النساء في لوحات جبر علوان قصائد ملوّنة

عماد فؤاد

2007 / 5 / 26

لوحات الرسام العراقي جبر علوان في معرضه القاهري الأول, غير قابلة للتأويل أو التفسير, كونها حالات لونية, تقبض على لحظات منفلتة لا يشعر بها أحد. فالنسوة اللواتي يخرجن من بين العتمة, متشحات بنور لا يستطيع المشاهد تحديد مصدره الحقيقي, كأنهن حوريات خرجن للتو من جنات لا نعرفها, تظلل نظراتهن معان لا تخرج عن قاموس الوحدة والمكابدة, وعن أبجدية الشوق والحنين إلى مجهول ينتظرنه بفارغ صبر. في لوحته "التضاد في الأخضر والأحمر", يرصد جبر علوان مشهداً لامرأة تجلس إلى طاولة صغيرة, فيما يحتل المقعد المقابل لها معطف بلا جسد. وعلى رغم ضبابية اللوحة وتشظي ألوانها في لمسات سوريالية خاطفة, إلا أن انكسار رأس المرأة في مذلة وخضوع, ليس في حاجة إلى تأويل. فرأسها المهزوم قال كل شيء من دون لغة أو كلام. وفي لوحة أخرى حملت عنوان "تتطلع نحو الأزرق", نرى امرأة تضع يدها اليمنى على صدرها في انكسار آخر, وتشيح بوجهها المنقبض عن النافذة المفتوحة أمامها, وتستند بيدها اليسرى إلى ساقها المنثنية تحتها.

كل امرأة هنا تستمد كينونتها من اللون, من هذا المزيج اللوني الأخّاذ, ومن ثم لن نستغرب عنوان معرض جبر علوان: "المرأة, حالات وألوان". فالنسوة لدى الفنان العراقي الذي خرج من بلده في 1972, متجهاً إلى إيطاليا لدراسة النحت ثم الرسم, يتساوين مع الألوان, ولكن من وجهة نظر أخرى وجديدة. فاللون لدى علوان لا يعكس تأويلاته الأكاديمية المتعارف عليها, الأخضر ليس رمزاً للأمان أو الخصوبة, وليس الأحمر إشارة إلى الدم أو الحرمان الجنسي, وليس الأسود تعبيراً عن الحزن أو الافتقاد... كل لون يؤول بحسب التكوين الذي يوضع فيه, وبحسب المرأة التي تطالعنا من قلب اللوحة. في لوحة "على الكنبة البيضاء", نرى امرأة تجلس عاقدة ذراعيها على صدرها في أقصى يسار اللوحة, وكأنها ستهم بالوقوف في أية لحظة, فيما تركت المساحة اليمنى من الكنبة خالية لتنم عن فراغها الذي ينتظر من يشغله. وعلى خلاف هذه اللوحة, نرى في لوحة "الكنبة الصفراء" امرأة ينساب على جسدها قميص أخضر, فيما تضطجع مسترخية بطولها الفارع على مساحة الكنبة بأكملها, حيث لا انتظار لأحد سيأتي, فهي مكتملة بذاتها.

جبر علوان يدخل عالمه التشكيلي متخلياً تماماً عن أي اتجاه أكاديمي أو مدرسي تعلمه في صباه, وتظل لوحاته بعيدة من التشخيصية بقدر ما هي بعيدة من التجريدية, في شكل أقرب ما يكون إلى التعبيرية الحسية. فحركة الريشة الأولية سببها الرئيس هيمنة شعورية تبحث لنفسها عن تعبير آني ومباشر, تعبير لا توفره سوى ضربات الفرشاة على سطح لوحته. وهذا السطح يكسوه عادة لون واحد يسيطر على كل الألوان المجاورة له. وتتخذ اللوحة في العادة اسمها من سيطرة هذا اللون. وهذا ما يتضح في معرضه القاهري, الذي افتتح أخيراً في غاليري غرانت, ويضم 21 لوحة زيتية, رسم الفنان معظمها في القاهرة, ووضع لكل لوحة عنواناً مستمداً من اللون الرئيس فيها, فنقرأ: "التضاد في الأخضر والأحمر", "على الكنبة البيضاء", "حوار مع الأحمر", "في الأخضر", "سواد على بياض", "أثر الأحمر", "إغراق في الأحمر"...

