويعيش على الهامش من خلال نمط حياته الذي يؤدي به الى أناس هم على شاكلته تماماً. حسب المعلومات الطبية لدى أهل الاختصاص، أن السكّير. المدمن. الكحولي. العرقجي. يصاب بجين يسبب الادمان ونسبة الذين يصابون بهذا الجين تتراوح بين 12% و15 %، والكحولي هو الوحيد الذي يستطيع أن يحتسي الكحول بمفرده، أما الانسان غير الكحولي فلا يستطيع الشراب وحده سواء كان في البيت أو في غابة أو في أي مكان آخر. يعيش الصعلوك في البيت أو في الفندق اذا كان قادماً الى بغداد من محافظة أخرى ويقضي جلّ أوقاته مع الناس العاديين والأصدقاء في المقهى أو المكتبة ويذهب الى السينما والمسرح، ويرتاد الحانة في أوقات معينة لأن جسمه غير مشبّع بالكحول وجهازه العصبي هادئ تماماً، وأفضل الأوقات عنده تكون المساءات والليل. النقود ليست مهمة بالنسبة للصعلوك اذا أراد الكتب أو الشراب أو الطعام أو الملابس أو بقية الأشياء الأخرى طالما انه ينتج ابداعه ويحيا حياته حسب الأنماط التي اختارها هو. تأتي النقود بسهولة من المحيطين به. لا يستجدي الصعلوك أحداً وحين يكون عنده المال يوزعه ولا يحتفظ به أبداً مهما كان حجمه وشكله ولونه. لا مال للصعلوك إلاّ عطور وورود الصداقة والصحبة الكريمة، أمّا الكحولي العاطل عن الفعل والمريض والعصبي والشتّام، فيكون وجوده في مكان ما نكبة وحالة بائسة، اذ يتوجب على المرء عدا منحه النقود بشكل يومي ومستمر، أن ينصت لشتائمه وثرثرته غير المجدية وشكواه المستمرة وبكائه واساءاته البالغة للمكان والحضور.
في الثمانينات كان الوسط الثقافي الموبوء ببغداد قد أطلق تسمية مربع الصعلكة علينا أنا وجان دمو وحسن النواب وكزار حنتوش لا لشيء سوى اننا كانت تجمعنا ظروف معينة غير طبيعية في تفكيرنا وطيبتنا ونمط حيواتنا ورؤيتنا للعالم والمجتمع والأشياء. جان دمو من كركوك ويعيش في بغداد بفنادق رخيصة أو مع أصدقاء ولايأبه بأية وظيفة أو عمل، يكتب الشعر ويترجم عن الانكليزية في فترات متباعدة جداً، القي القبض عليه في أوائل الثمانينات من قبل عناصر الجيش الشعبي وتم سوقه الى أحد القواطع في جبهة الحرب. كنا قد افتقدناه كثيراً لكنه عاد بعد شهور بعافية عالية وقال: { لقد أشبعوني الدجاج واللحم وكانت عندي قريولة وفراش وأنام بالمجان. خوات القحبة القاذورات دمروني بالتدريب بس ما تعلمت شلون أرمي بالبندقية القحبة } , كزار حنتوش خريج معهد الهندسة العالي، يأتي الى بغداد مرة أو مرتين في كل شهر من أجل استلام مكافآت قصائده ولقاء الأصدقاء والتصعلك في الحانات وشراء الكتب. تم سوقه الى الخدمة العسكرية الالزامية جندي احتياط لمدة سنتين في أحدى جبهات الحرب. هرب في الشهر السادس وسيق الى محكمة عسكرية قضت بسجنه فترة معينة، حين تم تسريحه بعد أن أمضى سنتين في جبهة الحرب وذهب الى تجنيد الديوانية لاكمال معاملة تسريحه، قال له ضابط التجنيد: { يا بعير ابن بعير لبّسك احتياط ووداك للجبهة ؟ ليش أنت حمار ما تدري أنت مشمول بأمر الريس ؟. الخريج من معهد الهندسة العالي والمهندس ما تروح مواليده للحرب ولا مشمول بالخدمة } أمّا حسن النواب سائق الدبّابة في أحدى جبهات القتال والذي كان دائم الهروبات من الخدمة العسكرية ويقضي أكثر أيامه ببغداد بعيداً عن بيت أهله في كربلاء خوفاً من القاء القبض عليه من قبل المفارز الأمنية والجيش الشعبي، فقد كان مثلي يتسكع بنماذج اجازة مزورة ويتجنب المرور بالمناطق والساحات المزدحمة وكان يذهب الى الحانة والى نادي اتحاد الأدباء سيراً على الاقدام حتى لا توقفه سيطرة استخبارات أو انضباط عسكري أو جيش شعبي. في تلك الفترة التي أتحدث عنها لم يكن بيننا من هو كحولي. كنّا نشرب في الليل فقط وأحياناً نذهب الى حانة ونشرب البيرة هروباً من الطقس الحار في الصيف بعد أن نمضي ساعات طويلة في جو مقهى حسن عجمي الخانق بفعل الثرثرة المعتادة ودخان النرجيلات وصياح الرواد وهم خليط لا متجانس من العاطلين والمحامين والمتقاعدين والبقالين والرسامين والتجار والشعراء والكتّاب والطلبة والجنود.


محني الظهر تحت أوامركم

أريد أن أقول انني لا أتذكر شيئاً عن { صحيفتي العسكرية } إلاّ أيام الغياب والهروبات والعقوبات.
هنا يتمشى رجلان تحت مظلة متهرئة. أيديهما فارغة وهما يستعطفان. الرجلان اللذان نراهما الى جانب تمثال الرصافي عام 1987 كانون الأول كانا مسلحين ويحلمان بالقاء القبض عليّ.
على أيّ وجه سنقذف بالبصاق؟
على أيّ قبر سنكتب أسماء القتلى؟
انها لنا هذه الأشجار العالية اليابسة من أجل التوابيت واحراق الأكاذيب.
والآن – انتهت الحروب وها أنا { عاري الرأس. أنزع عن قدمي مشبك دراجتي باحترام وحرج } *
عندما أدخن سيكارة، أضع عقبها في المنفضة
أنا رجل متمدن رقيق ودمث الأخلاق
في اجازتي الدورية أذهب لزيارة أقربائي وأصدقائي ولا أحقد على أحد
وشأن كافة المواطنين الصالحين، أسدل الستائر حال سماع صفّارة الانذار
لم أفعل شيئاً يستحق اقامة نصب لي
هربت من الخدمة العسكرية مرات عديدة
واختبأت في أمكنة سرية كئيبة
حوكمت وسجنت
واعتبرت جرائمي مخلة بالشرف
والآن أنا عاطل عن العمل
لا أملك غرفة ولا غيمة ولا حذاء
ولا ثمن وجبة طعام.
حياتي هامشية.
علّمتني صحيفة { القادسية } أن أحب الوطن وأموت من أجل ترابه
مع انني لا املك ذرة تراب واحدة
وحفظت الحديث الشريف { أرواح الشهداء تعلق في حواصل طيور خضر من طيور الجنة }
ولكي تكتسب ثقافة عالية وتنجح في الحياة عليك أن تقرأ كل شهر مجلة وزارة الدفاع { حرّاس
الوطن }، باستثناء بعض الأكاذيب الصغيرة.
حتى الآن – لا اعرف وزن بندقيتي.
في الليل { أجلس في شرفة الفندق وحيداً
القمر الجميل يلمع في مقدمة حذائي
أجلد عضوي الجنسي
وعلى وجهي
أكتب كركدن }
ليست لي عشيقة
ولا أملك النقود لكي أذهب الى المبغى وشكله الشبيه بثكنة
أحياناً أقف ساعات في الطابور
لو اصبت بالاكزيما
بالبثور
بأيّ مرض جلدي
هناك أنواع المراهم
لقد عشت حياتي كما أنا
الجميع يمكنهم سحب كلماتهم
لا أقبل شروط أحد
يتحتم عليّ أن اعبر الحشود المكتظة
عبر أسراب الذباب
عبر كل الذين عرفتهم واحداً واحداً.
ها أنا الآن – غطيت نفسي بنفايات الفشل
وعلى الرغم من انني أحيا مستقيماً فالمرارة ما زالت تحكم حياتي
أن تكنس العالم من هذه النفايات
فأنت بحاجة الى كاسحة نفايات.
خلف هذا العالم وخزائنه
هناك نفسي الجائعة
في أمعائي اجترار اللاشيء
وفي رئتي عار الذين لا يملكون شيئاً
مغطى بالهامش.
محني الظهر تحت أوامركم.


* فيليب لاركن


العمود الطوطمي

تظللُ الرايات والمشاعل في ليل العراق قبر السيّاب
ولا تظلل قبور الشعراء الآخرين .
أنحتُ اسمي في صارية العمود الطوطمي وأنتسب الى القبيلة
تاركاً خلفي ميراث بلادي ومهاترات أحزابها الجليلة .
بعد رحلة طويلة تحت الأهداب المصّفرة للرعود والزلازل
بحثتُ عن النور العظيم في { انشودة المطر }
في { أسمال الملوك }
في لحاء شجرة الكستناء
في برق الياقوت .
ينبغي أن نصغي الى صمت البراكين في قلب الشاعر
الى تعثر الأنهار وتعرجاتها في جبينه
الى نبض الصخرة
على امتداد القانون الذين يزن رماد أسلافنا وعباداتهم المستريحة .
جان دمو ، تقدمتنا الأخيرة
عروق ذهبنا القاسية المنحدرة من أعماق انقساماتنا المتصدعة بين النور
والظلمة ، والقبلة والمخلب .





عبد القادر الجنابي


سليمان الحكيم
يقاسم آلن غينسبرغ
الحب والجنون
والأحلام
والخمر
والخبز
والمرض
في العلية التي دمرتها القذائف .



توجع كلب

1

{ ومن الملاحظ أن كل مدينة يكثر فيها رجال الدين . ينتشر فيها أيضاً ازدواج الشخصية على درجة كبيرة . ذلك لأن الانسان في هذا المجتمع مضطر أن يكون دينياً في ناحية من حياته ودنيوياً في ناحية أخرى . ورجل الدين عادة يحترف بث التعاليم الدينية ، فهو يبثها قولاً ويقبض على ذلك أجراً ، ولكن هذا الأجر يدفعه في الغالب أناس بعيدون عن تعاليم الدين في أعمالهم . ورجل الدين يضطر أن يجاري هؤلاء فعلاً ويناقضهم قولاً ، وكثيراً ما يقع في مآزق حرجة للغاية نتيجة هذا التناقض .

2

كثيراً ما يحارب الناس بعضهم بعضاً ، ويعتدي بعضهم على بعض وهم مرتاحو الضمير . كأن ما قامو به من ظلم تجاه غيرهم ليس إلاّ جهاداً في سبيل الله أو تأييداً لجانب الحق كما يدّعون . وكثيراً ما نرى شخصاً شديد الأذى لغيره . سفّاكاً معتدياً على الناس ، من غير أن يشعر بشيء من وخز الضمير في كثير من الأحيان ، بينما هو في أحيان أخرى . يشعر بالألم الممض ويتقلب على فراشه اذا سمع توجع كلب أو أنين مريض } .

د علي الوردة { شخصية الفردج العراقي }


تجليات عشتار

الإلهة الكلدانية عشتار التي ظهرت أولاً في وادي الرافدين . كان مركز عبادتها الأصلي في مدينة الوركاء . هي الإلهة الأم مانحة الحياة و{ إلهة الحب وسلطانة الظفر وإلهة التناسل . في وظيفتها الأولى كانوا يرسمونها راكبة أسداً أو ثوراً ورأسها مكلل بتاج مرصع بنجوم . رمزها هو النجمة الثمانية التي تشير الى كوكب الزهرة ألمع الكواكب } . عبدها شعب سومر وأسماها انانا وعبدها العرب وأسموها عثتر . الزهرة . نجمة الصبح . الكنعانيون عبدوها وأسموها عشتروت وعند الاغريق تجلت الزهرة . فينوس العذراء التي ظهرت فوق أمواج بحر ايجة . هل كانت بكارتها اكذوبة ؟ هي { بهجة البشر والآلهة التي أسكرت آسيا منذ قرون } . في الأساطير الشيعية ستتجلى بشكل جديد وتتغير وظيفتها الأصلية من إلهة للحب والظفر والتناسل الى إلهة للأحزان والبكاء والفقدان . انها الآن فاطمة البتول ابنة النبي محمد . زينب العقيلة ابنة الامام علي من فاطمة . يضفي عليها الحزن الشيعي مسحة من المأساة ويطوّع اسطورتها ووظيفتها الجديدة لتتلائم مع مذبحة كربلاء حيث شهدت مصارع أهلها .


كزار حنتوش
{ عن لوركا }

أيها الصعلوك
أحبك كأسد جائع
أنت آكل اللحوم
أنا الغجري ، ناقر الدف
عاشت أيامنا بين البارات والمعسكرات .
أنتَ أشقر كعنترة بن شدّاد
شَعرك من شجرة ليف
وقلبك خوخة
أيها الصعلوك
أحبك كأسد جائع .



اختراع البعثي

في فلكلورنا السياسي الحديث تبرز في المنافي التي يتواجد فيها أعضاء الحزب الشيوعي العراقي . فكرة اختراع البعثي . لا يستطيع الشخص الشيوعي النضال والكفاح وممارسة دوره الثوري في هذه المنافي إلاّ اذا كان يعيش في مدينته البعثي ، واذا لم يكن هناك بعثياً واحداً فيتوجب على الشيوعي اختراعه عبر اتهام هذا الشخص أو وذاك بانه كان بعثياً أو أن هذا الشخص يؤمن بفكر البعث . كل لاجىء عراقي في مدينة ما ليس شيوعياً فهو بعثي . الفكرة غريبة وهي من أمراضنا السوريالية في كل منافي العالم . ذات مرة ذهبت برفقة أصدقاء الى مرقص تركي في مدينة مالمو وكان معنا أحد الأصدقاء الشيوعيين . حين جلسنا على الطاولة . راح يمعن النظر في شخصين يجلسان على طاولة مقابلة لنا . { نصيف . هؤلاء بعثية بشرفي } همس في اذني . نظرتُ اليهما .وجهان سمراوان ويرتديان ملابس تشبه ملابسنا .{ كيف عرفت انهما بعثية ؟ } قلت له { من شواربهم } طبعاً أعرف هذه الاسطورة التي يؤمن فيها صديقي ولكي أهدىء من روعه وأطرد البعبع الذي يصرخ في أعماقه . ذهبت اليهما وحييتهما : { السلام عليكم } { وأليكم السلام } أجابا . { اعتقدت انهما بعثيين } قال لي صديقي الشيوعي حين أخبرته انهما أفغاناً وليس بعثية .



حرق الشيب

قرأت رواية لكاتب ياباني يتحدث فيها عن البطل الذي ينتف الشعيرات البيض في حاجبيه وصدره ويديه من أجل أن يظل شاباً على الدوام . الكاتب يعرف اللعبة . أن نتف كل شعرة بيضاء يدمر البصيلات وبالتالي تزداد الشعرات البيض في الموضع المنتوف . منذ سنوات ابتكرت حيلة للتخلص من الشعرات البيض التي تظهر في يديّ وساقيّ وصدري حتى أظل شاباً على الدوام . الحرق بالنار . شعر رأسي أصبغه في الشهر مرة واحدة .



Nacke bad

ذهبتُ مع آنّا الى شاطىء البحر مجبراً . هي تريدني أن أتعلم السباحة . أحضرت لي زعانف مطاطية شبيهة بتلك التي يلبسها الغطاسون في غطسهم وقطعة فلين كبيرة . غرقتُ وطلع الماء حتى من طيزي . لم تنفع معي الزعانف ولا قطعة الفلين . مرات كثيرة حاولت التعلم فيها السباحة لكنني فشلتُ . ظلت آنّا تسبح وحدها وأنا أحتسي البيرة . بعد ساعة اقترحت أن نذهب الى مكان أقل عمقاً حتى تعلمني . انتقلنا الى أمكنة عديدة ومن ثم اقتربنا من مكان كل الناس فيه نساء ورجالاً وأطفالاً عراة تماماً . آنّا } Nacke bad nacke bad صرخت مسرورة وهي تهتف{
كنتُ قد نسيت هذه الكلمة لأنني لا أستخدمها كثيراً . طلبت مني خلع ملابسي كلها وراحت هي تتعرى . المكان مخصص للسباحين العراة . لم أتعر وغادرت المكان . استاءت مني جداً فصرختُ في وجهها { تحلمين على الدوام برؤية طيزي . كيف أستطيع أن أتعرى على الشاطىء أمام العشرات من هؤلاء الناس ؟ } . تعرت تماماً وراحت تسبحُ وتتشمس مستلقية على الرمل مع الناس العراة .



ترّهات الخليفة الشاعر

{ صنع الخليفة المستعين يوماً هذين البيتين :
شربت كأسا أذهبت عن ناظري الخمرا
فنشطتني ولقد كنت حزينا خاسرا
ثم قال أجيزوها ، فقالوا :
هذا خرا هذا خرا / هذا خرا هذا خرا .
محمد بن شاكر الكتبي { فوات الوفيات }

الحرب

الجنرال : أيها الشاب تعال قاتل من أجل أرض الوطن المقدسة
الشاب : { مندهشاً } اللعنة ، هل قامت الحرب مرة أخرى سيدي الجنرال ؟
الجنرال : أجل ، انها حرب شاملة هذه المرة
الشاب : هل انها حرب عادلة سيدي الجنرال ؟
الجنرال : لا يهم ، هذا لا يهم . مكيافيلي يقول { تكون الحرب عادلة متى أصبحت ضرورية }
الشاب : من فضلك سيدي الجنرال ، صف لي حربك العادلة والضرورية هذه .
الجنرال : الحرب ، آه ، نعم انها وديان مجدرة . بيوت مقصوفة . جنود يحترقون
عربات محطمة . حدائق تحترق . مدن ومدارس تهدمها الطائرات . أرامل . أيتام .
ومشهد حزين يغطي العالم كله .
الشاب : يا إلهي . اللعنة عليك سيدي الجنرال . لماذا تشعلها اذا كانت بهذه الوحشية ؟
الجنرال : من أجل مجد الله والوطن
الشاب : { بامتعاض } مجد الله والوطن . وهل الله بحاجة الى حربك القذرة ليبقى نظيفاً ؟
الجنرال : { بثقة } أنت لا تفهم أيها الشاب . هذه الحرب يجب خوضها بكافة الوسائل
الشاب : انني أرفض حربك القذرة سيدي الجنرال
الجنرال : لقد أصدرت أوامري باعدام كل من يتخلف عن اداء الخدمة العسكرية .


موت الكاتب غازي العبادي



كان الكاتب غازي العبادي صديق الشاعر حسب الشيخ جعفر وابن مدينته وزميل دراسته في موسكو قد وصل الى عمّان قبل وصوله بأسابيع شتاء عام 1996 من أجل الحصول على عقد عمل من السفارة الليبية لكنه لم يتمكن من الحصول على هذا العقد الذي كان يعول عليه كثيراً . ذات يوم طلب مني حسب الذي نقلته من الفندق في أول يوم من مجيئه الى عمّان الى السكن معي أن يسكن غازي معنا لأنه متعب ومريض ويسكن مع مجموعة من العراقيين الذين لا يهتمون في الأدب وغرفتهم تخلو من مدفأة . طبعاً أنا لا أستطيع رفض هذا الطلب لكن المشكلة أن المسؤولين في{ حركة الوفاق الوطني } التي أعمل فيها . يمنعونني كما يمنعون سواي من استضافة غازي وأمثاله بحجة أن هؤلاء كانوا يعملون في صحف نظام صدام حسين . مرة حاولوا
أن يبتزوا حسب من أجل الانضمام اليهم والعمل معهم . طلبوا أن ينشروا مجموعته { الفراشة والعكاز } في لندن { دار الكتاب العربي } وهي واجهة لهم . أعطاها لهم لكنها لم تنشر . طبعاً عرفوا انه لا يريد أن يبتزه أحد ما .
يسكن في البناية التي نسكنها أنا وحسب شاب عراقي خيّاط أعرفه اسمه حيدر وتوت . طلبت منه أن يضيّف غازي في غرفته التي تخلو من مدفأة أيضاً فوافق الرجل مشكوراً . في بعض الليالي يتسلل غازي خلسة الى غرفتنا التي تنتصب في وسطها مدفأة للقاء حسب والحديث معه . ذات يوم جاء هادي الحسيني الى غرفته فوجده مصاباً بجلطة دماغية وفاقداً الوعي . نقله الى أحد المستشفيات ومنعونا من زيارته . ظل في المستشفى عدة أيام ثم نقلوه الى العراق ليموت حسرة وكمداً .



رفاق الحزب

كتبت خالدة سعيد مرة مقالة في صحيفة لبنانية عن حسب الشيخ جعفر وذكرت فيها انه يكاد يعرف أغلب الأعمال الموسيقية الكلاسيكية حال سماعها . عندما كنا أنا وهو نجلس الى الشراب . يبقى صامتاً كما هو معروف عنه الى أن يدب دبيب الخمرة ، بعدها يبدأ الحديث في شؤون وشجون شتى . في كل جلسة شراب يطلب مني أن أسمعه أغنية ياس خضر الأولى التي سجلها عام 1969 في اذاعة القوات المسلحة { الهدل } وبعدها مونولوج أم كلثوم { هو صحيح الهوى غلاّب } . قلت له مرة : { مالذي يجعلك تعجب في هاتين الأغنيتين ؟ } { ذكرى حب عاثر } قال لي . في عمّان التي أيقظت ذكريات سنوات موسكو عنده أيام دراسته ، ستستمر لقاءاته وجلساته مع { صديق العهد الدراسي } المعماري الدكتور خالد السلطاني ومع سعدي يوسف . وبين ذكرى ذلك الرفيق الميت الذي قال عنه في قصيدة { بمقبرة خلف برلين يرقد ابن جودة } وبين الوحشة والسأم في عمّان حيث لا أفق ولا نسمة مستقبل ، سيتوهم كثيراً أثناء جلسات الشراب معنا في الغرفة وهو يحدق في ملابسه المعلقة على الحائط ، اننا رفاق الحزب من عهد الشباب وأن هذا الجالس على يمينه هو الرفيق فلان ويسأل بعدها عن الذي ذهب الى الحمام : أين الرفيق فلان ؟ معلوم انه عندما كان في موسكو كان يحمل حنيناً كبيراً الى مدينته العمارة والى بلده العراق ، وعندما يكون بالعراق يشتاق بشدّة الى موسكو . كانت كل مكافأة يحصل عليها عبر نشره لقصائده أو ترجماته وأغلب المكافآت قليلة جداً . يبعثها الى أطفاله . مرة قلت له أمازحه حين استلم مكافأة عن قصيدة نشرها في مجلة { عمّان } : { استاذ حسب . هذه المكافأة يجب أن تتصرف فيها وحدك } { لا ، سأبعثها الى أطفالي } قال لي ، فصرختُ في وجهه : { نؤاس طبيبة ويارا مهندسة ومحمد عسكري . بشرفك هل هؤلاء أطفال ؟ } مات من الضحك وهو يوبخني .



الحرب وتطور المجتمعات

كل حرب ضرورية لتطور المجتمعات عبر جميع حقب التاريخ . الحروب الأهلية والدفاعية والعدوانية لعبت أدواراً مهمة في قلب المعادلات التي كانت قائمة وأعادت الحقوق المغتصبة الى أهلها وصاغت أطر سياسية ومعرفية واجتماعية وعلاقات انتاج جديدة ، وعلى الرغم من بشاعتها والجرائم التي ترتكب فيها . تبقى الميزة الأساسية للحرب في تغييرها للواقع القائم ورسم الحدود والملامح الجديدة للمجتمع المتعفن . كانت حروب ايطاليا في القرون الوسطى هي التي منحت البشرية عصر النهضة ودافنشي ومايكل انجلو وسواهما .



رامز فيلد شاعراً


الصندوق الزجاجي

{ أنت تذكر ذلك الصندوق الزجاجي القديم
في محطة الوقود
حينما تستعمل تلك الأشياء الصغيرة
محاولاً الحصول على الجائزة
التي لم تجدها
كل تلك الاذرع التي غاصت هناك
وها أنت تستمر في الرمي والالتقاط ثانية
وتستمر بتحريكها
لكن
ربما تكون صغيراً جدا لتتذكر
تلك الصناديق الزجاجية
الذين اعتدت اللعب بها
عندما كنت صغيراً
في محطات الوقود } .

عن مجلة Slat
ترجمة: عمار كاظم محمد


وقائع سعدي يوسف

تلقيت في مناسبات مختلفة ملاحظات مهمة من سعدي يوسف تتعلق بتلك القصائد التي كتبتها ونشرتها . سعدي يطلب مني أن أؤكد على الوقائع في القصيدة . الوقائع الآن لا تعنيني . مشروع سعدي وعمارته الشعرية يختلفان عن مشروعي الذي أريد تطويره بدأب . هل لي أن أحلم بكتابة قصيدة تنأى عن ماهو سائد ؟ يهمني التجريب والبحث عن أشكال ولغة ومناخات وموضوعات جديدة في قصيدتي . أعرف أن التركيز على الوقائع يستلب من القصيدة حرارة الخيال ويجعل الذاكرة شاغرة . في كل مرة أعيد فيها قراءة أعمال سعدي يوسف ، تبرز أمامي هذه الظاهرة الملفتة . كل مجموعة جديدة وطوال سنوات عديدة لا تضيف الى المجموعة التي سبقتها وكأن تجاربه عبارة عن تجربة ومجموعة واحدة .


داء الجرب / السجن


حين انتهت الحرب العراقية – الايرانية . كنت هارباً من وحدتي العسكرية وأحيا متخفياً ، وبما أن وظيفتي السابقة قبل بداية الحرب كانت في احدى دوائر وزارة النفط فقد كنت أتدبر بطريقة ما ، نموذج الاجازة المزور وتأييد استمراري في الخدمة من أجل ان استلم راتبي من دائرتي والذي يصادف يوم 23 من كل شهر . كانت القوانين والأوامر الشديدة تقضي انه في حالة القاء القبض عليّ أثناء هروبي من الخدمة العسكرية فيتوجب عليّ بعد تقديمي الى محكمة عسكرية مختصة والتي ستحكم بسجني أن أعيد كل المبالغ التي تسلمتها أثناء فترة هروبي الى الدائرة . عند نهاية الحرب التحق آلاف الجنود الهاربين من الخدمة الى وحداتهم بموجب العفو الذي أصدره وزير الدفاع عدنان خير الله آنذاك . التحقت في هذا العفو الى وحدتي التي كانت تقوم بمهمات التدريب في منطقة { قصري } بقضاء { جومان } ووجدت الكثير من الجنود الهاربين مثلي قد التحق قبلي . بعد أيام ألغى صدام حسين قرار العفو هذا كما هو معروف للجميع وجاءت التعليمات بمنع الاجازات عن الجنود الهاربين الذين التحقوا الى وحداتهم لحين تقديمهم الى المحاكم . في الشهر الحادي عشر بعد أن حرروا لنا المجالس التحقيقية تم تقديمنا الى محاكم عديدة ضمن قاطع الفيلق الخامس . ذهبت مخفوراً برفقة جندي مأمور الى المحكمة الدائمية 23 في الموصل . أصدرت المحكمة حكماً ضدي يقضي بحبسي حبساً شديداً لمدة 6 شهور واسقاط رتبة أعلى { كنت نائب عريف } واعتبار جريمة هروبي مخلة بالشرف . كان المألوف أن يسمح المأمور الذي يخفر الجندي المحكوم اذا كان واثقاً من عدم هروبه ويعرف عنوانه ، أن يسمح له بتمضية يومين أو ثلاثة يزور فيها أهله قبل الذهاب الى السجن . عدت الى بيت أهلي ومن ثم التقيت أصدقائي الشعراء في مقهى { حسن عجمي } وبعد يومين ملأت حقيبتي بالكتب وذهبت بصحبة المأمور الى سجن الموقع بأربيل . كان السجن الذي يشرف عليه عناصر الاستخبارات في ألوية الفيلق المختلفة ، أشبه بجهنم وربما أقسى منها . غرف صغيرة تم حشر الجنود فيها بقسوة بالغة . الغرفة تتسع لعدد محدود جداً ويسجن فيها أكثر من 25 شخصاً . واذا وضع أحدهم ساقه أو مؤخرته أو ضرط فوق رأسك فهذا شيء عادي . كنا ننام بصعوبة وفي النهار يسمح لنا بالخروج من الغرف لغرض تنظيفها وتعقيمها بالديتول بشكل يومي . والمصيبة الجهنمية التي كانت تواجهنا صباح كل يوم هي طريقة ذهابنا الى المراحيض . توجد في السجن 3 مراحيض ويبلغ عدد السجناء أكثر من 400 سجين. كان يسمح لكل 7 أو 9 جنود بالتبول سوية من أجل افساح المجال للآخرين. وكانت السياقات اليومية المعتادة للسجن الذي بدا لي أشبه بقلعة من قلاع القرون الوسطى ، تقضي بقيام السجّانين بعملية التعداد الصباحي للسجناء وتوزيع الأطعمة والتنظيف وتنتهي بالتعداد المسائي وبعدها يتم اغلاق الغرف . كانت اذا بدرت من أي سجين علامة غضب أو تأفف بسبب الأوضاع اللانسانية في السجن أو تشاجر مع سجين آخر لسبب ما تافه وبسيط . يتم تجريده من ملابسه واخراجه الى ساحة السجن معرى ، حيث يقوم السجاّنون بأبشع عملية تعذيب ضده لتأديبه حسب زعمهم ، ويتم ضربه بالسياط وحين يخرج الدم من جسده يقومون برش الملح على الجروح ويواصلون الضرب وسط صراخ وبكاء السجين العاري ، وهذه الأشياء التي كانت تحدث في سجن الموقع بأربيل يعرفها كل من أوقعه حظه العاثر في ذلك السجن . بعض الجنود الذين تعرضوا لتلك العمليات الوحشية وظلت آثار التعذيب بادية على جلودهم ، قاموا بعد تسريحهم من الخدمة العسكرية بتعقب أولئك الذي عذبوهم واغتالوهم في مدن مختلفة من العراق . قبل دخولي السجن لم أكن أعرف أي شيء عن داء الجرب المعدي الذي يتسبب فيه الظل والظلام والاقذار . حين أصبت بهذا الداء اللعين بعد أسابيع تم عزلي في غرفة مخصصة للمصابين الآخرين وكان يسمح لنا بتمضية وقت أطول في الشمس وتعريض جروحنا لحرارتها. لكن أين هي الشمس والفصل شتاء ؟ في هذه الغرفة التي كانت تضمنا نحن المرضى ، استطعت أن أقرأ بشكل جيد لكن الحساسية الشديدة التي كانت تداهمني في الليل عند حلول الظلام ، كانت تسبب لي ألاماً شديدة ولم تنفع معها تلك الأقراص التي كنت ابتلعها ولا ذلك المرهم الذي كنت أدهن فيه المناطق الحساسة من جسدي . جاء المرحوم العجوز أبي مرة واحدة الى السجن وكان أخوتي الثلاثة جنوداً مثلي ويمضون خدمتهم العسكرية في وحدات وقواطع أخرى والبعض منهم هارب من الخدمة وكان أبي يعاني المصائب . كانت السعادة القصوى التي أشعر فيها في تلك المحنة هي زيارة صديقي الطالب في جامعة صلاح الدين رزاق علي الذي يعيش هنا الآن في السويد . كان رزاق حين يزورني يحمل معه الكتب والصحف والمجلات وأخبار وتحيات الأصدقاء الشعراء والكتّاب في بغداد . وكان يجلب لي الأطعمة الجيدة ويمنحني المال ويواسيني دائماً . كان بعض السجناء ممن يقدر على دفع الرشوة يتم تعيينه بصفة { عنقرجي } من قبل ادارة السجن ولم أكن أفهم معنى كلمة العنقرجي تركية الأصل في البداية . كنا نقول في العامية عن الشخص الذي يأمرنا بعنجهية : { لا تتعنقر علينا } . يسمح للعنقرجي الذي يكون واسطة أحياناً بين السجناء وادارة السجن بالذهاب الى الأسواق والاستحمام في الحمامات ودور السينما التي كانت تعرض الأفلام البسيطة في أربيل كما يسمح له بشراء ما يطلبه السجناء من خارج السجن ويستطيع زيارة بيته متى ما شاء باتفاق مع مسؤول السجن ، أي انه يتمكن من خلال دفع الرشوة بتمضية مدة محكوميته خارج السجن . أغلب الجنود الذين يأتون الى السجن لتمضية فترة عقوباتهم . تنهض عواطفهم الدينية في الأيام الأولى للسجن ويقومون بتأدية الصلوات وقراءة القرآن والحديث في الأمور الدينية ، وبما انني غير متدين فقد كنت أعاني صعوبات مع هؤلاء المساكين الذين يلوذون بالدين في السجن وينسونه في اليوم الأول لخروجهم منه . كان البعض يعتبرني ملحداً ويحاول الوشاية بي الى السجّانين اذا لم تعجبه آرائي ، وكنت أموت من الرعب اذا حاول أحدهم ذلك . كانت أفضل طريقة لدي هي أن اعتذر منه واعارته رواية أو مسرحية أو أي كتاب آخر من أجل امتصاص نقمته وغضبه وحرصه الشديد على إلهه الذي تذكره حين جاء الى السجن . في بداية الشهر الخامس من عام 1989 انتهت مدة محكوميتي وتم اطلاق سراحي من السجن . ذهبت الى وحدتي التي استولت هي ووحدات أخرى على بيوت الناس من أبناء الشعب الكوردي في منطقة { ديبه كَه } الواقعة بين كركوك وأربيل بعد عمليات الأنفال القذرة التي قامت بها ألوية الحرس الجمهوري وتم فيها ابادة وتهجير السكان الأصليين وعقابيل داء الجرب ما زلت أعاني منها . مكثت ليلة واحدة في وحدتي وبعدها أمر آمر سريتي النقيب جاسم محمد بمنحي اجازة لمدة 7 أيام .


