في ألذكرى الأولى لرحيل عوني كرومي: ألموت أحتجاجا على أغتيال الحياة

كريم بياني

2007 / 5 / 29

في ذكرى رحيلك الاولى أيها الطفل الخجول، أجدني عاجزاً عن لمَ كلماتي من شتاتها، يخونني التعبير وتهيم مني المفردات. فألاشياء الاثيرة والجميلة في حياتنا تستعجل دائما الرحيل... رحلت كما الفراشات.. كما ألازاهير في مواسمنا الحزينة.. لكن عزائنا أنك تبقى الحاضر المتوهج... وتبقى ألمتألق أبداً.
برحيلك ايها المتألق فقد العراق، هذا الوطن الذي تغتال فيه الحياة على مدار الساعة وفقدنا نحن هنا أحد صناع الحياة، فجاء رحيلك رفضاً واحتجاجا على هذا القتل المتعمد للحياة. لقد كنت مسكونا بهمّين؛ هما المسرح والوطن، وكنت تعيش تحت وطأة هاجسين هما الحرب والمنفى. تقتل الغربة بالهروب الى الوطن الثاني؛ المسرح، في اي مكان يكون وكيفما يكون، مهرجانا، منتدى، ورشة عمل، عرضا، فقد كنت ورشة عمل متنقلة.
ومعاني كلماتك لاتزال تجول في الخاطر مرددة أن المنفى كما الحرب يحيل حياة الانسان الى جحيم، في جحيم الحرب تفقد حياة الانسان كل معانيها والوانها، وفي جحيم الغربة والمنفى يفقد الانسان القدرة على التواصل، والحرب تؤدي الى المنفى؛ ويغيب الوطن ولا يبقى الا المسرح بلغته القادرة على كشف معاناة الإنسان اينما يكون.
أنت المنفيّ والمغترب ونحن المنفيّون، إلتقينا صدفة على دروب البحث عن الوطن، نلتمس الدفء هربا من صقيع هذه المدن اللامبالية. ولم يستلزم الامر جلسات للتعارف ولم يتجاوز زمان ومكان تلك الصدفة وكأننا اصدقاء فرقهم الدهر والتقوا خلسة في غفلة منه، تمخضت الصدفة عن عمل وكان العمل بطبيعة الحال مسرحا.
وكأني بنا وجدنا وطنا، تجاوزنا كل ما يعيق فرصة الالتقاء على ارضه، والتقينا، وتجسدت لقاءاتنا صراخا قذفناه في وجه هذا الصمت الاخرس الذي لايزال يلف حاضر انساننا ويعبث بمستقبله، نعم.. جمعنا نص اديبنا الجميل (محي الدين زنكنة) ليكون فرصة لك، كي تترك بصمة مادية وعملية على تجربة المسرح الكردي، مثلما كان لك بصمات في اعداد العشرات من القدرات المسرحية الكردية التي كانت تتلمذ على يديك وتترجم الان تلك الخبرات الى مشاريع تؤسس لمستقبل المسرح الكردي، وفرصة لنا من جانب اخر كي ننهل من علمك وتجربتك الفنية والحياتية، وكم كنتَ كريما في منح وايصال ما تملك من علم وتجربة وهذه هي صفة العلماء المربين، وتحولت لحظات البروفة الى دروس، كنا نتناقش ونتدارس ونحتج ونعترض وصدرك الرحب يحتوي كل الاراء والاحتجاجات، وتمنح الفرصة للذين يعملون معك كي يكون لهم ايضا بصمات على خطة ومسار العمل.
كنت تتفاعل مع اللغة الكردية وكأنك تجيدها، وتقول انني احس بها من خلال تفاعل الممثلين معها ومن خلال وقع الكلمات على تعابير وجوههم وجرسها لحظة تنطق بها شفاههم.
