مداخلة حول كتاب - رأس المال لماركس (5-5)

خليل اندراوس
aljabha.org@gmail.com

2019 / 8 / 3


وبعد ذلك يتطرق ماركس الى موضوع تأثير الصناعة الكبيرة على الزراعة ويقول: "وفي ميدان الزراعة تفعل الصناعة الكبيرة بثورية كبيرة جدا بمعنى انها تقضي على سند المجتمع القديم أي "الفلاح" وتحل محله العامل المأجور، وبذلك تصبح الحاجة الى الانقلاب الاجتماعي والتضادات الاجتماعية في الريف، متماثلة مع المدينة ويأتي الاستخدام التكنولوجي الواعي للعلم ليحل محل الإنتاج الاكثر روتينية والابعد عن العقلانية. ويكمل الاسلوب الرأسمالي للإنتاج فسخ ذلك الاتحاد العائلي الاولي للزراعة والصناعة الذي كان يوحد الشكلين الطفوليين غير المتطورين لكلتيهما مع بعضهما البعض، الا انه يوفر في الوقت نفسه المقدمات المادية للتركيب الجديد، الاعلى، الذي هو اتحاد الزراعة والصناعة على اساس شكليهما الذين تطورا بصورة متضادة، والإنتاج الرأسمالي بزيادته على الدوام لغلبة سكان المدن الذين يكدسهم هذا الإنتاج في مراكز كبيرة انما يراكم بذلك من جهة القوة التاريخية لحركة المجتمع نحو الامام ويعرقل من جهة اخرى تبادل الموجودات بين الانسان والارض، أي اعادة اقسام التربة المكونة اليها تلك الاقسام التي استخدمها الانسان بشكل وسائل التغذية والالبسة والخ، أي انه يخرق الشرط الطبيعي الابدي لخصوبة التربة الدائمة، وهو يدمر بذلك في وقت واحد الصحة الجسدية لعمال المدن والحياة الروحية للعمال الريفيين. ولكن الإنتاج الرأسمالي بتحطيمه لشروط تبادل الموجودات هذه الناشئة عفويا، فانه يسفر في الوقت نفسه عن ضرورة اعادته بصورة منتظمة وبمثابة قانون يضبط الإنتاج الاجتماعي وبشكل يتطابق مع التطور الكامل للإنسان وفي الزراعة، كما في المانيفاكتورة يُعتبر التحويل الرأسمالي لعملية الإنتاج مصدر آلام في الوقت نفسه للمنتجين وتعتبر وسيلة العمل وسيلة استعباد واستغلال وإفقار للعامل، ويعتبر التركيب الاجتماعي لعمليات العمل اخمادا منظما لنشاطه الحيوي الفردي ولحريته واستقلاليته وان بعثرة العمال المزارعين على مساحات شاسعة تحطم قوة مقاومتهم في حين ان تركز عمال المدن يزيد هذه القوة. وفي الزراعة الحديثة كما في الصناعة الحديثة في المدن، يتم شراء زيادة قوة العمل المنتِجة وقدرتها الاكبر على التحرك بتدمير وإنهاك قوة العمل نفسها، يضاف الى ذلك ان كل تقدم في الزراعة الرأسمالية لا يعتبر مجرد تقدم في فن نهب العامل وحسب بل في فن نهب التربة ايضا، وكل تقدم في زيادة خصوبتها لأمد معين هو في الوقت نفسه تقدم في تدمير المصادر الدائمة لهذه الخصوبة وبقدر ما يزداد انطلاق بلد معين كالولايات المتحدة لأمريكا الشمالية مثلا، من الصناعة الكبيرة كأساس لتطوره تزداد سرعة عملية التدمير هذه. فالإنتاج الرأسمالي اذا، لا ينمي التكنيك وتركيب عملية الإنتاج الاجتماعية الا عن طريق انه يقوض في الوقت ذاته المصدرين الاثنين لأية ثروة: "الارض والعامل" (كتاب رأس المال الجزء الاول ص 725 – 728).

لذلك نستطيع ان نقول بان كتاب رأس المال لماركس مؤلف عبقري، وقد عمل ماركس على وضع مؤلفه الرئيسي في غضون اربعة عقود منذ مطلع الاربعينيات للقرن الثامن عشر وحتى آخر ايام حياته. كتب لينين يقول: "إذ أيقن ماركس ان النظام الاقتصادي هو الاساس الذي يقوم عليه البناء الفوقي السياسي فقد اعار جل اهتمامه لدراسة هذا النظام الاقتصادي"، وهنا لا بد وان نذكر بان ماركس شرع بدراسة الاقتصاد السياسي بانتظام في اواخر عام 1843 في باريس، وبدراسته للكتب والمراجع الاقتصادية وضع نصب عينيه هدفا هو كتابة مؤلف كبير يتضمن نقد النظام القائم والاقتصاد السياسي البرجوازي، وانعكست ابحاثه الاولى في هذا المجال في المؤلفات التالية: "المخطوطات الاقتصادية الفلسفية عام 1844" "والايديولوجيا الالمانية" و"بؤس الفلسفة" و"العمل المأجور والرأسمال" و"بيان الحزب الشيوعي" وغيرها. وقد كشف النقاب في هذه المؤلفات عن اسس الاستغلال الرأسمالي والتضاد الذي لا يعرف المهادنة بين مصالح الرأسماليين والعمال المأجورين والطابع التناحري والعابر لكافة العلاقات الاقتصادية الرأسمالية. واهتم في تلك الفترة بتاريخ الملكية العقارية ونظرية الريع العقاري، وتاريخ ونظرية التداول النقدي والاسعار والازمات الاقتصادية وتاريخ التكنيك والتكنولوجيا، ومسائل الهندسة الزراعية والكيمياء الزراعية.

جرى عمل ماركس في ظروف فائقة الصعوبة فكان عليه ان يخوض صراعا دائما ضد الفاقه، وان ينقطع عن ابحاثه في كثير من الاحيان بغية كسب الرزق، ولم يذهب بلا اثر توتر القوى على مدى حقبة طويلة من الزمن في ظروف الحرمانات المادية حيث ألم بماركس مرض عضال، الا انه على الرغم من ذلك تمكن نحو عام 1857 من انجاز عمل تمهيدي ضخم اتاح له ان يباشر للمرحلة الختامية من البحث وهي ترتيب وتعميم المواد التي جمعها. وواصل ماركس العمل بانهماك ووضع مؤلفه في غضون سنتين ونصف (من آب عام 1863 وحتى نهاية عام 1865) مخطوطة جديدة ضخمة تؤلف الصيغة الاولى الموضوعة على نحو مفصل للمجلدات النظرية الثلاثة من "رأس المال"، وفقط بعد ان تمت كتابة المؤلف بمجمله في كانون الاول عام 1866 شرع ماركس بإعداده نهائيا للنشر علما بانه قرر، بموجب نصيحة إنجلز عدم اعداد الكتاب كله للنشر دفعة واحدة، بل المجلد الاول من "رأس المال" بادئ الامر، والمداخلات التي قدمت من قِبلي تتعلق بالمجلد الاول – الجزء الاول من كتاب "رأس المال".

بعد صدور المجلد الاول من رأس المال في ايلول عام 1867 واصل ماركس العمل فيه لإعداد طبعات جديدة منه باللغة الالمانية وترجمته الى اللغات الاجنبية، فقد ادخل تعديلات كثيرة في الطبعة الثانية (عام 1872) فيها تعليمات هامة فيما يتعلق بالطبعة الروسية التي صدرت في بطرسبورغ عام 1872، وكانت اول ترجمة لـ "رأس المال" الى لغة اجنبية واعاد الى درجة كبيرة صياغة الترجمة الفرنسية وراجعها، ونشرت هذه الترجمة على اجزاء متفرقة في خلال سنوات عام 1872 – 1875.

ومن جهة ثانية واصل ماركس بعد صدور المجلد الاول من "رأس المال" العمل في المجلدات التالية معتزما انجاز المؤلف بكامله خلال فترة قريبة، الا انه لم يتمكن من ذلك حيث استغرق وقتا كثيرا نشاطه متعدد الجوانب في المجلس العام للاممية الاولى، وغالبا ما كان يضطر للانقطاع عن العمل بسبب تردي الصحة. يضاف الى ذلك ان نزاهة ماركس العملية القصوى ودقته المتناهية وذلك النقض الذاتي الصارم الذي "توخى به" كما قال إنجلز "معالجة اكتشافاته الاقتصادية العظيمة حتى انجازها تماما قبل نشرها"، ارغمته على الرجوع من جديد الى البحث الاضافي عند النظر في هذه القضية او تلك، وفي سياق هذا العمل الابداعي كانت تنبثق ايضا مسائل جديدة وكثيرة، اما المجلدان التاليان من "رأس المال" فقد اعدهما للنشر واصدرهما إنجلز عقب وفاة ماركس: المجلد الثاني في عام 1888، والمجلد الثالث في عام 1894. وبذلك أسهَم إنجلز بقسط لا يثمن في كنز الشيوعية العلمية. كتاب رأس المال يمثل عماد الاقتصاد السياسي الماركسي، وهنا اريد ان اذكر دور الفيلسوف هيغل وتأثيره على الطرح الجدلي الديالكتيكي لماركس في كتاب "رأس المال" حيث كتب ماركس ما يلي: "ولقد انتقدت الجانب الصوفي من ديالكتيك هيغل قبل حوالي 30 عاما حينما كان الديالكتيك لا يزال على الموضة، بيد انه عندما كنت منهمكا في كتابة المجلد الاول من كتاب "رأس المال" شرع المقلدون الصاخبون، المتصنعون، والتافهون للغاية، الذين يلعبون الدور الاول في المانيا المعاصرة المثقفة، يستهينون بهيغل، مثلما كان المقدام موزيس مندلسون في عهد ليسنغ يستهين بسبينوزا كـ "كلب ميت"، ولذلك اعلنت عن نفسي بصراحة انني تلميذ لهذا المفكر العظيم وحتى انني عمدت في بعض مواضع الفصل المتعلق بنظرية القيمة الى محاكاة طريقة هيغل في التعبير، وان الطابع الصوفي الذي ارتداه الديالكتيك على يدي هيغل لم يحل اطلاقا دون ان يكون هيغل بالذات اول من قدم تصويرا شاملا وواعيا للاشكال العامة لحركته، فالديالكتيك يقف على الرأس عند هيغل، بينما ينبغي ايقافه على قدميه بغية الكشف عن اللب العقلاني تحت القشرة الصوفية".

ويضيف ماركس ويقول: "لقد اصبح الديالكتيك بشكله الصوفي موضة المانية، لأنه بدا وكأنه يمجد الاوضاع القائمة وان الديالكتيك بشكله العقلاني لا يثير لدى البرجوازية وإيديولوجيها المتحذلقين الجامدين سوى الحقد والذعر، اذ انه يتضمن الى جانب الفهم الايجابي لما هو موجود فهم نفيه ايضا وهلاكه المحتوم وينظر الى كل شكل مجسد من خلال الحركة، وبالتالي من خلال جانبه العابر ايضا والديالكتيك لا يعبد أي شيء وهو انتقادي وثوري من حيث جوهره ذاته" ويضيف ماركس: "ان حركة المجتمع الرأسمالي الحافلة بالتناقضات تتجلى للبرجوازي العملي بصورة ملموسة للغاية في تقلبات الدورة المتكررة الملازمة للصناعة المعاصرة، والتي تشكل الازمة العامة نقطة الاوج فيها، وها هي ذي الازمة تزحف من جديد على الرغم من انها لا تزال في مرحلتها الاولية بعد وهي، بفضل تنوع وشدة مفعولها ستقحم الديالكتيك حتى في رؤوس الادعياء المغرورين في الامبراطورية البروسية المقدسة الجديدة" (تذييل الطبعة الثانية لكتاب "رأس المال" لندن 24 كانون الثاني عام 1873). لا شك بان كتاب كارل ماركس رأس المال يعتبر من اهم الاعمال الفكرية الفلسفية التي صدرت في القرن التاسع عشر في المجلد الاول يقدم مدخله الى الاقتصاد السياسي الذي عرف لاحقا بالاقتصاد السياسي الماركسي ويعرض فيه نظريته الشهيرة فائض قيمة العمل ويعتبر المجلد الثالث من كتاب رأس المال الاكثر شهرة حيث يعرض تفاصيل تناقض الرأسمالية، ويأتي كتاب رأس المال من خلال دراسة الاقتصاد السياسي ومن خلال المنطق الجدلي حيث ان دراسة الاقتصاد من خلال قوانين الجدل (الديالكتيك) تعطيه ارتباطا وثيقا بالفلسفة الماركسية ومن خلال فلسفته عبر قوانين الجدل، يقوم ماركس بإعادة تعريف الاقتصاد بتفاصيله من السلع وقوانين العرض والطلب من ناحية ليكون ركنا في الاقتصاد وعرضا للتطور التاريخي للاقتصاد وتطور العلاقات الاقتصادية عبر التاريخ ليكون اساسا في الاقتصاد السياسي من ناحية اخرى، وما دامت الرأسمالية باقية ستبقى الحاجة قائمة الى قراءة هذا العمل الاساسي وفهمه.



https://www.ahewar.org/lc
مركز دراسات وابحاث الماركسية واليسار