كيمياء الألم


نامي ، نامي يا نموري الصغيرة . أيتها المتوحشة يا أحزاني
الليل برموشه الطويلة التي تنسدل على آلامي
ليل حياتي التعيسة ينزلني برفق
الى الأعماق القديمة
والسماء الغاصة بأسراب الحشرات والمطموسة بالعويل
أجراسها الصدئة
تتنرنح مهدمة فوق رأسي .
فوق الأعمدة وفي الميادين
فوق الأشجار المتوحشة العارية
وعلى الأبراج
ترفرف مدفوعة صوب الماضي
رغباتي المنكمشة .
ما الذي سأفعله بمستقبل ميت
أنا الذي عشت حياتي كلها في مستنقع من الجحيمات ؟
تعلقت الظلمة في جبيني
تعلقت الصحراء
تعلقت العناكب والطحالب .
العالم هاوية
وعيناي معصوبتان برماد حاضر ميت
على أيّة سنبلة أتكىء ؟
أيّة شمس تعينني على النهوض ؟
حاضري رماد
وماضيّ عدم
لي من الذكرى الجروح المحفورة في العظم
لو أردت النوم يكبلني قصف مدافع وتقودني هلوسات الحروب
الى جوّ من الجحيمات .
أسمع حشرجات موتي وتفيض أمواج العذابات ارتفاعاً يناسب اغراقي .
لماذا يداي متخشبتان كحاضري ؟
لماذا أبصق القصائد وأعاين مشهد خرابي ؟
أصوات الموت المزمجرة ما تزال تصبغ عشب النهار
لا قناديل لي ولا طريق
لا فضة ولا ربيع
لي هذه الساعات المهشمة والعاطلة التي لا تضيؤها الشمس طوال العام .
هذه السماء الخشنة التي أرقبها الآن ، تحتضر وتتعثر في أنفاسي
تتعثر الغيوم والأدراج .
الموت الذي غفل عنّي عندما غشي عينيه النعاس
ما يزال مخيفاً ، ملقى باهمال فوق صدري كأرنب جريح .
آهِ ، يا موتاً يرافقني ويلتصق بي مثل زئير يعري فراغ الظلام .
لا صيف عندي لأفتح ابوابه من اجل الأبدية .
بحاضر شرس يتهاوى الى الوراء
أرقب انهداماتكم وأرى الخرائب التي لن تروها
هنا ، على شواطىء نهر دجلة
في المدينة التي بناها { المنصور } أرقب صعود الصحراء صوب الجنائن
العالية وأتساءل : { ماذا يعني أن تتعرى الأشجار من لغاتها ؟ }
أهو الزمن يغوص في أذرع العناكب ؟
أصدقائي الذين قتلوا عام 1987 بينهم شعراء وعشاق ومجانين
قتلوا في الهجوم الايراني على { بحيرة الأسماك } من أجل مياه لا مرئية
زهور وشموس تلفح وجوههم اللطيفة
جدائلهم الخضر ابتلعها ليل الهاوية
أصدقائي القتلى يأتون في أحلامي ويعرضون عليّ جروحهم العميقة قائلين
: { انها عميقة } وكأنني لا أملك في حياتي جروحاً عميقة .
هنا يلعب الملائكة الأيتام مع الكلاب البيض في منعطفات الشوارع
هنا الدبّابات المزمجرات يتحدثن عن أحزانهن
وفي آخر الطريق يقف الشاعر شاحباً وقدمه على رقبة مستقبل ميت .
مرآة الشمس مثلومة
والهواء عويل
هنا كل شيء ميت ماعدا القمر الذي يتشظى مثل صحن صيني .
أريد الآن أن أخوض في عراك وحشي لأصعد من هذا الرماد الذي تزينه
بقع الدم . آهِ ، الدم الدم الدم الدم العفن
لا أريد أن أعيش وسط هؤلاء الذين يعيشون ببلادة ويتألمون بلا جروح
لماذا يعانون من عبودية بلا ظلام ؟
لماذا يعيشون في قلعة بلا جدران ؟
لا شمس لهم ولا يخجلون من دناءاتهم
يضحكون على أنفسهم ويكذبون أمام أطفالهم
تاركين تلك الآثار الباقية في أجساد الناس الفقراء
{ الذين تنازلوا عن جلودهم لمدافع الهاون وعظامهم للسديم } .
ما الذي أخشاه وأنا جزء من الهاوية ؟
ماضيّ الذي يدمع في طرقاتي الآن
لن أرفع له راية .



شاكيرا



كانت المغنية الكولومبية ذات الأصل اللبناني من جهة الأب شاكيرا وليم مبارك قد أصدرت البومين قبل أن تحقق شهرتها العالمية بعد اصدارها الالبوم الثالث باللغة الانكليزية { لاندري سرفيس } الذي باعت منه 8 ملايين نسخة وقد عرفها العالم من خلال أغنيتها الشهيرة التي ظهرت في هذا الالبوم { ون إيفر ون أيفر} وكانت ترقص فيها حسب الطريقة العربية في هز وتحريك { وسطها } ، وبعد أن انتشرت هذه الأغنية عبر القنوات التلفزيونية المتخصصة في الموسيقى عبر الرقص الغريب والجديد . عانت الفتيات في أمريكا واوروبا واستراليا ونيوزلندا وبعض البلدان في قارة آسيا من تعلم واداء هذا الطراز من الرقص ، وحتى الآن مازالت الفتيات هنا في السويد لا يستطعن اداء هذا الرقص بصورة جيدة على الرغم من وجود مدارس مصرية وتركية عديدة لتعلم الرقص الشرقي ، ويعود ذلك الى أن هز { الوسط } لأغراض غنائية غير موجود في الثقافة الاوروبية وهو امتياز عربي تركي باستحقاق .


دمية القش


أكتبُ اليكِ من قمة البرج
وقلبي شعلة
يدي التي لم تشم عطر عودتكِ
تجز صوف الكواكب .
عيناكِ فأرتان
تطاردهما قطط الغياب
وقلبكِ بلاطة
تبقين في مرمركِ البارد
لا نار تحرقكِ
لا ربيع ينير نهديكِ
لا هواء ينعش روحكِ القش .


لا أحب الشخص الذي يشرب كل يوم


انخيدوانا جرح حياتي الدامي . كنا نراها تتأبط في مهرجانات المربد في سنوات الثمانينيات من القرن الماضي الشعراء الكبار أمثال البياتي ونزار قباني ومحمود درويش والفيتوري وعبد المعطي حجازي وغيرهم . فتاة جميلة وشاعرة في الواحد والعشرين من عمرها . أصدرت مجموعتها الأولى عام 1986 وكانت غامضة بالنسبة لنا نحن الشعراء الشباب وخصوصاً الصعاليك أمثالي ، بسبب مظهرها البورجوازي { لم أكن أعرف انها من أسرة فقيرة مثلي } ومحاولاتها المحمومة للتسلق وحب الظهور والشهرة . تعرفت اليها في اليوم الثاني لخروجي من السجن بمبنى منتدى الأدباء الشباب وسألتني : { أين كنت طوال الفترة الماضية ؟ } أخبرتها انني كنت في السجن وعلمت منها أن مجلة { كلمات } التي تصدرها أسرة الأدباء بالبحرين قد أصدرت عدداً خاصاً بالشعر العربي أثناء فترة مكوثي في السجن وضم من الشعراء العراقيين سعدي يوسف وسركون بولص وجمال جمعة وأنا فقط . طلبت منها أن تعيرني المجلة فوافقت وقالت : { تعال غداً الى منتدى المسرح مساء . هناك مسرحية ستعرض وبعدها ربما نتمشى } ثم أبدت نحوي عاطفة حميمة جعلتني انجذب اليها بقوة ، ربما بسبب شهور السجن والخيبات المستمرة التي ظللت كل سنوات حياتي في الحرب . التقينا في اليوم التالي وكنا متلاصقين بشدة في قاعة المسرح بسبب كثرة عدد الجمهور ، وكان البعض من الأصدقاء وسواهم ينظر الينا بحسد واندهاش وقد قالت عنهم فيما بعد في قصيدة نشرتها بمجموعتها الثانية { اتهموني بالحب . صفقتُ لخطيئتي أيها الشفيع المعصوم بحبل القلب } . بعد انتهاء العرض المسرحي ذهبنا نتمشى وتحدثنا في الشعر وعن المسرحية التي عرضت وأمور أخرى . قبل أن أودعها وأذهب الى نادي اتحاد الأدباء ، طلبت منها أن تعطيني رقم تلفونها . وافقت واتفقنا أن نبقى على اتصال . حين انتهت اجازتي والتحقت بوحدتي كنت أتصل بها كل يوم وكانت العاطفة المحمومة تزداد قوة في أعقاب كل اتصال . أسميتها انخيدوانا الشفيعة وأسمتني الشفيع . كتبت عنها في البداية قصيدتي الطويلة { عش وقواق من غيوم نووية الى الشاعرة الأميرة انخيدوانا } وكتبت هي عني قصيدتها { المعصوم بحبل قلبي . سفر الشفيع } بعد شهر أنجزت عنها مجموعة كاملة وهربت من الخدمة العسكرية من جديد لأنني لم أعد أتحمل فراقها . كنت أنام في الليل بسبب الخشية من القاء القبض عليّ بسبب هروبي في منتدى الأدباء الشباب مع الشاعر علي الشلاه وصديقنا الشاعر المصري فتحي عبد الله المحرر في مجلة { أسفار } التي يصدرها المنتدى بعد أن نعود من نادي اتحاد الأدباء مخمورين ، وكان علي الذي لا يشرب . يطيّر في كل مرة السكر من رأسي عندما يقول لي : { اتصلت بي انخيدوانا قبل قليل وتقول انها تحب شخصاً آخر } . يذهب عقلي وأحاول الاتصال بها فلا ترد ، وكيف ترد والساعة هي الثالثة فجراً وهي تعرف انني مخمور ؟ . أمزق المجموعة التي كتبتها عنها لكن علي يجمع الأوراق الممزقة ويصرخ بي : { يا حمار ، كنت أمزح فقط } . في اليوم التالي أعيد كتابة المجموعة لأنني أحفظها كلها وأخبرها عندما تأتي الى المنتدى بما فعل علي بي فتقول لي : { هل أنت مجنون ؟ هذه ليست المرة الأولى التي يفعلها علي . اترك الشراب . لا أحب الشخص الذي يشرب كل يوم } .



كل هذا البياض


عام 1990 بعد غزو الكويت أخبرني الصديق الشاعر عبد الرزاق الربيعي حين جئت بغداد في اجازة ، أن انخيدوانا مخطوبة الآن الى رجل عجوز { عقيد في دائرة الأمن العامة } . طبعاً لم أصدق رزاق في البداية لأنه جاد ولا يمزح معي الى هذا الحد . في يوم ما ذهبت الى المنتدى عصراً وجاءت انخيدوانا تقود سيارة فارهة ضخمة ويجلس الى جوارها رجل عجوز . تجاهلتني وألقت السلام على الآخرين . غادرتُ بناية المنتدى فوراً والنار تضطرم في أشلائي . حين بلغت بي حالة السكر في نادي اتحاد الأدباء الحالة القصوى . أخذت أحرق يدي اليسرى بأعواد الكبريت من دون أن أشعر بأي ألم . في اليوم التالي قطعت اجازتي والتحقت بوحدتي . بعد أيام وصلت صحيفة القادسية الى الوحدة وفي صفحتها الثقافية قصيدة لانخيدوانا تقول فيها :

{ أرح صمتكَ الآن

على مطر ينزوي في كذب الزمان

ووعود أصدقاء يمرون

كم كان موتي هادئاً

لكن دمعتكَ أقلقتني . أربكت كل هذا البياض } .


صلاة الى انخيدوانا

ضوء في الزمن الذي بلا خيانات
ضوء العشب الذي هو خمرة وخزائن شفافيات مدفونة بعمق
تحت مرتفعات الليل ، والحديقة بين الشموع تشتعل على الأنهار .
ميثاق الظلمة التي تصالح جمرنا المنقوع بالصرخات
ميثاق بلورات تنهداتنا التي يرفعها الغراب الأخضر .
ما الذي يجعلنا نترقب الحطامات في بهو الضباب ؟
يا أملُ
في الأرض غير المرئية
أرض السهرات القديمة
تتقدم مجاميع من مصابيحكِ وترفع بصيفها ثلوج أشجارنا العارية
تتقدم أنفاسكِ المضيئة التي تتمدد مثل سماء خضراء ثقلها ثمار
ذهب تكسوه الزرقة الأسيانة .
يا أملُ
فوق جبينك ، جبين الأحجار الكريمة
تتكاثر أصداف الماضي
يرحل الشجن مع غيومه المحروقة
نسمعكِ تسافرين مع أشجار تحضن تحت أثدائها فضائح جنرالات يتعذبون
الأمواج . الحجارة الحبلى متشابهة وتئن تحت نار شفتيكِ
افتحي ذراعيكِ واستقبلينا نحن عشاقكِ المجانين
سننحني عليكِ مثل حلم يضيء بقمحه صحراء العالم .
يا أملُ
عم بذخاً يا وجهاً يرفل بهالاته
يا وجهاً أشدّ لمعاناً من لمعان العقيق العتيق .
يدكِ النجمة ، تسهر وحيدة تحت ظلال الموسيقى المرفوعة فوق الرماد .
بيضاء تحت نهر من الشمس المتسلحة بالخضرة الدائمة .
يا عظم الليل اللامع في أرض الهدنات المتكسرة والمنقلبة
ويا دفء الريش المختلط بحجارة أرض ضفافنا الوقورة
اكشفي وجهكِ الذي هو وجه الشعلة المتأرجحة والمشدوهة
وجه الموسيقى المتعاقدة مع الأقمار
وجهكِ أساور من ريش يسفعها البرد
عندما تمشين . تمشي أمامكِ ظلالنا وتنفتح الظلمة المرصعة بالتوهجات
شفتاك الخضراوان تنيران باستمرار أرض العالم
فوق . قرب النبع الأرضي ، تصعد رغباتنا مجهدة
وتنطفىء الصرخات . لهيب المشاعل يضيء السقوف المليئة بالأقنعة .
مشدودون الى الماضي نرقبكِ في النار العشقية ونظراتنا تقفز متموجة
بين الرمل وبين الريش العاري
اصعدي بمياهكِ الينا
ازيحي الانهدامات عن نهارنا المنقلب صوب الأيام الشبحية التي تومض
لموتنا المزدحم بنقوش العطش والخسارات .
شمسنا ناقصة ومثلومة وليلكِ متلألىء ومرفرف براياته وثرياته الكبيرة .
صخور الريح تقوّض جدران رغباتنا المحمومة وأنتِ تحيطيننا بذهبكِ
الحار وترفعين أمواجاً متنهدة .
ذراع قرنفلة وحيد
ضرع بقرة مسيحية يلمع فوق تل من الصلبان
وشجرة من النوم تثغو باتجاه الليل اللامتناهي
ضباء
وجزر عشقيات
واللوعة والقيثارات اللاهثة بين مشاعل الصيف
قلائد حاضر مجنون
والضجة البعيدة للسيف المجاور للوردة
طعم السهر ، حيث لا نبع ولا سنبلة .
في مدن لا أضواء فيها
تتلاشى رغباتنا تحت غثيانات ثقيلة وتخفت حماساتنا لعناق الليل وخطواته
المستديرة والمنسجمة مع الشواطىء والأغصان المليئة بالجذام والظلمة .
آهِ ، ما أقسى الليل في أعشاش المقابر
ما أقسى الفراشات السود التي تنحني في الهاوية الموشوشة
ما أقسى الصمت المتوهج بين الحشائش النائمة .
مثل نورس يهاجر
يدخل العاشق حمّى أحزانه
همسات العاشقة تحلّق فوق مروج الماضي المطفأة
وفي الحاضر الشرس يتمرأى الميتون .
بهدوء مع ثلج الخيانة وقبر الأكاذيب الوردية
يضطجع العاشق
في حلبة جنونه .



بيت المرحاض


يتقدم قانون الأحوال الشخصية في العراق على نظيره في مصر من خلال عدم اجبار الزوجة بالقوة اذا تركت زوجها لسبب ما ، الى ما يسمونه بيت الطاعة ، ويترك لها خيار العودة الى بيت الزوج متى ما تحسنت الظروف وشاءت هي ، وتسمى هذه الحالة { النشوز } ، أما في مصر فيتم احضار الزوجة الناشز بالقوة واجبارها على العودة لزوجها الذي يتحكم فيها وكأنه قد اشترى بقرة ليسومها سوء العذاب برجولته وشهامته العربية الأصيلة . هناك الكثير من المشاكل التي تحيّر القضاة في المحاكم العربية المختصة بالأحوال الشخصية في حالات الطلاق التي تحدث في كل يوم . في كل قضية تلح الزوجة على الطلاق والزوج يرفض ، وبما أن الزوجة لا تستطيع في أغلب الأحيان أن تقدم الأسباب الحقيقية التي يعرفها القاضي جيداً بحكم خبرته وآلاف المشاكل المماثلة التي مرت عليه خلال سنوات عمله ، فالمسألة قد تتعطل وتطول الى ما لانهاية . ينبغي الآن سنّ قانون عقوبات حول الزوج الذي ترفضه زوجته ولا تريده ويتمسك بها عبر اللجوء الى المحكمة التي تعيدها الى مرحاض الطاعة . آملُ تكون احدى هذه العقوبات على الشكل التالي . 7 بلوكات حجر يقف فوقها الشرطي وبيده سوط والزوج المكروه مكتوف الأيدي والأرجل ومربوط الى شجرة والشرطي يضربه على مؤخرته العارية 327 سوطاً .


ثقافة الشذوذ

طبعاً هناك أسباب عديدة لثقافة الشذوذ التي يخلقها العقل الذكوري في مجتمعاتنا . تبدأ من الحالات المرضية و الكبت والحرمان والخوف من الجنس الذي يغلفه المجتمع الذكوري بمقدس ديني وعشائري . صعوداً الى استفحال العادة السرية التي يدمنها الكثير من الرجال والنساء ونشوء الخيالات وأوهامها واغتصاب الأطفال وسفاح القربى ونكاح الحيوانات الأليفة ، الى الشعر التافه والمنحط والأغاني الرخيصة والرقصات التي نعّلم المرأة كيفية تأديتها ونصيغها حسب رغباتنا الذكورية . ألا يشعر المرء بالقرف من المطربات الحقيرات المفعوصات في قنواتنا التلفازية العربية وهن يظهرن بملابس شبيهة بملابس المهرجين ويهززن مؤخراتهن بطرق تخلو من أي ذوق ويخفين أثدائهن ؟ من المفروض أن يكشفن عن أثدائهن وأفخاذهن وهن يرقصن ، لا أن يخفين الأثداء والأفخاذ ويظهرن فقط المؤخرات الكبيرة الشبيهة بالبراميل . ربما سائل يسأل هنا : ما ذنب المطربات اللواتي تنقصهن الثقافة والخبرة الموسيقية والموهبة هنا ؟ أليس المطربات نتاج ثقافة فرضها العقل الذكوري في مجتمعاتنا وأصبحت أشبه بالقانون الذي تسير على هديه أغلب النساء في السوق والبيت والمدرسة والتلفاز ومكان الوظيفة ؟ .



عشيرة السيد الرئيس


في الشهر السابع من عام 1991 رغب الشعراء الشباب بالعراق في تحقيق حلم لهم يتمثل باقامة ملتقى شعري على غرار ملتقى شعراء السبعينات الذي تم عقده في عام 1978 من خلال منتدى الأدباء الشباب الذي يرأسه عدنان الصائغ ، طالما أن اتحاد الأدباء والكتّاب ووزارة الثقافة والاعلام لا يعترفان بهؤلاء الشعراء ولا في قصيدة النثر التي يصر هؤلاء الشعراء على كتابتها ومحاولة ترسيخها بقوة . كانت الأحلام الشعرية كبيرة والفكرة محمومة . تمت مفاتحة الكثير من الشعراء والنقاد وبعد أسابيع وأشهر اكتمل المشروع وتم تسليم القصائد بعد أن أجازتها لجنة رقابة في وزارة الثقافة والاعلام الى النقاد والباحثين من أجل تقديم دراسات عنها في الحلقات النقاشية المزمع عقدها في الوقت الذي يحدده القائمون على الملتقى . رفض اقامة هذا المهرجان رعد بندري الجندي السابق في دائرة التوجيه السياسي والذي حصل على لقب { شاعر أم المعارك } بمرسوم جمهوري عام 1991 على قصائده العمودية التي يمدح فيها صدام وشقة فخمة وعطايا كبيرة وتم تعيينه مستشاراً لوزير الثقافة والاعلام في البداية ولاحقاً مديراً عاماً لدائرة ثقافة الأطفال وبعدها السكرتير الأول لرئيس { التجمع الثقافي في العراق } عدي صدام حسين ومن ثم رئيس اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق . هو شاعر عمودي عادي جداً . لم يصدر أية مجموعة . أصيب الجميع بالاحباط بعد أن كنّا نعتقد أننا من خلال هذا الملتقى سنستطيع أن نفرض أنفسنا في الواقع الثقافي وتصبح لنا ولقصيدة النثر التي نكتبها منذ عام 1980 شرعية ثقافية بعد أن عانينا من الاقصاء والتهميش طوال 10 سنوات ولم نستطع أن ننشر قصائدنا غير المعنية بحروب نظام صدام . طبعاً من غير الممكن أن يقوم رعد بندر بالغاء هذا الملتقى من تلقاء نفسه ، ويبدو أن وزارة الثقافة والاعلام التي كان يديرها آنذاك سكرتير صدام للشؤون الأمنية منذ عام 1979 حامد يوسف حمادي لها حساباتها وبرامجها التي تقوم على الاقصاء والتعتيم على الصامتين والمشكوك في ولائهم للنظام والذين لم يمجدوا حروبه ولم يمدحوا رأسه . في مناخ ملوث كهذا كتبت موضوعاً بعنوان { رعد بندر واعدام ملتقى شعراء الثمانينات } ونشرته في صحيفة { بابل } يوم 25 / 12 / 1991 . بينت فيه الجهود التي بذلها أعضاء المكتب التنفيذي في منتدى الأدباء وذكرت فيه أن هؤلاء قد بذلوا الجهود الكبيرة من أجل اقامة ملتقى شعراء الثمانينات وأن هناك بوناً شاسعاً بين الشعراء الشباب وبين رعد بندر على اعتبار انهم يكتبون قصيدة النثر والشعر الحر وهو شاعر عمودي يقف بالضد من قصيدة النثر . في يوم 30 / 12 / 1991 نشر رعد بندر بتكليف من وزير الثقافة والاعلام ردّاً يهاجمني فيه في نفس الصحيفة واتهمني فيه أنني { لم أكتب قصائد للحرب ولا عن السيد الرئيس } وانني { رفضت الكتابة بدعوى الوقت وبدعوى عدم الاستعداد } وقال عني ليوحي انني أسكن في محافظة الناصرية وأنني اشتركت في الانتفاضة التي قامت هناك : { ليس من حق أي أديب مهما كان أن يتحدث بهذه الطريقة التي طرحها نصيف ثجيل الناصري مادام منشغلاً بالغنائم بعيداً عن خيام الوطن } وطلب مني أن { لا استخدم لقب الناصري لأنه خاص بعشيرة السيد الرئيس } وذكر انني قلت عنه انه { عاق وتخلى عن وظيفة الشعر الأصلية } عبر مديحه الدائم لصدام ، حين ذكرت البون الشاسع بينه وبين الشعراء الشباب وراح يمجد ولي نعمته ويوحي انني ضد مديحه للطاغية . ماذا أفعل ازاء وضع كهذا ؟ يكتب عني مستشار وزير الثقافة والاعلام انني لم أمدح الرئيس ولم أمجد حروبه وانني خائن للوطن ومشترك في الانتفاضة وانني استخدم لقب عشيرة الرئيس . هل يلقي القبض عليّ جهاز الأمن الخاص كما حدث لعزبز السيد جاسم وضرغام هاشم في تلك السنة ؟ قمت بعد أيام رعب كبيرة شرحتها باسهاب في الفصل الأول من كتابي { معرفة أساسية : الحرب . الشعر . الحب . الموت } بكتابة ونشر رد على موضوع رعد بندر في صحيفة { بابل } يوم 5 كانون الثاني 1992 ويصيبني العجب الآن كلما أعدت قراءة هذا الرد وأتساءل : كيف سمحت لنفسي أن أكتب في صحيفة عدي صدام في عام 1991 أن الشعر الذي كان يكتب لصدام وحروبه { مجاز جماهيري } وأشكك في قيمته وفي مؤسسات النظام الاعلامية والثقافية ، وأدعي { انني عندي وظيفة وغير محتاج الى أي شيء وأود أن لا أحسب على جمعية الشحاذين } والمقصود فيها هي تلك العطايا التي يحصل عليها الذين يمدحون ويمجدون نظام الطغيان ؟



رسالة الى جان من الجبهة


شاعر عمودي في بغداد
يتأبط ساعد امرأة فارغة البال
في شقة تتضوع بتعهرات وعطور يكتب قصائد عن الحرب
شاعر عمودي محكوم بالأشغال الكلاسيكية
في جيبه مسدس ومفاتيح
عزيزي جان دمو
لا تستمع الى الأناشيد الحربية
ترقب عودتنا نحن الجنود الحزانى
سنعود مثقلين بأغانٍ حيّة ونحدثك
عن الموت المجاني وقصف المدافع والطائرات
ونهارات الخنادق الغائبة
سنحكي لك عن مدن وقرى ترفعها القذائف الثقيلة في الهواء
لا عن رماح وسيوف وخيول لفظية تغير
هل تريد هذايا من الجبهة ؟
سنجلب لك دفاتر مجلدة بشظايا قذائف لتكتب تاريخ ليالينا .


المتسلط


أحدهم ، طويل القامة طويل طويل
يحمل بندقية محشوة وسلاسل
أجلسني في تابوت وقال : { من أنتَ ؟ }
أجبته وخيمة رأسي ترتفع
وقبري يهرول صوبي
وآخر غصن من حياتي ينكسر
: { الشاعر نصيف الناصري }
ألقى البندقية والسلاسل وخرّ لي ساجداً
يقبّل الأرض التي تهتز من شدّة رعبي .


أطفال


تزوجت أمي أبي وكان عمرها 16 سنة وأنجبتني عندما كانت في عمر 17 سنة . عندما جئتُ الى السويد قبل 8 أعوام أثارت انتباهي ظاهرة الشباب الذين يتقدمون الى الكبار ويتوسلون أن يبيعوهم السكاير . يتقدم اليك فتى أو فتاة ناضجة جداً ، لو تكون ولدت في دولة عربية لكان عندها الآن زوج وطفل وتطلب منك أن تبيعها سيكارة مقابل كرونين . طبعاً أنا كنت أمنح هؤلاء الشباب السكاير من دون مقابل واستغرب لماذا لا يذهبون الى الحوانيت ويشترون ما يودون من سكاير . في الباص يدفعون نصف الأجرة ولست أدري لماذا ؟ فسرتها في البداية بيني وبين نفسي أنا القادم للتو الى السويد في أن هؤلاء الشباب طلبة ولديهم تخفيضات من شركات النقل . بعد شهور أخبرني صديقي الشاعر العمُاني زاهر الغافري أن هؤلاء الشباب في القانون السويدي أطفال ولا يجوز بيعهم السكاير في الحوانيت ولا البيرة ولا يسمح لهم بدخول المراقص ، وتكون أجرة ركوبهم في الباصات والقطارات والطائرات والبواخر نصف الأجرة على اعتبار أنهم أطفالاً لأنهم دون سن الثامنة عشر. يا للمسكينة أمي . لم تعش طفولتها أبداً . يحافظ المجتمع السويدي عبر الكثير من القوانين على المراهقين ، ويعتبرون أن الفتاة بعمر ال 17 سنة غير ناضجة عقلياً ومازلت طفلة ، ولا يعيرون أهمية كبيرة لنضوجها الجنسي طالما انها لم تبلغ سن ال 18 . تبدأ العلاقات الجنسية بين الفتى والفتاة بعمر ال 16 ولأنهم غير ناضجين فيمرون بتجارب حب عديدة ويبدلون علاقاتهم دائماً بعد أن يشبعون من الجنس . لا عادة سرية عند هؤلاء الذين يشبون بطريقة تخلو من الكبت والحرمان وتغليف الجنس بالمقدسات والأوهام .




أسفل الشجرة التي تصاهر الجذام

سنوات طويلة أمضيناها بصحبة { ايبيس } في أنهار فن التنجيم .
لم نعثر على وجه الانسان المتقوّض في ضوء الشمس ، ولم
نعثر على سوسنة الرجاء المتفسخة . في الممرّ المنخفض الذي يوصلنا
الى ليل وأبواب بحر الموت . اختفت أصواتنا وتلوّت الأشجار صائتة في
الطريق . كل ما نراه الآن . صراصير تترنح في طيرانها عبر
اللهب الأسود لجهات الأرض المهتزة دائماً . لماذا لحظة الرغبة
مليئة بالاشارات التي تفصل الثمرة عن شجرتها ؟ الحشائش
الجافة التي يجمعها الانسان في الليل ويركنها قرب قفير عسل
حياته . تطيرها الريح المسوّدة والمثقلة بمعطفها عليل الأجفان .
الى أيّ حدّ نبقى نصيخ السمع الى شجرة الزوال المثقلة بالأعطيات ؟
ينبغي لنا أن نتخلص من الظلال الداكنة والمشرئبة لموتنا ، ونرمي
شفرة الصلاة في الأسرار الطنّانة للطبيعة . يحتاج الانسان الى فجر
جديد يتجادل فيه مع الملائكة حول الأدوية والأقراص التي تخفف
الصدمة المسبقة لموته . الى متى نبقى نستعد ونرحب في العناصر
الأكثر ترويعاً في موت الانسان ؟ وحدها مصائرنا التي لم تستنطقها
تماثيل الآلهة . معلقة من دون حصانة في أسفل الشجرة التي تصاهر الجذام .


الجذوع العتيقة لشجرة العالم

حياة كلّ منّا تستمدُ بذرتها من الكلمة التي تنمو في فوضى الماوراء
ودائماً نخفي صمتنا قبل انطلاق المراكب في قناديل الفجر الصافية
ونؤجل رحلتنا الى الينبوع الضامر للحظة الانبعاث . حياة كلّ منّا ضفة
شديدة الانحدار ، لكن احساسنا تحت العوالم الخبيئة للقلق هو ما يمنحنا
بداية جديدة لطقوسنا المتحفظة في عبور اللحظات . أحلام الانسان تمرّ
كنسمة جافة في الجزر الطحلبية لليله ونهاره ، ويتدفأ موته في التهيجات
المرصعة لحصاد قمح أيامه ، وفي الرنّة المتصلبة لصرخته تحت الجذوع
العتيقة لشجرة العالم . يكتمل البرق وتنتصب في يقظتها أشرعة رغبته في
الوصول الى النيران المفتوحة على الحافة المتلألئة لشواطىء الأمل .


المياه الآسنة لمرايا آمالنا

عابراً حمم بركان حياتي . أقيسُ الظلال المشنوقة للوردة في الضغائن
الشائنة للحظة موتي ، ومثل تفككات لا مرئية في الأعماق المتكتمة لجروح
الجنس البشري في ينابيع القرون . تتقدم صرختي بين المرايا التي توّسع المتاهة .
هل لي أن أشهد مآثر الصاعقة المجدولة فوق الصواري العظيمة لأحلام
الانسان النائم ما بين الموت وما بين الميلاد ؟ غاباتنا المتحجرة الآن بلا بروق
ولا صلاة ، وفي بخار تطوافاتنا يتناسل الضجر الطويل لقرابيننا المرفوعة .
كل شيء ينغلق علينا في المياه الآسنة لمرايا آمالنا .


رهاناتنا الصدئة في بئر النجمة الكبيرة

خلاص الحجارة وتمائمها من الفناء ، خلاصنا نحن وخلاص العشبة المستجيبة
لنداءاتنا تحت القلاع الضخمة للخوف وأناشيده المحرمة . هل ينبغي لنا
أن نحضر التاريخ في الانفصالات التي نغريها بالقدوم لصعود الديمومة ،
من أجل أن لا تفلت منّا اللحظة الأخيرة المطبقة على الانسان الميت ؟ كيف يتسنى
لنا أن نتسلل بهدوء من الأفق المعتم للعالم ، صوب أفق آخر أكثر رحمة ورحابة ؟
حيوات تنفست هواء الأرض بالمليارات وغابت . خطّافات مصوّتات .
ديناصورات وحيوانات ثعبانية مالت فيها الرياح العظمى للفناء صوب الهاوية .
كل شيء ينتهي الى حجر وصاعقة . حيوات أخرى قادمة تنتظر عند الجدار
الصريح للصلب . هذه المنظومات التي يسير في فوضى شرائعها العالم . اهانة
لوجود الانسان . ينبغي أن نسقط رهاناتنا الصدئة في بئر النجمة الكبيرة ، ونحيا
في فراديس الأحلام والسطوعات الأثيرية للفكر .