هذا العمل أو ربما هذه الشخوص جعلتك تتحمس لتجربة العمل مع المسرح الكردي، فاقترحت عملا اخر، بعد ان قرأتُه قمتُ بترجمته فوراً، ليس هذا فقط لكن لشدة اعجابي به قمتُ بأعداده أو تكريده إن صحّ التعبير، لأنّه كان ينطبق ولا يزال على الواقع السياسي الكردي، واقصد هنا (مسافر الليل) الذي حالت ظروف دون تنفيذه وقدَّمتَه انت لاحقا باللغة الالمانية. واجرينا الاتصالات كي تقيم ورشة عمل مسرحي في كردستان وتم استحصال الموافقات وتعثر التنفيذ ايضا.
ترحل... وتبقى المتألق ابدا.. تحل اليوم الذكرى الاولى لرحيل جسدك، لكن حضورك في الوجدان والذاكرة لازال قوياً ومفعماً وشيئاً جميلاًً.. وروحك الطاهرة ترفرف وتحوم الامكنة التي طالما التقينا فيها. تجدد فينا الحنين وتثير في النفس الحسرة على فقد الاشياء الجميلة وحزناً على عمرها القصير.
تمُنّ الايام علينا أحيانا بفرص نادرة، نصادف خلالها وجوها ليست ككل الوجوه، وننعم بدفء قلوب ليست ككل القلوب، هكذا كنت انت، عرفناك انساناً يعيش الحياة ويمارسها الى حدودها القصوى، انسانا منسجما مع نفسه، عاشقا لرسالته المسرحية، محباً ومحترماَ لعمله. مؤلمٌ أن لاتكون الان بيننا.
لازالت هداياك التذكارية تزين ارجاء غرفتي؛ وفرحة (شند)1 تملأ الكون كلما شع السوار الذهبي في معصمها الرقيق، عندما تكبر ستعرف انه كان هديتك، حملته وانت عائد من احدى اسفارك المسرحية. كلماتك الرقيقة التي صغت منها تعابير مفعمة بالمودة ستظل تدغدغ في المشاعر وتثير في دواخلي النشوة وتترك في القلب حزنا جميلا يفيض بين الحين والاخر دموع محبة ووفاء.
وأعود الى لحظات الوداع الحزينة، ذلك اليوم الحزين والطويل والكئيب الممتد من لحظات القداس في الكنيسة... والى مراسيم الدفن في المقبرة الى جوار (بريشت) هذا الانسان الذي خصّصتَ له الكثير من جهدك الاكاديمي البحثي والمسرحي وتشاء ألاقدار أو ربما يشاء المنفى أن يكون مثواك ألأخير الى جواره. (عمر)2 كان هناك و(موفق)3 وزوجتي وأنا. في اللحظة التي كان جسدك يودع الثرى، كل واحد منا اتخذ له مكانا قصيّاً من تلك الارجاء الحزينة بعيدا عن الاخر، كل واحد أراد ان يمارس طقوس حزنه وحيدا وعلى طريقته، في اللحظة التي كانت الورود والازهار تنهال على جسدك آثرتُ ألاّ ارافق (هلات)4 في هذا الطقس وهي تحمل وردتين، في تلك اللحظة التي كانت تهم فيها بألقائهما اشحتُ بوجهي كي اخفي دموعاً حاولت على مدار تلك الساعات من الكنيسة والى هناك حبسها؛ فإذا بدموع (عمر) تنهال كما المطر الذي كان ينهمر غزيراًً في تلك اللحظات، ومن حيث لاندري وجدنا انفسنا نرنو الى البعض في مكان واحد كأننا نبحث عن مُواس يمسح من على خدودنا الدموع، وبصمت كما الصراخ ودعناك وغادرنا ذلك المكان.

1، 4. شَند ابنة الكاتب و هلات زوجته.
3،2.. الفنانين الكرديين عمر توفي و موفق رشدي، بطلا مسرحية صراخ الصمت الاخرس التي أخرجها الراحل عوني كرومي باللغة الكردية عام 1999 في برلين.
(تنويه: في الجزء 2 سوف اقدم بعض ما سجله الراحل عن تجربته مع المسرح الكردي من خلال مسرحية صراخ الصمت الاخرس)



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن