العولمة الرأسمالية وفكر اليسار الديمقراطي

لطفي حاتم
LutfiHatem@hotmail.com

2010 / 8 / 24

شهد العالم في العقدين الأخيرين كثرة من التغيرات المتسارعة تمثلت بشدة الترابطات بين مكوناته الدولية ومستوياته الاقتصادية الوطنية / الإقليمية / الدولية المرتكزة على قاعدة السوق الرأسمالي وبهذا السياق فان التغيرات المشار إليها شملت كثرة من المفاصل السياسية منها تنامي دور الشركات الدولية في العلاقات الدولية ومنها تراجع مواقع الدول في شبكة الضمانات الاجتماعية فضلا عن تراجع دورها في العلاقات الدولية ومنها تضائل دور الأحزاب السياسية في تحقيق مصالح قاعدتها الاجتماعية ناهيك عن تنامي دور المنظمات الغير حكومية وتزايد تدخلها في الحياة السياسية / الاجتماعية .
لقد انعكست التغيرات التي عصفت ( بعالمنا المعاصر ) بشدة على حياة الأحزاب اليسارية خاصة بعد انهيار النموذج السوفيتي للاشتراكية والذي شكلت ركائزه الأيديولوجية، ونموذج دولته الفدرالية وبناء سلطته السياسية مثالاً لغالبية الأحزاب الاشتراكية.
انطلاقاً من تلك التبدلات يستعر السجال بين صفوف الأحزاب الاشتراكية وتختلف الرؤى وتتعدد الأفكار حول سبل النهوض بأحزاب اليسار الاشتراكي وتطوير مشاركتها الفاعلة في الحياة السياسية ، وبهذا المسار يطرح بعض المهتمين بتطور الفكر الاشتراكي الاحتذاء بنموذج الاشتراكية الديمقراطية التي أفرزتها التجربة الأوربية بهدف النهوض بحركة اليسار الاشتراكي .
من جانبي أحاول التوقف عند الحاضنة التاريخية التي أفرزت أحزاب الاشتراكية الديمقراطية معتمداً أسلوب المقارنة التاريخية لغرض الوصول الى رؤية واقعية مستمدة من طبيعة المرحلة التاريخية التي يمر بها الطور الجديد من التوسع الرأسمالي عبر مفاصل أساسية : ــ
ــ الفكر الاشتراكي وتحولاته التاريخية .
ـ الفكر الاشتراكي وانهيار التجربة السوفيتية.
ــ العولمة الرأسمالية وتطورها المتناقض.
ـــ اليسار الديمقراطي وسماته الفكرية.


1

ــ الفكر الاشتراكي وتحولاته التاريخية

ــــ نشأت الأحزاب الاشتراكية في المرحلة الأولى من التوسع الرأسمالي المتسمة بالثورات البرجوازية الديمقراطية وتشكلت الرؤى الفكرية والمرتكزات السياسية للفكر الاشتراكي في الأممية الأولى التي شكلت التجربة السياسية الأولى للحركة الاشتراكية الناهضة.
لقد تبلور الفكر الماركسي وقواعده النظرية استناداً الى النزاعات الطبقية الداخلية التي أغنت الكفاح السياسي للأحزاب الاشتراكية ناهيك عن الصراعات الدامية بين الدول الرأسمالية الناهضة. بهذا السياق نشير الى أن مضامين النزاعات الفكرية داخل الحركة الاشتراكية العالمية تجسد في ثلاث مفاصل أساسية تمحور الأول حول الدولة والموقف من طبيعتها السياسية حيث تعززت الرؤية الماركسية لدى الأحزاب الاشتراكية الهادفة الى استلام البروليتاريا لسلطة الدولة وإقامة نظام العدالة الاجتماعية موجهة بذلك هزيمة فكرية الى التيار الفوضوي القائل بضرورة تحطيم جهاز الدولة وعدم بناء دولة جديدة . أما المفصل الثاني فتمثل في بناء الحزب البروليتاري وبرنامجه السياسي / الاقتصادي الثوري استنادا الى تحديد طبيعة النظام الرأسمالي ودور الطبقة العاملة فيه . وتبلور المحور الثالث في تحديد طبيعة المهام الثورية للطبقة العاملة بعد هزيمة التيار الاقتصادي الهادف الى حصر النضال الطبقي في المستوى الاقتصادي .
إن تحديد المهام الطبقية السياسية والاقتصادية للطبقة العاملة وسيادة المنظومة السياسية / الفكرية للماركسية دفع الأحزاب الاشتراكية الى تطوير كفاحها المناهض للرأسمال والهادف الى إشاعة العدالة الاجتماعية.