صيف قليل الحمولة

ندفعُ في كل آنٍ مجاذيفنا صوب التدميرات التراجيدية للشيخوخة ، وتتحطم بين
رمال تنفساتنا قناديل الزمان . هل لنا أن نصالح ما بين موتنا وما بين الصخرة
التي تشعشع في مجدها وغبطتها السرمدية على الشواطىء المتكشفة للطبيعة ؟
طائر الطيطوى بشير الكارثة العظيمة وشاهد اللحظة المنحنية على الهاوية .
يصرخ تحت ثقل الرياح الثلجية اللاتطاق فوق رماد مصائرنا وينذرنا : { لا ثمرة
شهاب تباغت ليلنا في الماضي والحاضر والمستقبل ،
ولا ميراث عيد ينوّر شفاهنا المتورمة في انفتاح الرماد على الأغنية المختنقة ،
ولا صلاة تترك ملحها على الرغيف المتعفف لصيفنا قليل الحمولة ، ولا الأنهار
تصبّ في التسليات المتغضنة للحظتنا الراهنة } . علامة بلا شكل تتلمس بانتظام كل
ماهو حيّ في أصواتنا ، وتغرقنا في العتمة اللامتناهية للفناء .


العطر اللازوردي للنذور والأشجار

يخاطبُ النفرّي ويتضرع في نار محبته المريضة ، الى فكرة اخترعتها الشعوب
السامية ، من أجل خلاصه المرتجى . هل نحتاج نحنُ الجراد المريض في السل
الى ايمانات وشعائر وأساطير ، أم نحتاج الى الاخوة والحب والجنس والطعام
والموسيقى والأحلام والمعرفة ؟
اخترعنا في حيرتنا وضعفنا ولعثمتنا الفادي ، واخترعنا الهادي .
لا الفادي نوّرت في ليل العالم أضاحيه ، ولا أينعت وردة الرجاء
ولا الهادي رست سفينة نجاته في مرافئنا التي زلزلتها الأعاصير .
حقيقة . حقيقة واحدة يجب أن نتقرب من مصاهرتنا ونتقبلها بمحبة عظيمة .
ما نحن إلاّ حشرات زاحفة تتماثل مع كل المخلوقات في الطبيعة ،
والأجمل والأكثر قداسة منّا ، هي الرخويات ، والطنّانات في خلاياها المستلقية
على العطر اللازوردي للنذور والأشجار الصاعقية للحياة .


منكَ لا شفيت من ألمي العضال

أيها الموت يا خليلي
يا خليلي الذي يكّسر مصابيح وغُصينات حياتي
ويقرع للعدم ندى أجراسي
ويسهر بثقله الجبّار على الأريج الزعفراني لرغباتي وآمالي .
منكَ لا شفيت من ألمي العضال
ولا دوّيداتكَ الذئبية التي ستجيء
تحنوّ على فضة جثماني وخزامى أنفاسي .



فن زرع الفوضى

{ هناك تعهير هائل للكلمة . كم من الجمل عديمة الحياة تتقافز كل يوم في هذا العالم المبتذل ؟ ما لا يحصى . صنبور الكلمات ما عاد بالامكان ايقاف تدفقه . مهرجو الكلمة ، الصحفيون ، كتّاب المقالات ، كتّاب الروايات يقبضون اجورهم كلمة كلمة . الكلام يجهز على كل حادثة ، كل موقف . أما زال اذن بوسع عمل أصيل أن يلفت النظر في عالم يسيّره الضجيج الفارغ ، هذا الضجيج الذي يسلب الكائن البشري قدرته على الفعل من خلال التمظهرات الزائفة التي يقذفها في وجوهنا كل يوم ؟ الجواب على الأرجح : كلا . كومته دي لوتريامون ، اسمه الحقيقي ايسيدور دوكاس . تنبه قبل أكثر من مئة عام الى خطر هذا الضجيج . في أشعار 2 تشع هذه الجملة { أن عقل الانسان الأعظم ليس عديم الاستقلالية الى هذا الحدّ ، بحيث تربكه أدنى نأمة من هذا الضجيج الذي حوله } . هذه الجملة تشكل البؤرة الأساسية في أشعار ، حيث يشن هجومه ويطلق التعليقات على الحوادث اليومية . يسخر من البلاغة الجوفاء ، ينتقد التفكير السائد ، يدين الفضائح ، ويقاوم الابتذال . على الشعر أن يتوقف عن كونه فنّاً للنظم ليتحول الى نقد . لهذا نراه يخلخل التقاليد الشعرية السائدة . كل شيء هنا جائز . اللعب الحرّ باللغة ، التنقل العشوائي بين الشعر والنثر ، التغيير المفاجىء في الاسلوب ، تبديل مقاطع النص ، الاستخدام المتكرر للمحاكاة الساخرة ، الصور المسخية ، الفظاظة والطرافة . على الشعر أن يخلخل قوانين الزمان والمكان . أن يحدث انشقاقات ، أن يمجد الفوضى . هكذا راح لوتريامون يبحث عن طرق جديدة في الكتابة . يستدرج القارىء بمكر الى النص . يصدمه ويحرضه على التورط .

رينيه ساندرس . مجلة { غجر واحد } العدد الأول


حرية العصيان

تقدم لنا الكتب السماوية عصيان آدم وحواء وأكلهما من الثمار المحرمة لشجرة المعرفة . أمثولة غريبة وشبيهة لأخلاق أهل القرى . هل حقاً انهما كانا خجلين من ظهور أعضائهما الجنسية عارية وحاولا تغطيتها بأوراق التين ؟ طبعاً نحن الآن نعرف أن حرية العصيان التي أقدما عليها . كانت من أجل الخروج من العزلة ومحاولة اكتشاف فن الحبّ ، لكن مشكلة آدم في دفاعه عن نفسه وادعاءه أن حواء هي التي ورطته . تبدو غير مقنعة بسبب العقل الذكوري الذي صاغ هذه الحكاية . حرية العصيان كانت من أجل الخروج من قفص الحيوان الى عالم الانسان حيث الحبّ والعمل والتوالد والأحلام والموت .



بساط السكر مطويٌ بما فيه

المعروف عن المرحوم عبد الوهاب البياتي انه يسخر دائماً ويطلق الألقاب في صحوه وسكره على الكثير من الشعراء والكتّاب والساسة الذين لا يحبهم لأسباب عديدة . في حانة { الياسمين } في العاصمة الاردنية حين كنّا نرتادها كل يوم بعد الساعة الثامنة مساء . كان الشعار الذي أطلقه أبو علي { بساط السكر مطويٌ بما فيه } هو دستورنا في جلسات الشراب اليومية . يمنع منعاً باتّاً معاتبة صديق أساء أو عربد في جلسة الشراب في اليوم التالي لأي سبب كان . من الكلمات الأثيرة عنده حول الأشياء التي لا يرضى عنها كلمة { زبلعي } . هذه السيدة زبلعية وهذا السائق زبلعي وهذا شاعر زبلعي وتلك شاعرة زبلعية . المرحوم الشاعرالأردني أحمد المصلح أسماه البياتي { أبو الشمقمق } . الشاعرة العراقية آمال الزهاوي كان يسميها { الخندريس } . حين سألناه كيف وافق أحمد عبد المعطي حجازي على قبول جائزة سلطان العويس مناصفة مع الشاعر والكاتب ابراهيم نصر الله . أجاب بسخريته المعهودة { خطية أحمد عنده 5 بنات وبمصر اذا أرادت البنت الزواج فيجب أن يجهزها أبوها . عفش وملابس وذهب . أحمد وافق من شان بناته } . مرات كثيرة تتسلل قفشات أبو علي الى أولئك الذين يسخر منهم خارج الحانة . محمود درويش . سعدي يوسف الخ . هم يزعلون ويقولون أن مجلسه يعج بالنميمة . سعدي لا يلبي دعوات أبو علي الى الحانة بسبب النميمة وبسبب مجيء أولئك الذين يسميهم البياتي الأبقار ، وهم مجموعة من الشعراء والصحفيين العراقيين الذين لا يتعاطون الشراب . يجلسون معنا على المائدة ويهجمون على صحون المزّة ، وحين يقول لهم أبو علي { اطلبوا عشاء } يرفضون دائماً ويجهزون على المزة في كل مرة . مرة عاد أبو علي من زيارة سوريا وقال { أعتقد أن مجلة المدى ستصدر من العدد القادم من دون أخطاء املائية ومطبعية } . { كيف يا أبو علي } . سألناه . { خطية هذا هادي العلوي عيّنه فخري كريم مصحح براتب 100 دولار بالمدى } طبعاً نحن نعرف أن العلوي لا يحب البياتي ولا يزوره حين يذهب الى سوريا ، وهنا أراد أن يقلل من شأنه عبر اعلانه هنا من انه تعيّن بوظيفة مصحح . كنتُ قد رافقته مدة 4 سنوات ليل نهار حين كنت في الأردن وأصدرت مجموعتي { أرض خضراء مثل أبواب السنة } عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1996 على نفقته . حين كان البعض يسأله { كيف حال أمين سرّك نصيف ؟ } يجيبهم هكذا { لم يبق لي أيّ سرّ . فضحني هذا الزبلعي نصيف } .


قابيل وهابيل

هل حقاً أن المغزى الرمزي لاسطورة قابيل هابيل يكمن في تحولات البشرية من عصور الصيد الى عصر الزراعة ؟


نصيف الناصري قوّاداً
أدباء الداخل / أدباء الخارج


{ وكان من بين الذين أشهروا أقلامهم أحد الذين يضطجعون على ثلوج السويد . لا أدري وهو لا بالبعير ولا بالنفير . بين المناضلين الذين تركوا الوطن هرباً من السياط وضغوط الارهاب التي كانت تنال منهم أو الزنزانات التي كانت مشرعة الأبواب لاستقبالهم في ظلماتهم ومآسيهم المفجعة . هذا الشخص كان معروفاً في الأوساط الثقافية العائمة في زمن الدكتاتور ب { الكاولي } وهي صفة تطلق عادة على التافه المتسيب الذي يعيش على هامش الحياة ويتأقلم مع الأجواء حسب الظروف ، فهو هائم بين المدن والأرياف ولا يشدّه أيّ التزام وجداني واخلاقي ، وعلى استعداد لتقديم المتع لمن يشتهيها ويدفع من أجلها . هذا الشخص انتفض للدفاع عن أدباء الخارج ، فقد اخذتهم المفاجأة واستنكروا بشغف وهلوسة صاخبة كيفية الايماء اليهم وانتهاك ديارهم وانكروا تنسمهم لهواء الحدائق والروائح الساخنة التي تتهادى في فضاء البارات واللقاءات بما فيها المشبوهة والمتناقضة مع الشهامة .

مقال نشره المدعو الفريد سمعان الأمين الحالي لاتحاد الأدباء والكتّاب في العراق في صحيفة { الصباح } البغدادية بتاريخ 1 / 9 / 2006


اعدام أسرى وجرحى


المعركة التطبيقية . قاطع { حاج عمران } وقاطع { سيده كان } 9 / 9 / 1985 . هذه أول معركة أشترك فيها وكنت ملتحقاً منذ 4 أيام الى آمرية مغاوير الفرقة23 المتمركزة في منطقة { قصري } القريبة من قاطع حاج عمران ، قبل أن تصبح لواء مغاوير الفيلق الخامس الأول فيما بعد . كنت قبلها في مقر الفيلق الأول بكركوك لمدة 6 شهور . في ليلة 9 / 9 / 1985 شنّ الجيش الايراني هجوما كاسحاً على مواضع اللواء 98 مشاة في قاطع حاج عمران { جبل كوره دي } وعلى مواضع اللواء 604 مشاة في قاطع سيده كان { جبل زرار } . بدأنا هجومنا المقابل في الصباح على جبل { كوره دي } قبل أن تتمكن القوات الايرانية المهاجمة من بناء السواتر البديلة وحفر الخنادق وكنت كلما تمرّ القذائف أثناء تسلقنا الطويل للجبل . أموت من الرعب وأرمي نفسي منبطحاً كالمجنون والجنود الذين معي يسخرون مني ويقهقهون . أخيراً هدأوا من روعي وراحوا يشرحون لي باشفاق ، أن هذه القذائف من الجانب العراقي وهذه القذائف من الجانب الايراني وعجبت كيف يعرفون ذلك ؟ والله وحده يعلم كم أخاف حتى هذه اللحظة من صوت انفجار اطار سيارة . كانت مهمة وحدتي يساندها لواء مشاة آخر زائداً فوج جيش شعبي وبقية مراتب وضباط اللواء 98 الهجوم على جبل { كوره دي } وطرد القوات الايرانية التي اكتسحت الخطوط الدفاعية للواء 98 . بعد أن دكّت مدفعية الفرقة 23 ومدفعية الفرق الأخرى مواضع القوات الايرانية . بدأنا شن الهجوم من عدة محاور وبما أن القوة الايرانية المهاجمة لم تكن بمستوى فرقة فقد تم طردها بسرعة ، ومعلوم في السياقات العسكرية أن اللواء المكون من 3 أفواج يقوم بالهجوم على فوج واحد ، والفرقة المكونة من 3 ألوية تقوم بالهجوم على لواء واحد ، أي أن كل 3 جنود يقومون بالهجوم على جندي واحد . بعد طرد القوات المهاجمة اكتشفنا أن بعض الجنود والضباط القتلى في اللواء 98 متفحمين تماماً من شدّة القصف المدفعي الكثيف والبعض الآخر ممزقة بطونهم ، ولأول مرة أشاهد مصارين الانسان الطويلة الخضر والصفر والحمر وبقية أعضاء الجسم البشري فشكرت الآلهة أن لنا جلوداً تخفي هذه الأشياء . كان بعض جنود اللواء 98 الجدد الذين اشتركوا في الهجوم معنا والذين لم تكن لهم خبرة كافية في الحرب ، عندما شاهدوا هؤلاء الجنود الممزقين وهم أصدقاءهم ورفاقهم . أصيبوا بالهستيريا واعتقدوا ربما بفعل الحملات الاعلامية الضخمة لنظام صدام حسين التي كانت تصور الجندي الايراني على انه وحش ومجوسي كافر وما شابه ، أن القوات الايرانية قد مزقت بطون رفاقهم بالحراب وأحرقت الآخرين بالنار ولم يعلموا أن تمزيق بطون هؤلاء الجنود والضباط كان بفعل شظايا قذائف المدفعية التي عادة ما تكون شبيهة بأمواس الحلاقة واحتراقهم كان بفعل شدّة النيران التي سبقت الهجوم على مواضعهم وملاجئهم ، فقاموا باطلاق النار على مجموعة من الأسرى وأردوهم قتلى ومن ثم راحوا يطلقون النار على الجرحى الذين يئنون ألماً ، ولقد شاهدت أحدهم يطلق 60 اطلاقة { مخزنين } من بندقيته الكلاشنكوف على جندي جريح في أحد الخنادق . طبعاً تم دفن الجنود الايرانيين خارج الخنادق وكأن شيئاً لم يحدث . بعد نهاية المعركة بدأت عمليات اخلاء الجرحى والقتلى من منتسبي وحدتي . كانت الأوامر العسكرية الصارمة تنص على عدم الاخلاء أثناء الصولة . قتل من سريتي أكثر من عشرين جندياً وجرح العشرات أما أنا فقد اختبأت في شكفتة { كهف } بعيداً عن المواقع المتقدمة وكانت القذائف التي تسقط بالقرب مني تجعلني أرتعش كالقصبة في الريح من شدّة الرعب وكانت أسناني تصطك وكنت بالكاد أستطيع التنفس . في الغروب جاءت الأوامر الينا من قيادة الفرقة 23 مشاة بضرورة الانسحاب فوراً الى المقرات المتقدمة . سلمنا المواضع التي استعدناها من القوات الايرانية الى لواء المشاة 98 وغادرنا الى حيث اعادة التنظيم والتدريب العنيف الذي سيستمر ليلاً ونهاراً عدة شهور .



مداعبات / من البداية حتى فض البكارة


{ وحين رأت التركي الجميل يلتاع لهفة
أخلت الدرب الموصلة الى شجرة السرو الفوّاحة بعطر الزنبق
وحط العندليب على عرش البرعم
فتفتح البرعم وانتشى العندليب ،
ووقع بصر ببغاء على صحن مملوء بالسكر
فنثر ، من غير أن يزعجه الذباب ، السكر
وقذف بالسمكة الى حوض الماء
وألقى بالبلح الى قلب الحليب
فكان حلواً ، أما قشطته الشهية
فأن اضافة ثمرة البلح اليها كانت قد زادتها حلاوة
وحين رفع الشاه الحرير عن الصورة الصينية
وتحررت علبة السكر من قفلها الذهبي
فانه رأى فيه كنزاً يساوي الذهب المصنوعة منه القبة
فعصفره بالزخارف الذهبية .

الشاعر الفارسي نظامي المتوفى عام 1209


موتى المنفى يحرسون البحر عند الظهيرة

1

عادوا الى البيت مجتازين ممرّ أشجار طويلة ، ترفرف فوق رؤوسهم طيور جائعة .
نباتات الفطر السام المنتصبة في سأمها الموحش . ذابلة وغريبة مثلهم . كيف السبيل
الى ايقاد شعلتهم التي تذوي وهذه الأشجار تطفىء قناديلها ، حانية على الجذور ؟
في ممرّ الأشجار ريش نسور تهزهزه الريح وسط الأوراق المتساقطة . ريش حيواتهم
التي تنزف بلا انقطاع . في قفزتهم الكبيرة الى العلو ، كانوا يترنحون في ليل الهاوية الساكن .
ظلال قبورهم التي ترتعش في نيران الفجر . ترفع الفهود من وحشتها المعششة . من أجل
الزرقة المتحصنة في الهاوية . من أجل العليقة المشتعلة في الرغيف . تاريخ الطبيعة .
أين يذهب الموتى في الفجر ؟ أين يتركون أشجارهم المحمّلة بالطرائد الكبيرة ؟ كم من الأسرار
في أحلامهم العميقة ؟ الموتى ينصتون لعري كلماتنا اللاهثة . لا تهمهم أعياد حصادنا ولا مجازر حروبنا ولا الطوفانات .
ثمة أشياء نجهلها وتعرفنا . غضب الصقر في عطشه . سهرات زيز الحصاد في الصيف الماضي .
ناي الراعي الذي يحدق في أبواب الكوكب . في كل يوم من أيامنا التي نقضيها على هذه الأرض المشئومة . ثمة ما يبعث على اليقين باننا سنتعرف على غريمنا – النسيان . أين نجد الآن باباً لموتنا
الذي يستجمع شجاعته { وحيداً وبلا معين * ؟ } . لن نرفع الرأس عالياً . سنكظم غيضنا ونتقدم بخطى متثاقلة صوب أرض النسيان .
قرب ضوء نجمة . في التماعة عشب يخزّن أسراره للصيف . ينهض حلم الانسان – صخرة صلدة –
ويتمطى في مروجه ليل لبرد البعيد . الانسان يجلس قرب الهاوية . حياته الفقيرة سجن يسند الشمس
في نهوضها الهادىء . لمن هذه الدمعة المحفورة على رخام القبر ؟
{ قفير } نحل في الغابة يعمل ليل نهار ، من أجل الانسان الساهر في اللوعة . من أجل العالم وخلاصه الموعود . { قفير } نحل يخفي في أروقته الغريبة قناديل الأمل المضيئة كما الأعماق ، لكن الرماد . رماد الانسان الصيّاد ومكائده في الغابة . أطفأت القناديل ورفعت القفير الى الهاوية . ليس للانسان سوى مخالب طويلة تنهش بين فخذي خطيئته .
ناموا على شاطىء البحر بانتظار سفينة ما تحملهم الى أرض الوطن الذي حلموا برؤيته دائماً
وحدها البروق المتلظية تعرف سرّ غيابهم وتعرف أين علّقوا جدائلهم ودموعهم المقيدة . موتى المنفى يحرسون البحر عند الظهيرة كما يحرس الضوء بوّابات البكاء .
طائر النورس في الماء الذي يغلي . يتبع ظلي وظلك . أظفاره الحمر صاعقة بين حقول القمح . هل تحطمت أشرعتنا ؟ لماذا لم يبق من أيامنا سوى صفصافها الذاوي ؟
الصخور شاخصة والطبيعة أبدلت أثوابها . الملك يستعرض فيالقه بأبهة وكبرياء . يمدّ يده الى الشمس فيأسرها بكاملها . في كل صيحة من صيحاته ، غابة من الندوب الغليظة . هذه الأرض ، أرض الملك المترامية الأطراف . حين ستنشب حرب جديدة ستضيق عليه حدّ اللعنة وستنقلب عليه أرض أخرى مزروعة بآلاف الصلبان .
مضى زمن طويل وهم يتلذذون في جرائمهم . عيونهم محّمرة من كثرة الاعدامات . ظلالهم الكافرة حجبت عنّا الهواء والساقية ، وصرخاتهم الثاقبة اقتحمت علينا حلبات الليل . دعهم ، دعهم يتقدمون بوحشيتهم . سنجعلهم يرسفون في الأصفاد . سننزع جلودهم ونحشوها بالقش . وحوش تزحف صوب معابدنا ومنابع أنهارنا العظيمة .

* ريتسوس


يُمنعون من الأكل بكثرة

دبي : سلم وفد من وزارة الداخلية الإماراتية في العاصمة البنغالية دكا اليوم الثلاثاء ، شيكات تعويضات لمئات من الأطفال البنغاليين الذين تم استغلالهم في السابق في ركوب الجمال ، ضمن سباقات الهجن في البلاد . وكانت وكالات تتبع منظمة الأمم المتحدة ، حددت الأطفال المستفيدين من التعويضات في عدد من الدول ، وطلبت من الامارات العربية المتحدة تسليم مبالغ من المال ، كتعويضات لهم . والثلاثاء ، التقت لجنة اماراتية خاصة بمتابعة تعويضات وتأهيل الأطفال ، الذين شاركوا سابقا في سباقات الهجن بدولة الامارات من رعايا بنغلاديش المحامية سهارا خاتون وزيرة الداخلية البنغالية . ووفقا لوكالة الأنباء الاماراتية الرسمية ، فان رئيس الوفد { الاماراتي } ومندوب وزارة الداخلية سلم الشيكات لوزيرة الداخلية في بنغلاديش . ونقلت الوكالة عن سهارا خاتون قولها ، ان برنامج التعويضات مساعدة مادية وانسانية تثلج صدور الأطفال وتساعدهم في تلبية احتياجاتهم الأساسية . وكانت الحكومة الاماراتية قد حظرت عام 2005 من مشاركة من هم دون الثامنة عشر في سباقات الهجن ، وذلك استجابة للمطالبات العالمية ، ومنظمات حقوق الانسان الداعية لضرورة وقف استغلال الأطفال ومنحهم الفرصة الكاملة للتعلم والعمل في ظروف صحية جيدة . ويفضل ملاك الهجن تشغيل الأطفال لركوب الجمل لخفة وزنهم ، لكن بعد الحظر في الامارات تم استبدال الأطفال برجل آلي يمكنه قيادة الجمل نحو الفوز ، في سباقات تعد الأكثر شعبية في دول الخليج . وقد لعبت منظمة اليونيسيف دورا أساسيا في حل مأساة هؤلاء الأطفال ، الذين حرموا من طفولتهم ، إذ أظهرت في تقريرها أن معظم الذين شاركوا في سباقات الهجن تم جلبهم بطرق غالبيتها غير شرعية ، من دول مثل بنغلادش والباكستان والسودان وموريتانيا . ووفقا لنفس التقرير ، فقد كانت حال هؤلاء الأولاد في مزارع الجمال سيئة للغاية ، إذ كانوا يمنعون من الأكل بكثرة ، وذلك للحفاظ على معدل معين لوزنهم ، ولتسهيل حركة الجمال في السباق . علاوة على امكانية سقوط هؤلاء الأطفال من على ظهر الجمل ، مما قد يعرضهم لخطر الاصابة أو الموت . وقد تمكنت منظمة اليونيسف حتى الآن من اعادة أكثر من 1100 طفل الى ذويهم خلال عام واحد في دولة الامارات . ويذكر أن الامارات العربية أصدرت عام 2006 قانونا يجرم " الاتجار بالبشر "، واعتبرت أن جلب الأطفال للمشاركة في سباقات الهجن هو نوع من ذلك الاتجار ، يستوجب عقوبات بالسجن تتراوح بين العام الواحد والسجن المؤبد ، وغرامات مالية تصل الى مليون درهم .
س ان ان . خبر نشر يوم 5 / 5 : 2009

نريد النوم في خميرة ينابيعكِ


أسمعُ تنهداتكِ – أرض
تصعد منها أنهاري
أرض كثيرة العذوبة . يرقد فيها الحمل الى جانب الذئب .
في العروق الضخمة السود للأحلام التي سئمت عطشها الطويل
تعلو ذخيرة النار وتكشف الكنوز التي خلّفتها أمواجكِ المتنهدة .
أرضكِ الابنوس وأختام الشتاء
أرضكِ الأمطار والنجوم الخائنة
أرضكِ الناي والحجارة الكريمة
أرضكِ رايات الفاتحين والسروات التي تظلل المراثي
أرضكِ الينابيع ذات الأثداء الكبيرة والرؤوس المظفورة
أرضكِ القبلات والاخطبوطات
يا معادن مشتعلة رغم بردوتها
يا عروقاً مصعوقة في ليل الشجرة
يا أقفاصاً معادة الى السجن
يا جسد الكوكب النائم في ذاكرة الأنهار .
هل تصعد شراراتنا في المنفى الذي يستريح في صحراء الغابة ؟
أيتها الشفيعة ، نريد النوم في خميرة ينابيعكِ
في زمردات صرختكِ المكتومة
في سنبلتكِ المنذورة لامتحان النار .


دائرة الارصاد الجوية

عندما أعلن صدام حسين الحملة الايمانية عام 1993 وأمر باغلاق الحانات والمراقص وأماكن اللهو . استجابت الناس لدعوته شيئاً فشيئاً باعتباره { أمير المؤمنين } وراحت ترتاد المساجد وتواظب على اداء الصلوات وأمور العبادات الأخرى وتتوسل الى الله أن يزيل عنها الغمّة العظيمة التي سببها الحصارالشامل المفروض على البلد والبلايا التي سببتها سياسات الطاغية وعدم تعاونه مع القرارات الدولية والأمم المتحدة . كل أساطير وطقوس وثقافات القرون الوسطى استعادت عافيتها المنقرضة في هذه الحملة الايمانية التي فرضها أمير المؤمنين على الناس المبتلاة ببطشه ووحشيته ، ورافقتها عودة الى ثقافة الغيب وانتظار المعجزات من السماء والشعر العمودي الذي انتشر في الصحافة . في السنة الثانية من تلك الحملة ، أمرّ طاغيتنا نائبه الجنرال المزعوم والدرويش المجرم عزت الدوري أن يصطحب معه جموع المصلين الكثيرة والمنتقاة الى مطار { صدام الدولي } لاداء صلاة الاستسقاء . { 15 ألف شخص كما أعلن في حينها } ذهبوا وصلوا وبعد يومين تفجرت ينابيع السماء وأغرقت بغداد ومدن عراقية أخرى . هل كان أولئك الذين صلوا صلاة الاستسقاء يعلمون أن دائرة الارصاد الجوية المعنية بأحوال الطقس والمناخ قد الغيت في بداية الحملة الايمانية ؟ ثقافة القرون الوسطى والغيب التي أسسها صدام حسين في أعقاب هزيمته عام 1991 . ستنمو وتتكاثر طفيلياتها في السنوات اللاحقة بالعراق ، وستجد فيها الأحزاب الدينية الطائفية التي جاءت بعد زوال نظامه . تربة خصبة لاشاعة منطلقاتها الفكرية العنصرية وثقافاتها المتخلفة ليبقى العراق طوال القرون القادمة يعيش في الظلال الداكنة لثقافة الغيب والأدعية وصناعة التعاويذ .


ختم وحدة عسكرية


بعد هروبي من المعارك الطاحنة في قاطع حاج عمران وتركي الموضع الدفاعي ليلة 14 / 5 / 1986 . سلكت طريق الموصل – التاجي حسب نصيحة العريف نعمة مسؤول حانوت الفوج ، وكل أعضائي ترتعد خشية توقيفي باحدى سيطرات الطريق من قبل عناصر الاستخبارات أو الانضباط العسكري ، وتوقيفي من قبل هؤلاء الضباع والذئاب متسرباً من الموضع الدفاعي أثناء معركة ، يعني ارسالي مخفوراً على الفور الى سجن آمرية انضباط الموصل ، لترسلني هذه بدورها الى سجن استخبارات الفيلق بأربيل . ومن ثم يتم سوقي الى محكمة عسكرية خاصة لا أستطيع الدفاع فيها عن نفسي ، ذلك لأن هذه المحكمة ستأمر باعدامي وفق القوانين العسكرية الصارمة المعمول بها والتي كان يصدرها القائد العام للقوات المسلحة صدام حسين . عندما اقتربنا من بغداد ترجلت من السيارة قبل الوصول الى سيطرة التاجي بكيلوين متر واتخذت طريقاً ترابياً يبعد مسافة لا بأس بها عن عيون الضباع والذئاب التي تترصد الطريق بالسيطرة وعندما عبرت هذه الوحوش التي لا تعرف الرحمة أبداً . أوقفت سيارة تاكسي وطلبت من سائقها أن يوصلني الى مدينة { الثورة } حيث بيت أهلي ، وكنت طوال الطريق أنظر الى الأمام بعينين مترقبتين خوفاً من سيطرة أخرى . وجدتُ أمي تلطم وتصرخ ولم تستطع أن تأكل لقمة طعام واحدة منذ ليلة البارحة ، لأنها سمعت ورأت عبر جهاز التلفاز البيان العسكري اليومي يعلن عن قيام هذه المعارك بالقاطع الشمالي ويظهر البرنامج الدعائي المصور{ صور من المعركة } الذي تعده دائرة التوجيه السياسي بوزارة الدفاع جثث القتلى من القوات الايرانية ويثني على شجاعة وبسالة قواتنا التي { لم تخسر خلال اليومين الماضين إلاّ بضعة جنود } والغريب في الأمر أن البيان شأنه شأن البيانات الأخرى التي كانت تذاع كل يوم طوال سنوات الحرب العراقية - الايرانية يقول بعد البسملة وذكر آيات من القرآن . أن رجال قواتنا المسلحة قد { قاتلوا قتال الصحابة في هذه المعارك التي تشيب لها رؤوس الولدان } ويبدو أن كاتب البيان اللواء عبد الجبار محسن الوكيل الأقدم لوزارة الثقافة والاعلام سابقاً ومدير دائرة التوجيه السياسي في سنوات الحرب . يعتقد أن الصحابة كانوا لا يقتلون في المعارك التي تشيب لها رؤوس الولدان . أقسمت أمي بعد أن أخبرتها بأنني هارب من هذه المعارك انها سوف لن تدعني ألتحق مرة ثانية بوحدتي العسكرية مهما كلف الأمر ، وقالت انها في حال القاء القبض علي واعدامي بمكان غير جبهة الحرب ، فانها ستكون مستعدة لدفع مبلغ الاطلاقات ال 30 التي ستطلق عليّ الى الحكومة والبالغ 30 ديناراً ولا تريد أن تبقى جثتي قرب مواضع العدو وتموت من دون أن تدفنني بيدها . بقيت في البيت رهين مكتبتي . لا أقف في الباب ولا أصعد السطح إلاّ في الليل خشية من وشاية الجيران بي إن رأوني الى مسؤولي المنظمة الحزبية ، وهذه الحالة كانت طبيعية جداً في سنوات الحرب بسبب المناخ الفاشستي الذي رسخته سلطة حزب البعث و الذي كان مهيمناً على عقول وتصرفات وأخلاق الناس . بعد أيام جاء لزيارة بيت أهلي ابن عمتي الأصغر كريم وهو جندي مشاة مثلي في احدى وحدات الفيلق الثاني وسألني ان كنت أتمتع باجازة دورية فأجبته بنعم . لم يصدق ، وقال : { كيف يمنحوك اجازة والمعارك مستمرة في قاطعكم منذ أيام ؟ } قلت له : { اذهب الى الجحيم . انني هارب من هذه المعارك } فاقترح عليّ أن يساعدني في ايجاد وسيلة أستطيع من خلالها أن أخرج من البيت والذهاب الى حيث أريد . قلت له : { هل تستطيع أن تدبر لي نماذج اجازات دورية مختومة مقابل مبلغ من المال؟ } وكان الكثير من ضباط الجيش العراقي المرتشين أثناء الحرب يقومون بختم هذه النماذج باختام الوحدات التي يخدمون فيها ، ويبيعونها سراً للجنود الهاربين من الخدمة العسكرية عن طريق وسطاء ، وعادة مايكون هؤلاء الوسطاء خدمهم { يخصص لكل آمر وحدة أو آمر سرية أو آمر فصيل في الجيش العراقي خادم يكلف بخدمته ليلاً ونهاراً ويسمى المراسل } ومن المعلوم انه كان يمنع منعاً باتاً في كافة أنحاء العراق صنع أيّ ختم لدائرة أو مصنع أو مدرسة أو وكالة عمومية أو ورشة حدادة أو بقالة أو ما شابه إلاّ بموافقة مديرية الأمن العامة مع شرح الغاية من صنعه وتقديم الكفالة الملزمة و الشروط والأدلة والبراهين المطلوبة حتى تتم الموافقة عليه . قال : { لدي ختم وحدة عسكرية واشتريت نماذج اجازات من سوق مريدي وأنا الآن هارب منذ ثلاثة أشهر } . سررت كثيرا وقلت له : { من أين سرقته ؟ هل سرقته من وحدتك أم من وحدة أخرى ؟} . قال :{ لم أسرقه بل صنعته بنفسي } . قلت بدهشة كيف ؟ قال { عملية معقدة . أشتريت من سوق مريدي جزء من ختم مدرسة مكسور يوجد فيه العدد والتاريخ فقط وأحضرت علبة أمواس ماركة ناسيت فارغة وهي بحجم ختم الوحدات العسكرية تماماً ، وفي مرة أخرى اشتريت من نفس السوق أيضاً ختم مسروق من مصنع لخزانات الماء مكتوب فيه : رقم الوحدة لخزان الماء كذا وكذا ثم قمت بقص كلمة رقم الوحدة والرقم المرسوم في الختم ، والآن عندما أختم أي نموذج اجازة أقوم أولاً بوضع علبة الأمواس على الحبر ثم العدد والتاريخ ثم كلمة رقم الوحدة وبعدها الرقم فيصبح لدي ختم وحدة عسكرية حقيقي } . قلت له :{ هل أوقفتك مفرزة انضباط أو شرطة أو استخبارات أو دورية حزبية وطلبت نموذج اجازتك؟ } . قال بفخر: { عدة مرات . في الثورة والباب الشرقي وعلاوي الحلة والباب المعظم وسلمان باك } . ذهبت معه الى بيت عمتي العليلة وشبه الميتة منذ سنة 1980 بسبب نواحها المستمر ليلاً ونهاراً على ابنها الأوسط كاظم الذي فقد في الشهورالأولى للحرب باحدى جبهات القتال بالقاطع الجنوبي ولم تعرف أي خبر عنه على الرغم من ذهابها المستمر لزيارة قبورالأولياء والنذور الكثيرة ولقاءاتها بالسحرة والمطوعات وقارئات الغيب لكن من دون جدوى . ختم لي كريم عدة نماذج من دون مقابل على الرغم من جهده الذي استمر فترة لا بأس بها . وقال : { الآن تستطيع أن تضع التواريخ متى ما شئت ، ولكن يجب أن تحتاط من الجيران والناس الذين يعرفونك في منطقة سكناك . حذار من أن تظهر في فترة شهر أكثر من 7 أو 9 أيام أمامهم ، لا تدع أحداً يشك بانك هارب من الخدمة العسكرية ولديك نماذج اجازات مزورة لأنهم من الممكن أن يبلغوا عنك مكتب المعلومات الأمني في المنطقة أو المنظمة الحزبية . بعد شهور ألقت أحدى مفارزالاستخبارات القبض على ابن عمتي كريم في أحدى مناطق { الثورة } بسبب شكّهم في حقيقة نموذج اجازته واقتادوه الى الشعبة الخامسة فوراً في دائرة الاستخبارات وبعد التحقيق معه ذهبوا الى بيت عمتي وفتشوا البيت وصادروا الختم المزور ، وهنا قامت قيامتي حين جاءت عمتي الى بيت أهلي تولول . ماالعمل الآن ؟ سوف يقوم جلاوزة الشعبة الخامسة المرعبة بتعذيب كريم واستنطاقه حول عدد وعناوين أولئك الجنود الهاربين من الخدمة العسكرية الذين ساعدهم وسهّل لهم عملية ختم النماذج المزورة . التحقت الى وحدتي العسكرية نادماً خشية القاء القبض علي واعدامي ، وهنا تضرعت الى الآلهة أن تجعل عقوبتي عندما يتم تقديمي الى محكمة عسكرية مخففة . في التحاقي الى الوحدة . هذه المرة حدث نفس الشيء الذي حدث في التحاقي السابق . عشرات الوحدات العسكرية من صنوف مختلفة كانت تقوم بالتدريبات العنيفة ومهمات الاستطلاع والاستمكان والرصد والطيران الحربي لا يكف عن طلعاته المستمرة ليلاً ونهاراً ضد مواضع وتجمعات القوات الايرانية . قدمني رأس عرفاء سريتي زين العابدين الى آمر سريتي الجديد الملازم أول جاسم الذي تم تنسيبه بدلاً من آمر السرية السابق الملازم أول محمود بعد مقتله في اليوم الرابع من معركة جبل كرده مند التي بدأت في ليلة 13 / 5 . لم يوبخني هذا الضابط ولم يشتمني بسبب هروبي ووعدني انه سيمنحني اجازة لمدة 3 أيام بعد اسبوع لطمأنة أمي . في مكتب قلم السرية أخبروني أنهم سوف لا يرسلون محضر تحقيق حول هروبي الى المحكمة العسكرية الدائمية 23 بالموصل الآن . وقالوا أن ارسال المحاضر التحقيقية الخاصة بحالات الهروب من الخدمة العسكرية الى المحاكم متوقف الآن بموجب برقية من القيادة العامة للقوات المسلحة في هذا القاطع . بعد أن قضى كريم مدة شهر في الشعبة الخامسة . سلموا جثته الى عمتي وقالوا لها انه { مات بالسكتة القلبية } . قتلوه وعمره 19 عاماً .


قال كونفوشيوس


قال كونفوشيوس : { الجنرال العظيم حقاً هو الذي يكره الغزو }
لكن افلاطون وارسطو أقرّا شرعية الحروب تماماً .
أين ؟ وعلى أيّة جبال غريبة وكافرة سيضحى بنا ؟
وعلى أيّة رمال ؟ وفي أيّة صحراء ستتعفن أجسادنا ؟
مرة بعد مرة نترقب أعياد الطبيعة وولادة الآلهة
لكن كلما يجن طاغية . تخفت حماساتنا .
قال كونفوشيوس : { الجنرال العظيم حقاً هو الذي يكره الغزو }
لكن افلاطون وارسطو أقرّا شرعية الحروب تماماً .
مع ابواق نسمات الفجر الباردة والصاخبة
سيجيء ماهو أعظم من حاجاتنا الشخصية
ستبقى المجازر مستمرة على هذا الكوكب النقي
وستعفن جيفنا الكريهة . الأصقاع المترامية البعيدة .
قال كونفوشيوس : { الجنرال العظيم حقاً هو الذي يكره الغزو } .



كمين في الأرض الحرم


أرادت القيادات العسكرية الايرانية بعد طرد قواتها من قاطعي حاج عمران وسيده كان في المعارك السابقة أن تستعيد بعض الرواقم العالية في هذين القاطعين للتأثير على سير ومجريات المعارك التي قد تحدث في جبهات أخرى من جبهات الحرب ، فبعد أن تكبدت قواتنا خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات طوال الشهور الماضية بفعل القصف المستمر من مختلف المدافع والراجمات والدبابات والطائرات . اعتقد القادة الايرانيون أن الوقت قد حان لشن هجومين كبيرين ومتزامنين على هذين القاطعين . وبعد أن باشروا استعداداتهم الحربية واللوجستية واقترب موعد هجومهم ضد مواضع وحداتنا . منعت قيادة الفيلق الاجازات والمأموريات في جميع الوحدات ووصلت قاطع عمليات فيلقنا ألوية وحدات خاصة ومغاوير وألوية مشاة من ألوية احتياط القيادة العامة للقوات المسلحة وباشرت على الفور بعمليات استطلاع واسعة في وديان وجبال حاج عمران و سيده كان استعداداً للمعارك القادمة ، كما وصلت أيضاً كتائب دبابات و بطريات مدفعية ثقيلة نمساوية ، وهذه المدافع التي تصوب نحو أهدافها على شكل قوس . كانت غير موجودة عند الجانب الايراني وكانت تكبد القوات الايرانية خسائر قاسية في الأرواح ، وقبل الهجوم الوشيك أغارت على مواقعنا الخلفية والمتقدمة ومواقع أسلحتنا الثقيلة عشرات الطائرات الايرانية الحربية ملحقة بنا وبأسلحتنا ومقراتنا الدمار والخراب وقد استطاعت وحدات مقاومة الطائرات وبطريات صواريخ سام 7 وسام 9 اسقاط العديد من هذه الطائرات فوق العديد من المدن والقصبات والنواحي والجبال والوديان وأسر طياريها . وفي هذه المرة قررت القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية أن تغير خططها الحربية السابقة التي كانت تقوم على دفع ألوية المغاوير بهجوم مقابل حين تحتل القوات الايرانية مواضع ألوية المشاة وتقوم بطردها من الهدف بعد ذلك ، وقررت بدلاً من هذا السياق أن يكون مع كل لواء مشاة لواء مغاوير وسرية أو أكثر من السرايا المرتبة وأفواج من قوات الجيش الشعبي حتى تكون هذه القوات قادرة على صد الهجوم وتحطيم زخمه مهما كانت قوته ، وضمن هذا السياق صدرت الينا الأوامر ليلة 29 / 8 بالتوجه الى جبل كرده كو لنكون ظهيراً للواء 39 مشاة . صعدنا الجبل ليلاً واتخذنا مواضعنا بعد أن قمنا بحفر الخنادق والشقوق والسواتر تحت القصف المدفعي الذي لا يتقطع من جانبنا ومن جانب القوات الايرانية ، وفي اليوم التالي طلب من كل فوج أن يهيء 4 من الجنود الشجعان ليقوموا بواجب الكمين في الأرض الحرام التي تفصلنا عن القوات الايرانية . اختارني من سريتي الملازم أول جاسم آمر السرية وكدت أموت من الرعب ذلك لأنني لم أكلف من قبل بواجب الكمين ، وقال لي بعد أن رآني أكاد أخرى على نفسي من شدة الفزع :{ أنت أقدم جندي في سريتي واخترتك لشجاعتك وبسالتك . اذهب نفذ الواجب وكن بطلاً } يا إلهي . ماذا سأفعل بالأرض الحرام ؟ وكم من الوقت سأبقى قرب مواضع القوات الايرانية ؟ هل سأدوس على لغم أو أقع في مصائد المغفلين ؟ كنت وأنا أسأل نفسي هذه الأسئلة أفكر في قصائدي التي دفعتها الى زاهر الجيزاني ووعدني بنشرها في مجلة{ الطليعة الأدبية } . شرح لي بعض الجنود الذين كلفوا معي بالمهمة ، أن هذه سياقات عادية ومن الممكن أن نطبخ الشاي اذا لم نصطدم بدورية قتالية معادية ، وقالوا أن القوات الايرانية تقوم بنفس الواجب أيضا ونحن سنكون بعيداً عنهم . انحدرنا من أعلى ربيئة فوق جبل كرده كو واتخذنا طريقاً نيسمياً باتجاه الأرض الحرام . لاشيء سوى الصمت المطبق . لا اهتزاز غصن . لا هفهفة نسمة . وحده رفيقنا عبد الأمير حامل جهاز الارسال البالغ وزنه 13 كيلوغراماً والمسمى جهاز الراكال يتنحنح كلما مال جهازه يميناً أو يساراً فوق ظهره ، وبالنسبة لي فقد كان أشدّ ما يفزعني وأنا أسير مع هؤلاء الجنود الذين لا أعرفهم ولا يعرفونني . هو دويّ القذائف وصواريخ الراجمات الايرانية والعراقية التي بدت لي وكأنها شهب أو نيازك تسقط على الأرض . مكثنا في الأرض الحرام من الساعة الواحدة بعد منتصف الليل الى الساعة الرابعة صباحاً ثم انسحبنا باتجاه مواضعنا عبر شفرة من جهاز الراكال جاءت الينا من مقر اللواء .


قبر في راوندوز


حياتي حرّة . حرّة كطريق العوسج
أمامي الآن ذئاب جائعة . هذه الذئاب تمجد فرائسها حتى حوّلت القتل ركاماً متشظياً من الغدر
الآن – في أيام العواء وصحراء من الخوف حيث الفاقة بأجنحتها السود تحجب الشمس
أنظر الى تلك المجازر التي تصنعها الذئاب ، وظلال الموت التي تلّف دروبي
آهٍ ، الخوف في جوفي كما في السماء . الخوف هو عواء الذئاب ، والظلام يستقبلني كقبر ضخم
لماذا أحمل معي الألم مثل الكتب وتطاردني لعناتكم دائماً ؟
لماذا يبتعد عن سمائي القمر مثل خطيئة ؟ حياتي تمضي أينما حلّت في خريف من الفقر والاستعباد .
بعد الآن لا أسمي
الذهب قمحاً
ولا العواء انشاداً
ولا الحبّ سماء
ولا الضرع نبعاً
ولا النار طريقاً
ولا الثور إلهاً
ولا العشب قلادة
ولا انخيدوانا شفيعة .
العام الماضي ذهبت الى قبر صديق في { راوندوز }
ماذا وجدتُ فوق سفحه ؟ وجدتُ الرماد يتشطى وجماعات جماعات يسير الدود متخماً
أواه ، أيها العزيز . لأجلك أشعلت القمح وأيقظت الخنازير النائمة في مستنقعات ليلي
والآن – لا شاطىء لآلامي في انطفاء سطوعك القويّ .
أشجار الفضة
ورياضيات الشمس المعلقة فوق السطوح
ومرايا زند الصباح
كلها تنطفىء أمام عيني .
هل كان موتك دولاب حياتي ؟
لا رفيق لي الآن سوى عواء متقطع يلتصق بي منذ ليلة 13 / 5 / 1986
ليلة الهجوم الايراني على جبل كرده مند .
ليكن للميت ريش أيام ظالمة . ليكن لقبره عطر من الأمواج والأبواق الشجية .
هذه الأرض الأسيرة والجريحة التي أكلت نهاراتنا . تترقبُ يأسكَ ونشيجكَ الذي يعري ليل العشب .
حياتي الثكلى تربي ثآليلها في ليل العدم .
الفتى الذي يبحث عن النساء
الشاب الذي يبحث عن الذهب
الشيخ الذي يبحث عن النقوى
كلهم حزاني من أجل قبر في راوندوز .
الدموع التي تنهمر الآن هي ذكريات سهادات عشناها معاً .
المنفى واللامنفى
شعلتان تستعران
والشاعر بستان مليء بأشجار محملة بالأصفاد .
هل يهتك الشاعرالأسرار ؟
هل تروّض كلماته الجريمة ؟
رماد على ندى الورد
عينا غراب
آلام أكثر رطوبة من النار
جنود يجرجرون مدافعهم على الطرق الصخرية في السماء
وأنتَ وحدك في { عظمة ترملكَ } تتقدم صوب نخلة بآلاف الأذرع
الشعر والناصرية
تنام بينهما الأمواج وطيور الدرّاج ، ويزحف الموت على الموت .
عريانٌ ، ربيعك مثمر بالحبّ
وشموس حواجب
ورعد وشموع عليلة .
هل الموت يعاش ؟
هل يمنحني بريق المجد السلطان على الألم ؟
لا سماء أصعد اليها
ولم استرح في ظهيرة تحت ظلال جنائن بابل
ولم أحلم أن أكون في يوم ما جنرالاً في جيش الملك سنحاريب
ولم أصعد حصاناً وأسير فوق جثث القتلى
ولم أرتكب حماقات
أشياء كهذه لا تبهرني
{ حياتي محطمة ولا أمل لي بمستقبل أفضل }
طالما فكّرت في الماضي . في حروب طويلة وشعوب منكوبة تعبرالجبال في هجرات
كبرى . في ذبح الانسان لأخيه الانسان { لأن المجد ليس بدائم ولا التاج } .
حاملاً نعشي أعود من طروادة مدّمى . تطن في اذني جحيمات مدافع وراجمات
أبحث عن أصدقائي تحت أنقاض بيوت مهدمة . مستشفيات . شوارع مقصوفة .
هذه الأغصان اليابسة أظنها عظامهم أحرقتها قذائف . هذه الحشرجات أظنها احتضاراتهم .
لتذهب جميع النساء الى الجحيم . لا أحلام عندي الليلة . لا سهرات . لا لطافات .
ميتة . ميتة ذات كابوس . ميتة حرب طويلة منذ عام 1980 حيث رائحة البارود في الشفاه
والمال
والطعام
والمصافحة .
الطعنات السرية
والميتات السرية
والخوف من الخوف
والتنكيلات
والاستلابات
والتوابيت .
في رأسي جميع الأفكار لها سواد الزفت
هنا النهيق الذي يخدش الاذن
هنا كل شيء يعوي في هذا الرأس ودهاليزه المتفحمة .
كل كلام لا معنى له حين تبتسم في وجه القاتل وتحدق في وجه القتيل قائلاً : { أن الحياة
جميلة كشمس من الزفت } كل كلام لا معنى له حين تتنزه السياط في جسد الشاعر
وحين نذهب الى حرب ونأكل بلا شهية .
لا أحب اللص الذي يسرق المياه من بيت الشمس
لا أحب الجنرال
لا أحب الأسلحة الخضر
لا أحب القاتل في المصيف
لا أحب الليل في الوادي
لا أحب الكاهن في البيت
لا أحب الدبّابات في الحديقة
لا أحب الجنرالات في المدينة
لا أحب أوامرهم
لا أحب خرائطهم
لا أحب مدافعهم
لا أحلب معاطفهم
لا أحب انوفهم المعمارية
لا أحب أيّ شيء سوى موتي الذي أحيا فيه .
جهشات النساء الأرامل تصدح حولي كجناح نعامة يشق طريقه عبر الظلام .
كل جنرال مع قتلاه ونياشينه التي تلمع مثل العار
كل مجد يزول ويأخذ لون الرماد شأن الأكاذيب
لا مكان آخر سوى الصمت والمضي برأس غجري في الريح يتأرجح كشمعة .


بودلير في السجن


بعد نهاية المعارك الشرسة التي دارت بقاطعي حاج عمران وسيده كان واندحار القوات الايرانية المهاجمة . صدرت الينا الأوامر بالعودة الى المقرات المتقدمة بمنطقة قصري وقرية دار السلام بعد أن أخلينا القتلى والجرحى والأسلحة والتجهيزات التي تحطمت ، وطلبوا ممن يريدون مأمورية لمدة 3 أيام أن يذهبوا الى مستشفى أربيل العسكري ويأخذوا جثث القتلى من أفواجنا لتسليمها الى أهلهم في مختلف محافظات العراق . تردد الكثير من الجنود شأنهم شأن الآخرين في بقية الوحدات العراقية الأخرى خوفاً من أن يقتلهم أهل القتلى ، وكان الكثير من الجنود أثناء الحرب العراقية- الايرانية عندما يذهبون بمأمورية لتسليم جثة جندي الى أهله يتعرضون للقتل من قبل أهل الجندي القتيل أو تلحق بهم اصابة بالغة ، ذلك أن هؤلاء الناس عندما يطرق أبوابهم المأمورون ويفتحونها . ينهارون حالاً ويصابون بالهستيريا حين يرون سيارة تاكسي تحمل تابوتاً مغطى بالعلم العراقي ، وعندما يبلغ مأمور ما أحدى العائلات من أن هذه جثة ابنهم الذي قتل في الهجوم الفلاني . تقوم هذه العائلة بعد أن تصاب بالصدمة بالهجوم عليه حالاً بكل ما تملك من آلات حادة وعصي ، فأما أن يهرب بعيداً أو يتعرض الى الأذى البالغ ، لكن هذه المرة جاءت تعليمات جديدة توصي بأن يقوم المأمور بتسليم جثة الجندي القتيل الى المنظمة الحزبية أو مركز الشرطة في منطقة سكنه ليتولى رجال الحزب والشرطة مهمة ابلاغ أهله وتسليمهم الجثة . ذهب الكثير من الجنود الى مكاتب السرايا في فوجنا لاستلام مأمورياتهم وكانت معنوياتهم عالية بعد التعليمات الجديدة التي أبلغوا بها . في الأيام التي تلت انسحابنا من المعركة وذهابنا لاعادة التنظيم بمنطقة قصري وقرية دار السلام . جاءت هدايا من قيادة الفرقة وقيادة الفيلق مخصصة للضباط فقط ، وهذه الهدايا هي قطعان حيّة من الخراف ، وهكذا راح ضباط فوجنا وضباط الأفواج الأخرى يحتفلون عبر حفلات شواء صاخبة بانتظار صدور المراسيم الجمهورية الخاصة بمنحهم الترقيات والأوسمة والأنواط . في أربيل التي ذهبت اليها مع مجموعة من الجنود من دون إذن من آمر السرية بسبب منع الاجازات للاستحمام وتناول وجبة طعام حقيقية بعيداً عن مطبخ السرية وباذنجان وبيض وطماطم حانوت الفوج . ذهبت الى المكتبات وكم كان سروري عظيماً عندما وجدت{ زهور الشر } لبودلير صادراً بترجمة خليل خوري عن دار الشؤون الثقافية التي أغرقت المكتبات بترجمات رديئة لمجموعات ومختارات من شعر الحربين العالميتين الأولى والثانية . اشتريت نسخة من{ زهور الشر } وبعد الاستحمام بحمام عمومي . ذهبت مع بقية الجنود الى أحد المطاعم لتناول كباب أربيل الشهير . دخلت المطعم مفرزة من انضباط الفيلق واقتادتنا الى سجن الموقع حيث مكثنا 3 ايام ، تم بعدها تسفيرنا الى وحدتنا فأمر آمر سريتنا بعد أن قدمونا اليه من دون بيريات وأنطقة حسب السياقات العسكرية الخاصة بالمعاقبين بسجننا 4 أيام لذهابنا الى أربيل من دون اذن وحلق رؤوسنا نمرة 4 . في اليوم الأول من السجن قلت لنفسي أن قراءة بودلير في السجن بعيداً عن ساعات التدريب العنيفة والاهانات فرصة لا تعوض ، لكن تبين لاحقاً أن عقوبة السجن وحده لا تكفي . أمرونا في اليوم التالي أن نباشر التدريبات المعهودة مع بقية جنود الفوج بالاضافة الى تنظيف مراحيض السرايا 3 مرات في اليوم . نفذنا الأوامر وفي الليل جاء آمر السرية وكان الضابط الخفر للفوج في ذلك اليوم لتفقد أحوال الجنود السجناء لكنه بدلاً من تفقد أحوالنا راح يشتمنا ويوجه لنا الاهانات بسبب ذهابنا الى أربيل .


النار في الحديقة


ما الذي يجعلهم يشعلون النار في هذه الحديقة
ويهدمون أجراس الصباح الفضية ؟
القديسون يزرعون الأفكارالحرّة ويطلقون الفهود
لا يهمهم قمحنا المحروق ولا الأصفاد
فوق اكتافهم اللازوردية غمامات ونوارس
أقمارهم اللامعة تشع على كهوفنا الحيوانية .
ما الذي يجعلهم يشعلون النار في هذه الحديقة
ويهدمون أجراس الصباح الفضية ؟
لماذا لا يطردون الآلام والخوف من البيوت ؟
لماذا لا يطردون الظلام المتطحلب في المدينة ؟
لماذا لا يهدمون القلاع وأسوارها العابقة بذرق الغربان
حتى تتحرر طواويسهم ، رهائن الفحم والخيزران .
ما الذي يجعلهم يشعلون النار في هذه الحديقة ؟


معاقبة آمر السرية


حين التحقت الى وحدتي بعد أن انتهت اجازتي الدورية وكنت في كل مرة أغيب 2 أو 3 أيام بعد أن تنتهي اجازتي . قدمني رأس عرفاء سريتي التركماني زين العابدين مذنباً الى آمر السرية الملازم أول جاسم فأمر بسجني 4 أيام بسبب الغياب وتأجيل اجازتي القادمة اسبوعاً واحداً . مكثت بالسجن مدة العقوبة من دون أن يطلب مني الخروج الى التدريب وتنظيف مراحيض سرايا الفوج كما في المرة السابقة . في اليوم الثاني من سجني زارني أصدقائي الجنود زيد وباقر ومجيد عبد وراحوا يواسوني كما واسيتهم من قبل وأخبروني انهم مازالوا يفكرون بعقوبة مناسبة لآمر السرية الذي راح يتمادى في طغيانه وكانوا في أشدّ حالات العصبية والتذمرمن تصرفات هذا الضابط الشرسة ضد مراتب السرية . اعتقدت في البداية انهم سيقتلونه أثناء هجوم ايراني قادم أو سينصبون له كميناً عندما يذهب في اجازة ويطلقون عليه النار مثلما حصلت حوادث مماثلة في وحدات أخرى لكن اعتقادي هذا كان في غير محله ووجدوا أن أنسب عقوبة يعاقبونه بها من دون أن يلحقهم أي ضرر هي أن يضاجعوا بغلته المخصصة له ، عندما يذهب في اجازته القادمة وكان الكثير من الجنود يقومون بمضاجعة البغال والحمير في المناطق الجبلية أثناء الحرب مع ايران لكنهم يمتنعون عن مضاجعة بغال الضباط بسبب وجود حرسهم الدائم والسبب الآخر هو أن البغلة عندما تضاجع 4 مرات أو أكثر تصاب بالشبق وتصيبها حالات هيجان جنسي اذا لم تضاجع باستمرار ومن الممكن أن تقتل أي شخص يقترب منها في هذه الحالة برفسات قوية جداً إذا لم يضاجعها ، وكان البغل أو البغلة اذا تعرضا للأذى من قبل أحد ما وقتلا شخصين يتم اعدامهما وإذا رفست البغلة ضابط ما تقوم استخبارات الفوج باجراء تحقيق حول الحادثة مع أولئك الجنود المعروفين بالقيام بهذه الأعمال وأحياناً يتم التعرف عليهم من خلال الشهود أو مرض يصابون به في عيونهم . عموماً ، نفذ هؤلاء الجنود مهمتهم بعد أن ذهب آمر السرية ليقضي اجازته ببغداد وبعد عودته بأيام وكانت بغلته شبقة جداً قامت برفسه بقوة وحطمت فكه الأيمن عندما أراد ركوبها في مهمة استطلاعية مما استدعى نقله فوراً الى وحدة الميدان الطبية المتقدمة بناحية ديانا ومن ثم الى مستشفى أربيل العسكري .
حامت شكوك كثيرة حول هؤلاء الجنود الذين عاقبوا آمر السرية بسبب تذمرهم وغضبهم الدائم من تصرفاته الوقحة ضدهم وضد بقية الجنود لكن نتيجة تحقيق استخبارات الفوج لم تعثر على دليل واحد لادانتهم وهكذا وضعوا تحت المراقبة مع جعل ملف التحقيق مفتوحاً


شعراء الستينيات


احترامي الدائم والكبير لشعراء الستينيات الذين تعلمت منهم أشياء عظيمة في مسيرتي مع الكتابة . يجعلني أشعر بالسرور كلما تلقيت رسالة من أحدهم بسبب حبي واعتزازي بهم وبمنجزاتهم التي قد اختلف معهم فيها . لا يمكنني أن أنسى انجازاتهم المهمة والطرق الوعرة التي سلكوها طوال أكثر من 40 عاماً وهم يحاولون أن يحفروا في الصخر هذه الشعرية التي منحتنا الضوء العالي وفتحت لنا الطرق والمجاهل الوعرة . البعض من هؤلاء لا يستطيع المرء أن يقرأه بمحبة بسبب ادعاءاته النفاّجة وسلوكه العدواني في الأدب والحياة العامة ، والبعض الآخر تشعر بقيمة صداقته حتى لو لم تكن تعرفه أو تكون بينك وبينه أيّة معرفة . الانقسامات والتخندقات الآيديولوجية التي تورط القسم الكبير منهم فيها في الماضي على حساب الابداع والجوهر الحقيقي للشعر . تبدو الآن واضحة في انجازاتهم ، وعلى الرغم من انطفاء تلك الآيديولوجيات وبريقها الخلّب . فأن الكثير منهم ما زال يحيا في السراب العقيم لثقافته ورؤيته السياسية والفكرية الأولى . ما فائدة الاخلاص الى الحزب والزعيم الحزبي من قبل الشاعر الطليعي ؟ هل حقاً أن في تراثنا الشعري الحديث ما يسمى بقدسية الزعيم الحزبي والطاعة التي قدمها ويقدمها له شاعر التجريب والمغامرة ؟ من أكبر المصائب في شعرنا الراهن هي مصيبة أن يكون صدام حسين البعثي أو عزيز محمد الشيوعي المرجعية الحزبية لشاعر التحرر والتنوع والتعدد والحداثة .


{ ضد التبجح }

1

{ في النصف الثاني من الثمانينات . كنّا نمارس الكتابة في الظل . نناور من أجل هذا الظل . نختبره بما أوتينا من شعر . مهربين كل تلك المشاهدات الى الكلام . الكلام هو قصائدنا التي نسرف في سرّية نقائها . سرّية خوفها . ولكن ، هل كان انحيازنا الى الظل خطأ . لا بالتأكيد ، ولكن بوسعي أن أسمي كل أولئك الذين انحازوا الى { الضوء } ناشرين بذلك غسيلهم . وأيّ غسيل ؟ المؤسف حقاً ليس هذا بل { مزاودتهم } حتى على الاضطهاد . مستفيدين من اللخبطة والشقوق التي أوجدتها { الحرب الأخيرة } في جدار الموقف { الى حدّ أن حصل كبيرهم على جائزة عالمية للاضطهاد } . أود أن أسجل لهذه المرحلة فانتازيتها التي تحسب لها وبجدارة ، اذ انني وأصدقائي الآخرين هربنا الى نقرة السلمان قاصدين الحرية والخلاص { شكراً للفانتازيا } . لنا الآن اعلان ما أجِّلَ طويلاً ، وما لم يتسع له ذلك الفضاء .

فلاح الصوفي { لو ابتدأ الهواء } مجلة واحد العدد الأول .

2

صديقنا الشاعر فلاح الصوفي الذي أصدر مجموعته الوحيدة { هكذا ورد في المخطوطة } قبل أكثر من عشر سنوات وساهم مع أصدقاء له في اصدار مجلة { واحد } ومجلة { غجر 1 } . سيكتشف بعد العام 2000 أن عنوان مقاله الذي تصدر الصفحة الأولى في العدد الأول والوحيد من { غجر 1 } ليس صحيحاً { الشعر وطننا الأوحد } وسيكتشف فلاح والعشرات من الشعراء سواه أن هناك ما هو أسمى وأجمل في الحياة غير الشعر . الزواج والانجاب والعمل الدائم . لا الحرية التي حلم بها فلاح في اوروبا ولا الخلاص . العبودية للعائلة هي الوطن الأوحد وطز في الشعر . بلوى .



ريش نحام فوق ضفاف العالم

لا شمس حرّة تسطع في يدي
لا ذهب يمدّ أعناقه صوب الضفاف الأخرى
واقف بين عشب رماد . يسورني برد آلام متعفنة ومذهولة .
عيناي مرمدتان يستظل فيهما نعيق غربان يطارها صيف صمغي .
لي مظلة من دخان ، ولي ذكريات شرسة أنبشها وأضمّدها في المساءات
المغمورة بالمستنقعات القديمة للحروب . موتي يتبعني ولا يتبعني . آخيته . اصطفيته .
حضنته . حنوت عليه بين أقنعة من فجر منبوش ، وفي السهاد / اللهب / فتحت له الأبواب .
الأسلحة المعراة للقصف ملكي وملكي الخزائن المطمورة في رمال الصمت . السهاد تحت السهاد تجرني قلاعه كما شجرة مرتجفة
السهاد ليل الخرائب . ليل الوحدة المقوسة
مع قناع المشاعل الهاذية في نارها اللامعة والمطفأة .
تآكلات . حياتي نهر بلا جسور وظلمة يمرّ من تحت فراغها
ربيع ميت . يستقر فوق أجفان تتجمد بين العشب وبين الغبار . فجر
بارد على العشب المجنون يلمع مثل مصابيح لا تضيء . هنا في هذا العشب
المتألم . في عذوبة المياه المبسوطة واللينة مثل قبور أطفال جديدة . يكفيني صيفكِ
صيف الغبطة القليلة والنوم المحموم بمذاقاته المزدوجة . يكفيني حضوركِ البهي والمستعاد
ثانية . يكفيني ذهبكِ الجريح واللافح
في صمت الريش . تقدمي أو لا تتقدمي يا فجرنا الواقف
بين الأكتاف وبين القنديل النائم . ها نحن نترقبكِ يا ضوءاً مميتاً
كما نترقب رغوة العدم الذي يصارع في استراحاته العنيدة . أين شرارتكِ
التي تبحث عن ليل الينابيع ؟ هذه الدمعة المتروكة وحدها والتي تتسلل بلا حراك
هي دمعتي التي تنهض فوق فوق ملح الليالي المخربة حيث سطوع الأسلحة التي تحالفتُ
معها في الماضي والتي تتحرك الآن ببطىء فوق ظلال يدي المغروسة في ريش الشاهين . الآن
أسمع عواء بن آوى بين أشجار السرخس . أسمع صرخات القرابين المنحدرة صوب أدغال العليق المستهزئة بفحولتنا ومدائحنا . أسمع
ذوبان الثلوج في لهب التحننات المسيّجة والمحروسة
وأرى الآن في هذه المتاهة من العواء . أحلامنا المرعبة والمفككة
تتقافز أكثر من نجوم مختلطة بشفاه يدثرها الصقيع بصوته المرتعش فوق الشعلة .
في ساعات النار وفي ساعات المياه الساكنة . أتدثر تحت أعمدة ربيع تتأرجح بين مرايا
وتماثيل مهجورة . هل ثمة حياة تشبه تلك التي عشناها في الأنهار التي بلا ضفاف ؟ حياتنا
الآن هاوية متروكة لسديم يعقد مواثيقه مع الرماد وتنقصها الظهيرة المتمددة بين النجوم وبين الحنطة
الزرقاء . متى أسترد وجهكِ المنحوت في الغياب ؟ هل انحني عليكِ وأنتِ ترسلين خطواتكِ مع بروق الموت التي تنقسم بين الرغبة
وبين الصخر العاري المحروس ؟ العشب
تحت شمس الألم يبحث عن أرض مرفوعة في
فضاء يومض بترائكه . هذا عشبكِ . عشب كلماتمكِ
الذي ينّقع طرقكِ الهرمة والمنزلقة صوب جرح النجمة الأشدّ
تألماً من خزائن مهمومة بأسرارها . لماذا طرقكِ مثل طرقي ، مظلمة
وغير منفرجة ؟ آهٍ ، أيتها الأخت المباركة والمضيئة مثل سيف ملاك يحطم
الصدمة اللامرئية . سروركِ في الشمس العليلة وهي تحمل صوفها المختلط بالهاوية
القريبة من أرض المياه . طحلب
وانتحار بطيء وانعكاسات ظلال خائنة وقبائل
نمل تتقهقر فوق رمال طرق حياتي السود ، لكن هناك
سهادات ومدائح من أمواس تصعد في النهار وغيومه التي لا
تنام . الأعشاب المطفأة خضر ومركومة فوق الصخور الداكنة . هل الشعلة
ندبة سوداء فوق مياه الليالي المتبخرة ؟ دموع وتشردات وجنونات وشفاعات تلتقي
بخيانات من ليل الألفاظ المكسوة بالريش . ببغاوات تفاجىء برطاناتها صمت العاشق . سرب
كبير من الخيانات المنقسمة على نفسها في جنون الألم . لماذا يستعجلني الموت ؟ هل أتخلى عن هذه الحياة المليئة بشرارات الألم وشواطىء
الصيف والذبائح المضيئة لسهرات العالم ؟
في الروح المنعزلة . في القبور وظلالها . في شكوى
الموسيقى النقية . في عناق الليل الذي تصعد منه غابات من
الأنفاس . ينمو الطحلب أكثر فأكثر في فم الشاعر . عميقاً بلا ماء
أشعل وردة اللامتناهي في أشجار مصنوعة من قيثارات حمر وتظللني أرض
الغيوم مثل قبور مغمورة حتى أعناقها في الفضة . كنتُ ذبيحة وصعدت . كنتُ محاطاً
بهجومات ومذابح . قلاع من نعاس . قلاع من وساوس . قلاع شاهقة في حصاراتها ونذورها
ريش نحام فوق ضفاف العالم . أصوات
صامتة تعكس حروباً وتحالفات شمس مخفية
في كهوفها ثمار ظلام يتهجى فضاء الغيوم الأسيرة .
لتكن هذه الكلمات هي الراية التي أرفعها أمام الضباب
وتكسراته في نار العدم المتأهب للحصاد ولتكن هي اللعثمة
الجريحة والساهدة في انقسامات الصراخ . صراخ الانسان النائم
بجنب الفراغ . ليل من الأعشاب المطحونة ، مكتوبة على مراثيه تنهدات
النهار . ليل يتحالف مع اللامرئي ويتحرك في الضجيج المحموم للصحراء التي
تلامس شفاهنا ، هو ليل الغيوم المرتجفة
والمكتظة بأوراق البرد التي ترتعش فوق الظلال
الجافة والمتنهدة لكلماتنا التي لا تتقدم اليها الشمس . أبواق
بعيدة وجهشات ، وفي العالم الكئيب كائنات غامضة تسرق الشعلة .


غنغرينا


كانت الهجومات والتعرضات في فصل الشتاء تتوقف تماماً بالقاطع الشمالي لجبهة الحرب لكن الكمائن والدوريات القتالية وسياقات القصف المدفعي تبقى مستمرة كالعادة ، وكان فوجي يكلف أحياناً في هذا الفصل بمسك موضع دفاعي سواءً بقاطع سيده كان أو قاطع حاج عمران وفي الشهرالحادي عشرمن عام 1986 كلفنا بمسك أحد المواضع الدفاعية فوق جبل زرار بقاطع سيده كان وكانت فرصة مناسبة للقراءة على الرغم من وحشة المكان والثلوج والقمل والحراسات الليلية والقصف المستمر . وكان بعض الجنود ممن يمضون فترة طويلة فوق الجبال في الفيلق الأول والفيلق الخامس يتعرضون في الشتاء الى نوع من الغنغرينا بسبب الوقوف المستمرعلى الثلوج التي تتراكم باستمرار، وحين كثرت حالات بتر الأرجل للجنود المصابين في مستشفيات أربيل والسليمانية العسكرية وصلتنا في الشهر الثاني من عام 1987 برقية فورية من القائد العام للقوات المسلحة صدام حسين تقول : { تقرر اعدام المراتب الذين يقومون بنزع أربطة الأحذية من أجل الحاق الأذى بأنفسهم } وكان قائد قواتنا المزعوم بعد أن اطلٌع على تقارير مديرية الاستخبارات العسكرية الخاصة بهذه الحالات التي يتعرض لها المراتب قد اعتقد أن هؤلاء الجنود المصابين يقومون بنزع أربطة الأحذية كنوع من ايذاء النفس حتى يتم تسريحهم من الخدمة ، لكن عندما بدأت تكثر هذه الحالات بين صفوف الضباط أمر الاستخبارات باجراء تحقيق شامل حول الموضوع . بعد فترة رفعت الاستخبارات تقريرها الى صدام حسين وأوضحت فيه أن الوقوف على الثلوج طويلاً يسبب الغنغرينا خصوصاً وأن جميع الضباط والجنود يرتدون جزمات غير مبطنة وخلال 5 أيام وصلتنا في الطائرات من رومانيا جزمات مبطنة بالفرو وكانت من النوع المتين والمريح على العكس من تلك البساطيل العراقية الشبيهة بالسلاحف والتي تتمزق خلال فترة وجيزة . في هذه تم الفترة تم نقل آمر لواءنا العقيد عبد المحسن الذي حصل على نوطي شجاعة بعد المعركة السابقة الى لواء المشاة 98 وجاءنا آمر لواء جديد هو العقيد قوات خاصة وعضو شعبة في حزب البعث علي عبد محمد الحمادي وهذا الآمر الجديد كان فظاً ووقحاً ولا يكترث لأي شيء وكان صدام حسين ساخطاً عليه منذ عام 1982 حين كان برتبة نقيب وآمر فوج قوات خاصة . وسبب سخط صدام عليه هو أن القوات العراقية عندما اندحرت عقب الهجوم الكبير الذي شنته القوات الايرانية عام 1982 وحررت فيه مدينة { المحمرة } اتهم صدام الكثير من الضباط بالخيانة وقام باعدامهم وظل ساخطاً على كثيرين غيرهم ومن ضمن هؤلاء آمر لواءنا الجديد ، فهو على الرغم من انه عضو شعبة حزبية وسياقات الحزب تجعله متفرغاً للشؤون الحزبية في الجيش إلاّ انه كان لا يمارس أيّ دور حزبي بسبب العقوبة المفروضة عليه با ستثناء الاجتماعات الاسبوعية ، وبالنسبة لأولئك الضباط الذين أعدمهم صدام حسين بتهمة الخيانة فقد أصدر لاحقاً مراسيم جمهورية اعتبرهم فيها شهداء . كانت الخدمة فوق جبل زرار خلال ذلك الشتاء كئيبة وموحشة في الخنادق والملاجئ التي لا تدخلها الشمس وكانت معاناتنا مع القمل والبرغوث وعدم توفر فرصة للاستحمام لا تطاق ، أما سياقات القصف اليومي للمدفعية فقد تآلفنا معها منذ الاسبوع الأول لوجودنا هناك . بعد أن حصلت على رتبة أعلى شأني شأن جميع مراتب اللواء عقب معركة 1 / 9 / التي دارت فوق جبل كرده كو وأصبحت نائب عريف . كلفني آمر سريتي أن أكون عريف الفصيل الثالث في السرية وكنت قبلها أشغل منصب آمر حضيرة التي تتكون من 7 الى 10 جنود في هذا الفصيل . وكانت مهمة صعبة ذلك لأنني كنت أخرق الأوامر العسكرية باستمرار مثل الغياب المستمر على الاجازة الدورية أو الذهاب الى أربيل من دون اذن والمبيت بفندق ما وعدم حلاقة ذقني كل صباح كما هو متبع منذ أن تأسس الجيش العراقي عام 1921 علاوة على عدم اصطفافي في أوقات التعداد اليومي والتي تبلغ أحياناً 5 مرات في اليوم وعدم حمل الرتبة العسكرية . كانت مهمة عريف الفصيل في كل سرية هي المسؤولية التامة عن ضبط جنود الفصيل الذي يتكون من 33 الى 40 جندياً في سرايا وحدات المغاوير ويكون حلقة الوصل الأساسية بين الفصيل وآمره الذي يكون عادة برتبة ملازم ثاني . وتتمثل هذه المسؤولية بضبط سلوك الجنود في الفصيل ومتابعة شؤونهم ومواعيد اجازاتهم وتعدادهم عدة مرات في اليوم وقيادتهم الى ساحات التدريب والاشراف على تجهيزاتهم وأسلحتهم وذخائرهم وطعامهم . أمام وضع كهذا لم تبق لي حيلة في الذهاب الى اربيل بين آونة وأخرى من أجل الاستحمام والدفء والشراب ليلاً بفندق ما لكن آمر سريتي وعدني انه سيسمح لي بالنزول الى هناك كل ليلة جمعة اذا لم يحصل شيء في الموضع الدفاعي . في ليلة 3 / 3 / 1987 وكان لواء المشاة 604 يمسك المواضع الدفاعية فوق جبل كرده مند بقاطع حاج عمران وبسبب هدوء الوضع على صعيد العمليات العسكرية ونوم أكثر مراتب وضباط اللواء في تلك الليلة وكانت باردة جداً والثلج ينهمر طوال الليل . قامت دورية قتالية ايرانية تتكون من فصيل واحد بعد أن تسللت الى الخلف بعد الساعة الثانية من منتصف الليل بالابلاغ عن نوم جنود وضباط اللواء 604 وهنا دفعت الفرقة الايرانية في هذا القاطع بلواء مغاوير واستطاع هذا اللواء خلال ساعتين قتل وأسر ثلاثة أرباع مراتب وضباط اللواء 604 . أثناء المعركة الدائرة هناك وصلتنا برقية فورية بتسليم المواضع الدفاعية فوق جبل زرار الى فوج مشاة من لواء 98 والتحرك فوراً الى قاطع حاج عمران وشن هجوم مقابل على جبل كرده مند مع أفواج لواءنا الأخرى التي كانت تتمركز في منطقة قصري وقرية دار السلام وناحية ديانا . وصلنا نقطة المثابة القريبة من فتحة { ناونده} التي ننطلق منها بغية شن الهجوم المقابل في الساعة الرابعة صباحاً وكانت الثلوج تنهمر بقوة وتكاد الرؤية أن تكون معدومة . ما أن بدأنا بتسلق الجبل البالغ ارتفاعه أكثر من 2500 متراً سيراً على الأقدام حتى كانت المدفعية والراجمات الايرانية تحصدنا من جميع الجهات وألحقت بنا خسائر جسيمة بالأرواح والمعدات ، وبسبب بطء الحركة من جراء تراكم الثلوج وعدم الرؤية وتأخرنا في شن الصولة الأولى فقد تمكنت القوات الايرانية من حفر السواتر والملاجىء والخنادق البديلة وجاءت بقوات اضافية لتعزيز الهدف الذي احتلته ، وهكذا فشلنا في الصعود الى قمة الجبل وشن الهجوم المقابل وبقينا في العراء تحت الثلوج والخوف والجوع والقصف المستمر الى منتصف ليلة اليوم التالي حيث جاءتنا أوامرمن قيادة الفرقة 23 بالانسحاب الى قرية دار السلام وترك المدفعية والطائرات والراجمات تقوم بمهمات القصف الشديد ضد القوات الايرانية المتحصنة في ملاجئها وخنادقها البديلة . أثناء الانسحاب غير المنظم وبسبب القصف المدفعي الكثيف وتدافعنا عبر الطرق النيسمية الضيقة ونحن نحمل جثث قتلانا وجرحانا . تزحلقتُ على الثلج وسقطت على صخرة حيث كسرت ساقي اليمنى . أرسلت مع بقية الجنود المصابين بعجلة اسعاف الى وحدة الميدان الطبية المتقدمة بناحية ديانا وبعد المعالجة اللازمة منحوني 3 أيام استراحة أقضيها بوحدتي .


مجانين الملك

الملك : أيها الوزير ، هات قائمة بأسماء جميع المجانين في البلاد .
الوزير : أمرك يا صاحب الجلالة .
......................................
الوزير : { بعد ثلاثة أيام } هذه قائمة بأسماء جميع المجانين في مملكتك يا صاحب الجلالة .
الملك : { مصعوقاً } ولكن لماذا وضعت اسمي في أول القائمة ؟
الوزير : لأنك يا صاحب الجلالة أعطيت الأغراب الذين استقبلتهم نهار الأمس ، ذهباً كثيراً .
الملك : { بعصبية } تبّاً لك أيها الأبله ، هؤلاء تجّار ماشية وسوف يجلبون لي أبقاراً كثيرة ، كثيرة .
الوزير : حين يعودون بالأبقار ، الأبقار الكثيرة . سوف أشطب اسم جلالتك وأضع أسمائهم .


تأطير الحقيقة

لا الملحد ملحد ، ولا المؤمن مؤمن . الاثنان ينطلقان من حقيقة قاصرة ومزعومة . ينطلق الأول من حقيقة كونه ملحد ، والآخر ينطلق من حقيقة كونه مؤمن . الاثنان غائبان عن أو لا يمتلكان الوعي بحريتهما . الانطلاق من ايمان بحقيقة مسبقة رعونة وفهلوة . في كل آيديولوجيا وكل دين ومذهب . تتم صياغة الحقيقة المطلقة والبراهين المطلقة منذ البداية وتوضع وتؤطر في اطار ، ومن ثم يتم تعليقها في صالة الآيولوجيا وصالة الدين . هنا ليس بوسعنا مواصلة الجدل حول الحقيقة انطلاقاً من مناهجنا الفلسفية والعلمية ، ومناهج أولئك الذين نختلف معهم بسبب حنينهم المشبوب الى فكرة الإله الغامضة . المحركات الأساسية للفكر في التاريخ هي تناقضاتنا الدائمة .


الزمن / الحركة

الزمن مدة تعدها الحركة ، وفي الارتباط الوثيق ما بين الحركة والسرعة . تمضي حياة الانسان القصيرة متعثرة وسط الوحدات الزمنية المختلفة . ما يهمني في الجوهر الحقيقي للزمن ، بعيداً عن نسبية اينشتاين . هي الديمومة وايمان اسحاق نيوتن الوهمي : { زمن . هو في ذاته . ومن طبيعته الخاصة الذاتية . يجري متدفقاً دون ارتباط ما ، أو بلا علاقة مع أيّ شيء خارجي } . نعم . ما يوهمني ويخفف الصدمة القادمة لموتي هو الزمن المطلق . مرات كثيرة شعرت فيها انني عشت في أزمان معينة غير زمني الراهن ، وأطمحُ في مواصلة العيش بعد موتي في أزمان أخرى على هذه الأرض أو في عوالم أخرى خارج منظومتنا الشمسية هذه .

اللحظة التي يتوارى فيها الغمام

هنا قبر للزمن / الشجرة
الزمن الشمس
الزمن الصيف
الزمن الجناح
الزمن الخطوة .
هل لي أن أصالح اللحظة ؟ هل لي أن أصالحها ؟
هل لي أن أصالح المخلب ؟
هل لي أن أتمدد في الديمومة مثل كلمة تزن الروح
وتقشر اللحاء ؟ الخمود الأجوف يأسر الظهيرة .
هنا وهناك تحتضر النمور والعقبان في الأقفاص .
يسوع المتكىء على خشبة الدرج في بهو الفندق .
الخشبة كانت شجرة في الصيف الماضي . يسوع
يفتح عينيه على ناطحات السحاب التي يغطيها الدخان
وما بين اللحظة واللحظة يضمّد جروحه التي تلتئم ولا
تلتئم . هل هي القيود التي يأوي اليها الخفّاش ؟ أين محطم
عظام الموتى الذي يقف متجلياً بين الماهية والحركة ؟
أين كريشنا الذي يعود من الكهف بشذرات من رؤى محطمة ؟
أين اللبوءة التي تلد في برميل النفاية تم تلعق موتها ؟
أين الملك الهرم بوجهه المتغضن الذي يعشش فيه البوم ؟
على حطام الزمن . شيوخ أطفال يرضعون ، والزمن يتقدم
والريح تعصف قبل الميلاد وبعده ، ضجرة في كهفها العميق .
اللحظة والظلام . اللحظة التي يتوارى فيها الغمام .
هل تسترجع اللحظة نفسها عند الشروق ؟
هل يصارع النور الظلمة ليظل حيّاً في ماهو حيّ ؟
هل يوصلنا اختراق السرّ ، اذا عبرنا هذه المتاهة المظلمة
الى شرارة اللامتناهي ؟ أشرعة الصيرورة تتأرجح معلقة ما بين
الديمومة والهاوية . ينبغي أن نظل أطفالاً ونحيا في الماضي .
من أجل أن تبقى الشمس تسطع دائماً على السنبلة . من أجل
أن لا يذبل قرنفل النجمة بسرعة . من أجل أن لا يتعفن الينبوع
في حديقة العقيق .كلما ماتت حشرة . غصن . ابتسامة ، أو كلما
سقطت دقيقة من لبلاب الوقت . انتحرت الطبيعة وتكشفت
هشاشة الانسان . نبتة المستقبل السامة ، تكبر كلما تقدمنا صوبها .
لا نصر ولا وعد .


فكرة الإله

تظهر فكرة الإله في المفاهيم الميثولوجية لكل دين ، متعدية دائماً وغير ملموسة لكل واقع أرضي ، وبما أن الذين صاغوا هذه الفكرة وأرادوا من خلالها أن تكون خالية من أيّ فعل انساني ، فأن قضايا المادة والتاريخ والزمن والبرهان بحمولاتها المعرفية . تظل معدومة في هذه الانحرافات التي يخلقها العقل الميثولوجي الذي هو نتاج حضارة فلاحين ورعاة غنم . { الملموس متميز في ذاته ، لكنه أولاً في ذاته فقط ، حسب الاستعداد . القدرة . الامكان } هكذا يقول هيجل في { محاضرات في تاريخ الفلسفة } .


توالد الأديان

في الديانة البوذية التي ترفض أن يكون للآنية جوهر . تظل الولادة الداخلية من خلال دوران النور عند الشخص البوذي المؤمن والسمو الروحي لبلوغ النرفانا هما الهدف الأسمى في الحياة ، عبر تعاليم عديدة ستأخذ الديانة المسيحية منها الكثير من الطقوس والمفاهيم . من أين جاءت المسيحية في الكثير من أفكار وطقوس البوذية ؟ من الزرادشتية التي كانت معابدها تنتشر في الهند والصين ابان ظهور المسيحية ، وستأخذ الديانة الاسلامية أيضاً الكثير من المفاهيم والطقوس من الزرادشتية ومنها الخير والشر والصلوات الخمس في كل يوم وغيرها من الأشياء .


لقاء بوذا

في خروجه الأخير من القصر المترف وحيداً ، بحثاً عن التقشفات والتأملات تحت شجرة التين – الحكمة . من أجل التيقظات واستناراتها العظيمة . علّمني أن الآلهة لا قدرة لها على تغيير الانفجارات والخمودات في الطبيعة . تحت شجرة التين ، سمع الصوت العظيم { في العالم أيها الناسك ، هناك الكثير من العدالة ، وفي الحياة ميزان ذهبي . حاول الحصول عليه دائماً } . تسربلتُ بنوره الذي ملأ العالم وفتحتُ عينيّ ، ورأيت مجده الآتي من العلاء ، وحين أردت الذهاب الى الفرات لأتطهر من خطاياي . قال لي { استحم هنا . لا تذهب الى الفرات . كن رحيماً بالكائنات كلها ، واذا لم تنطق كذباً ولم تقتل روحاً ولم تأخذ مالم يعط لك ، وعشت متأملاً في أرض انكارك ذاتك للّذات . ما جدوى الذهاب الى الفرات ؟ احفظ هذه الوصايا وستكون لك عندئذ كل قطرة مطر الفرات } .


حشرات وزواحف


كان هاجس الموت عند الشاعر الانكليزي الميتافيزيقي جون دن ، يشكل على الرغم من ايمانه العميق مشكلة عميقة عنده وتثقل كاهله في كل أيام حياته ، وكان يعتقد أن موت أيّ انسان في مكان ما من العالم يعني موته هو . أمّا غوته الذي كان لا يقل رعباً عنه في مشكلة الموت ، فقد أعتقد خاطئاً أن موت البشرية ما هو إلاّ { حيلة الطبيعة } في الحفاظ على نفسها . نحن نعلم أن الحفاظ على النوع لا الفرد الواحد في مسألة الموت . لا يجعل الطبيعة تلجأ من أجل حماية نفسها الى الحيلة . { لماذا خلقنا أناساً ، مادام موتنا سيكون موت حيوان ؟ } قال الشاعر الشيلي نيكانور بارا . موت الانسان والحيوان وموت كل الأشياء في العالم هو السمة البارزة لتجدد الحياة واستمراريتها . الموت ولادة أخرى . في الماضي كنت أرثي لمصائر البشر على هذه الأرض بسبب الموت وبسبب لا جدوى الحياة وعبثها . الآن توصلت الى حقيقة أن الحياة تستحق أن تعاش حسب الرغبات الابيقورية حتى النهاية ، أمّا موتنا فهو شيء تافه ولا يجب أن نشعر بالحسرة والخوف منه طالما اننا لسنا سوى حشرات وزواحف تدب على الأرض .

الوقت يتحرك كمياه ساقية راكدة

الأردن – عمّان
16 / 10 / 1998
أخي وصديقي الطيب نصيف بن ثجيل .
أصافحك بحرارة وأسأل الله أن يشملك بظل من رعايته ولطفه . واضح انك لم تزل رهين المحابس الثلاثة . الفقر والسكر والصعلكة . متى تراجع نفسك ؟ متى تقرأ ؟ متى تكتب ؟ لستُ واعظاً ولا أحبّ من يعظ وينصح . انما هي كلمات طالما قلناها لك . تشكو الافلاس الأبدي وكأنك في { بيت الصفيح } . لماذا توزع جسمك بين جسوم كثيرة ؟ تأخذ راتبك الى أقرب مخزن أو مطعم وتنفقه على رفاق ليلة سرعان ما يتفرقون عنك . تاركين اياك لجيبك الفارغ وفوضاك ووحشتك . حبذا لو صرفت نصف الراتب على صديقة لك . حبذا لو تذكرت أهلك بشيء منه . لا جدوى من الحديث مع مجنون أو مخبول مثلك . لقد انقضى زمن الطيبة والكرم . يأكلون زادك وينفضّون عنك دون أن يتذكرك أحد منهم بكلمة خير . لا فائدة من الكلام معك . أنا الآن وحيد وحدة مطلقة . لا أرى أحداً . لا أفكر بلقاء أحد . لا اتذكر أحداً . الأفق مظلم بهيم . كنّا في وداع هادي . لم اشأ الحضور إلاّ أن الدكتور خالد السلطاني أصرّ ، فلبثنا ساعة . ترك هادي كآبة في النفس مثلما تركتها أنت . غير أنّي سعيد برحيلكما الى اوروبا الحسناء . ما الذي يصنعه الشاعر متسكعاً تحت أشجار الأرصفة دونما حديقة ؟ حبذا الرحيل في مركب أبيض الى أيما ساحل يضيء حاناته . حبذا الجلوس مع الصبايا في البارات . قُتل لوركا وارتحل الغجر تحت الزوابع الممطرة . الوقت يتحرك كمياه ساقية راكدة ، غير أن القدح سيرّن وتقدح المجرّات باشاراتها الضوئية . هل تتجمع الثقوب الكونية السوداء على حياة قادمة . تحياتي الى أمل ،عسى أن تلتقيها يا عاشقاً في معطف مستهلك . ليكن شعارك : أمل أو الموت بدلاً من : الحرية أو الموت .

أخوك حسب الشيخ جعفر
16 / 10 / 1998


سأموت تحت أعلى نجمة في جبينكِ


جنرالات الحرب وضعوا أسلحتهم فوق المرحاض وذهبوا الى النوم . خطط الحرب تدور حول نصيف الناصري ، الشاعر السكران في حانة سويدية . على الجانب الآخر من العالم . أعياد كبيرة بوسعها أن تجعل الظهيرة المضطرمة أكثر نعومة من القطن . انها الحرب تحاول تدمير رغبتك وصحوك .
فوق مآذن بغداد تطير حمامة
شقراء جداً
سوداء جداً
أيتها الحرب
أيتها الحرب
قلبي انصدع
قلبي انصدع
حبيبتي الحمامة
حبيبتي الحمامة .
كما في قصيدة لأحمد شوقي { شيّعتُ أحلامي بقلب باكِ }
ذهبتُ الى الحانة مفلساً . سكرتُ وعربدتُ وحين أمروني
بدفع الحساب . انسسلتُ كالصل من الشباكِ .
كانت الحانة مكتظة بالبحارة والأرامل وحيوانات السيرك
وفي الخارج يتعثر القمر في الثلوج / وفوق أمواج البحر
القريب تطفو ساعات الذين عبروا ولم يخلفوا ندوباً .
هل يمكننا اعطاء فكرة ولو غامضة عن كوننا سنرحل نحن أيضاً ؟
العالم صامت في ظلمة الصقيع ، ونحن أنفسنا نلتحف الصمت
ولا نرغب في أن نفتح جرحاً ، حتى بعد لقاء في حلم مع طاغية
حتى بعد تذكر أطفالنا الذين قتلوا . بعد سنوات التقيتكِ بمحاذاة
شجرة الحناء في أرض الحلم . كلماتكِ الغريبة التي اقتلعتها أنهار
القرون التي ذهبت لتنام . تحطمت بلا ضوضاء ، وأغنيتكِ ذات
الأحراش الزمردية . يبست في الينبوع ، بين ذراعيّ ناره الزرقاوين .
قلتُ لكِ سأموت تحت أعلى نجمة في جبينكِ ، وبكيتُ طوال الصيف
في { الناصرية } . بكت معي الأشجار والأحلام حتى تبللت أهدابها
وها انني الآن ، أتقدم جريح القدمين صوب سهرات حدائقكِ المتألمة
لا ينعس حبي في النسيم ولا في الحجر . الآن – انتهى كل شيء
والطيور رحلت ، وأضواء حبكِ أخفاها الغياب ، وأحاطت بي سياجات
الوحشة . هذا القنديل المضمّد والمعلق فوق الأسلاك الشائكة . هو كل
ما تبقى من شفاعتكِ . يسهر ويتململ في سرير المنفى . العاشق وضعه
هناك . تائهاً بين عقيق الأيام ووميض أعمدتها المتصدعة . راكضاً صوب
السهاد . يخضرّ السأم ويعين السطوة عليّ . أختبيء في ساق نبتة وأعدُّ
براكين حياتي المشدودة الى الطمأنينة . في الحرب أطلقت النار على طوابع
الربيع وأسرار النار وكركرات الأطفال وقبلة العاشقة ، ومستشفيات الشمس
وفي الحبّ . كنتُ أغار اذا انحرفت الأنهار باتجاه الصحراء ، ولا أبكي اذا
الأرض المزدوجة للألم صعدت صوب اليد أو الرقبة ، وفي الموت الذي
يحفر في ليل العظم . أضعتُ إلهي بين أغصان المدافع الرشّاشة . قمتُ
برحلات تتحرك معي السنابل والعصافير . شعوب كثيرة أيضاً عبرت الجبال
والبحار باتجاه المنفى . طبعت أسلحتها غبطة ، وحيرتها مشاعل . في حرير
الفجر . بمحاذاة عظاية تنحني متمتمة أمام رمل اسرارها ، ونمور حياتي
الماضية تقتسم صمت الليل وطرائد الحقد والضغينة . سأترقبُ الملاك /
القذيفة ، ثم أموت لأراه في انعكاسات اللاوعي المفعمة في تمددها . الأدغال
الكثيفة لشاهدة الحبّ / الحرب . منحوتة في شقوق الزمان ومغطاة بغبار الذكرى
هل نموت بالقرب من كوكب الأغلال ، أم نحيا في فضاءات اللاعدالة ؟
كلما ماتت امرأة أحببتها . تفتش عنها في كل كهوف العالم ، لكنك في
ذروة لا يقينك . تعود ومعك دولة ، وكصياد متهرىء الأسمال ، تعبر النهر
وتنسى الغنيمة . لا شيء يطفىء رغبتك ويأسك . ستظل منبطحاً في صبّار
الليل تنتظر شرارة الهاوية . تدفن الرغبة باندفاعاتها العظيمة نفسها في شوك
نعاسك ، وتتنهد كشجرة محمّلة بالصخور ، في حديقة النجمة واغماضة البركان
ريح السموم فوق شفتيك تترقب انغلاق الأنغام .


الشاعر يعشق الخليفة

يروي أحد رواة شعر أبي نؤاس وأظنه أبو هفان أن الخليفة محمد الأمين سادس خلفاء بني العباس الذي كان لا ينشط الى الشراب اذا كان عنده خمار . نشط في صباح يوم ما وأمر أن يحضروا له أبي نؤاس الذي يعشقه في السرّ . حضر وراح يشرب الخمر مع الخليفة الذي كان يضعه في السجن أحياناً دفعاً للشبهات . حين سكّر الخليفة جداً . تعرى إلاّ من لباسه الداخلي الحريري وراح يسبح في بركة قصره . أبو نؤاس الذي يهيم في محبته ، راح ينظر الى مؤخرته التي تغطيها الغلالة الحريرية . بعد هذه الاصبوحة الخمرية قال لراويته { ويلك . رأيتها ورأيت بلية لا تطاق } وأملى عليه هذه الأبيات :

أنّي لَصَبٌ ، ولا أقول بمَن أخاف من لا يخاف من أحد
اذا تفكرت في هواي له مسستُ رأسي هل طار عن جسدي ؟
أنّي على ما ذكرتُ من فرق لا آمل أن أناله بيدي .

حين انتشرت وتلقفها الناس . بدأت مخابرات الخليفة البحث عن الشاعر العاشق في كل ولايات الخلافة ، لكنه ظل متوارياً في مكان ما إلاّ أن قُتل الخليفة في حربه مع أخيه المأمون . بعد قتله في الفتنة التي أحرقت بغداد وهزّت أركان الخلافة . كان العاشق متوجعاً جداً ورثى حبيبه في هذه الأبيات والأبيات التي تليها :

طوى الموت ما بيني وبين محمد وليس لما تطوي المنية ناشرُ
فلا وصل إلاّ عبرة تستديمها أحاديث نفس مالها الدهر ذاكر
وكنتُ عليه أحذر الموت وحده فلم يبق لي شيء عليه أحاذر
لئن عمَرَت دورٌ بمن لا أودّهُ فقد عَمَرَت ممن أُحبُّ المقابر .

**** **** ****

أيا أمين الله من للندى وعصمة الضعفى ، وفكّ الأسير
خلفتنا بعدكَ نبكي على دنياك والدين بدمع غزير
يا وحشتا بعدك ، ماذا بنا أحلّ من ضنكٍ صروف الدهور
لا خير للأحياء في عيشهم بعدكَ ، والزلفى لأهل القبور .


حسرة

ما أقسى أن تعيش في مدينة تخلو من صديق يعشق الشراب .


مكاتب الأمن في الدوائر

كان نظام صدام حسين قد أنشأ في كل دوائر الدولة والمعاهد والكليات ووحدات الجيش . مكاتب تابعة لدائرة الأمن العامة . مهمة هذه المكاتب هي التحري وتفتيش الأشخاص ورفع التقارير عن اتجاهاتهم وأحاديثهم واحصاء حركاتهم وسكناتهم . في الجيش وفيالقه السبعة ، لم يكتف نظام الطغيان بمهمات دائرة الاستخبارات العسكرية في رصدها لتنفسات وكلام كل جندي وضابط ، بل أنشأ مكاتب في كل فوج ووحدة عسكرية مهما كانت صغيرة . في كلية ومعهد الفنون الجميلة وكلية الآداب وكلية الطب ووالخ . كانت هناك مكاتب للأمن . في هروباتي المتكررة من الخدمة العسكرية ، كنت أذهب للقاء أصدقائي الشعراء والكتّاب والذين هم طلبة في الكليات والمعاهد ، لكن المشكلة تكمن في سؤال الأمن بمبنى استعلامات كل مكان أروم الدخول اليه ومطالبتهم اياي باظهار بطاقة الهوية والغرض من الزيارة ومدى معرفتي بالأشخاص الذين أرغب في زيارتهم . كنت أزوّر في كل هروب نماذج الاجازة الدورية ولا أذهب الى مكان معين أكثر من مرة خلال مدة الشهر . كانت كلية ومعهد الفنون الجميلة هما ما أذهب اليهما دائماً . في المعهد كان يدير مكتب الأمن شخص طيب يحب الشراب اليومي وخصوصاً في ساعات الظهيرة . حاولت كسبه والتعرف اليه من خلال بعض الأصدقاء الذين يدرسون هناك من أجل أن أتمكن من الدخول من دون تفتيش وسؤال واظهار بطاقة الهوية . تقع جوار المعهد حانة { صوفر } وهي حانة جميلة في بداية شارع المنصور . كنت أستلم راتبي من وزارة النفط في هروبي من الخدمة العسكرية وكان أغلب أصدقائي الطلبة لا يتقاضون أيّ راتب باستثناء أولئك الذين قدموا من المحافظات ويسكنون في الأقسام الداخلية حيث تعطى اليهم مبالغ ضئيلة جداً . تعرفت على أبو سمير مسؤول الأمن من خلال الفنان ومدرس البانتومايم في المعهد عدنان النعمة الذي غيّبه نظام صدام بعد انتفاضة عام 1991 والفنان علي منشد والفنان عباس علي باهض . كنت أدعوهم في بعض الأحيان الى تلك الحانة ومعهم أبو سمير الذي كنت أهديه الكتب ولا أبخل عليه في أيّ شيء يطلبه من أجل كسب وده . مرات كثيرة في التجليات العظيمة للسكر يخبره علي منشد أو عدنان النعمة انني هارب من الجيش ونماذج اجازاتي مزوّرة . هو لا يكترث طالما الشراب على حسابي . بعد شهور راح يقرأ الكتب الأدبية ويشاهد العروض المسرحية التجريبية التي يقدمها الطلبة على المسرح الدوّار في المعهد ، ويكتب الشعر الشعبي . كانت كل قراءة شعرية تُقدم في مناسبة ما بالمعهد . يكون أبو سمير أول من يقرأ فيها قصائده الشعبية . بعد أن صار شاعراً نحريراً ، امتلأت حدائق ونادي معهد الفنون بالشعراء والفنانين الهاربين من الخدمة العسكرية .


