من أسباب تقهقر القوى العلمانية والديموقراطية في العالم العربي، وسبل تجاوز ذلك

شاهر أحمد نصر
karena10001@mail.ru

2004 / 9 / 15

تمهيد
عند الخوض في قضايا اليسار والقوى العلمانية في العالم العربي من المفيد التطرق إلى الظروف الموضوعية والجذور التاريخية لظهور هذه التيارات، وإلى آلية تطورها وتبييئها في العالم العربي..
تعود جذور ظهور بوادر أجنة الفكر العلماني والديموقراطي واليساري في العالم العربي إلى عصر النهضة الأولى في القرن التاسع عشر، ومن المعروف أنّ هذا العصر حل في أواخر عهد الاحتلال العثماني، الذي ترك آثاراً وخيمة على العالم العربي، على كافة الأصعدة، الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية.. ففي أواخر القرن الثامن عشر كانت الأغلبية الساحقة من أجزاء الوطن العربي غارقة في ظلمات التخلف العثماني، لا تتجاوز حياتها الفكرية عوالم الشعوذة والدجل والخرافة..
تركت الحملة الفرنسية في عام 1798م على مصر وسوريا نتائج عملية على العالم العربي وخاصة مصر، نتيجة احتكاك بعض المتعلمين المصريين بالعلماء الذين اصطحبهم نابليون معه، وإدخال أول مطبعة إلى مصر..
ثم حلت مرحلة حكم محمد علي، الذي أصبح والياً على مصر عام 1805م، وكان يطمح إلى بناء دولة عصرية كبرى، ولذلك أدخل إصلاحات جذرية في مصر، لجعلها في مصاف الدول الحديثة..
كما تركت محاولات الإصلاح في تركيا العثمانية باسم "التنظيمات" في عام 1839م، أثرها على التطور اللاحق في ولايات ومتصرفيات الإمبراطورية العثمانية.. التي أخذت تنمو فيها بعض المشاعر القومية.. يمكن إرجاع جذور الفكر النهضوي والأيدولوجيا المتحضرة، في العالم العربي، إلى القرن التاسع عشر، عندما أخذ العديد من المترجمين والمثقفين الذين احتكوا بالثقافة الغربية يدعون للاستفادة من الحضارة الغربية.. ودعوا إلى الأفكار والمبادئ التالية:
ـ "الديموقراطية الليبرالية، ـ حرية التعبير وحرية الصحافة، ـ العلمانية والعقلانية، ـ مفهوم الحقوق المدنية والبلدية..
كما دعا المفكرون العرب الأوائل إلى فصل السلطات العامة في الدولة، مع تعرفهم على المواد الخاصة بذلك في الميثاق الدستوري الفرنسي، وآراء منتسكيو في كتابه "روح الشرائع"..
وكان المفكرون الأوائل في عصر النهضة تقدميين في موقفهم من المرأة: من جهة تحريم تعدد الزوجات، والدعوة إلى تعليم البنات..
ومع تطور الوعي السياسي في المجتمعات العربية أخذت تتشكل الجمعيات الأدبية والسياسية، التي لعبت دوراً هاماً في اليقظة العربية..
كما كان للصحافة دور تنويري هام، وأثر ملموس، في نمو اليقظة العربية..
مع تصاعد نضال الشعوب العربية في سبيل النهضة والتحرر والاستقلال، وبعد ظهور الجمعيات الأدبية والسياسية، أخذت تتشكل الأحزاب السياسية منذ نهاية القرن التاسع عشر، فظهرت الأحزاب منها التابع للاستعمار، والأحزاب التقليدية، والدينية والوطنية..
سنحاول تسليط الضوء بإيجاز على نشاط الأحزاب ذات الفكر والتوجه الاشتراكي والقومي العلماني، والأنظمة والبنى التي أقامتها، لمعرفة أسباب القصور وضعف التيار اليساري والعلماني في العالم العربي..