ـــ عززت البني السياسية والفكرية التي جرى ترسيخها في الأممية الثانية المسار الفكري للأحزاب الاشتراكية لكن الوحدة الفكرية بين الأحزاب الاشتراكية لم تدم طويلا خاصة بعد انتقال الرأسمالية الى مرحلتها الاحتكارية وتنامي دور الدولة في النزاعات المسلحة بين الرأسماليات المتنافسة على مناطق النفوذ، فضلا عن تدخلها ــ الدولة ــ في الصراع الطبقي لصالح القوى الاقتصادية المتنفذة .
ان التطورات الجديدة التي أفرزتها المرحلة الإمبريالية انعكست على الفكر السياسي لأحزاب الاشتراكية التي واجهت أوضاعا سياسية / اقتصادية جديدة تتطلب تعليلاً فكريا لطبيعة التغيرات التي أفرزها الطور الاحتكاري من التوسع الرأسمالي لغرض تطوير الكفاح الطبقي والسياسي للطبقة العاملة وصيانة مصالحها الاجتماعية / السياسية .
لقد واجهت أحزاب الأممية الثانية كثرة من الموضوعات الفكرية والتي يمكن حصرها بالقضايا السجالية التالية : ـ
أ : ـ ـــ الدولة وسلطتها السياسية
احتلت موضوعة الدولة القسم الأساسي من النزاع الفكري بين الأحزاب الاشتراكية حيث انقسمت تلك الأحزاب الى تيارين فكرين التيار الديمقراطي الاشتراكي الذي رأى في الشرعية الديمقراطية البرجوازية الشكل الأفضل لصيانة وتطوير سياسية التوازن الطبقي بين العمل والرأسمال متخليا بذلك عن الأسلوب الثوري لاستلام السلطة واستخدامها في خدمة النضال الطبقي وبهذا فقد شرع هذا التيار الأبواب أمام تطوير الشرعية الديمقراطية البرجوازية والأخذ بالطريق البرلماني الذي يجسد مفهوم السلام الاجتماعي بديلا عن الصراعات العنفية . بكلام أخر تخلي التيار الاشتراكي الديمقراطي عن الماركسية ومنظومتها السياسية المتمثلة بالثورة البروليتارية وسلطتها السياسية .

أما التيار اللينيني فقد تمسك بالرؤية الماركسية ومفاصلها الأساسية في السلطة والثورة الاجتماعية محاولاً تكييف المنظومة السياسية الماركسية مع الطور الاحتكاري من التوسع الرأسمالي ، بعد انتقال مركز الحركة الثورية الى الإمبراطورية الروسية المتسمة بضعفها الاقتصادي الرأسمالي وتعددها القومي فضلاً عن استبدادها السياسي .

ب ــــ القومية والأممية

انطلقت الماركسية من الأممية البروليتارية ودورها في الثورة العالمية استنادا الى نضوج النزاعات الطبقية في البلدان الرأسمالية المتمثلة في إنكلترا، فرنسا ، أميركا ، وألمانيا ، مفترضة ــ الماركسية ــ ان الثورة البروليتارية ستندلع في عدد من البلدان المتطورة مستندة بذلك على الوحدة الطبقية لعمال العالم وجهازها السياسي المنظم والقائد للثورة الاشتراكية .
لقد تعرضت الرؤية الماركسية بشان التضامن الاممي الى الاهتزاز لأسباب كثيرة منها تنامي الروح القومية والوطنية عند الأحزاب الاشتراكية في البلدان الرأسمالية بسبب سياسة التوازنات الاجتماعية التي أقدمت البلدان الرأسمالية عليها بعد إجراءات اقتصادية وضمانات اجتماعية للقوى المنتجة ومنها سيادة الشرعية الديمقراطية للحكم ، وأخرها تزايد الروح التوسعية والعسكرة عند البرجوازية الحاكمة في بعض البلدان الرأسمالية.

لقد تمسكت اللينينية بالأممية البروليتارية بعد انتقال الحركة الثورية الى الإمبراطورية الروسية لكثرة من الوقائع التاريخية الملموسة أهمها التعدد القومي / الإثني للإمبراطورية الروسية الامر الذي يتطلب وحدة شعوبها لبناء النظام السوفيتي الجديد المرتكز على قيادة الحزب الثوري ، ولهذا فقد دعت اللينينية بعد انتصار ثورة أكتوبر شعوب الشرق الى النهوض بهدف التحرر من المرحلة الكولونيالية وإقامة الدولة القومية رغم أن تلك الدعوة ارتبطت بإقامة نموذج الدولة الاشتراكية .
لقد جددت اللينينية الرؤية الماركسية بصدد الأممية البروليتارية رغم تخليها عن مبدأ الثورة في عدة بلدان والتركيز على إمكانية قيام الثورة في بلد واحد انطلاقا من شروط جديدة ترتكز على وجود حركة جماهيرية عمالية بقيادة جهاز سياسي ثوري منظم .

ج ــ الرأسمالية الاحتكارية

ــ عصفت الخلافات بالحركة الاشتراكية عشية الحرب العالمية حول موضوعات فكرية كثيرة منها توصيف المرحلة الإمبريالية والموقف من الحرب حيث انخرطت اغلب أحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الجهود الرامية للدفاع عن أوطانها وذلك بغية الدفاع عن مكاسبها الاجتماعية وضد الهيمنة الخارجية بالضد من اللينينية التي دعت الى استغلال ظروف الحرب لاستلام السلطة وقلب الحكومات الرأسمالية .
ـــ تناقض الرؤيتين اللينينية والاشتراكية الديمقراطية جاء بسبب الاختلاف حول توصيف طبيعة الطور الاحتكاري للتوسع الرأسمالي في مرحلته الثانية حيث رأت الأحزاب الاشتراكية بان تقارب المصالح بين الدول الرأسمالية يقود الى السلم الدولي والتعاون بين الطبقات الرأسمالية كما أشار الاشتراكي الديمقراطي البارز كاوتسكي واستناداً الى ذلك فقد جرت مراجعة شاملة لمنظومة ماركس السياسية قام بها الألماني برنشتين تركزت حول حصر أهداف الحركة العمالية بالمطالب الاقتصادية والعمل البرلماني .
لقد رأت اللينينية أن الرأسمالية الاحتكارية هي أعلى مراحل الرأسمال وعشية الثورة الاشتراكية وما يشترطه ذلك من ضرورة إعداد البروليتاريا للانقلاب الثوري حيث توجت البلشفية برنامجها الكفاحي في استلام السلطة السياسية وإقامة النموذج الاشتراكي للدولة السوفيتية.

ـــ كرس انهيار الأممية الثانية عشية الحرب العالمية الأولى الانقسام الاممي بين أحزاب الاشتراكية الديمقراطية والبلشفية وما نتج عن ذلك من سيادة نهجان للعمل السياسي / الاجتماعي ، حيث أثر انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية على مجمل المسار السياسي الاجتماعي اللاحق للأحزاب الاشتراكية وخاصة في بلدان العالم الثالث حيث ساهمت الأممية الثالثة التي أنشأتها الأحزاب الشيوعية بتشجيع الأحزاب الديمقراطية الوطنية في الدول الكولونيالية للتحول الى أحزاب اشتراكية تقاربت برامجها الاجتماعية ورؤاها الفكرية مع التيار البلشفي وتجربته الكفاحية .

إن انسداد التطور التاريخي للمنظومة الاشتراكية في الدولة السوفيتية فضلا عن سيادة الاستبداد السياسي أحدث تصدعات جديدة في الحركة الشيوعية تركزت حول الموقف من الشرعية الديمقراطية للحكم وسلطة الطبقة العاملة فضلاً عن أساليب الوصول الى السلطة السياسية وما أفرزته تلك السجالات من ابتعاد الأحزاب الشيوعية الأوربية عن أهم الموضوعات الفكرية للمنظومة الماركسية المتمثلة بسلطة الطبقة العاملة واعتماد النهج السلمي عبر الشرعية البرلمانية وما اصطلح على تسميته الأورو شيوعية ( * ) .
أن التجربة التاريخية لشكل الحكم في البناء السوفيتي المتسم بسيادة الحزب الواحد وغياب الديمقراطية والتعددية السياسية وكذلك البناء الاقتصادي السوفيتي المستند الى إحداث التراكم الابتدائي الرأسمالي الذي رفعته الدولة الى سياسة رسمية وما نتج عنه من تفكك الوحدة الكفاحية بين الطبقة العاملة والفلاحين أفضى الى انسداد بناء نموذجا اشتراكيا إنسانيا قادرا على مواكبة التطورات السياسية / الاقتصادية.

خلاصة القول لقد أثبتت التجربة التاريخية أن نموذج الدولة الاشتراكية السوفيتية لم يكن سوى نموذجا مقارباً لبرامج الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الاجتماعي بفارق يكمن في اختلاف طبيعة السلطة حيث أدت المنظومة السياسية للدولة الاشتراكية بقيادة الحزب الواحد الى بناء الممهدات التاريخية لتحول القوى الحزبية البيروقراطية الحاكمة الى طبقة برجوازية جديدة بعد استحواذها على ملكية الدولة . ( ** )

2

ــ الفكر الاشتراكي وانهيار التجربة السوفيتية.


أدى انهيار التجربة الاشتراكية ونموذج دولتها الاحتكارية الى كثرة من التساؤلات منها هل يمكن لأحزاب اليسار الاشتراكي في البلدان العربية الاستمرار في تبني المرتكزات الفكرية للتجربة السوفيتية ؟ . هل تتمكن تلك الأحزاب التحول الى أحزاب اشتراكية ديمقراطية بعد تبني العديد منها أفكار الشرعية الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة ؟ . وأخيراً هل يفترض الطور الجديد من التوسع الرأسمالي البحث عن رؤى فكرية وأساليب كفاحية جديدة تتناسب ومواقع الأحزاب اليسارية في الدول الوطنية .
تنطلق مقاربتي لهذا التساؤلات من موضوعتين هامتين أولهما التأكيد على أن التجربة السوفيتية كمنظومة فكرية سياسية لا يمكن الأخذ بها في الطور المعولم من التوسع الرأسمالي بل يمكن لأحزاب اليسار الاشتراكي الاستفادة من تلك التجربة التاريخية . أما الموضوعة الثانية والتي تشكل مضامين مداخلتي فتشير الى عدم أمكانية استنساخ تجربة أحزاب الاشتراكية الديمقراطية بسبب اختلاف المراحل التاريخية للتوسع الرأسمالي مواصلاً تعليل فرضيتي المتلخصة بضرورة تحويل اليسار الاشتراكي الى يسار ديمقراطي فاعل في التشكيلات العربية الاجتماعية.
أن رؤيتي المتضمنة عدم استنساخ تجربة أحزاب الاشتراكية الديمقراطية تستند الى وقائع تاريخية يمكن إجمالها بالمعطيات التالية : ـ
ـــ نشأت أحزاب الاشتراكية الديمقراطية في إطار تشكيلات اجتماعية / اقتصادية رأسمالية ناضجة في تمايزها الطبقي الامر الذي آهلها للخوض في نزاعات طبقية لصالح الطبقة العاملة تواصل ضمن التطور التدريجي للديمقراطية البرجوازية حيث اكتسب ذلك الكفاح خصائص وطنية وبهذا المعنى أشير الى أن أحزاب الاشتراكية الديمقراطية تبنت موضوعتي تعدد أشكال الملكية والديمقراطية السياسية معبرة بذلك عن المصالح الطبقية المختلفة لقوى تشكيلاتها الاجتماعية الامر الذي أهلها لاستلام السلطة وبناء دولة الرفاه الاجتماعي المتمثلة بصيانة الدولة لشبكة الضمانات الاجتماعية والسياسية .
ـــ أفضى بناء دولة الرفاه الاجتماعي بعد الحرب العالمية الثانية الى ظهور دولة مغايرة للتجربة السوفيتية معتمدة على دور الدولة في تطوير شبكة الضمانات الاجتماعية المتلازمة والشرعية الديمقراطية.
ــــ بسبب انهيار التجربة السوفيتية وتواصل ألازمة الرأسمالية العالمية تراجع دور الاشتراكية الديمقراطية الأمر الذي جعلها تبحث عن طريق ثالث يجمع بين السلم الاجتماعي والتوازنات الطبقية . ( *** )

إن نشوء وتطور أحزاب الاشتراكية الديمقراطية والتغيرات التي رافقت مسارها التاريخي تتطلب مقارنتها مع الشروط التاريخية لنشأت أحزاب اليسار الاشتراكي العربي والتي يمكن إجمالها في المعطيات التالية: ــ
ـــ تبلور بناء الدول العربية ونظمها السياسية في مرحلتي الكولونيالية والاستقلال الوطني وبهذا فان تشكيلاتها الاجتماعية عجزت عن إنتاج نظم سياسية نابعة من تناقضاتها الداخلية بسبب ارتباط تلك الدول بالعامل الخارجي ونزاعاته الدولية .
ــــ دفع غياب القوى الاجتماعية المتناقضة في التشكيلات العربية أحزاب اليسار الاشتراكي الى تبني النماذج الأيديولوجية السائدة في السياسة الدولية حيث تبنت معظم أحزاب اليسار العربي التجربة السوفيتية راغبة بذلك بتطوير بلدانها عبر فك الارتباط مع الاقتصاد والهيمنة الرأسمالية.
ــــ الاعتماد على المنظومة الفكرية / السياسية / التنظيمية السوفيتية أنتج الروح الانقلابية لدى أحزاب اليسار الاشتراكي بهدف استلام سلطة الدولة باعتبارها الرافعة الأساسية للتغيرات الاجتماعية وإما افرزه ذلك من ضعف الروح الديمقراطية في بنائها التنظيمي .
ـــ أضاف انهيار التجربة السوفيتية ونموذجها السياسي / الاقتصادي ودخول العالم مرحلة العولمة الرأسمالية صعوبات جدية إمام الدول الوطنية التي تعاني من ظواهر التشظي القومي والطائفي الناتج عن عمليات تهميش الدول الوطنية وتحجيم سياستها الاقتصادية المستقلة .

3

ـ العولمة الرأسمالية وتطورها المتناقض

ـــ قبل الحديث عن أهمية انتقال أحزاب اليسار الاشتراكي الى أحزاب لليسار الديمقراطي و تأكيد مشاركتها المستقبلية في تطوير بلداننا العربية لابد من تحليل طبيعة ( عصرنا الراهن ) والتي يمكن تحديدها في الموضوعات الاقتصادية / السياسية التالية : ـ
ــ افرز الطور المعولم من التوسع الرأسمالي ترابطات اقتصادية / سياسية بين دول العالم على قاعدة سيادة السوق الرأسمالي في العلاقات الدولية .
ـــ تحكم قانون الاستقطاب المعولم في السوق الرأسمالي وما ينتجه من تقاربات بين الدول الكبرى بسبب تواصل عمليات الاندماج بين الشركات الدولية وما تفرزه تلك الاندماجات من تأثيرات متعددة الأشكال على مسار تطور العلاقات الدولية .
ــــ بموازاة ميول الاندماج أفرز قانون الاستقطاب المتحكم في السوق الرأسمالي تهميشاً عالمياً تبدى بطوابق متعددة منها تهميش الدول الوطنية وتحجيم دورها في السوق العالمية ، ومنها تهميش التشكيلات الاجتماعية من خلال تشظيتها الى هويات فرعية اثنية طائفية ، ومنها تفكيك قوة العمل الوطنية وتخريب وحدتها الطبقية، وأخرها مخاطر إلحاق المناطق الغنية بالاحتكارات الدولية وما يحمله ذلك من نزاعات اجتماعية داخلية تفضي الى تفكك الدول الوطنية .
ـــ أن تشظي الروح الوطنية والتفاوتات الاجتماعية التي أفرزتها ميول التهميش شكلت الممهدات المادية لنشوء نزاعات اجتماعية مستقبلية تتسم بنزعات فوضوية ، الامر الذي يشترط تقوية الوظائف القمعية للدول الوطنية المتشظية.

ــ استناداً الى ذلك فإن مسار السياسة الدولية المتناقض يتجلى بتنازع مشروعي الموازنة الوطنية / الدولية ومشروع التبعية والإلحاق الذي يشترطه قانون الاستقطاب في المرحلة الجديدة من التوسع الرأسمالي .

على اساس تلك الفرضية الفكرية نواجه بالسؤال الكبير التالي : كيف تتبدى التناقضات الرئيسية في السياسية الدولية ؟ . وما هي الكتل الاجتماعية الوطنية المتنازعة حول مشروعي التطور ؟ .

لغرض متابعة أثار التناقض الرئيسي وتجلياته السياسية /الاجتماعية لابد لنا من تأطيرها في المحددات التالية : ـ

1: ـ على صعيد السياسية الدولية : ـ

ــ يتجلى التناقض الرئيسي بين مشروعي التبعية والإلحاق ومشروع توازن المصالح بأشكال مختلفة منها تدويل النزاعات الاجتماعية الوطنية ومنها استخدام القوة في العلاقات الدولية ، ومنها التدخل في صياغة الأنظمة السياسية ومنها استخدام المؤسسات المالية لهيكلة الاقتصادات الوطنية وأخرها فرض العقوبات الاقتصادية.

2 : ـ القوى الاجتماعية الساندة لطرفي التناقض

ـــ أفرزت الحركة المتناقضة لقانون الاستقطاب الرأسمالي تناقضات اجتماعية تبدت بظهور تكتلين اجتماعيين كبيرين الأول منها تكتل الطبقات السائدة المتمثلة بشرائح البرجوزاية المالية ، التجارية ،العقارية والخدمية / السياحية المترابطة مع التكتلات الدولية والمتجاوبة ومشروع التبعية بصيغة الإلحاق. أما التكتل الاجتماعي الأخر المناهض يتشكل من كتل شعبية تتعدد مصادرها الاجتماعية تضم خليطا من شرائح وقوى طبقية مختلفة أهمها القوى المنتجة وفصائل الطبقة الوسطى فضلاً عن أجزاء من البرجوازية الوطنية الراغبة بتوسيع سوقها الوطنية وتطوير قاعدتها الإنتاجية.

3 : ــ النزاعات السياسية لطرفي النزاع الاجتماعي .

ـــ يتبدى النزاع السياسي الدائر بين القوى الاجتماعية المتنازعة في التشكيلات العربية بشكل ملموس بين برنامج القوى الاجتماعية المتحالفة والاحتكارات الدولية الراغبة في بناء ازدواجية الهيمنة الوطنية / الخارجية وبين مشروع التكتل الاجتماعي المطالب بتعزيز دور الدولة واستقلال تنميتها الاقتصادية .

4 : ـ الأطر التنظيمية للقوى الاجتماعية المتنازعة .

ــ رغم افتقار برنامج القوى الاجتماعية المتحالفة والاحتكارات الدولية الى مؤسسات حزبية فاعلة إلا أن نشاطها في مراكز الدولة الأساسية ، المؤسسات المالية والمفاصل التجارية /الخدمية يكسب نشاطها الاقتصادي والسياسي سمة ( الشرعية الوطنية ) من قبل المؤسسات الدولية .

ــ وبالعكس من ذلك يتصف النشاط السياسي للكتل الاجتماعية المناهضة لبرامج التبعية بعدم وجود مؤسسات سياسية فاعلة لقيادة نشاطها السياسي ناهيك عن عدم وضوح أهدافها السياسية والبرنامجية المناهضة لسياسة الإلحاق لهذا فان كفاحها المعارض لسياسة الهيمنة والإفقار يتبدى أحياناً في تحركات سياسية موسميه غير منتظمة سرعان ما تتعرض للانطفاء والتراجع .

استناداً الى التغيرات الدولية التي احدثها الطور المعولم من التوسع الرأسمالي ونتائجها على الدول الوطنية وتشكيلاتها الاجتماعية يجابهنا السؤال التالي : ـ هل هناك إمكانية لبناء مؤسسات اجتماعية سياسية يسارية قادرة على قيادة التكتل الاجتماعي المناهض للتبعية والإلحاق ؟. وهل توجد مستلزمات فعلية لتطوير كفاح تلك المؤسسات اليسارية نحو بناء دول وطنية ديمقراطية قادرة على موازنة مصالحها الوطنية مع العالم الخارجي ؟ .

4

ــ اليسار الديمقراطي وسماته الفكرية.

لمقاربة الأسئلة المثارة يجب التأكيد على الموضوعة الفكرية الرئيسية للبحث والتي يتلخص مضمونها في [ أن تغيرات السياسة الدولية التي أنتجها الطور المعولم من التوسع الرأسمالي تعمل باتجاه تحول روابط تبعية الدول الوطنية التي ميزت حقبة المعسكرين الى ركائز لاندماجها بصيغة الإلحاق ] وما يشترطه ذلك من ضرورة [ تحول أحزاب اليسار الاشتراكي في البلدان العربية الى أحزاب يسارية ديمقراطية ] تشكل وريثاً تاريخياً لكل ما اختزنته التجربة الكفاحية للحركة الوطنية الديمقراطية العربية و فاعلا نشطاً في صيانة الدول الوطنية من الإلحاق والتهميش .

لغرض إكساء شرعية فكرية معللة على الموضوعات الفكرية الرئيسية للبحث لابد من تأطيرها بالمحددات التالية : ــ

1:ــ يشترط الطور المعولم من التوسع الرأسمالي وما نتج عنه من تحول الطبقة البرجوازية وخاصة شرائحها المالية الى طبقة ( أممية ) التلازم بين الوطنية والأممية من خلال بناء دول وطنية ديمقراطية تسعى الى تحقيق هدفين اساسيين احدهما بناء الدول الوطنية المتعددة القوميات على قاعدة فدرالية ديمقراطية تشكل ضمانة سياسية لوحدتها الأممية، وثانيهما إقامة الروابط الكفاحية والعلاقات الأممية مع القوى الاجتماعية في الدول الأخرى المناهضة لميول التخريب والتهميش .
2: ـــ بناء الدول الوطنية الديمقراطية يشترط تطوير شبكة الضمانات الاجتماعية على قاعدة التوازنات الطبقية للتشكيلات الاجتماعية بهدف تعزيز وحدتها الوطنية .
3 : ــ بسبب ميول الاندماج المتسارعة التي تشترطها التحولات الاقتصادية الدولية بات ضروريا تطوير المفهوم الديمقراطي للوحدة القومية بمعنى إعادة بناء مفهوم التقارب الاقتصادي العربي المتمثل ببناء سوق عربية مشتركة تشكل في نهاية المطاف عتبة سياسية نحو البناء الكونفدرالي للدولة العربية الواحدة .
4 : ــ إن تطوير المفهوم الديمقراطي للوحدة القومية يترابط وتطوير العلاقات المشتركة مع المحيط الإقليمي الذي يساهم بدوره في بناء توازنات إقليمية مشتركة فضلا عن توسع قاعدة الكفاح المناهض للهيمنة الخارجية . ****
5: ــ تشكيل جبهة اجتماعية وطنية / إقليمية يساهم في الحد التداخلات الدولية التي يشترطها الطور المعولم من التوسع الرأسمالي الهادف الى بناء ازدواجية الهيمنة الداخلية / الخارجية وما ينتجه ذلك من تدويل النزاعات الاجتماعية والتحكم في مسار السياسية الوطنية.

إن تحول أحزاب اليسار الاشتراكي الى أحزاب يسارية ديمقراطية قائدة للتكتل الطبقي الاجتماعي المناهض للتبعية والإلحاق يتطلب تكييف أبنيته التنظيمية ولوائحه الداخلية من خلال : ــ
ـــ تكييف البنية التنظيمية السابقة بعد نبذ سماتها العسكرية / المراتبية ـ تمشياً وأهداف أحزاب اليسار الديمقراطي المتمثلة بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة السياسية .
ــــ محاورة الرؤى الفكرية المختلفة الهادفة الى بناء دول ديمقراطية بضمانات اجتماعية وعدم الاعتماد على رؤية فكرية واحدة وما يعنيه ذلك من مواكبة التغيرات الدولية / الوطنية المتسارعة.
ـــ التجديد الفكري المتواصل المرتكز على ملاحقة التغيرات الدولية / الوطنية وتعليلها فكرياً بهدف تطوير قدرة الطواقم القيادية على تحليل طبيعة التغيرات الاقتصادية / الاجتماعية.

ـــ يتجاوب تجديد اللوائح الداخلية لأحزاب اليسار الديمقراطي ومضامين نهوجها السياسية المستندة الى مصالح قاعدتها الاجتماعية ومهامها السياسية / الاجتماعية الملموسة المنبثقة من الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.

ــ يشكل الخط السياسي وحاضنته الفكرية المتماشية ومهام اللحظة التاريخية الملموسة أساسا سياسياً / فكرياً لوحدة النشاط السياسي لحزب اليسار الديمقراطي.

بهذه العدة الفكرية السياسية التنظيمية بإمكان اليسار الديمقراطي المتجاوب والطور الجديد من التوسع الرأسمالي أن يتحول كما أزعم الى قوى سياسية / اجتماعية قادرة على النهوض بشعوب المنطقة بما يخدم مصالحها الوطنية / الديمقراطية .


استناداً الى الرؤية التاريخية المقارنة ومنطلقاتها الفكرية وتغيراتها السياسية لابد من صياغة الاستنتاجات التالية : ـ

أولا: ـ ترابطت تبدلات الفكر الاشتراكي ومنظومته الفكرية / السياسية مع تطور حركة رأس المال التاريخية وتغيراتها الدولية .

ثانياً : ـ عبرت التيارات الفكرية والتجارب الاشتراكية ـــ اشتراكية ديمقراطية ، بلشفية سوفيتية ، شيوعية أوربية ، ماويه صينية وتجربة يوغسلافية ـــ عن تجليات ملموسة لمفهوم العدالة الاجتماعية ولهذا فان تلك التجارب التاريخية شكلت إضافات فكرية ملموسة لتطور الفكر الإنساني .

ثالثاً: ـ إن مهام اليسار الديمقراطي في الدول الوطنية لا تتماثل والتجارب الاشتراكية التي اندلعت في القرن المنصرم بسبب اختلاف مضامين المراحل التاريخية لحركة التوسع الرأسمالي وتباين الأهداف التاريخية الملموسة المطروحة أمام حركة الفكر اليساري العالمية .

رابعاً: ـ الأخذ بصيغة اليسار الديمقراطي في البلدان العربية تشترطها المهام الجديدة التي تطرحها العولمة على القوى الوطنية الديمقراطية والمتمثلة في بناء الدولة الوطنية الديمقراطية وصيانة تشكيلاتها الاجتماعية من التهميش المتواصل.




الهوامش


* لقد نظر زعيم الحزب الشيوعي الأسباني سنتياغو كاريللو للاورو شيوعية في كتابه الموسوم الاورو شيوعية والدولة الصادر باللغة العربية عن منشورات مجلة ( الثقافة ) الصادر في بغداد سنة 1978 .

** إن نموذج الدولة السوفيتية بملكيتها العامة لوسائل الإنتاج وإنتاجها المخطط ومنظومتها السياسية شكلت أداة أساسية لتحول الفئات البيروقراطية الحزبية الحاكمة عند مرحلة تاريخية محددة الى طبقة قومية برجوازية بعد استحواذها على الملكية العامة والتعاونية لوسائل الإنتاج. وبذات السياق نشير الى أن الحزب الشيوعي الصيني وبعد سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية أصبح المؤسسة السياسية الضامنة لتحول الاقتصاد الاشتراكي الصيني نحو السوق الرأسمالية. وهنا تجدر الإشارة الى أن النموذج الصيني وسوقه (الاشتراكي ) يقترب من الاشتراكية الديمقراطية الأوربية ولكن بسلطة استبدادية تفرضها عمليات استكمال النضوج الطبقي للطبقة الرأسمالية الصينية .

***ــــ أدت التغيرات الدولية بعد انهيار التجربة السوفيتية الى تبني بعض فصائل الاشتراكية الديمقراطية لتوجهات الليبرالية الجديدة متخلية بذلك عن دورها التاريخي المتوازن .

**** على الرغم من نهوض مراكز إقليمية تسعى الى السيطرة على مجالها الإقليمي استناداً لقانون التطور المتفاوت الملازم لتطور الدول الرأسمالية إلا أن التعاون الاقتصادي المشترك بين الدول الإقليمية يفضي الى بناء توازنات وطنية / إقليمية / دولية .



https://www.ahewar.org/lc
مركز دراسات وابحاث الماركسية واليسار