دعوة الى محاكمة قتلة زعماء الأحزاب العربية

أتاحت لي فرصة مشاهدة السيدة غودرون شيمان الزعيمة السابقة لحزب اليسار السويدي { الحزب الشيوعي } سابقاً عن كثب واللقاء بها وهي تقف في ساحة الخضار { مولفون توريَت } في مدينة مالمو ممسكة بمايكرفون من دون رجال حماية ومعها حفيدتها وشاب مسؤول عن أجهزة الصوت . التفكير في الدعوة الى محاكمة قتلة زعماء أحزابنا العربية . السيدة غودرون كانت تطرح برامج سياسات بديلة عن تلك البرامج التي تطبقها الحكومة السويدية اليمينية الراهنة ، ولا أحد يتعرض لها أو يحاول زجّها في السجن . عام 1949 تم اعدام انطون سعادة زعيم الحزب القومي الاجتماعي السوري بتهمة { الشوفينية والفاشية ومعاداة القومية العربية } وبقيت جريمة اعدامه من دون محاكمة ، وفي عام 1971 أعدم الرئيس السوداني جعفر نميري زعيم الحزب السوداني عبد الخالق محجوب ورفاقه بعد أن راح يقوم بمحاولات لتحطيم الحزب وكسر شوكته المتنامية بين صفوف الجماهير ، ولم تتم محاكمته على جريمته المخزية ، وقبلها بعد الانقلاب الأسود الذي قام به حزب البعث بالعراق . أعدم زعيم الحزب الشيوعي العراقي سلام عادل من قبل قادة الانقلاب الفاشي ولم تتم محاكمة أيّ أحد منهم . أما مؤسس حزب الدعوة العراقي السيد محمد باقر الصدر فقد أعدمه صدام حسين عام 1980 بعدما طلب منه أن يصدر أوامره بتأييد حزب البعث وحلّ حزب الدعوة ، وفي اليمن الجنوبي قام رئيس الجمهورية والأمين العام للحزب الاشتراكي علي ناصر محمد عام 1986 باعدام خصمه السياسي ومنظرّ الحزب عبد الفتاح اسماعيل لتندلع الأحداث الدامية ويهرب الى سوريا . الغريب في أمر هذا الرئيس القاتل والهارب هو أن الشاعر الثوري سعدي يوسف كان قد أهدى له 27 قصيدة في مجموعته { يوميات الجنوب . يوميات الجنون } . { تنفست هواء زيارة لي ، استمرت شهراً في عدن ، بدعوة من الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني ، الرفيق علي ناصر محمد } . يرأس هذا الرئيس الآن { المركز العربي للدراسات الاستراتيجية } في دمشق ولا ندري أيّة دراسات ستراتيجية هذه التي يقدمها مركزه المزعوم الذي هو واجهة لقبض المال من بعض الحكّام العرب القتلة ممن هم على شاكلته . هل حان الوقت الآن لمحاكمة هؤلاء الفاشست لينالوا الجزاء العادل جراء ما اقترفوه من جرائم مخزية ؟


استيفاء اجور اطلاقات الرصاص على المعارض السياسي من أهله


كان العراق في عهد الطاغية صدام حسين . هو الدولة الوحيدة في العالم التي كانت تستوفي ثمن اطلاقات الرصاص ال 30 التي تطلق على المعارض السياسي من أهله بعد أن تحكم باعدامه محكمةالثورة . بعد الأعدام وقبض ثمن الاطلاقات البالغ 30 ديناراً . يتم تسليم جثة الشخص المعدوم الى ذويه مع أمر صارم بعدم اقامة مجلس العزاء . على الرغم من وحشية وفظاعة هذا الفعل اللاانساني . يبقى انه أفضل من اعدام أولئك الأشخاص الذين أعدموا ودفنوا بمقابر جماعية سرّية من دون تبليغ أهلهم . هناك الآلاف من الشباب العراقيين الذين اختطفتهم دوريات مديرية الأمن العامة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي من مراكز عملهم وكلياتهم ومن الشوارع والأسواق والمساجد ، ولم تعرف مصائرهم الى أن سقط نظام الطغيان . كثيرة هي مقابرنا الجماعية وكبيرة مصائبنا .


شعارات
من المآسي التي حدثت في وحدتي في تلك الفترة التي أتحدث عنها ، هي قصة جندي كان هارباً من الخدمة العسكرية طوال ثلاثة أعوام والتحق بوحدتنا في العفو ، و كان يدعى شمعون من { تلكيف } وقد بلغ به القرف من الشعارات والأناشيد المركزية التي كنٌا نرددها أثناء التدريب حداً لا يطاق ، إذ كانت الشعارات والأناشيد البائسة ، التي تأتي الى جميع الوحدات العراقية عن طريق دائرة التوجيه السياسي ، تدور حول { حيٌاك يا بو حلا } و{ طالع لك يا عدوي طالع من كل بيت وحارة وشارع } و{ يا خميني وينك وينك بالحربة أقلع عينك } و{ صدام عز العرب } و{ راية الاسلام العالية } وسواها الكثير . لكي يتخلص شمعون من عذاب الخدمة العسكرية وانتظار التحرك الى { نهر جاسم } قرر أن يشتم صدام حسين أثناء التدريب ليمضي سبع سنوات سجن في سجن { أبو غريب } . كانت عقوبة شتم صدام العلني عام 1987 للجندي هي تشكيل مجلس تحقيقي في استخبارات الفوج أولاً ومن ثم في استخبارات اللواء ويرفع بعد ذلك الى استخبارات الفرقة التي ترفعه الى محكمة عسكرية خاصة ، وتقوم المحكمة بعد ذلك باصدار حكمها المقرر وهو السجن سبع سنوات حسب الفقرة كذا وكذا من قانون العقوبات العسكري الذي كان يتبدل بين الحين والحين حسب المزاج الدموي للقائد العام . وفي صباح يوم ما من ذلك العام وحين كنّا نردد الشعارات أثناء المسير في ساحة العرض الصباحي صاح شمعون بأعلى صوته منفرداً عن رهطه :{ حيٌاك يا بو خرا حيٌاك يا بو خرا }.. فانهال عليه الضباط ضرباً بالأيدي وركلاً بالأرجل فأدموه ، ثم طلبوا من جنود انضباط الفوج وضعه في السجن ليتم تسفيره الى سجن استخبارات الفرقة لتتولى أمره بعد تشكيل المجلس التحقيقي واحالته الى محكمة عسكرية . قال الملازم أول فليح ضابط استخبارات فوجنا : { راح يأكلها القشمر . سبع سنوات سجن . لكن وين ؟ ببو غريب . قشمر } . ومن المعلوم أن شتم صدام في ذلك الحين يعد جرأة ما بعدها جرأة . بعد نهاية التدريب في ذلك اليوم دار همس كثير بين الجنود من أن شمعون سيمضي فترة سجنه بعيداً عن الحرب وربما يطلق سراحه من السجن عندما تنتهي الحرب ويعود الى أهله سالماً غانماً . ويبدو أن هذا الفعل الذي قام به الجندي شمعون للتخلص من الخدمة العسكرية قد تكرر ذلك العام في ألوية وأفواج أخرى في جبهات الحرب . ولأننا لا نقرأ { الوقائع العراقية } الصحيفة الحكومية التي تنشر القوانين والمراسيم التي كانت تصدرها الرئاسة فقد أدى تكرار الفعل نفسه من قبل الجندي راهي بعد اسبوعين الى إعدامه في مقر اللواء. أراد راهي التخلص من الخدمة العسكرية فقام بشتم صدام حسين أثناء التدريب أيضاً ، تماماً كما فعل شمعون من أجل أن يقضي فترة العقوبة البالغة سبع سنوات في { أبو غريب } بعيداً عن الحرب . ضربه الضباط وأدموه ووضعوه في سجن الفوج بانتظار تشكيل المجلس التحقيقي بغية ارساله الى استخبارات اللواء ، وبعد أيام تم تجميع أفواج اللواء الأربعة في { دار السلام } وقامت عناصر استخبارات اللواء باطلاق النار عليه وأعدمته أمام عيوننا حسب القانون الجديد الذي نشر في { الوقائع العراقية } ليكون { عبرة للذين يقومون بهذا العمل} . أما بالنسبة الى شمعون فقد صدر بحقه حكم بالسجن سبعة أعوام من محكمة عسكرية في { الموصل } لأن الفعل الذي قام به كان سبق صدور المرسوم الجديد فذهب مخفوراً الى سجن { أبو غريب } .
تاجر سمك


{ كنت اقترب من عامي الثامن عشر وقد وصلتُ الى أوسلو بعد أن درست التمثيل في لندن ، وكنت مقتنعة بأنّي بتُّ أعرف تقريباً كل شيء . ولم يخامرني أدنى شك في قدراتي كممثلة . ولكن في أعماقي كنت أشعر بعدم الثقة وبتوق للعودة الى المدرسة في ترونديم ، حيث كانت صديقاتي
يدرسن عنئذ استعداداً للتقدم لامتحانات الدخول الى الجامعة ، ويعشن في طمأنينة المدرسة والدروس والمنزل والأصدقاء . كنت سأعيش وحدي تماماً ولأول مرة في حياتي . كانت لدي شقة مؤلفة من غرفة واحدة ولها مدخل مستقل ، وظننت انني سأبدأ العمل في معهد التمثيل . بعد الخضوع لتجربة الاداء حول – جوليت واوفيليا – وقفتُ في الرواق ورحت انتظر صدور لائحة بأسماء الذين سيعيّنون من بين الذين قبلوا . وحين صدرت وقف فتى أخرق طويل الى جانبي وأخذ يقرأ بصوت عال أسماء المختارين ، وبينما كنت أشعر بالأمل يتلاشى مني ، لأن اسمي لم يكن وارداً . فهمت حين توقف فجأة قبل قراءة آخر اسم . أن اسمه ورد . اكتفى بالابتسام ، ومشى بهدوء خارجاً من الغرفة وكأن لا شيء حدث له . ظللتُ سنين عديدة أتابع مسيرة حياته ، وكنت آمل أن أجد شيئاً من العدل في هزيمتي من خلال نجاحه هو . الآن هو يعمل تاجر سمك في السويد وقد سمعت انه راض تماماً عن سير أموره . لم يخطر ببالي انه كان هناك عدد من الراسبين في ذلك اليوم ، ممن سيغدون رفاق مهنة والذين سأقابلهم بعد ذلك بوقت طويل في حافلة الجولة المسرحية ، ونستعيد بخفة حياة الشبان الصغار الذين كناهم ذات يوم ونحن نضحك بدون تحفظ } .

الممثلة النرويجية ليف اولمن . مذكراتها . { أتغير }

موظف حكومي

في الشهر الخامس من عام 1977 حصلتُ على وظيفة في وزارة النفط على الملاك المؤقت . غسيل السيارات وتشحيمها وتبديل الزيوت في محطات تعبئة الوقود ببغداد . { عمري 17 سنة } . كانت قوانين العمل في العراق قبل استلام صدام حسين السلطة ، فيها الكثير من الامتيازات المنصفة والحقوق للعمال . { ألغى طاغيتنا بمرسوم جمهوري عام 1986 الطبقة العاملة في العراق واستولى على صناديق الضمان الاجتماعي والتقاعد وكل الحقوق لتمويل حربه مع ايران } . كان قانون العمل آنذاك يلزم أيّ دائرة ووزارة أن تعيّن على الملاك الدائم ، الموظف الذي يعمل أكثر من 3 شهور ولا يتم الاستغناء عن خدماته . بعد أن أمضيت أكثر من 3 شهور ولم يتم طردي من وظيفتي . عبرتُ { جسر الشهداء } واتجهت الى { دائرة العمل والضمان الاجتماعي } هناك . كتبتُ عريضة معنونة الى وزير النفط حسب الاجراءات والاصول المعمول بها ودفعت الرسوم { نصف دينار } . بعد شهر صدر أمر وزاري بتعييني على الملاك الدائم . في 5 / 5 / 1979 تم سوقي لاداء الخدمة العسكرية الالزامية . في 5 / 5 / 1991 تم تسريحي بعد شروط وقرارات مجلس الأمن الدولي التي تلزم نظام صدام بتسريح الجيش وخفض اعداده من مليونين الى 100 ألف جندي . عندما عدتُ الى وظيفتي بعد 12 سنة محبطاً ومدمّى في حروب النظام العدوانية . كان الحصار الذي فرض منذ سنتين قد بدأ يطبق على كل شيء في دوائر الصناعة والنفط والزراعة وبقية القطاعات الأخرى . محطات الوقود التي عملت فيها سابقاً شبه معطلة وتشكو النقص الكبير في قطع الغيار ، وورش غسيل السيارات وتبديل الدهون تم الغائها . أدخلوني دورة سريعة للعمل في لفّ وتصليح ماتورات الأجهزة الكهربائية . اجتزتها بامتحان . أمام وتيرة الحصار المتسارعة وغلاء الأسعار وتعطل الخدمات . تمت احالتي على التقاعد المبكر شأني شأن غيري . أنهيت معاملة تقاعدي ودمغوها لي بعشرات الأختام وأخذتها الى دائرة التقاعد العامة في منطقة الكرخ . هناك أخبروني أن راتبي هو 224 ديناراً . الآن بعد التقاعد سيصبح 106 دنانير حسب قرار مجلس قيادة الثورة الأخير . يا إلهي . ثمن علبة سكاير عراقية ماركة { سومر } ب 300 ديناراً ورواتب 3 شهور تكفي فقط علبة سكاير واحدة . ما العمل مع قرار مجلس قيادة الثورة الذي أصدره صدام حسين للمتقاعدين من أمثالي ؟ سحبت المعاملة وأودعتها أمي منذ ذلك الحين الى الآن . ذهبت سنوات شبابي سدى في حروب الطاغية ، وذهبت سنوات وظيفتي الى الجحيم .

زمن الفقاعات

زمن فقاعات
زمن قرود وبول قرود
الكل هنا فقاعة
كل الأشياء فقاعات
المال فقاعة
الشمس فقاعة
الهواء فقاعة
اليد
السطوة
الكلام
القبلة
زمن فقاعات
زمن قرود وبول قرود
الكل هنا قرود .


امتلاك مليون دينار

في عام 1993 ، أي في السنة الرابعة للحصار الذي فُرض على العراق في أعقاب غزوه للكويت . سقطت العملة العراقية تماماً والتهبت أسعار جميع المواد في الأسواق . كان ثمن البيضة المقلية بالزيت في المطعم 60 ديناراً . سندويشة الفلافل 250 ديناراً . قدح الشاي 50 ديناراً . أغلب الموظفين تركوا وظائفهم بسبب عدم كفاية الراتب لشراء طبق البيض الذي قفز من 600 فلس الى 5000 دينار . الرواتب ظلت على حالها في جميع المؤسسات . كنّا نحن الشعراء والكتّاب نمضي أوقاتنا في مقهى { حسن عجمي } في الثرثرة الفارغة والضجر وانتظار ما لا يجيء . أحياناً يأتي شاعر صديق يعمل في بيع المواد الغذائية أو يتاجر في السيارات أو يسرق أشياء من دائرة عمله ويدفع أثمان أقداح الشاي التي نشربها ، والبعض يتكرم علينا بدعوتنا الى سندويشات الفلافل . صديقي الشاعر ستار موزان الذي يعمل في تصريف العملة الأجنبية مع أحد التجار في { شارع النهر } . يأتي بعد الظهر الى المقهى ويدفع عني ما شربت من شاي وفي أغلب الأحيان يدعوني الى مطعم . بعد سيطرة عدي صدام حسين على كل مفاصل التجارة بالعراق ، والمضاربات المريبة في النقد الأجنبي . بدأ عمل ستار يتأثر وراح ربّ عمله يماطل في في دفع أجوره . جاء مرة الى المقهى وطلب منّي أن أدفع عنه ثمن الشاي وأن أحاول أن أستلف مبلغ ثمن سندويشة فلافل له لأنه جائع . استطعت تدبير المبلغ واشتريت له الفلافل ودفعت ثمن الشاي . حين همّ بالخروج من المقهى أخبرني انه سيمنحني في اليوم التالي مبلغ 500 ديناراً . شكرته . في اليوم التالي دخل المقهى وهو يحمل على ظهره كيس كبير من القنب { كَونية } مليء بأشياء لا أعرفها . كنت قد شربت أقداحاً كثيرة من الشاي لأنني سأستلم منه ما يفي بحاجتي . { نصيف . أنا آسف ، لم استطع تدبير المبلغ الذي وعدتك به } . يا للمصيبة ، كيف سأتكمن من تسديد الأقداح التي شربتها . قلت في نفسي . بعد قليل طلب مني أن أحاول تدبير مبلغ له ليشرب الشاي ويأكل الفلافل . أثناء نهوضي قال لي { راح أروح أبول . دير بالك على الكَونية } . راح ستار وفتحت الكَونية . يا إلهي . مليئة حتى رقبتها بأوراق المال . استدنت له من صديق محامي مبلغاً يكفي وجبة غداء فاخرة في المطعم والكثير من أقداح الشاي على أمل أن يمنحني أكثر من المبلغ الذي وعدني به . شكرني جداً وقال { راح أروح للبنك أودع هذه الزبالة التي تعود الى ربّ عملي . مليون دينار ، والتقيك غداً } قلت له { ولكن كيف سأسدد الدين وأقداح الشاي الكثيرة التي شربتها . اعطني عشرة آلاف . خمسة . ثلاثة } . { أخ القحبة درهم واحد ما عندي . هذا الخراء يعود الى صاحب العمل واذا تصرفت بدرهم واحد منه ، يطردني من العمل } . أخيراً . وافق على أن أحمل الكَونية على ظهري لمدة دقيقة . حملتها وتمشيت ما بين طاولات المقهى ولأول في حياتي شعرت انني امتلكت مليون دينار . حين علم صاحب المقهى بمصيبتي أعفاني من تسديد أثمان الشاي وهو يضحك ويسخر من بلاوي الشعراء والحصار .


يا قوّاد . يا نذل

في سنوات التسعينيات من القرن الماضي كان { تلفزيون الشباب } الذي يمتلكه عدي صدام . يظهر الكثير من المطربين المزعومين الذين كانوا عربنجية وشلايتية في كل آن . هؤلاء صاروا مطربين عبر تسجيلهم لأغنياتهم بعيداً عن التقاليد الفنية والموسيقية بالعراق . لا امتحان لا خبرة لا ثقافة لا صوت جميل . هذا يلحن لهذا ويظهر معه في الفيديو كليب وذاك يلحن لذاك ويظهر ... الخ . بعد أن ضجّت الناس منهم ومن سخافات غنائهم ، تلقوا تعليمات من عدي والمقربين منه أن يعيدوا تسجيل التراث العراقي الغنائي ويقدموه بصيغ عصرية ، وأن يعيدوا غناء مطربينا المعروفين ، وبما أن هؤلاء المساكين تنقصهم الخبرات والمعرفة الفنية فقد راحوا يقدمون تراثنا بطرق تشبه النواح والنباح . الناس ضجّت منهم من جديد ، ولكن ما الحيلة . بالعراق 3 قنوات تلفزيونية . الأولى تقدم نشرة الأخبار ونشاطات صدام حسين ب 6 ساعات ثم تعقبها برامج عن حياته ونضاله ، ثم القرآن الكريم والبرامج الدينية . القناة الثانية تقدم البرامج العلمية ونظريات الرياضيات ألخ . الناس تشاهد تلفزيون الشباب الذي دأب دائماً على تقديم برامج وأفلام تجارية مسروقة ولا يعنى بالأخبار السياسية . نسبة الغناء فيه 97 بالمئة . عام 1993 أقام اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق حفلة ساهرة الى الأعضاء وعوائلهم في حديقة ناديه وشارك فيها مجموعة من المطربين الكبار ومنهم المطرب فاضل عواد . صديقنا الشاعر محمد النصار بعد أن شرب في حانة بالباب الشرقي وجاء الى الحفلة سكراناً ، سكر مرة أخرى سكراً شديداً وفاضل يغني أغنيته الشهيرة { لا خبر } ولم يكن رآه من قبل . نهض من مكانه واتجه اليه وصفعه صفعة قوية على خده وراح يوسعه ضرباً ، وهو يصرخ وسط دهشة المحتفلين { يا قوّاد . يا نذل . لماذا تشوّه أغنية فاضل عواد . العن أبوك يا حمار . لماذا تشوه غناء فاضل عواد ؟ } . عاد فاضل الى الغناء وهو ممتن الى النصار الذي أخذته الغيرة على الغناء الأصيل ، وظل محمد الى اليوم التالي غير مصدق انه قام بهذا العمل .


رأى منقارا


قال الإمام الشاعر بن نباتة المصري يداعب كبير أنف .

أقبل عند القوم يسألني من أيّ أرضيك نلت ايثارا ؟
قلتُ من النيك ما رأى بصري خيراً ، ولكن رأيت منقارا .


اطلاق النار على اليد من أجل الخلاص من الموت


سلمت بندقيتي الى مأمور المشجب بموقع أربيل العسكري وأخبرته انني سأهرب من الخدمة العسكرية ، حدثني وهو يقدم لي كوب الشاي بأسى عن عشرات الجنود الذين ألحقوا بأنفسهم الأذى ، وقال : { ان استخبارات الفيلق ستقوم بعد معالجتهم بايداعهم السجون ومن ثم تحيلهم الى المحاكم العسكرية الخاصة . وعرفت منه أن حالات إيذاء النفس في هذه المعارك كانت متشابهة ومكشوفة في مستشفى أربيل العسكري ، قلت له كيف ؟ فراح يشرح لي أن الجندي المصاب يتفق مع جندي آخر على أن يطلق النار على يده أو على ساقه من مسافة قريبة ومن ثم يخلي نفسه الى طبابة الميدان ويدعي أنه أصيب بالموضع الدفاعي من قبل الجانب الايراني ، وبما أن هذه الحالات كانت متشابهة ، فقد قام آمر مستشفى أربيل العسكري بكتابة تقرير الى قيادة الفيلق أوضح فيه أن الأطباء بعد أن قاموا بفحص الإصابات ، وجدوا آثار بارود في الأعضاء المصابة وهذا يعني أن عملية اطلاق النار كانت من مسافة قريبة جداً } ، وحين هممت أن أنهض قال لي مأمور المشجب كمن يذيع عليّ سراً : { المفروض إذا تمت عملية اطلاق النار من مسافة قريبة ، أن يلف الجندي يده أو ساقه بكيس من القنب ، حتى لا تظهر آثار البارود ، بس هذوله قشامر ربما سيشنقون } .


في ذكرى صديق

يدي التي لم تدشن قبرك
ولم تضع فوقه الزهور
ستبقى تومىء اليك حتى نهاية العالم .


فراديس دموعنا التي تمحو الزمان


عطرها الميت في الحديقة ، تعبث به الريح
والقبر يطير فوق أجمات تطرد الأسرار .
منذ عهود والاسم يبحث عن هيكله العظمي .
وجهها غير المرئي ، وأشجار نهديها العاريين
التي تظلل فصول السنة ، وسرتها المرسومة
على شكل نهر والشبيهة بعين تفاحة . جواهر
تضيء وسط شقوق السأم . كلانا كان ميتاً ،
وفي تعاقب الأيام تذكرني تنهداتها بتنفسات القرون
المنوّرة ، بالتقمصات والتيقظات المرفرفة عبر
الدائم والمتحول ، عبر الزائل واللامرئي ، بعري
الانسان الطويل على شواطىء نومه المروّعة وهو
يخرج من جليد الكهف والمغارة ، الى بذور شمس
البيت والسرير . ينبغي أن نرفع حلماً مقدساً جديداً
على فجرالعالم ، من أجل خلود القيمة المتحققة لوجودنا
من أجل عهد وثيق مع المجرات والملائكة الذين يحرسون
أغصاننا وأبواب هواجسنا ، ويروّضون المادة المظلمة
لمرآة لحظتنا الفريدة ، من أجل التضرعات المتقشفة
لآلهتنا العنيدة ، وصرخاتنا التي تتعدد وتتوحد في صراعنا
ضد الحتميات . هل ننحدر ما بين انفصام الارادة والرغبة
صوب أرض النسيان ؟ ما هي الغاية التي تتحرك نحوها
شرارة التاريخ ؟ لماذا نتأخر دائماً عن رمي الجثث فوق
الروث ؟ لا ثمرة ولا برهان . هل لنا أفق آخر نملكه ولا
يملكنا ، حين نتثاءب أمام جدران كهوفنا المتصدعة ؟
عصور كثيرة تقدمت ونحن نتسلق شجرة الدورة الأبدية
للخليقة ، من دون أن نفكر بثمرة ما ، والزمان سلم ننزل
منه لنذوب في ظلمة الطبيعة وننسج ثياب موتنا خيطاً ، خيطاً .
أصوات زهور حبنا اللامورقة ، تهدد في انفصال الكلمة عن
الفعل . نوم الآلهة تحت النجوم ، وكلما ارتفع غصن من
أغصان التحنيط ونوّر الأرض كلها . نحمل قرابيننا ونتقدم
باتجاه هاوية الموت والميلاد . أرق الزوال وومضات فراديس
دموعنا التي تمحو الزمان . يبعثران جميع العلامات التي
رفعها الحب في الطرقات المظلمة والمتعرجة .

بيض ومؤلفات حرامي بغداد

على الرغم من عدم تأثر الأسواق بالعراق وخصوصاً في المواد الغذائية للناس في سنوات الحرب مع ايران التي امتدت الى 8 سنوات ، لكن البيض والزبد والأجبان هي المواد الوحيدة التي كانت تختفي في أحيان كثيرة . تذهب الى الحوانيت وتسأل عنها ، فيكون الجواب دائماً هو { ماكو بيض ماكو زبد ماكو جبن } . خال الرئيس وأبو زوجته الذي استحق تسمية { حرامي بغداد } بعد أن استحوذ بالقوة والترهيب والترغيب على الكثير من بساتين المواطنين وأموالهم وبيوتهم وسياراتهم وأراضيهم الزراعية . بعد أن أصبح مليارديراً كبيراً . تفتقت عبقريته التجارية عن انشاء { الجمعية الاستهلاكية لموظفي الدولة } التي انتصبت بعمارتها العالية في شارع الرشيد . توجد في هذه الجمعية كل المواد الغذائية التي تفتقدها أسواق بغداد ومنها البيض الذي يتوفر دائماً . قبل افتتاح جمعيته الاستهلاكية . كان حرامي بغداد قد كلّف مجموعة من جلاوزته المزوّرين أن يقوموا بتأليف الكتب باسمه باعتباره مؤرخاً . صدرت له في البداية موسوعة من 43 مجلداً بعنوان { كنتم خير أمة } وأعقبها بكتابه { نضالي } ووالخ . الموسوعة تتحدث عن التراث العربي والشعر وأيام العرب وخزعبلات غريبة عجيبة لا يربطها رابط . أمّا { نضالي } فيتحدث عن تدخله في محاكم الأحوال الشخصية عندما كان محافظاً لبغداد في بداية سنوات السبعينيات ، ومنعه القضاة من اصدار الاحكام في القضايا والمشاكل الزوجية والطلاق ، بحجة المحافظة { على الرباط الزوجي ومنع الأطفال من الضياع } ومديح بعض الشعراء والصحفيين له ، { خبر من الله طلّ وفاح } وسواها من الأشياء الرعناء التي لا تدخل من ضمن اختصاص وظيفته . جمعيته الاستهلاكية تبيع كل شيء الى الشخص الموظف في الدولة ، لكن المشكلة التي كان يعاني منها أغلب الذين يتسوقون بضائعهم من تلك الجمعية . انها تجبرهم اذا أرادوا شراء طبق بيض { سعره 600 فلس } على شراء أحد كتبه . كل كتاب سعره ثلاثة دنانير ونصف . ما العمل ؟ لا بيض إلاّ في جمعية الحاج الحرامي المؤرخ وخال الرئيس . كانت الناس تجبر على شراء طبق البيض ومعه كتاب عن القومية العربية أو الجغرافيا البحرينية أو الوضوء أو غزوات القبائل من تأليف مؤلفنا الموسوعي المزعوم وبثمن يتجاوز ثمن طبق البيض ب 6 مرات .

جان دمّو والجلاد

جان دمو : انها أغنية يا سيدي
الجلاد : لا ، انها قنبلة
جان دمو : ولكنها أغنية يا سيدي
الجلاد : قلت لك انها قنبلة
جان دمو : لماذا لا نغني معاً ؟
الجلاد : أخشى أن تنفجر
جام دمو : لن تنفجر . أستطيع أن أؤكد ذلك
الجلاد : هيا ، ابدأ أنت أولاً
جان دمو : { بامتعاض } اشتريتُ بنطالاً من الصوف
الجلاد : { مقاطعاً ومقهقهاً } ونطحك الخروف .


بخل بيكاسو

منذ اسبوع وآنّا غاضبة مني بسبب عدم تنفيذي لرغبتها في رفع لوحات بيكاسو من جدران مطبخ شقتي . هي الآن تكره بيكاسو بشدّة . بدأ غضبها ضده بعدما شاهدنا فيلم يدور عنه وعن نساؤه . تسلطه وخياناته وبخله الذي يثير حفيظتها ويجعلها عصبية كلما نظرت الى احدى لوحاته المعلقة على الجدران . قبل مشاهدتنا للفيلم كانت قد قرأت سيرة فرانسواز جيلو أصغر زوجات بيكاسو ، وراحت تحدثني عن بخله وطباعه الاسبانية ، وعن طرده لسائقه مارسيل بعد خدمة ربع قرن : { تلزمه الآن بذلة جديدة . هو يستهلك ألبسة أكثر مني ، وقريباً سوف يريد أن يسوق بالسموكينغ } . أبلغت آنّا نهار أمس انني أحب هذه اللوحات التي تزين جدران مطبخي ولا أريد أن أرفعها . اقترحت أن أضع لوحات فان كوخ المعلقة على جدران الحمّام في المطبخ وأرفع لوحات بيكاسو وإلاّ فانها لن تغفر لي .


سرير الموت المعلق على الخيط الرفيع


الوعود التي تلقتها البشرية عبر عصور التاريخ المختلفة من خلال الأديان والفلسفات والثقافات التي شكلت وعي الانسان ، حول مشكلة الموت والفناء واستحالة وجوده على الأرض . لا تعبر بجدية عن مجمل المخاوف والآمال التي يطمح اليها من يتوق الى الخلود . لا خلود ولا بعث ولا وعد بجنة ما أو حياة أخرى . في النهاية وعلى الرغم من صعوبة اقناع أولئك الذين يأملون في فكرة البعث التي لا تتطابق مع فكرة الخلود ، فأن الحياة يجب أن تعاش حتى آخر لحظة عبر لحظات السرور والألم التي يجب أن لا تنسينا اننا ننام في كل آنٍ على سرير معلق على الخيط الرفيع لتنفسات الموت . الأدوية والعقاقير التي تصنف لنا في كل دين وكل فلسفة وكل اسطورة ، حول تهدئة مخاوفنا من الحقيقة المطلقة لزوالنا الوشيك وقصر حيواتنا التي يستلبها منّا العالم في كل حينٍ . تبقى مفيدة وضرورية لاشباع رغبات أولئك البشر الذين يعانون من الاضطرابات النفسية وعدم مقدرتهم على التعايش مع موتهم وعبثية وجودهم في العالم .


موت جديد

سنخترع موتاً جديداً وننام فيه مثل نوم النحلة . موت نتحدث اليه ويصغي لكلماتنا المفتوحة لأبواب الصيف . سنقرأ خطوطه اللامكتوبة ونمشي بين أروقته المضيئة بصمتها الذي يزوّج الثلج . أصابعنا الموشومة تكبر تحت القناديل المنشورة في الليل . في الظلام . في الأدراج التي ينمو فيها الطحلب . تتقدم جمرة وتوسع الأرض الليلية ذات الأنهار المزدوجة ، وكما يسيل البكاء من الأشجار المهمومة . يلمع سيف الرغبات ويضيء الهاوية التي تتلبسنا .



كرامة الحبّ


بحثاً عن مضمون معقول لهذه الساعات الضئيلة الممنوحة لنا والمعلقة فوق خيوط الفجر . نضيع فطنة العيش في الدراسة عن العلل والغايات . تسوس . هذيانات . ما يحدث دائماً يجردنا من كل ممارسة حقيقية . كرامة الحب يجب أن تصان بعيداً عن أولئك الذين يشحذون حواسهم مع كل زخّة ضجر .

التصدي لأمريكا بالبعران


في الذكرى السابعة لهزيمة صدام حسين من الكويت عام 1997 . وزعت وكالة الأنباء العراقية مقالاً كتبه صدام تحت عنوان { خواطر في الذكرى السابعة لأم المعارك الخالدة } ونشر في الصحف وتمت قراءته عبر الاذاعة وقنوات التلفزيون العراقية . القائد العام لقواتنا المسلحة وحامل أكبر رتبة عسكرية في العالم { مهيب ركن } تحدث في خواطره هذه عن ادارته للمعركة وتصديه للتحالف الدولي الذي شنّ الحرب ضده من أجل طرده من الكويت ، وخططه العسكرية ونظريات السوق وستراتيجية الكرّ والفرّ ، لكن أغرب ما ورد في خواطره هذه هي قوله : { ونظراً لكثافة الطيران المعادي ، فقد كلّفتُ الفريق عزت الدوري أن يشتري 5 آلاف بعير ويحمّلها بالماء والعتاد والطعام ويرسلها الى الخطوط الأمامية لجبهة الحرب } . لا تكمن الغرابة هنا في التصدي لأمريكا بالبعران من قبل مهيبنا الركن الدونكيشوتي ، بل في تلك الليلة التي سبقت اعلان الحرب وأمر فيها الطيارين العراقيين أن يطيروا الى ايران ويتركوا طائراتهم الحربية { 136 طائرة } هناك حتى لا يتم قصفها من قبل قوات التحالف . هل هذه المصيبة أغرب من مصيبة أوامره في الأيام الأولى لتلك الحرب لقوات الجيش الشعبي والجهاز الحزبي والوحدات العسكرية المنتشرة ببغداد . حول { ضرورة القيام فوراً بتغطية الجسور بالحشائش وأكياس القنب حتى لا تكتشفها الطائرات الحربية الأمريكية } المزودة بأشعة اللييزر وتقصفها ؟ . ماذا كانت النتيجة ؟ تهدمت الجسور وتهدم العراق وشعبه . أحد الصحفيين العراقيين واسمه فاروق الصالح . حين قرأ خواطر صدام تلك ، كتب مقالاً ونشره في الصفحة الأخيرة عام 1997 في صحيفة { بغداد } التي تصدرها حركة الوفاق الوطني تحت عنوان { قائد البعران } .


قتلى الحروب

واحداً بعد واحد قُتلوا في الحروب . أصدقاء جميلون وفقراء ولكثير منهم رغبات وأحلام جليلة .


نحو شعرية جديدة تطرد القارىء الغبي والآيديولوجي الغبي


كان اكتشاف الغريب واللامتوقع والسعي الدائم الى الماوراء ونبذ المألوف ، هو ما ركزت عليه السوريالية في بحثها عن فن وأدب ينطلق من اللاشعور والأحلام والهذيان والجنون . في شعرنا العربي الذي أثقلته حمولات الآيديولوجيات السياسية القومية والماركسية والطائفية في القرن الذي مضى وحتى الآن . لا نجد أثراً لهذه المفاهيم والتجارب التي منحتها السوريالية دفعاً قوياً عبر ابداعات كبرى في قارات العالم المختلفة . هل يستطيع الشاعر العربي الخادم للسياسي ورجل الدين و { مطرب الجماهير } الغبية التي تحاول الفهم دائماً . بثقافته التراثية وأخلاقه القروية المنحطة وسلامه الروحي مع مجتمعه بكل أشيائه الثقافية والدينية والسياسية الراكدة . أن يسعى خلف اللامتوقع واللاشعور وما وراء الواقع العربي الذي تثقله الممنوعات والتصورات والأفكار الدينية والسياسية المتسلطة ؟ آن الأوان الآن لنرمي بكل انجازات شعرنا في القرن الماضي الى الحضيض ونسعى الى تأسيس شعرية جديدة تطرد القارىء الغبي والسياسي الغبي والآيديولوجي الغبي .


موت العصفورفي أرض غريبة

حبّة قمح عمياء تبحث عن أرض محروثة . قادها عصفور الى نبع . في العام التالي مات العصفور في أرض غريبة . حبوب قمح كثيرة ناحت عليه طوال الصيف .



حجج الاسلام والمسلمين

كان مشهد بعض أصدقائي الشعراء ، وكتّاب المسرح الذين تخرجوا في معهد وكلية الفنون الجميلة بعد زوال نظام الطغيان ، في القناة الفضائية العراقية ضمن برامج ثقافية بائسة . من أغرب المشاهد المؤلمة في حياتي الأدبية . هؤلاء الأصدقاء الذين طالما سعوا الى الانعتاق من العبودية التي فرضها المجتمع المتخلف والنظام السابق وحلموا بالحرية والسفر والابداع الجديد عبر مجموعات أصدروها ومسرحيات كتبوها ونظّروا لها ومثلوا فيها . عادوا الآن بعد الزلزال الذي ضرب نظام صدام حسين الى حظيرة الطائفة عبر ارتداء البعض منهم للباس الديني والعمامة واطلاق اللحية ، والبعض الآخر سافر الى مكة وأدى فريضة الحج . مقدم البرنامج في الفضائية العراقية يسأل أحد الشعراء : { حجي ، في شعرك السابق تتحدث عن بريجيت باردو والحانات } وقبل أن يكمل سؤاله يقاطعه حجة الاسلام والمسلمين بقوله : { والله أنت تعرف النظام السابق والحياة كانت صعبة } الخ . هل من المعقول أن يعتم الشاعر والفنان والمخرج المسرحي الآن ، بعمّة ويطلق لحيته الى نحره ويتحدث عن التجريب والمغامرة والتجاوز ؟ يبدو أن هؤلاء لم تكن لديهم أصلاً ، أحلام وقلق ولا يقين وسأم من الوجود والعالم . لست أدري هل يود هؤلاء أن يصبحوا مثل مقتدى الصدر الذي يسعى الآن وهو يدرس في ايران الى نيل لقب حجة الاسلام والمسلمين ؟


رأس جان دمّو

اضطجعتُ على فراشي وفكرّتُ في هذه المروحة التي تحرك الهواء في الغرفة . من أين جاءت ؟ من الذي وضعها هنا ؟ وفجأة تذكرت انها رأس جان دمّو . داهمته ليلة البارحة وهو يهم بسرقة نقودي . فرّ هارباً وترك لي رأسه علامة تذكار .


العنصرية في التقرب الى الله

{ قد عرفت أن الذكورة شرط في وجوب الجمعة ، فلا تجب على المرأة ، ولكن تصح منها اذا صلّتها بدل الظهر . وهل الأفضل للمرأة أن تصلي الجمعة ، أو تصلي الظهر في بيتها ؟ في ذلك تفصيل المذاهب ، أما غير المرأة ممن لا تجب عليهم الجمعة ، كالعبد فانه يستحب له حضور الجمعة .
1 . الحنفية قالوا : الأفضل أن تصلي المرأة في بيتها ظهراً ، سواء كانت عجوزاً أو شابة ، لأن الجماعة لم تشرع في حقها . 2 . المالكية قالوا : ان كانت المرأة عجوزاً وانقطع منها أرب الرجل جاز لها أن تحضر الجمعة ، وإلاّ كره لها ذلك ، فان كانت شابة وخيف من حضورها الافتتان بها في طريقها أو في المسجد ، فانه يحرم عليها الحضور دفعاً للفساد . 3 . الشافعية قالوا : يكره للمرأة حضور الجمعة مطلقاً وغيرها أن كانت مشتهاة ، ولو كانت في ثياب رثة ، ومثلها غير المشتهاة ان تزينت أو تطيبت ، فان كانت عجوزاً وخرجت في أثواب رثة ولم تضع عليها رائحة عطرية ، ولم يكن فيها للرجال غرض ، فانه يصح لها أن تحضر الجمعة بدون كراهة ، على أن ذلك يتم بشرطين : الأول : أن يأذن لها وليها بالحضور ، سواء كانت شابة أو عجوزاً ، فان لم يأذن حرم عليها . الثاني : أن لا يخشى من ذهابها للجماعة افتتان أحد بها ، وإلاّ حرم عليهاالذهاب . 4 الحنابلة قالوا : يباح للمرأة أن تحضر صلاة الجمعة بشرط أن تكون غير حسناء ، أما وان كانت حسناء فانه يكره لها الحضور مطلقاً . }

عبد الرحمن الجزيري { الفقه على المذاهب الأربعة } الجزء الأول . كتاب الصلاة ص 297


ينسى الله وينسى صلاته ويتحرش بالمرأة

قُل للمليحة في الخمار الأسود
ماذا فعلتِ بزاهد متعبد ؟
قد كان شمّر للصلاة ثيابه
حتى خطرتِ له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه
لا تقتليه بحق دين محمد .


جان وفتاة الحانة


فتاة الحانة : جان . اللعنة . هيّا ضاجعني
جان دمو : اوه ، يا إلهي ، اذهبي الى الجحيم
فتاة الحانة : ضاجعني . لماذا لا تضاجعني ؟
جان دمو : اذهبي ضاجعي نفسك بقذيفة مدفع
فتاة الحانة . فرجي . فرجي سينفجر
جان دمو : ادهنيه
فتاة الحانة : دهنته
جان دمو : افركيه
فتاة الحانة : فركته
جان دمو : اوه ، اللعنة .


من انخيدوانا الى الشاعر الغجري نصيف الناصري

{ يا صديقي في الألم . لقد صدق الجزء الأول من نبوئتك ، فلقد عشتَ وأصدرت مشرّعاً أبوابك لأرض خضراء وشهدت بدلاً من تفسخي . شهدت موتي . أشجارك تكبر بالحزن ، واذا كان ثمة عطل ، فمن المؤكد ، كل شيء غير مثمر يكبر في العزلة والشعر والمرارة . قبل أن أموت . لا توغل في محبتي . ماذا فعلتَ بي وأنا أتصفح كتابك ؟ أعني ألمك الكبير أيها الصعلوك النبيل . لا شيء سيبقى غير الشعر ، فكل الهوامش ذاهبة في الزوال . قبل أن أموت . قال لي هذا الصباح { صباح يوم الشهيد } وكنت احتضر وشاعرة اسمها فوزية الرادي كانت تجلس قرب رأسي ، تمنني برّكة الشعراء . قال ........... { هل أجيء بالأطباء ؟ } قلت { لا ، أريد الأصدقاء } هل تعرف أيها الصديق ماذا يعني أن تنتخي بالمحبة ؟ قبل أن أموت . صدّقني لم أذبح أحداً إلاّ حياتي ، فكيف لي أن أفعلها معك ؟ قلبكَ هو الذي سال فوق السفوح لأنه أكبر من الشفاعة . حتى حينما تلعنني أكاد لا أملك إلاّ أن أبكي من الأعماق . من كهف هذا الشتات والنفي الدائم في ملكوت الوعي والخلاص . لا خلاص لي . غير انّي الآن وكما كنت دائماً أصلي للشعر . أموت عليه وأشهق به . أمسك بعروته الوثقى . أفتح ذراعيّ واستقبل حزنكَ . اكتب بألق آخر وبصدق أيضاً ، مثلما أفعل أنا الآن . سوف أنجز اذا مابقيت على قيد الموت مشروعاً شعرياً لا حقت فيه الشعر بالانثربولوجيا حيث بابل القديمة . قبور الطوفان الأول . الشتات الأخير . كل ذلك ستجده مخطوطات لدى .................... اذا ما التقيتها فوق أرض التنهدات . ليلي هو المثلوم ، وناقص وصخرتي كبيرة . لن يبقى غير الشعر ، فاذا متّ سأعود مثل أخت . هل تذكر ؟ اكتب ، اكتب لنكسر العزلة . لنقهر الموت . العدم . هذه الرسالة حاولت أن أبعثها لك منذ أكثر من عامين من بغداد ، وها أنا أرسلها دونما أيّ حذف ولكن . من أحد أديرة البافاريين الباردة . يومها قرأها .................. وهو يحاول أن يرسلها لي ولكن جاء أحد الأصدقاء وأخبرنا أن الناصري قد غادر عمّان ، فبقيت لدي لكن فقط نسختها على ورقة أخرى .

اتخيدوانا . 1 / 12 / 1996 .

الشفيعة / الغجري


العاشقُ الغجريُّ مريض
يقف حزيناً في بوابةِ الافلاس وفي يده زهرة قرنفل .
الشمسٌ لم تشرقْ في يوم ما بالعراق .

في الحديقة ، اللصُّ يدفن كنزاً
محصلُ الضرائب
جاء ليقطفَ وردة .

أين ذهبَ عشاقكِ الكهول
هل احتفظتِ بأسمائهم ؟
هل حنطتِ جثثهم ؟

كلّ شوارع وعصافير العالم تدلني عليكِ
ولكي أنظرَ اليك أو أهمسَ في أذنك
ينبغي أن أطرد الكثير من الذئاب .
أنتِ النهرُ
أنا السمكة .
سجدَ لك ودادي
وآمنَ بكِ عنادي .
أيتها الجميلةُ القبيحة انخيدونا
سيدةُ الشموسِ والغمام
ها انني أدفع حرابي علفاً للأوهام
سأغادر مطعوناً بعد أن تكونَ شجرةُ حبي قد اكتهلتْ
والمنافي التي أصلُ اليها حزيناً ونازفاً
ستهلكني هلاكَ جرذ .
هنا بردُ العزلة والنشيدُ الجنائزي
حين ساعة الموتِ تقترب
طائرٌ محكومٌ عليه بالقتل .
هنا أنخيدونا كانت رعوداً
هنا كومة من آلامي النبيلة دفينةٌ ومستترةٌ في جحيم امرأةٍ تنزف
جمالها بغزارة
والرجاء ، ذلك البخورُ الذي يشعُّ على الأقاليم الجافة
الرجاءُ الذي أنتظره . أملي الوحيد الباقي
يفرُّ من بين يدي ويتركني طريدةً معراة للحلم في البراري .
كن شفقاً أيها الجميل
هذا الغناءُ الذي يُسمع في الريح
هذا العندليبُ الذي تمتد وتتقلص رقبته طبيعياً من دون سلك
انه السلوان . الآن كل شيء يترك نفسه في الوراء ليمنحني ميثاقاً بانني كنت
مخدوعاً وخاسراً . أريد هذه الليلة أن أكون حرّاً طليقاً كصقر
يحلق في فضاء وجبال ويفتح القلاعَ التي شيدها أباطرةُ السهاد
وأيضا لأسألَ لماذا يحل بي مثل هذا الألم ؟ ثم أبحثُ في الرماد عن ظل انخيدونا
أبحثُ في الخرائب العميقة عن الشفيعة . آهٍ ، أيتها الأميرة القابلة للاقناع
أيتها المعبودة
والسيدة الفانية
المعشوقة والمكروهة .

في أيِّ زمن سيجيئونَ بمن يماثلني ؟
وهل سيجيئون بملء ارادتهم ؟
وهل سيسيطرونَ على دموعهم ؟
وهل سيجيئون مبكرين ؟
ومن سيستطيع أن يعرفَ أسرار عنادهم ؟
1- ليذهبوا الى الجحيم أولئك الحشرات سكان المستنقع
انني لا أخجلُ من أن أتعرى أمامهم
اذا كان الله قد نفخ الحياةَ في التراب
فأن نصيف الناصري يستطيع أن يعدَّ هؤلاء الناس الأحياء
مجردَ أملاك ترابية .
2- أتعرفين ، تباً لكِ ولأساليبك التسلقية
هل يتوجب علي أن أتعلم التهذيبَ منكِ
التهذيب الدارج في انكلترا مثلاً ؟
أتظنين أنَّ الشحرورَ المتقاعدَ من الخدمة له رائحة أفضلُ مني ؟
لا أحدَ في العالم يجرؤ على تقديم شكوى ضد الأقوى
والآن - تستطيعين الهذيانَ عن العلاقات الانسانية كيفما تشائين
فذلك مجردُ غبارٍ على الجدران ، انك لن تغيري شيئا في هذا العالم .
لا أنفي انني كنتُ عاشقاً ومجرماً في بعض الأحيان .
مرحبا يا آنسة
لقد شحب وجهكِ .
كيف أصلُ اليك من دون أن ألمس جمرة الخديعة ؟
3- العشاق العجائز ذوو النظراتِ المشوهة اليك ، تغنوا بشبابك
الذي كانوا يعتبرونه أسطورة فقط ممزوجة بالسكر والسحر لكنهم
لا يستطيعونَ ادراكَ ذلك ، فكلماتهم الناعمة الجائعة المفترسة الكاذبة
ينقصها الاحساسُ والصراحة ، وقد بقيتِ بعيدة وصعبة المنال لم تمسسكِ
المشاعر الحقيقية ، وكنتِ كأنك أنثى طاووسٍ من خشب الأبنوس مقنعة
أو أنثى شبقة
أو شيء غريب
أو وعاء فارغ
أو جنون
أو اغواء
أو قسوة
أو وحشية
أو سحر وغيرها من الكلمات الجوفاء
وحسب كلماتهم المائعة المشوهة
كنتِ مجردَ سلعة معروضة للمتعة
وهذا جيد فمن حسن الحظ انهم بالنسبة لنا من نفس
اللحم والدم والاحساس ونفس الألم وقد بقي لي نفس
الشرف العميق بأن أتغنى بك بكلمات حارة .
4 - { لكن أين الماسة اللامعة في ليل المراثي ؟
هل غدت بخاراً وعصفاً ؟
هكذا كان الغجري يقول لنفسه .
5 -أعرف أنك كاهنة المعبد الكبير العظمى
وتنحدرين من سلالة ياقوت رحيم اللمعان .
6 - أيتها الريح
يا شمسَ الحب في صيف الوادي
يا طيورَ الليل
احملِ الى الشفيعة
سلامَ العاشق الأعزل .
7 - آمل حين تسمعين زقزقةَ عصافير في المساء
أن تكتبي قصيدةً عن فراق الصراصير
أو تفكرين برحلةٍ الى نفق مظلم
سينتابكِ شوقٌ جياش
لرؤية المستنقعات والضفادع .
8 - أريحي نفسك قليلاً فوق الهاوية
عذبة نسمات ينابيعنا عذوبة أكاذيبكِ .
.......................
هل تنشف طوابع ينابيع الحب والشعر عند الكاهن الغجري في صحراء المنفى ؟
صقرٌ في يدي
وفي يدي زوبعة .

مفارقات المعارضة لنظام صدام حسين
عام 1996 . أعملُ في حركة الوفاق الوطني المعارضة لنظام صدام حسين في العاصمة الأردنية . أكتب ريبورتاجات صحفية اسبوعية في صحيفة الحركة { بغداد } ومتابعات وتحليلات اخبارية وتمثيل اسكيتشات في اذاعة المستقبل التابعة للحركة . تستهدف وتسخرمن رموز نظام الطغيان . الدافع عندي كان وطنياً واخلاقياً في الكشف عن وحشية وتعرية سياسات وطغيان نظام الديكتاتور صدام حسين . أبي المريض والعجوز وأخي الذي يصغرني ببغداد يقبعان رهائن في أحد سراديب مديرية الأمن العامة ، بسبب نشاطي المعارض . يعمل معي في مقر الحركة مجموعة من الأصدقاء الكتّاب والشعراء والفنانين . في الجهة الأخرى تضم الحركة خليط غير متجانس من الشخصيات العراقية المعارضة . عميد في الجيش . عقيد ، رئيس أركان فيلق . وزير اعلام سابق . سفير . سفير ووزير سابق . جنرال برتبة لواء مؤسس صنف القوات الخاصة في الجيش العراقي . ملحق عسكري برتبة لواء في دولة اوروبية . مدير وكالة الأنباء العراقية السابق ومدير المركز الثقافي العراقي في الرباط الخ . كانت المشاكل والحساسيات الشديدة عند أعضاء الحركة كثيرة وكبيرة ، بسبب سعي أغلبهم وخصوصاً الجنرالات للحصول على المناصب والامتيازات والتقدم الى الواجهة . كنت عندما ينتهي عملي ، أذهب الى البيت والتقي في أحيان كثيرة بعض الأصدقاء في مقهى { السنترال } أو في حانة ما . هؤلاء الأصدقاء هم شعراء وكتّاب لا يجدون أيّة فرصة عمل لهم في عمّان . يعانون من شظف العيش ويسكنون في غرف تضم كل واحدة أكثر من 5 فنانين وشعراء وكتّاب . الصحفيون والشعراء الذين يعملون معي في الحركة . بعد أن انتفخت كروشهم وتوردت خدودهم بسبب الرواتب العالية ، وكانوا قبلها يعيشون كما يعيش أولئك الأصدقاء الفقراء . قطعوا علاقاتهم مع الجميع واختفوا تماماً من المقاهي ومن مركز المدينة . وصاروا يلومونني على لقائي بأصدقائي الذين لا يعملون معنا . بعد شهور سيشون بي الى مسؤول الأمن في الحركة بقولهم انني التقي أشخاصاً من خارج الوفاق وربما يكون من بين هؤلاء من هو مدسوساً . اكذوبة أعرفها . هم يحرصون على ادامة بخلهم ونذالاتهم القديمة . البعض منهم راح يتوسل الى بعض المسؤولين ويطلب مساعدته في الزواج من نساء بالعراق . كان تهافتهم على الجنرال والسياسي وخدمتها وطاعتهما مهزلة كبيرة بالنسبة لي . منعوني من الذهاب الى غاليري { الفينيق } واللقاء بعبد الوهاب البياتي وحسب الشيخ جعفر وأصدقاء آخرين . الحجة التي قدموها لي هي خوفهم من أن تقوم مخابرات صدام حسين باغتيالي . اكذوبة أخرى أعرفها . حين لم امتنع من الذهاب الى لقاء الأصدقاء في المقاهي والحانات . قاموا بفعل دنيء ضدي . في يوم ما عدت من العمل الى البيت بعد الساعة الثانية ظهراً . كانت تقف في مدخل بيتي سيارة شرطة . ما أن هممت بفتح الباب حتى ترجل منها 3 رجال . { شو اسمك وَلَك ؟ شو شربان ؟ } أخبرتهم اسمي وقلت لهم انني شربت الماء والشاي . قال الضابط { اسكت ولك . ترى أدعس شاربك بالبسطار } . { لماذا تدعس شاربي بالبسطار ؟ لم أفعل شيئاً . عندي اقامة سنوية وأعمل في جهة معارضة لنظام صدام حسين } قلت له . صرخ في وجهي بغضب { وتسب على الرئيس صدام يا حيوان يا بن الشرموطة ؟ } . اقتادوني الى سجن يقع في ساحة { العبدلي } . بقيت هناك مدة اسبوع كامل من دون أن يسمحوا لي بالاتصال بأحد ولا أعرف ما هي التهمة الموجهة إليّ . بعدها أخذوني الى مبنى المخابرات الأردنية لأقابل أحد الضباط بلباس مدني . عرفتُ منه انني لست مذنباً ولا مجرماً ولا تهمة ضدي . قدم لي الشاي والسكاير وأمر أن يعيدوني الى بيتي . أعرف أن هذه قرصة اذن ورسالة من أولئك الأصدقاء الذين يتآمرون ضدي بسبب صرفي راتبي على بقية أصدقائي العاطلين عن العمل . بعد أن امتنعت من الذهاب الى المقاهي وحانة { الياسمين } حيث يتواجد حسب وعبد الوهاب كل يوم . قامت دورية شرطة وكانت تترصدهم في يوم ما بعد الساعة الواحدة ليلاً بتوقيف هؤلاء الأصدقاء الوشاة حين خروجهم من حانة { الياسمين } واقتادتهم الى أحد مراكز الشرطة لسكرهم الشديد . نفس الشيء الذي حصل لي حصل لهم . بعد شهور سيتم طرهم من العمل في حركة الوفاق وسيعودون للسكن في غرف العاطلين عن العمل والفقراء الذين استقبلوهم برحابة صدر أوسع من دناءاتهم ونذالاتهم .

العيش في البلاهة
يغلب على أولئك الذين لهم القدرة على العيش في البلاهة ، أن يصبحوا رؤساء وأمراء وجنرالات وأثرياء . ما يثيرنا دائماً ، هي الترددات ما بين الغش والنزاهة ، لكننا ننسى في غمرة انشغالاتنا . أن الحمق هو الطريق الوحيد الذي يوصل الى العبقرية .


ليل الجرح

تموت سنوات صيف الثمرة وتعود أكثر صفاء في طيرانها بين الأفنان المتثائبة لحياة الانسان .
هل تجدي تراتيلنا نفعاً وسط هذه الشهقات العليلة لأشرعة النهار المقيّدة والطافية فوق مياه الصمت الممتدة باتجاه ذبول الأشياء ونظائرها المتعددة ؟ غرف أنثوية عميقة في الشجرة النقية للزمن ، تحجبنا عن رؤية الصلاه الخفيفة للفراشة في غابات الرغيف ، لكن النشوة الفاترة لحملقاتنا في الممرات العالية لما وراء الوجود . تصيبنا بالتشنج والانحلال ،
والانحرافات الغامضة لقناديل المطلق التي تسحبنا باتجاه الاشارات المتهدجة
للمادة . لا تعيننا على النهوض من رقادنا المنعطف بين الحشائش المتعففة في تلوناتها المزدوجة . في كل رابية ومنحدر لنا ريشة متثائبة وفي كل حقل وصخرة لنا نافذة نرنوا عبرها الى الاعصار الذي يحنو على حيواتنا عديمة الرائحة . ينبغي أن نضرم النار في الجرح
ونرافق زيز الحصاد الى شعائره الخطرة . كل رعشة علامة صمت وكل ولادة تدفق حيّ لفقدانات جديدة . وحدها الظلمة العاشقة تعانق السنبلة والفضاءات المقفلة .

فجر الزمان
نموتُ في كل آنٍ بعيداً عن شواطىء رغباتنا وسطَ رياح الادراكات التي تتعثر بين الكلمة والفكرة . طائر السنونو الذي يحركُ عشه بين السروات المرفرفة في ليل الصيف الطنّان ، هو قلق الانسان الأزلي في انبثاقاته المتعرجة صوب السقوط في الهاوية . هل المادة هي الوردة العميقة للوجود أم ستار الطاقة ؟ هل تتماهى ادراكاتنا مع موضوعاتها ؟ هل الحديقة والجبال والأنهار والتراب هي احساساتنا ؟ نيران ارادتنا ترسخ نفسها بقوة في ظلمة العالم ، لكن فجر الزمان الممتد بين الوجود والماهية ، والاضافات المتعددة للفراغ ، تطيحُ بالعظمة الانسانية وهي تتزلزلُ وتتقدم صوب الهاوية التي نسميها الايمان . الأشجار المحملة بالأثداء الكبيرة في طيرانها المترنح وهي تنفساتنا ، تخفقُ في الهبوط فوق وميض المطلق . الطبيعة والتاريخ تجليات لروح الانسان الكبيرة التي تضيء في رفرفتها الإلهية ظلمة العالم .

ايور حمير
قراءتنا لقصائد الشعراء الذين لا يحرصون على تعلم الاصول الشريفة لفن الشعر ، تجعلنا نشعر وكأننا نجلس في حدائق أدغالها ايور حمير .


مازوشية

الشعوب العربية هي الوحيدة في الكرة الأرضية التي كلما فطس طاغية فيها . خرجت تندبه وتشيعه في النحيب والعويل ، ونصبّت ابنه في مكانه .

أجمل القصائد

يمكننا العثور على أجمل القصائد عند الشعراء المبتدئين ، لأنهم بصراحة في محاولة منهم لاثبات الذات وتسلق الهاوية المتعرجة للألم . يسطون على قصائد الشعراء الكبار ويمزجونها بتجاربهم الشيطانية والبريئة .


الظلال المنجمة

لا تتعاطف معي هذه الأشجار العارية في حتمية موتي
ولا هذه الأكاليل المنعمة رغباتي التي توسدت صمتها، أسمعها الآن تئن وأسمع
تنهداتها المصكوكة عبر رياح الخريف الدائمة لحياتي .
في الماضي حلمتُ في النوم على أرائك كبيرة بحديقة فارسي
تسقيني جاريتي الخمر وتغني لي عن اللذة والحب
لكن حلمي المطوق الآن يجبرني أن أحيا في ليل اسمنتي
غير مقطون .
يعبر الجميل الغريب والممتنع صوب المتاهة دائماً بلمحة خاطفة
لكن ما يعزينا في رغباتنا التي تنام في النوافذ المغلقة للعالم
هو الألم وأصيافه بيبوستها الغامضة .
نموت ويوقظنا عري القنديل
وفي الايقاظة المحترسة لرغباتنا تنبثقُ الظلال
المنجّمة لحياتنا المتصدعة .



ليل العصافير


الليلة الفائتة حلّقت طائرات جنسية أسفل الأشجار في غرفتي ، وألقت منشورات تحرضني فيها على قطع أنفي . استجبت للتحريض برغبة شديدة واشتريت قطة يابانية ذيلها الضخم يشبه حبل مشنقة . صعدت الى سطح أعلى بناية في المدينة وألقيت نفسي في جوٍّ من المداعبات اللطيفة . وشت بي القطة التي نسيتها بالغرفة في حمّى هياجي الى الأعداء . عادت الطائرات تقصفني ، وكنتُ كلما تطلق نحوي قنبلة أصدها عبر القذف المستمر . تمدد أنفي فدمغته ولغمّته وانشرح ليل العصافير في دويّ القذائف .


شدوّ الطيور في الأحلام


الصيغة المثلى لاحتفاظنا بجذوة الحب الأول مشتعلة دائماً . هي أن نحاول التجربة مرة أخرى . كل تقليد يرسخ الذائقة ويحجب عنّا ضوء القناديل التي تكمن خلفها الاختراعات المسلية للفكر والعاطفة . الانصات الدائم الى شدوّ الطيور في الأحلام . يخفف عنّا هول الصدمة الاستثنائية للذكرى .

نومة واحدة تكفي
محروساً بذكرى عميقة تلتهم الصدع اللانهائي لنومي أرنو الى التباطؤات المبهرة لأشواك الكلمة . قناديل وجهي التي انغرست في تقاطعات شوارع الشجرة
الذابلة لرغباتي. تنشر صمتها فوق صيف السنبلة المخلوعة للنهار .
لا أود التحديق الآن في أرض رأسي المتشنجة ولا أود الكلام عن عين الصقر في انصاتها للطريدة . نومة واحدة تكفي لمجيء النمل حيث العفونات تستقر فوق سواد الميت .
كل ما يبنيه الانسان وما يحافظ عليه ويصونه يجعله مفتاح الزمن هزأة ويفترسه بقوة عناكبه التي لا تتنفس .
رمال الزمن

يسابقُ الانسان في فتوته وهرمه الظلال العالية والسريعة للزمن ، من أجل الوصول الى النبيذ الأحمر للهاوية لكن نغمة الزمن المتقرحة التي تتآكلنا في كل آنٍ باقية على حالها منذ الأزل . نحفر دائماً قبورنا وسط هذه الرتابة المتكررة لطبعات الحياة ونأملُ في صرخة جديدة تنبثقُ من شجرة ما أو أعطية رحيمة من الآلهة نرفعُ لها صلواتنا المريضة
وننادي : { تتبدلُ أطوار حيواتنا مليارات المرات ولم تتبدل النغمة العتيقة للزمن في رمال الخليقة } . التنهدات الخفيضة للانسان بحاجة الى حنوّك أيها الموت الجميل .

طاعة الخطر


تؤلمني أيام حياتي في كل حين ، ولا قدرة لي على طاعة الأشياء الخطرة . الحل الأمثل لمصائبي هو أن ألقي بنفسي في الهاوية وأعود الى البيت محملاً بطرائدي التي اصطدتها في الظلمة . لا توجد طريقة فضلى تزيل شعوري بعدم الثقة في النفس . أفضل من تعرية عقلي أمام الحشود الغبية العمياء في الميادين العامة .

التقليد . الذوق العام


الحمقى هم من يرشدنا الى طرق النعيم الوردية ، ويعلموننا ازدراء الكذب والنفاق ونسيان الشغف في العادات التافهة . كل بحث عن النبيل والجليل لا جدوى منه اذا غاب عنه الدليل الأحمق . الخيلاء تجعل السماء محفرّة ومدلهمة . عبقرية . عبقرية استثنائية واحدة ، نحتاجها دائماً للخلاص من هذه الأغلال التي تكبلنا منذ قرون . التجديف بصراخ عال ضد كل تقليد وضد كل ماهو مقدس ويحترمه المجتمع .


ضرورة التخلي عن الصداقات القديمة


تلزمنا الحاجة الدائمة والملّحة في الانعتاق من الضجر والسأم . أن نتخلى عن الصداقات القديمة البغيضة . كل صداقة تنزع عن أنهارها صفة الجريان . تخون اللحظات الذهبية للديمومة . ما يدهشنا في تطوافنا الحرّ عبر الأيام والليالي من أجل الامساك بقنديل المحبة والاحترام المتبادل للصديق ، هي هذه التخرصات الكاذبة عند البعض ، حول عدم القدرة على التواصل مع الماضي . كل هروب من الواجب ، ينبغي الاشادة به .


حتمية السجن


يتيح السجن للانسان تأمل معنى حريته الخاصة . حياة من دون سجن . حياة سلحفاة . الحدود التي نحاول عبورها في انطلاقاتنا المتحررة من الخوف والوقوع في شراك العبودية . يجب أن لا تنسينا حقيقة شكوكنا في جدوى حريتنا التي يسيّجها أحياناً الايمان الحقير بفكرة ما ، والموانع والتقاليد والعادات المترسخة . صياناتنا الدائمة لفكرة الفخ تحتم علينا أن لا ننسى اللحظة الصعبة لموتنا تحت الظلال الباردة لحتمية السجن .

السوريالية وتفاعلاتها النجفية 1
مدير الشرطة يرعى الملتقى الشعري
{ بحضور الوكيل الاقدم لوزارة الثقافة العراقية السيد جابر الجابري وبرعاية مدير عام شرطة النجف السيد عبد الكريم العامري أقامت المديرية العامة لشرطة النجف الملتقى الشعري الاول بالتنسيق مع بيت الشعر في النجف الاشرف واتحاد الادباء مساء الاربعاء الماضي على حدائقها . اشترك في القاء القصائد الشعراء جابر الجابري وحمودي السلامي ومحمد سعد ووهاب شريف وضرغام البرقعاوي ووسام الياسري وشاكر القزويني وحسين ناصر وسعد صاحب وباسم الماضي وفاهم العيساوي وبهاء العابدي وكاظم العبادي وآخرون . قائد شرطة النجف والوكيل الاقدم لوزارة الثقافة قاما بتكريم الشعراء المشاركين في ختام المهرجان الذي صادف ليلة شهادة الزهراء ع مما جعل أكثر الشعراء يلقون قصائدهم في رثائها ورثاء أبيها وبعلها وبنيها } .
رسالة النجف الثقافية . موقع مركز النور بتاريخ 6 / 6 / 2009

السوريالية وتفاعلاتها النجفية 2
تأسيس منتدى الأدب النسوي

{ وكان اتحاد الادباء في النجف قد بادر قبل عام الى تأسيس منتدى الادب النسوي في محاولة لكسر ذلك العائق. وتقول الاديبة رنا عبد الحليم ، لاذاعة العراق الحر، ان المنتدى فتح المجال أمامها وغيرها من الشابات الاديبات لا رتياده ، عوضا عن المنتديات التي يرتادها الشباب والتي يرفض العرف الاجتماعي النجفي ظهور المرأة فيها . ولم يكن عدد الحاضرات في الامسية الشعرية التي أقامها المنتدى في مقر الاتحاد ، يتجاوز العشر نساء بين شاعرة وقاصة. وتعزو القاصة ايمان السلطاني سبب ذلك الى التخوف الذي يمتلك الكثير من الاديبات، ارتياد مثل امسيات كهذه التي تمنعها نظرة الرجل المحافظ ، لكنها تؤكد انها { استطاعت التغلب على ذلك الخوف والتعبير عن ذاتها } . وسرعان ما تحولت الامسية الى التعبير عن الهموم والمشاكل ، لذا دعت الروائية نادية الحيدري الرجال تحسين نظرتهم عن المراة ، بوصفها نصف المجتمع ، ورغم ذلك فهي ترى ان تأسيس المنتدى يعد انجازاً للمرأة النجفية . }

من مقال نشر بموقع { صوت العراق } تحت العنوان اعلاه بتاريخ 8 / 6 / 2009

المرهم الشافي


المرهم الشافي لابعاد خطر الموت عن الجنس البشري ، هو الموت نفسه .