الخلل الجوهري في نشاط الأحزاب اليسارية:
تعد الأحزاب الشيوعية والقومية أحد الحوامل الأساسية للفكر العلماني والاشتراكي في العالم العربي، وتوقف على نشاطها بشكل أساسي مستقبل هذا الفكر، خاصة في تلك البلدان التي أخذت السلطة فيها.. فكيف تجسد عملها ونشاطها لنشر مبادئ اليسار والعلمانية والديموقراطية، ولماذا لم توفق في تحقيق مشروعها، ولم تستطع نشر وتجذير وتبيئة هذا الفكر في المجتمعات العربية؟
ـ غياب الوعي والممارسة الديموقراطية:
إنّ أحد جوانب الخلل في نشاط الأحزاب الشيوعية والقومية في البلدان العربية، الذي أدى إلى ضعف القوى العلمانية والديموقراطية في العالم العربي، هو عدم إعارتها الاهتمام الكافي لمسائل الديموقراطية، والمجتمع المدني.. ومع وجود خلل في تناولها للمسألة الاجتماعية، بتكرارها لشعارات مترجمة عن الحركة الشيوعية العالمية، واعتقادها أن (البروليتاريا ـ على الرغم من عدم وجودها بتعريفها الصحيح في العالم العربي) هي الطبقة المهيأة لإسقاط البرجوازية.. بقي هذا الخلل يرافق نشاطها ولم تستطيع التحرر من الجمود العقائدي...
إن التمعن في الأسس الفكرية والنظرية للأحزاب القومية والماركسية في العالم العربي وفي برامجها السياسية يبين فقدانها لأي برنامج يدعو لبناء مجتمع مدني ودولة الحق والقانون التي تشكل أساس الدولة الديموقراطية، التي تتطور وفق نظام ديموقراطي تعددي، يسمح بتداول السلطة، وتحقيق العدالة السياسية والاجتماعية للأكثرية والأقلية.. ومع كل أسف نجد أن هذه الأحزاب لم تتبن في أيديولوجيتها السياسية قيماً وتقاليد ديموقراطية تعددية، تعترف بضرورة وجود آخر معارض، مع ازدياد التنافر فيما بينها حدة.. ولم يخل الصراع فيما بينها من الضحايا البشرية، وهكذا عجزت عن تأصيل الفكر الديموقراطي في وعي الجماهير الشعبية.. وبالتالي لم تبن التربة والأرضية السليمة لتجذر الفكر العلماني في البيئة العربية.. على الرغم من بعض المظاهر الديموقراطية التي عرفتها الحياة السياسية في بعض المجتمعات العربية، من حرية تشكيل الأحزاب والجمعيات، وحرية الصحافة والانتخابات البرلمانية في مراحل تاريخية محددة الخ ..
ترك هذا الأسلوب من نشاط هذه الأحزاب بصماته، وأثره الكبير، على مستقبل الفكر الاشتراكي والعلماني في المنطقة.. كما تأثر المناخ الذي انتشر فيه هذا الفكر بأشكال الحكم في البلاد..
ـ القضاء على أسس بناء الدولة العصرية:
نالت البلدان العربية استقلالها منذ أواسط القرن الماضي، فظهرت مسائل ومهام جديدة، لم تكن معهودة إبان الاحتلال الأجنبي المباشر، تستدعي المعالجة، في مقدمتها مهمة بناء المؤسسات الداخلية لبلدان فتية، ومؤسسات العلاقات الدولية..
تميزت أنظمة الحكم في البلدان العربية بعيد الاستقلال باعتمادها الأنظمة البرلمانية.. كانت العملية الانتخابية في بعض هذه البلدان تجسد تمسك الشعب والحكم معاً بآلية انتخابية قانونية، مع محاولة السعي لتطويرها.. إلاّ أنّ القصور الأيديولوجي لدى الأحزاب الوطنية والقومية، سبب قصورها في تطوير نظام الحكم البرلماني، وساهم في وقف العملية الانتخابية صعود العسكر إلى الحكم..
اعتمدت الحكومات المستقلة في البلدان العربية، على العسكر لحماية مصالحها، ومع تسعر الصراع مع الصهاينة المحتلين في فلسطين، زاد اقتراب العسكر من السلطة السياسية ومن مواقع صنع القرار، ومع ازدياد التناقضات في المجتمع، وفشل الحكومات العربية في التعامل مع الصراع العربي الصهيوني، ازداد العسكر طموحاً لأخذ زمام السلطة بأيديهم، وامتلاك مصادر القوة والثروة.. وهكذا مع بداية الاستقلال، برز العسكر كقوة منظمة أساسية في المجتمعات العربية.. علماً بأن العسكر كانوا يعانون من ذات المشاكل والتناقضات التي يعاني منها المجتمع، فعاشت القوى والتكتلات المتنابذة داخل الجيش مختلف أنواع الصراع..
وترافق نمو دور العسكر السياسي مع تشكل الأحزاب الراديكالية وزيادة نفوذها في المجتمع.
مع ازدياد التناقضات الداخلية، وتزايد الضغوط الناجمة عن هزيمة العرب في حرب 1948 والآثار التي أعقبت زرع دولة إسرائيل في المنطقة، انهار الحكم المدني في أغلب البلدان العربية المستقلة، وساهم انهيار الحكم المدني، وتفاقم الأزمات الوزارية المتعاقبة في خلق الأجواء المناسبة لتقوية قبضة وهيمنة العسكر على الحكم فيها..
تخلل ذلك بعض المراحل القصيرة المضيئة في ممارسة الديموقراطية في بعض البلدان العربية، التي تميزت بنشاط الأحزاب وانتشار الفكر الديموقراطي والعلماني في هذه البلدان..
وساعد انتصار تحالف الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا في الحرب العالمية الثانية على الفاشية، في انتصار حركات التحرر العالمية، وانتصار ثورة يونيو 1952 في مصر، وخلق الظروف المناسبة لتأميم قناة السويس، وفتح باب التعاون الاقتصادي والسياسي والثقافي مع الدول الاشتراكية، وتصاعد أثر الاتجاهات القومية واليسارية في المنطقة.. وسرّع في هذه العملية، ارتفاع وتيرة "الحرب الباردة" بين المعسكرين الغربي والشرقي والاستقطاب الأيديولوجي والعسكري في العالم، وسعي الولايات المتحدة الأمريكية لجر البلاد العربية إلى الأحلاف العسكرية، كحلف بغداد.. التي عارضتها الأحزاب اليسارية..
مع تطور العلاقة بين بعض الدول العربية والاتحاد السوفييتي، نما نفوذ الحزب الشيوعي، في سورية خاصة، وازداد عدد أعضائه، وزاد تواجدهم في أجهزة الدولة، بما فيها الجيش، حيث ازداد عدد الضباط الشيوعيين، وبدأت القوى السياسية في سورية وخارجها، بمن فيها البعثيون يخافون من هيمنة الشيوعيين على الحكومة، وخصوصاً بعد تحالفهم مع رئيس الحكومة خالد العظم، مما حدا بـميشيل عفلق أن يهاجمهم في بيانات صحفية منذ شباط 1957 معلناً أنّ الشيوعية غريبة عن العرب غرابة النظام الرأسمالي عنهم. وأخذ البعثيون يبحثون عن حلفاء بين المستقلين والحزب الوطني، بل وبين حزب الشعب الذي كان يعد خصماً لهم، لمواجهة الشيوعيين. وترافق ذلك مع تزايد الصراع داخل حزب البعث الذي ضم في صفوفه فئات غير متجانسة، وعملت قيادته بشكل حثيث ضد الوجود الشيوعي.. ومع تزايد وجود البعثيين السوريين في صفوف الجيش، ومع تعاظم التأييد الشعبي للوحدة العربية، أصبح القرار السياسي بخصوص الوحدة مع مصر قراراً ذا تأييد شعبي عريض، وهكذا أخذ زعماء البعث في أواخر عام 1957 يدعون إلى الوحدة السياسية الاندماجية.. كما أيد قادة البرجوازية والإقطاع الوحدة الاندماجية مع مصر خوفاً على مصالحها، من تأثير الحركة الديموقراطية والشيوعية في سورية.. وفي نفس الوقت زادت الولايات المتحدة الأمريكية من ضغوطها على سورية طوال عام 1957 لاستبدال الحكومة الوطنية الصديقة للسوفييت بحكومة تابعة للغرب، واستخدمت في حملتها الإعلامية بعبع الخطر الشيوعي لتخويف جيران سورية من السيطرة الشيوعية والسوفيت..
من هذا العرض يتبين أنّ البيئة والمناخ السياسي السائد بعيد الاستقلال لم يخلق التربة الملائمة للتطور الديموقراطي الذي يعد أحد أهم ظروف المساعدة في انتشار الفكر العلماني اليساري، بالإضافة إلى الصراع بين القوى والأحزاب الحاملة لهذا الفكر، مما قوض فرص انتشار هذا الفكر..
الوحدة السورية المصرية وإلغاء العمل السياسي الديموقراطي في أغلب البلدان العربية:
في ظل هذه الظروف المعقدة قامت الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا عام 1958م.
وعلى الرغم من أنّ عبد الناصر، اشترط بالإضافة إلى حل الأحزاب "أن يتوقف تدخل الجيش في السياسة توقفاً تاماً". إلاّ أنّه في الواقع العملي أسس لهيمنة العسكر وإلغاء السياسة من المجتمع. فالوزارات الأساسية تقلدها الضباط، وكان للجيش حضور مقرر في السياسة. وحلت دولة الوحدة الأحزاب السياسية، وألحقت النقابات بالدولة.. ودشن عبد الناصر فترة حكمه في النصف الثاني من القرن العشرين بحالة قوانين الطوارئ، والأحكام العرفية، لتصبح كابوساً تقليدياً تعتمده مختلف حكومات الدول العربية اللاحقة، ولتستمر أكثر من نصف قرن، ولم تزل تجر الويلات للشعوب العربية والوطن العربي، وتبعده عن ركب التطور والحضارة العالمية.. لقد وضع ناصر نفسه والمجتمع في مأزق، بابتعاده عن النهج الديموقراطي، وإفراغه المجتمع من العمل السياسي ومن مؤسسات المجتمع المدني، وأوجد عوامل سقوط حكمه، الذي وضع نصب عينيه مسألة العدالة الاجتماعية، والتي جوبهت من القوى الإقطاعية والبرجوازية، وفي نفس الوقت كبل القوى الشعبية، وأفقدها قوة الدفاع عن سياسته الاقتصادية التي كانت في صالحها.. وقادت هذه السياسة إلى حصول انقلاب عسكري، من قبل الأوساط البرجوازية الإقطاعية في سورية، تم بنتيجته انفصال سورية عن الجمهورية العربية المتحدة في 28 أيلول 1961..
انعكست آثار الجو السياسي الخانق الذي فرضته حكومة الوحدة بقيادة جمال عبد الناصر على جميع مناحي الحياة، بما فيها الصحفية، فقد حلت الأحزاب السياسية وأغلقت الصحف، وأصبحت في أغلبها حكراً للحكومة.. وكان لذلك بالغ الأثر في ضعف التيار اليساري والعلماني في العالم العربي..
اثر هيمنة العسكر على العمل السياسي، والبنية الشمولية في الحكم:
بينا كيف قفز العسكر إلى الواجهة السياسية، في أهم الدول العربية، وساعدهم في ذلك الصراع مع إسرائيل.. وهكذا أخذت تفرغ البلدان العربية من النشاط الحزبي والعمل السياسي السليم، وتكرس ذلك أكثر فأكثر مع الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية، وما تلاها من إلغاء للعمل السياسي فيهما..
وقادت الانقلابات العسكرية، إلى هيمنة أحزاب السلطات على الحكم.. وتم حكم هذه البلدان بموجب قوانين الطوارئ، والأحكام العرفية، وآلية الحكم بما سمي الديموقراطية الشعبية، المنقولة عن دول أوروبا الشرقية، والتي تلغي الاعتراف أو التعامل مع أية معارضة سياسية، وبالتالي تقود إلى تساؤلات حول حقيقة العمل السياسي فيها، وفق الآليات الديموقراطية الحرة.. اعتباراً من بداية الستينات في القرن العشرين.. وزادت هزيمة العرب أمام إسرائيل في حزيران عام 1967 الوضع تعقيداً وغموضاً وأزمة.. مما ترك آثاره على انتشار الأفكار التي كانت تدعى بالتقدمية، وحملت في كثير من الأحيان مسؤولية الهزيمة..
امتازت هذه الفترة بالتعقيد وازدياد الضعف، والتفتت والتشرذم في صفوف الأحزاب والقوى السياسية، لأسباب بعضها سلط عليه الضوء، وأصبح معروفاً، والآخر لم يسلط عليه الضوء بشكل كاف، ومازال مجهولاً.. إنما السمة العامة لها ضعف العمل السياسي، وازدياد تدخل الجيش، ممثلاً بالأجهزة الأمنية، في حياة الناس بما فيها السياسية، وأصبحت جميع التنظيمات السياسية والجماهيرية تحت هيمنتها، وازداد التشوه الاجتماعي.. ويمكن القول إنّ نكسة حزيران (يونيو) 1967 عبرت عن أزمة الفكر اليساري وتوجت مرحلة النكسة في نشاط الفكر اليساري والتقدمي في العالم العربي..
لقد أقامت الأحزاب التي تعد حامل الفكر اليساري والاشتراكي في البدان العربية، التي أخذت السلطة فيها، (أقامت) بنية سياسية واجتماعية واقتصادية عاجزة عن تحقيق الحياة الديموقراطية السليمة، فضلاً عن عجزها عن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مما أفقد الشعب ثقته بهذه الأحزاب والأفكار التي تدعو إليها، ولا غرابة أن نلمس الازدواجية وتعدد الأقنعة بالنسبة لأعضاء وكوادر بل قادة هذه الأحزاب، فنجدهم يدعون إلى مثل التقدم والنهضة، وفي نفس الوقت يعيشون حياة وفكر العشيرة والعائلة.. مما وجه ضربة لهذا الفكر.. فممارسة هذه الأحزاب لنشاطها على أرض الواقع كثيراً ما تناقضت مع الفكر الذي تدعو إليه، مما أثر سلبياً على انتشاره وعلى دورها في المجتمع.. ونتيجة لهذه الأخطاء الكبيرة وانكفاء أغلبية أبناء الشعب عن الفكر العلماني واليساري، نتيجة الممارسة الخاطئة لحامليه، ونظراً لقيام السلطات الحاكمة بإفراغ المجتمعات العربية من النشاط السياسي والفكري السليم، ومع انهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، ودول أوروبا الشرقية، حصل فراغ فكري كبير، تمت تعبئته من قبل القوى الغيبية المناوئة للفكر العلماني والديموقراطي، والتي ساعدت السلطات والبنية الاجتماعية والسياسية السائدة في وجودها.. كما ساعد المشروع الغربي والأمريكي ـ إبان الحرب الباردة ـ القائم على مناهضة الشيوعية والاشتراكية، في توجيه ضربة إلى القوى العلمانية واليسارية والديموقراطية في العالم العربي..
* * *
ولاستكمال البحث في أسباب ضعف اليسار والعلمانية والديموقراطية في العالم العربي، من الضروري إلقاء نظرة على الجانب الذاتي عند المفكرين العرب، ومن هذا الجانب مناهج التفكير التي اتبعها المفكرون العرب الداعون إلى هذا الفكر، والتي كان لها أيضاً دور في تكبيله، والعجز عن تجذيره في البيئة المحلية في العالم العربي..
في أسباب عجز المفكرين العرب عن إنجاز عملية تجذير الفكر النهضوي في العالم العربي ـ بعض الاستنتاجات:
من الأسئلة المشروعة التي تنتصب دائماً في وجه الباحث كيف استطاع الفكر الأوروبي أن ينهض ويؤسس لحالة متجددة واسعة الآفاق، في حين أن الفكر العربي، منذ عهد النهضة، لم يستطع تجاوز ما تم إنجازه من قبل الفكر الغربي، بل بقي تابعاً يتكأ على ظلال الفكر الغربي، وبالتالي على ما يترجم من ذلك الفكر؟
ولعل أسباب ذلك تكمن في أنّ الفكر الأوربي، إبان، وبعد نهضته، قام على جملة من الأمور المتكاملة أساسها العقل والعقلانية، أمور تشمل العلوم الرياضية، والعلوم الطبيعية، والميكانيك وعلم القانون والمنطق، والفلسفة بمختلف اتجاهاتها العقلانية والتجريبية غير غافل لقوانين الطبيعة.. وتم له ذلك في كنف نهضة اقتصادية وصناعية واجتماعية.. في حين اكتفى العقل العربي بمقولات عامة مترجمة وشبه لفظية، ولم يتعرض بعمق لأسباب الانحدار والانحطاط، وابتعد عن دراسة بنية المجتمع والأمة، لمعرفة الأسباب الكامنة في البنية الاقتصادية الاجتماعية السياسية لهذا الانحطاط التي ولد في كنفها..
قام الفكر النهضوي الأوروبي على ما يسميه إلياس مرقص بالعودات: "النهضة في أوروبا تعود من فوق ابن رشد والعرب إلى أرسطو، من فوق أرسطو إلى أفلاطون وإلى بارمنيد وإلى فيثاغور، من فوق الأرسطوطالية والأفلاطونية المحدثة إلى أرسطو وأفلاطون وبارمنيد. لا يمكن فهم القرن 16 و17 بدون هذه العودات المختلفة التي لها أعلامها، أشخاصها.. العقل الغربي يركب ويحذف أيضاً، يُفقر، يختار، يصطفي، يجرّد، يعزل، يفصل. وباختصار: يفكر، يعرف ما الفكر والتفكير. يعرف ما معنى جرّد، إزدواجية التجريد: أحذف وآخذ، أحذف أمراً وأموراً وآخذ أمراً، من الشيء الواحد. التجريد الفكري سلاح ماركس (رأس المال، المقدمة)"(1) وهنا نسأل: هل سمح أو يسمح للعقل والفكر العربي بهذه العودات، بالتركيب، بالحذف، والتجريد، والتجاوز الديالكتيكي؟ إذا أردنا للعقل والفكر العربي أن يجاري الفكر الغربي، يجب أن يتجاوز مرحلة الترجمة، وعلينا تحريره من الدوغمات المكبلة له، وفسح المجال أمام مبادئ الشك والنقد والتجرد عن الهوى ليقوم هذا العقل بجميع العمليات التي تسمح له أن يعمل بطاقته السليمة في أجواء المناهج السليمة من التفكير والإبداع..
إنّ الكثير من الأفكار والمقولات والمبادئ التي تمت ترجمتها، وأغنت الفكر العربي أقرب إلى الرمزية منها إلى المفاهيم المتجذرة في الواقع والوعي العربيين.. مثلاً عندما نقول التفكير المادي، تكون المادة صفة ورمز وليست مفهوماً فلسفياً.. عند الحديث عن الدولة تقفز السلطة إلى الذهن مباشرة كرمز، وتتجاوز الدولة كمفهوم وبنية.. إنّ أولى مهام منهج التفكير المعرفي العربي "هي الانتقال من الرمزية والشيئية إلى المفهومية والواقعية. بهذا الانتقال فقط نرى الأشياء، بدونه لا نرى سوى خيالاتنا... وهذا الانتقال هو شرط وركيزة الانتقال من السرمدية والثورانية إلى التاريخ والتقدم..(2)
لقد أفادت الترجمة العقل العربي كثيراً، كما أضره الجمود والتوقف عندها.. إنّ الأخذ الجامد بالفكر الغربي أثر تأثيراً بالغ السوء على الفكر العربي أو العقل العربي.. "على المثقف أن يكون منصفاً، وأن ينتقل من الليبرالية والوضعانية إلى الديموقراطية والديالكتيك. إنّ ليبراليته ملتبسة. قد يتحول الليبرالي إلى فاشستي على ركيزة النخبوية الراسخة." (3) كما توجد إمكانية لتحول الشيوعي والقومي الاشتراكي إلى استبدادي..
من الخطأ تمثل الغرب في الثقافة العربية والإسلامية... "المهمة ـ كما يقول الياس مرقص ـ هي إنشاء الثقافة العربية. هي أولاً ثقافة (وليست شيئاً آخر، مثلاً جهل، مثلاً لا روح..)، وهي عربية، صفة وعنواناً هاماً جداً. عربية هذا يعني مطابقة لواقعنا، إذن للإنسان والعالم فينا، ناقضة لواقعنا، محيية محركة إنسانية؟ لا شك مع نقد وفحص. إسلامية؟ لا ريب مع نقد، وفحص ونقض. العرب ليسوا كندا والسويد ولا فيتنام أو الصين. (نيف وتسعة أعشار العرب مسلمون، بعضهم بالهوية أو الشهرة ومعظمهم بالحقيقة الداخلية..) أي: الإسلامية جزء من مضامينها وخصائصها، من الهوية القومية الثقافية للعرب. لكن هذا بالضبط يقتضي أموراً كثيرة:
ـ فصل الدين والثقافة كمقولتين ومفهومين، فصل الدين والأمة، الهوية الدينية والهوية القومية، أي العمل بالمفاهيم عملاً واعياً. وإلاّ فسنكرّر بعد عقود أطروحات قيلت بشكل أفضل قبل عقود من الزمن..
ـ حقوق الإنسان، الحق الإنساني، المساواة، حرية الضمير، فصل الدين عن الدولة والدولة عن الدين، تعاتُق الدين والدولة، حرية الدين مع وفي المجتمع.. هذه المبادئ يجب أن تكون "بديهيات" أن تصير مبدأ أول في كل دستور للعرب، في دستور الأمة ـ الدولة. ـ يجب الإقرار بأنّ الديموقراطية هي أولاً حقوق الإنسان وحقوق المواطن، المساواة المدنية والسياسية، شرع الدولة والمجتمع والبلديات، حكم الأكثرية الانتخابية والبرلمانية (عدم الاعتراف بأكثرية أو أقلية خارج فكرة الانتخاب..)(4) مع التأكيد على العلاقة السليمة بالقيم الأصيلة في المجتمع، واحترام الجوانب الروحية والدينية عند أبناء المجتمع، باعتبار علاقة الإنسان بالدين من الحقوق الشخصية التي يجب حمايتها.. ومن المفيد أن تبني نظرة نقدية للموقف السلبي من قبل الكثيرين من العلمانيين من الدين..
* إنّ أساس النهضة العربية في المجال الفكري هو حركة ترجمة، وتجلى ذلك بشكل مباشر في ترجمة أعمال المفكرين الغربيين، أو بشكل غير مباشر عبر التأثر بأفكارهم ونقلها إلى فضاء التفكير واللغة العربية .. وإذا أريد للفكر العربي أن يتطور وبرتقي فمن الضروري له أن يستوعب الفكر العالمي ويتجاوزه.. وهكذا فمسألة التطور الفكري تبين أننا بحاجة إلى الترجمة والتعريب والإبداع، ونظراً لاعتمادنا على الترجمة الصفراء للأيدولوجيا الجاهزة لوحدها لم ننتج فكراً بل ترجمنا فكراً بدا غريباً، ولعل ذلك يفسر بعض أسباب فشل المشاريع الداعية إلى الاشتراكية، على سبيل المثال، في بلداننا.. من الضروري أن يكون، على الصعيد الفكري، في ذهن كل باحث في الأعمال الفكرية مشروع مفكر، وهذا ما لم يحصل بعد..
ومن الشروط الضرورية واللازمة للتطور الفكري أن تحصل ترجمة ومثاقفة على جميع الصعد الأدبية، والعلمية والفكرية والفلسفية، وأن تترافق مع حركة تنموية اقتصادية واجتماعية وثقافية.. يمكن القول بأنّ النشاط الفكري في عصر النهضة كان جزئياً ومجتزأً، لم يتجرد عن الهوى، إذ ارتبط بالسمات الشخصية للمفكرين، ولم يأخذ الطابع المؤسساتي، وشكل مراكز البحوث، وهذا ما أفقد الفكر العربي شمولية الرؤية، ولم يفسح المجال أمامه للتطور بشكل سليم، بل يمكن القول بأن الفكر العربي وقف عند الحلول الجزئية، "التي تكون بداية لمشكلات جديدة"، ولم يرتق إلى الرؤية الفلسفية الشاملة، "ومن هنا كانت الحاجة إلى رؤية فلسفية شاملة تربط الحلول الجزئية فيما بينها، بل تراها من خلالها في ترابطها وتكاملها. لهذا كان لا بد من المثاقفة الفلسفية نتيجة ناتجة عن المثاقفة الفكرية من حيث هي ضرورة نابعة من المثاقفتين العلمية والأدبية...
نستطيع القول "في مجال المثاقفة الفكرية: وعلى الرغم من عدد الكتب الفكرية لم يتكون لدينا رأي جديد فيما يتعلق بالإنسان والحياة والمجتمع، فنحن إما نكون أمام رأي سلفي أو أمام رأي غربي، وهذا وذاك نتلقاه سلبيين دون أن نقوم بفعل فكري مبتكر.."(5) أجل من الضروري ترجمة أمهات الكتب التي تشمل مجمل مناحي " المسألة الابستمولوجية: أي نظرية المعرفة وفلسفة العلوم الدقيقة وشروط إمكانية المعرفة الصحيحة..." التي تعرف بقطيعة مع النظام المعرفي المتخلف.. "من أجل تحرير الذهن العربي في أعماق جذوره من التصورات الأسطورية عن الواقع، والمادة والكون ومن أجل إخراجه "من العالم المغلق وفتحه على الكون اللامحدود" كما يقول الكسندر كويري.. ثم من أجل تعزيل كل الرواسب التاريخية المتراتبة فوق بعضها بعضاً من ساحة هذا الوعي العربي (إسلامياً كان أم مسيحياً)"(6). وفي نفس الوقت من الضروري معالجة حالة التفتت والتشرذم التي تعيشها التيارات الفكرية العلمانية والديموقراطية في العالم العربي، والابتعاد عن التقوقع والانعزالية والذاتية والأنانية المفرطة..
* إنّ الوتائر المتسارعة في تطور الفكر، والعلوم في العالم، تبين حاجتنا إلى آليات جديدة في العمل على كافة الصعد، وخاصة على الصعيد الفكري، لمواكبة الثورة المعلوماتية في العالم، ومن هنا تأتي أهمية مراكز الأبحاث الفكرية..
وفي سياق الحديث عن نهضة العرب الفكرية والحياتية لا يمكن تجاهل فعل المشروع الصهيوني في المنطقة، وأثره الكبير على تطور المنطقة بشكل عام، انطلاقاً من أنّ أحد مرتكزات نجاح المشروع الصهيوني العنصري هو زيادة تخلف العالم العربي، والتخلف الفكري هو من أسس كل تخلف.. من غير المنطقي أن نعترف بأثر الصهيونية في أقوى بلدان العالم، ونتجاهل دورها وأثرها في البلدان العربية.. وفي هذا السياق لا بد للمفكرين العرب أن يضعوا في جداول أعمالهم مهمة تحرير اليهود والبشرية من الفكر العنصري في الصهيونية، إنّ هذه المهمة مهمة إنسانية عامة وليست عربية فحسب..
إنّ أحد سبل مواجهة التحديات التي تواجه العالم العربي على كافة الصعد هو تحقيق النهضة الشاملة على كافة الصعد التنموية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأساس هذه النهضة هو البنية السياسية الاجتماعية الاقتصادية المدنية السليمة، في دولة مبنية على أسس ديموقراطية عصرية، ويعد ذلك من الشروط الضرورية واللازمة لنشر الفكر العلماني الديموقراطي المتنور، والذي لن تقوم للعرب قائمة دون تجذيره في الواقع والوعي العربي..
طرطوس 6/9 /2004 شاهر أحمد نصر
Shaher5@scs-net.org
الهوامش والمصادر
ـــــــ
(1) الياس مرقص ـ نقد العقلانية العربية ـ دار الحصاد ـ دمشق 1997 ص163
(2) نفس المصدر ص884
(3) نفس المصدر ص445
(4) نفس المصدر ص841 ص862
(5) الترجمة بين الفعل والانفعال الثقافي ـ تيسير شيخ الأرض ـ مجلة "الوحدة" ـ تصدر عن المجلس القومي للثقافة العربية، العدد 61/62 تشرين1/ تشرين2 (أكتوبر / نوفمبر) 1989. ص10-19
(6) دور الترجمة في تشكل الفكر العربي المعاصر ـ هاشم صالح ـ مجلة "الوحدة" ـ تصدر عن المجلس القومي للثقافة العربية، العدد 61/62 تشرين1/ تشرين2 (أكتوبر / نوفمبر) 1989. ص20-29



https://www.ahewar.org/lc
مركز دراسات وابحاث الماركسية واليسار