الشمعة العميقة للوجود

لا شعلة ايمان عندي ولا يقين
والصلاة الى فكرة مجهولة ، تزيدني يأساً واحتراقا
أود أن أبكي الآن تحت هذه السماء المحترقة والمتصدعة
والخالية من الآلهة والملائكة وقطرة المطر
لكنني أعجز عن البكاء .
احساساتي جافة ومتبلدة
ونار نفسي مطفأة
وحدها الأشجار وطيور البطريق من يواسيني ويمنحني الاحسان الجليل
والوثائق التي لا تدل الموت على طرقي .
أنا الآن حرّ
لكن حريتي ناقصة بسبب تفكيري في الثمار الناضجة في الفردوس .
أحيا في معتقل تسيجه حماقات ضعفي الانساني
وتسقط من بين يدي الثمرة .
يحتاج ضميري المضبّب بالرماد الى نار أنفاس جديدة
حتى لا تتجمد أيام حياتي في قبضة العقائد الفاسدة .
هل بوسعي الآن أن أصلح ما افسدته في حياتي الماضية
وأن أرفع جثتي عن التابوت ؟
ألسنة لهب كثيرة في أعماقي ، يمكنها أن تقشر روحي وجلدي
وتنوّر الممشى الضيّق لحياتي .
سأسلّم مصيري للهب الشمعة العميقة للوجود
ولا أدع الملائكة تؤرجح صيف حياتي في الظلام .


الكرامة الانسانية


انشغالاتنا في المسائل الدينية ومحاولاتنا للتقرب من الله . تنزع عنّا كرامتنا الانسانية .


تمايزات شخصية


ثمة كائن يبحث عن المطلق وينسى نفسه دائماً . السير مابين التضادات يعمق الشعور الغريزي للايمان باللاشيء . هل يتوجب علينا من أجل هذه التمايزات الشخصية المحبطة للّحظات القليلة للغبطة . أن نستمر في البحث عن ما لايعنينا وما لا جدوى منه ؟


سند شرعي


التاريخ والطبيعة هما السند الشرعي الوحيد لمجمل آمال البشرية .


الموت من الحياة


لا توجد صياغات نهائية لموت الانسان وحيداً في غربته الدائمة . كل ميتة تبدأ وترسخ ماهيتها قبل ولادة الانسان الذي سوف يموت من الحياة آلاف المرات .


بحر الذهب


ثمار فراديس صدركِ والبطن والتماعة الشفتين . أنهارعقيق تسيل بشفافية مطلقة وتصب في بحر الذهب .


معدلات كبيرة في الولادات


المجاعات . الأوبئة الفتّاكة . الحروب النووية ، هي ما نحتاجها في لحظتنا الراهنة من أجل الحفاظ على الجوهر الحقيقي للطبيعة . ينبغي التخلص الآن وبسرعة من تلك الأجناس التي تلوث الهواء والأنهار والأشجار . الأساليب التكنولوجية التي تستخدم من دون ضوابط في هذا البلد أو ذاك . تظهر معدلات كبيرة في الولادات .


وعود


السلالات الشقراء لطيور الغاق التي عبرت مضائق وعودكِ باتجاه القارة الجديدة . نسيت أن تستنبط نتييجة حزني حين مرّت بيّ . مامِن وقت جميل يساعدني على اراحة ضميري الآن . كل الأشياء التي أحببتها في الماضي ، وكل الوعود التي تلقيتها . تهاوت وخيّم عليها الصمت والنسيان .


تدمير الألوية


كانت خطط القيادات العسكرية في الفيلق الخامس التي يشرف عليها الفريق الركن طالع الدوري . ترفع مباشرة الى القيادة العامة للقوات المسلحة ببغداد للموافقة عليها ، وكانت الأوامر العسكرية الصارمة التي تأتي الى هذه القيادات من قبل صدام حسين . تلح في كل مرة على أن يوضع لواء مشاة أو أكثر وأفواج من الجيش الشعبي وسرايا مرتبة فوق كل جبل بقاطعي { حاج عمران وسيدكان } حتى لو لم يكن هناك أي هجوم ، لكي لا تتمكن القوات الايرانية من احتلال أي جبل مرة أخرى . وهنا كانت أغلب ألوية المشاة العراقية في هذين القاطعين تتكبد الخسائر اليومية الجسيمة فوق الجبال بفعل القصف المدفعي الذي لا ينقطع . ومن المعلوم أن السياقات والنظريات العسكرية التي كان قائد القوات المسلحة العراقية المهيب الركن صدام حسين لا يفهمها أبداً - على الرغم من الدجل والتطبيل الذي لا ينقطع عن عبقريته العسكرية الستراتيجية وحنكته المزعومة - تؤكد دائما على أنه عند حصول معارك جبلية كهذه واحتلال الأهداف . يجب أن توضع مدافع عيار 106 ملم بعجلاتها المتحركة فوق الجبال وتباشر قصفها ضد القوات الايرانية . بالإضافة الى الأسلحة الأخرى التي تباشر الرمي والقصف من المواقع الخلفية والمتقدمة . دبابات . رباعيات. مدفعية 120 ملم . مدفعية 82 ملم . مدافع ثقيلة عيار150 ملم . لكن بدلاً من تطبيق النظريات والعلوم العسكرية التي كانت تدرس في { جامعة البكر العسكرية} و{ الكلية العسكرية العراقية } فقد كانت أوامر وبرقيات صدام حسين الفورية تؤدي الى أن نكون نحن الجنود طعماً سائغاً لقذائف وصواريخ مدافع ودبابات وطائرات القوات الايرانية التي كانت تحصدنا ليلاً ونهاراً من دون هوادة فوق كل جبال قاطعي حاج عمران وسيدكان . وكان المشهد المؤلم في كل مرة . يتم على هذا النحو . يتم تكليف لواء المشاة 604 بالصعود الى جبل كرده مند ومسك المواضع الدفاعية. وحين تقوم المدفعية الايرانية بعمليات { التربيع } ضد مواضع هذا اللواء وتباشر بقصف كل متر من الأرض ب4 قذائف ثقيلة . تتشظى كل قذيفة لمسافة 500 متر. تكون النتيجة بعد اسبوع على أقل تقدير. هي تدمير اللواء 604 بالكامل والحاق الخسائر الكبيرة في الأرواح والمعدات. لتأتي أوامرصدام حسين مرة أخرى بتبديل اللواء المدمر وتكليف لواء المشاة 97 بالصعود الى الجبل بديلا عنه . وهذا اللواء يتم تدميره أيضا بنفس الطريقة السابقة التي دمر فيها اللواء 604 . ومرة ثالثة يكلف لواء المشاة 98 بالصعود ومسك المواضع الدفاعية المهدمة بديلاً عن اللواء 97 ، ليتم بعد ذلك تدميره وقتل مراتبه وضباطه وهلم جرا . ولك أن تقيس على هذه الشاكلة . كم لواء تم تدميره في قاطع حاج عمران وقاطع سيدكان بسبب هذه الأوامر القاصرة والبعيدة عن العلم العسكري وتطبيقاته الأخرى التي كان صدام يلزم فيها جنرالاته المستعدين دائما لتنفيذ أوامره ؟.


علامة تذكار


اضطجعتُ على فراشي وفكرت في هذه المروحة التي تحرك الهواء في الغرفة . من أين جاءت ؟ من الذي وضعها هنا ؟ وفجأت تذكرت انها رأس لص داهمته ليلة البارحة وهو يهم بسرقة نقودي . فرّ هارباً وترك لي رأسه علامة تذكار .


انذارات ودببة

كانت سياقات التدريب العنيفة في فوجنا. تمنح الجنود شعوراً بانهم مثل الخراف التي يراد تسمينها من أجل الذبح . فالجندي هنا يجب أن يكون مدرباً تدريباً عالياً ويتمتع بلياقة بدنية وقتالية كبيرة . حتى يكون قادراً على خوض المعارك الجبلية الصعبة وبقية الواجبات الأخرى. وبما أن الكثير من الجنود الذين تم تنسيبهم الى وحدتي الآن من المواليد التي التحقت بالخدمة العسكرية حديثاً وبحاجة الى تدريبات ومهمات عنيفة . فقد كانت أيامنا شاقة حد اللعنة . وكانت برقيات استخبارات الفيلق المنشغلة بالاستعدادات الضخمة لصد ودحر الهجوم الايراني الوشيك على مواضع وحداتنا والتي كانت ترسل الى الفرق والألوية والأفواج . تبدل أوامرها باستمرار حسب السياقات التدريبية والأمنية المعهودة عندها . وهذه السياقات التي كنا نعرفها نحن الجنود القدماء . بدت غريبة على هؤلاء الذين باشروا الخدمة حديثاً . ومن ضمن هذه السياقات الداخلة في الانذار { ج } . هو سياق { اليقظة والحذر الشديد } ويقضي بأن يكون الجندي على أهبة الاستعداد دائما لأي هجوم أو تعرض تقوم به الوحدات الايرانية على مواضع قواتنا فوق الجبال . ولكي تترسخ مضامين وأوامر برقيات الاستخبارات في أذهان هؤلاء الجنود الجدد ، فان الاستخبارات كانت تلجأ وضمن عملياتها النفسية الى أنواع من الحيل التعبوية والتدريبية و التي سرعان ما تنكشف لهؤلاء فيما بعد . ومن ضمن هذه البرقيات ، هي البرقية التي ترسل بين آونة واخرى وتشدد على أن { البيشمركة } أو { الأنصار } سيقومون بهجوم على الربيئة الفلانية أو على الموضع الفلاني . وبالتالي فيجب أخذ الحيطة والحذر في التصدي لهجومهم . وكنا نحن الجنود القدامى نعرف أن البيشمركة أو الأنصار اذا أرادوا الهجوم على موضع ما فانهم لا يسمحون للاستخبارات بأن تعلم خططهم وتوقيت هجومهم . والسياق النفسي الثاني الذي يجب أن يترسخ في ذهن الجندي الجديد في الأسابيع الأولى من خدمته في القواطع الجبلية ، لكي يبقى متيقظاً باستمرار لكل نأمة . هو أخذ الحيطة والحذر من حيوان الدب . مع أنني لم أشاهد في يوم ما بجبال العراق دباً واحداً . والمسألة تكون على النحو التالي . عند الانتقال الى مقر جديد أو في الليالي المظلمة تماما . يبلغ الجنود أن الدببة ستظهر بعد الساعة الواحدة ليلاً وتقوم بمهاجمة الجنود الذين يهملون واجبات الحراسة والرصد . وتطلب منهم برقية الاستخبارات أن لا يستسلموا للنوم أو التراخي أو الجلوس في نقاط الحراسة . لأن ذلك من الممكن أن يجعلهم يتعرضون للقتل من قبل هذه الحيوانات الشرسة . وكانت اللعبة كثيراً ما تنطلي على بعض الجنود الذين يشعرون بالخوف الشديد . فيبقون في نقاط الحراسة على أتم الاستعداد لكل طارىء . ومرة في سياق تدريبي طلب آمر فوجنا الجديد الرائد علي حسين . من رأس عرفاء الوحدة نائب الضابط زينل بعد الساعة الواحدة والنصف ليلاً . أن يقوم هو وآمر دورية الحراسة بجولة حول المقر للتأكد من جدية الحراسات في الوحدة . وطلب منهما أن لا يوقظا أي جندي اذا وجداه نائما . وعادة ما كانت الدورية تأتي بصورة غير مكشوفة الى النقطة المراد تفتيشها للتعرف على مدى يقظة الحارس . عاد زينل وآمر الدورية من جولتهما وأخبرا آمر الفوج بأن الجندي الجديد { منشد } كان نائماً في نقطة الحراسة فتركاه و لم يوقظاه . اقترح آمر الفوج أن يرتدي جندي الانضباط الخفرغازي { فروتين من فراء القماصل العسكرية } ويجعل من نفسه دباً ويذهب الى نقطة الحراسة التي يتواجد فيها منشد ، ويرمي عليه من أجل ايقاظه واخافته عدة أحجار مع اطلاق أصوات حيوانية ثم يهرب . ما أن تم اطلاق أول دفعة من الأحجار على منشد الذي استيقظ وسمع صوت الدب الذي بدأ يقترب منه . حتى ارتعدت فرائصه و بادر باطلاق صلية من رصاص بندقيته وأردى الدب قتيلاً . أودعوا المسكين السجن وتمت كتابة محضر تحقيق في الحادثة . تولى مكتب استخبارات فوجنا ارساله الى مكتب استخبارات اللواء وقام اللواء بارساله الى استخبارات الفرقة التي أرسلته الى استخبارات الفيلق . بعد أيام وأثناء هجوم القوات الايرانية على قاطع حاج عمران . سقطت قذيفة معادية على بناية سجن الفوج الواقعة بمنطقة { قصري } وقتلت منشد السجين هناك ، وبعد شهر من مقتله أرسلت استخبارات الفيلق برقية فورية تؤكد على اطلاق سراح الجندي السجين منشد فوراً بأمر من قائد الفيلق الفريق ضياء الدين ومنحه 10 أيام اجازة ومبلغ 50 دينارا تصرف من نثرية مكتب التوجيه السياسي في فوجنا وذلك ليقظته وشجاعته العالية . كما اعتبرت الجندي غازي الذي قتله منشد خطأ شهيداً تصرف له كافة الحقوق التي نص عليها القانون.
جواسيس تجمع عدي الثقافي 1
تلقت { بابل } رسالة بعث بها نخبة من المثقفين العراقيين تتحدث عن شجون الأوساط الثقافية ورحيل طوابير من كتّاب وصحفيي وفناني العراق الى خارج الوطن بعد أن أنهى التجمع الثقافي أعماله وتولى وزير الثقافة والاعلام السابق السيد عبد الغني عبد الغفور الاشراف على النقابات والمنظمات التي كانت منضوية تحت لواء التجمع . وتقول الرسالة { لقد كان التجمع خيمة تؤوي كل المثقفين الذين جادوا بكل المواهب والقدرات من أجل الوطن والقائد والمسيرة الظافرة ، وقد توفرت لهم حينها كل أسباب العيش الكريم والرعاية ، ولكن المؤسف والمحزن أن نرى العشرات اذا لم نقل المئات منهم وقد هاجرت الى خارج حدود العراق الحبيب بحثاً عن لقمة عيش مغمسة بكل الوان المذلة وآلام الغربة . كفاءات بناها ورعاها الوطن وصار جهدها في خدمة الآخرين ، واعداد أخرى انحرفت عن خط العراق وارتمت في احضان أعدائه } ويتساءلون : لمصلحة مَن حدث كل ذلك ؟ وقد أرفق مرسلو تلك الرسالة قائمة بأسماء بعض المثقفين ممن هاجروا من البلد بعد تاريخ 15 / 5 / 1995 وفي ما يلي نصها :
الاسم الدولة الغرض
نازك الملائكة مصر العلاج بسبب العوز
معاذ عبد الرحيم الأردن مرتد
فاضل ثامر تونس طلب رزق
حاتم الصكر الأردن طلب رزق
د عبد الله ابراهيم الأردن طلب رزق
نصيف الناصري الأردن مرتد
خليل شوقي الأردن طلب رزق
كريم العراقي الأردن طلب رزق
د حسن الجنابي الأردن طلب رزق
معد فياض الأردن مرتد
عامر فتوحي الأردن مرتد الخ .
جريدة بابل التي كان يصدرها عدي صدام حسين . العدد 1634 . 13 تشرين الأول 1996
جواسيس تجمع عدي الثقافي 2
تنشر { الزوراء } أسماء عدد من الأدباء الذين خرجوا بعد التسعينيات من الوطن ، والذين يكتبون الآن في الجرائد والمجلات المعادية .
عدنان الصائغ 1992 السويد / مالمو شاعر
علي الشلاه 1991 سويسرا شاعر
علي عبد الأمير 1994 الأردن / عمان شاعر
معد فياض 1993 الأردن / عمان قاص
زاهر الجيزاني 1992 سوريا شاعر
محمد مظلوم 1991 سوريا شاعر
سلام كاظم 1996 الدنمارك شاعر
عدنان حسين 1994 الأردن / عمان قاص
هادي ياسين علي 1996 الأردن / عمان شاعر
نصيف الناصري 1995 السويد / مالمو شاعر
جان دمو 1995 الأردن / عمان شاعر / مترجم
وسام هاشم 1995 الدنمارك شاعر
زعيم الطائي 1997 أمريكا قاص
ياسين النصير 1993 هولندا / امستردام ناقد
أحمد المشتت 1994 لندن شاعر
علي السوداني 1994 الأردن / عمان قاص الخ .
جريدة { الزوراء } العراقية الصادرة عن نقابة الصحفيين التي كان يرأسها عدي صدام . العدد 143 بتاريخ 2 / 3 / 2000
الأضرحة
لا واهب إلاّ الضريح
لهب
وما أكثر سطوع النيران على البيوت المهدمة في أقاليمنا . نناديك أيها اللهب . يا لهب الأسلحة نناديك . فضاءاتك فضة أضرحتنا . هنا الموت العطري الأكثر حرارة من الرمل العاري . الذي له سفوح شبيهة بجهشاتنا ، والذي يدركنا في الظلام . نناديك يا لهب الأمجاد العالية علوّ آلامنا . يا لأضرحتنا غير المفطومة . يا لموتنا الذي يثمر في كل حين . الموت ولياليه المعطرة بشمس العراق . أين نهرب من موتنا العطري ؟ هل نتوسد هذه الأسلحة الشيطانية نعمتنا ؟ الأضرحة سديم حيّ وفضاءات سديم . فوق جبالنا المقصوفة يلمع القمر كما المرايا المتشظية . أتحدث اليكِ أيتها الفرائس المعلقة فوق رماد أهدابنا . الذهب في النعوش ، والموت نفّاش في الأقاليم ، والدم فوق السفوح ينشر التماعاته المنعشة وسط السديم . هنا بصاق الملك المسلول في شفتيّ الوردة . هنا أيام مسننة . أيام سهادات كما صيف بلا قناديل . من موت الى موت من أجل الموت . اتسعي يا أضرحتنا وليكن سديمك ناموسية تغطي انشاداتنا الشجية . اتسعي يا أضرحة اتسعي . بلاطاتك نهاية أحلامنا الذهبية . رأسي يشتعل وفي القلب الأسود تنصهر الأحقاد . تمهل ، تمهل يا وقت القشعريرات . يا مناخ النداوة الهائم . ستعود الأيام القديمة ويرفع ذهبها الصليل . هل للموتى تاريخ مغلق تحرسه الكتابة ؟ الظلمة ، الظلمة التي تواري النهار . من يفتح باب الظلمة ؟ مبنية بلحم وحطامات أسلحة متلألئة في هبوبها المساءات ، والشوارع مرمدة وذهب السياجات تحرسه المروج ، ومطر الرماد المقذوف بشراهة يبلل الأضرحة ، ويبلل المشاعل والعيون ، وتهبط فضة الضباب تهبط . من هديل الأضرحة وعظامها المبعثرة في الرمال . رابطاً بالأصفاد رقاب البغال والبهائم الفضائية أعود . أهتف في أقاليم الفجيعة . أنا القائم في الترائك ، أطبقت عليّ الأنوال والقوائم ، وانشدت عليّ أصابع الياقوت ومحاريث الكوكب العائم . هذا ياقوت الدم يزيح الأعمدة والمقابض . سهادات . الآمال مطمورة تحت تراب البرد والقشعريرة . الأضرحة سديم حيّ وفضاءات سديم . اذعني لمغلوبكِ يا أسلحة . الأضرحة اذعنت لانهطال السديم ، وها الأرض حشّدت غبارها واستجمعت نفسها السماء كوكبا كوكبا . من الآتي في أسمال أحرقتها القذيفة ؟
عيون / أقواس نار
نباح / ليل عاصف وأرتال من القتل والاستلابات
ثغاء ، سهرات في أقاليم الورد
عواء / كنوز حرائق وهجاء شعوب ذليلة
غناء / عروش . شعوب منقرضة تصعد الى الهاوية
نعيق / ودائع ملوك في رياضيات أمينة
جعير / أقطان تحلج في مدائن مقدسة
فحيح / مشانق . نهارات شتائية كوشايات الأمراء
زئير / مواكب بمشاعل ودروع تبغية
هل انتهت الحشرجات بين البلاط والبلاط ؟ هنا الظلمة آختها السلاسل هنا في الرماد الحيّ والظلمة الارجوانية تطقطق العظام . هنا كلمات الحكماء يمحوها حجر البازلت . انقتلي انقتلي يا شرارات الموت أيتها النايات المكممة شقيقة السخام ها انني أرفع صوتي في الغروب وأرى الشمس في أقاليمنا الأسيرة . في اقاليمنا الأسيرة في الأوهام . تنهض الانتقامات وتصعد تصعد الشمس من رطانات الظلام ، ماحية عن جسد البلاد كل ندبة من الظلمة الوثيرة . الصفصاف في باحات الأضرحة ميسم احتضار واستلابات تحرق رمل التاريخ والأوهام .
العيش تحت النسيم الخانق للموت
وهكذا فشلنا في الصولة الأولى وتراجعنا الى الخلف تحت قصف مدفعي كثيف وصليات حامية لا تنقطع من مختلف الأسلحة الرشاشة ، وما بين حصارنا ومخاوفنا الكبيرة خشية القتل الأكيد . كانت صيحات الضباط المذعورة بضرورة التقدم الى الأمام واستعادة المواضع المحتلة تضيف الى معاناتنا من القصف والرمي المعادي معاناة لا توصف . كنتُ مثل باقي الجنود الآخرين أحاول أثناء التقدم أن أستتر خلف صخرة ، وكنا نكتشف أن كل صخرة نذهب اليها هي كومة عشب يابس يغطيها الثلج ، وما أن ترصدنا القوات المعادية ونحن نزحف على البطون تحت الثلج في الظلام ، حتى تبدأ بحصدنا بمختلف الأسلحة ولقد قتل الكثير منا جراء الاستتار خلف هذه الأكوام التي ظنناها صخوراً . ومن شدة رعبي وتعبي وأنا أتعثر في الثلج تراجعت ومجموعة من الجنود الى الخلف وكان الانفلاق الجوي لقذائف المدفعية الثقيلة ينزل على الأرض كالمطر. وجدت موضع رشاشة BKC مهدماً وبجانبه جثة جندي قتيل فألقيت نفسي على الأرض لأريح فرائصي التي ترتعد لكنني ما أن تمددتُ حتى عبرت من فوق رأسي 3 اطلاقات معادية وشعرت انها كادت أن تلامس خوذتي ولكي أستتر { هذه الحادثة التي أرويها يعرفها الكثير من أصدقائي منذ عام 1988 } أكثر قمتُ بوضع كيس رملي فوق جثة الجندي القتيل ليقيني الرصاص الذي ينطلق نحوي من جهات لا أعلمها . بعد فترة استثمرت القوات الايرانية الوقت وشنت علينا هجوماً بدا أشبه بالقيامة من خلال القصف والرمي الشديد والصيحات المرعبة للمهاجمين التي ترافق الصولة ، سمع الجنود صرخة { إجونا . إجونا . إجونا } فهربوا ، وهرب أيضاً بسبب كلمة { إجونا } . الجندي القتيل الذي وضعتُ فوق جثته كيس الرمل . هربت مع الكثير من الجنود باتجاه السفوح الغربية للجبل في محاولة للوصول الى الموقع المتقدم وترك ساحة المعركة فصدتنا قوات ايرانية تسللت هناك وقتلت وأسرت العديد منا .عدنا أدراجنا وسلكنا الطرق النيسمية المغمورة بالثلج التي توصل الى المقرات المتقدمة ، لكن هطول الثلج والانفلاق الجوي المستمر جعل مهمتنا عسيرة جداً . أثناء التعثر والتعكز على بندقيتي أضعتُ سدادتها ورحتُ أفكر وأنا وسط الجحيم بأن آمر سريتي سيشكل فيما بعد محضر تحقيق حول كيفية ضياع السدادة وربما سوف أسجن ، ناسياً أنَّ علي أن أفكر في امكانية موتي الآن جراء اطلاقة قناص في الرأس أو شظية قذيفة حادة وحارة كالموس . أخيراً وجدنا طريقاً قادنا الى الخلف و قد أصبتُ أثناء الركض والتعثر بشظية صاروخ RBG7مضاداً للأشخاص صغيرة في حاجبي الأيمن فحمدتُ الآلهة على أنني سأذهب الى طبابة الميدان وأتخلص من جحيم المعركة . عندما صعدتُ عجلة الاسعاف وأنا أنزف دمي الذي لم يستطع ايقافه ضماد الميدان وجدتُ الكثير من الجنود والضباط وضباط الصف المصابين فاقدي الوعي ويئنون بشدة والبعض الآخر منهم كان ممزق الأمعاء . في مستشفى الميدان العسكري بالسليمانية أخرجوا الشظية وتم تضميد الجرح وكدتُ آمل أن يمنحوني اجازة طويلة ، لكنهم منحوني 3 أيام استراحة أقضيها في وحدتي مثلما منحوني من قبل استراحة مشابهة عندما كسرت ساقي اليمنى في هجوم سابق . ماذا أفعل ؟ وأين أجد وحدتي التي تمزقت شذرَ مذر ؟ ذهبتُ الى بغداد من دون نموذج اجازة وكنت كلما توقفنا سيطرة استخبارات أو انضباط عسكري أموتُ من الرعب ، ذلك انني سأعتبر في حال القاء القبض علي من دون نموذج اجازة متسرباً من المعركة على الرغم من اصابتي الواضحة . في سيطرة { جمجمال } لم يطلب مني رجال الاستخبارات نموذج اجازة عندما رأوا حاجبي مضمداً وكانت أخبار المعركة قد وصلت اليهم وتكرر هذا الشيء في سيطرة { كركوك } وسيطرة { بغداد } . هل كنتُ متأكداً من أنَّ لا أحد سيوقفني من هؤلاء الأوباش ؟ لستُ أدري . بعد أن أمضيتُ في بغداد ثلاثة أيام عدتُ الى وحدتي التي بالكاد عثرتُ على مقرها وسط عشرات الوحدات التي جيء بها من قواطع كثيرة مختلفة . لم يعلم أحد أنني قد منحتُ ثلاثة أيام استراحة أقضيها في وحدتي وليس اجازة طبية ، لكن عندما سألني رأس عرفاء سريتي زين العابدين أخبرته حقيقة الأمر فامتعض وبدا غاضباً وهو يخبرني بأن آمر لوائنا العقيد علي عبد محمد الحمادي قد تم سوقه مخفوراً الى دائرة الاستخبارات العسكرية ببغداد للتحقيق معه بتهمة التخاذل وعدم الكفاءة بسبب عدم استعادة لوائنا الهدف الذي احتلته القوات الايرانية من جهة ، وهروب اللواء كله من ساحة المعركة أثناء صولة القوات الايرانية من جهة ثانية . في اليوم التالي تمت تسوية المشكلة مع آمر الفصيل عباس الذي اعتبر غيابي عن الوحدة اجازة طبية بسبب الاصابة مع كتمان الأمر عن آمر السرية الجديد الملازم أول عبد الزهرة الذي تم تنسيبه بعد مقتل آمر السرية السابق في معركة جبل { كرده كو } الملازم أول محمود وبقية مراتب السرية حتى لا يعتبر غيابي تسرباً من المعركة . بعد انسحاب لوائنا من المواقع المتقدمة لغرض اعادة التنظيم وبعد الافراج عن آمر اللواء من دائرة الاستخبارات العسكرية عندما اكتشفوا أنه لم يكن متخاذلاً أو غير كفوء ، وأن السبب في هزيمة اللواء وتدميره والحاق الخسائر الفادحة به هو أن القوات المعادية التي قامت بالهجوم كانت تتكون من فرقة مشاة كاملة زائداً لواء مغاوير وهذا يعني في السياقات العسكرية أن القوة المعادية كانت تتفوق على لوائنا بالعدد والأسلحة كثيراً.
أثناء استراحة بعد تدريب يوم شاق وكنا نجلس أمام تلفزيون حانوت الفوج ونتحدث عن المعركة التي هزمنا فيها . قال الجندي كريم شيال المنسوب الى السرية الأولى :- { بعد أن اشتد القصف والقنص بالصولة والضباط يصرخون تقدم . تقدم . تقدمتُ وكنتُ ميتاً من الخوف . وكان الجندي العدد الذي يتبعني قد هرب بعتادي الاحتياط . وجدتُ موضعاً مهدماً فنمتُ فيه وسويت نفسي ميتاً ورميت رشاشتي الى جانبي حتى لا أتقدم . جاء واحد مطي ميت من الخوف مثلي . انبطح الى جانبي وكان يظنني ميتاً . بس هذا خطية الأثول . أول ما انبطح . شافوه الايرانيين فضربوه بـ 3 طلقات فوك راسه . زرب على روحه وبعدين جاب كونية رمل خلاها فوقي . آني من الخوف ما أقدر أقوم وكنت أخاف الايرانيين يضربونني . بقيت نايم . بعدين من سمعت هذوله يقولون إجونا . إجونا . قمت شردت وخليت ذاك المطي الأثول ميت من الخوف . بس أخ القحبة هذا يمكن شرد بعدين } . طبعاً لم استطع أن أخبر كريم أو الجنود الآخرين بأنني كنتُ نفسي ذلك { المطي الأثول } . وهذه أول معركة أطلق فيها من بندقيتي أربع اطلاقات باتجاه القوات الايرانية بسبب الاشتباك القريب .
الحفاظ على الكرامة
ليس باستطاعتي حمل الأشياء الخفيفة وأنا أتقدم صوب إلهي مع أول حجارة تنتصب في نوره . ينبغي أن أحافظ على صيانة كرامتي كندٍ قوي وأصيل .
معاقبة التقليد
لا يمكنني تصديق من يقول : { الشمس تدفئ الأرض ، وتعين النباتات والأشجار على نموها } . ينبغي أن أعاقب كل شخص يتبجح أمامي ، وأول شيء تجب معاقبته الآن هو التقليد .
اطمئنان
من الأشياء المهمة والمطلوبة في الزمن ، هو اطمئناني الى انني سيتم في النهاية سلبي كل شيء ، وتتم التضحية بي من قبل حارس البوابة الكبيرة للأرض والسماء من دون شفقة .
نجدة
لا أحد يريد التصديق أن النجدة التي أطلبها ، تأتي من أعدائي فقط .
نحول الشجرة
لحفظ ما لا يعوض . يلزمني الكثير من نحول الشجرة .
حمامة الأمل

هل لصدى صوتي في الأشجار الذهبية لشواطىء غيابكِ العنيف
عمر مثل عمر الوردة ؟
شعاع شمس سنواتنا التي عشناها معاً
لا يحرك الآن ندى الذكرى
ولا يدفىء الدموع النحيلة لنحلة الحب .
لماذا يركن الشوق اليكِ الظلمة على باب قبري ؟
تسيل موسيقى ملح شفاعتكِ دائماً في جروح حياتي المتعرية للريح
وحمامة الأمل العليلة تدحرج صخرتها في الظلام
وتختفي الرغبة الأخيرة في الفجر
تحت رمل النسيان
وفي ما وراء الأفق .



ظل للثمرة المتعفنة

كم يلزمني من الوقت للتخلص من الأشياء التي تهدد حياتي ؟
لا يقين عندي ولا أحلام ، ولا آمل في أيام جديدة أكثر لطفاً
من حاضري الذي يسيجه الشظف والمعصية واللعنات .
عبرتُ في شبابي حقول ألغام كثيرة ، وعشتُ حياتي كلها في قلب الفوضى
وامتدت يدي الى ثمار أشجار غاطسة في الأعماق الخطرة لنهر المسيسيبي .
أريدُ الآن أن أزيل عن عينيّ هذه العلامات الأكثر حموضة من عطر الصلاة .
وعلى الرغم من انني الآن أعيش حياتي بصلابة المحارب
لكنني أشعر أن آلاف الصخور قد سقطت فوق رأسي
وتصدعت طرقي ، وحجارة ماضيّ المنتصبة تحت الشموس المتماثلة .
هل لي أن أنجو بكينونتي من هذا اللاأمان المخزي والخدّاع المعلق في
أغصان نومي الضئيل ؟
أود الآن أن أخرج من هذا الكوكب الشائخ وأقذف نفسي في اللاشيء
وأصل الى الأعماق المتغطرسة لظلال اللاوجود .
هل أنا ظل للثمرة المتعفنة لحركة التاريخ ؟

صاعقة . صاعقة أكثر رحمة من الشمس العليلة لحياتي المؤرقة .




















https://www.ahewar.org/ - الحوار المتمدن

للاطلاع على الموضوع :

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?t=0&aid=184335