في هذا المعرض, ينحاز الفنان العراقي بقوة إلى المرأة مستخرجاً من داخلها الشعر الذي تستطيع ريشته استخراجه, وهو شعر يعصر القلوب كأنه قبضة شجن عراقية خالصة. فجبر علوان, الذي ولد في العام 1948 في قرية "المحاويل", إحدى ضواحي مدينة "الحلة" في بابل, كان الطفل الثالث لأمه بعد طفلين ماتا, وهو ما جعله يرى منذ كان طفلاً مدى الوحدة والعزلة اللتين تعيشهما أمه. وتعلّم مبكراً الوقوف الى جانب هذه الأم التي تبحث بنظراتها دوماً عن سند ومعين. يبرّر جبر علوان نفسه انحيازه الدائم الى المرأة في أعماله قائلاً: "انحيازي الى المرأة في معرضي الجديد ينبع من عشقي الدائم لها, فالمرأة بالنسبة إلي تمتلك تأثيراً كبيراً فيَّ منذ وعيت هذه الحياة, من خلال العلاقات التي ربطتني بها, مذ كنت طفلاً وحتى كبرت وشببت عن الطوق, منذ أمي ثم شقيقاتي ثم حبيبتي فالزوجة والأخوات والصديقات. يمثل لي هذا المعرض رصداً لواحدة من أهم الركائز التي يقوم عليها الفن لدي, ألا وهو مكانة النساء في حياتي".

على مدى الثلاثين سنة الماضية, استطاع جبر علوان أن يشق لنفسه طريقاً خاصة ميزته عن التشكيليين العراقيين والعرب الآخرين. وعلى رغم عيشه منذ سنوات طويلة في العاصمة الإيطالية روما, إلا أن حضوره الفني لم يغب لحظة عن الحركة التشكيلية العربية, خصوصاً مع حرصه المستمر على إقامة معارضه التشكيلية في العواصم العربية والعالمية.

الدراسة الأكاديمية لجبر علوان امتدت سنوات طويلة, بدأت في معهد الفنون في بغداد, ثم أكملها في أكاديمية الفنون في روما, ليدرس أولاً النحت, ثم يتركه من ثم بسبب ظروفه المعيشية الصعبة, إلى دراسة الرسم. عن مدى تأثير دراسته النحت في عمله التشكيلي يقول: "النحت أفادني جداً كفنان ورسام, درسته ثلاث سنوات في الأكاديمية الإيطالية. ثم توقفت عن دراسته بحكم ظروفي المادية الصعبة آنذاك, لأنني كنت أنفق على نفسي ولم أستطع مواصلة الدراسة, وهي الظروف التي دفعتني للعمل في كل شيء حتى أكمل دراستي. عملت رساماً في الشوارع وكنت أرسم البورتريه بألف ليرة إيطالية, وخلال هذه الفترة عملت في المطاعم والمتنزهات, و"كومبارساً" في الأعمال السينمائية الضخمة. النحت لدي موجود في الكتلة التي أرسمها, وستجد أن اللوحة تتعامل مع كيان وليس مع تجريد, في هذه الفترة الصعبة من حياتي أحببت الرسم أكثر, وبدأت أوليه العناية التي يستحقها مني".

يطوف جبر علوان, منذ العام 1975, معظم المدن الأوروبية مع لوحاته: روما, لندن, بروكسيل, باريس, فيينا. وأقام الكثير من المعارض الشخصية في المدن العربية, ومنها: دمشق, بيروت, دبي, بغداد, عمان, المنامة, حلب, وها هو الآن في القاهرة, يومئ إلي ونحن نشاهد لوحاته التي احتلت جدران الغاليري, قائلاً: "هناك فارق شاسع بين المتلقي الأوروبي والمتلقي العربي في ما يخص الفن التشكيلي. المتلقي العربي مجبر على تلقي حياته كما هي منذ أن يولد, لكن الطفل الأوروبي حين يولد يعمدونه في الكنيسة, التي تمتلئ جدرانها بالرسوم واللوحات القديمة, ومن ثم تجده منذ طفولته يتربى على هذه الفنون. روما مثلاً هي متحف كبير لكل أشكال الفنون, وبخاصة النحت والتشكيل, وبالتالي يحظى المتلقي الأوروبي منذ صغره بتربية تشكيلية تختلف عما تربينا عليه نحن في الشرق, نحن تربينا على ثقافة الكلمة التي لها علاقة بالشعر والرواية والخطابة والخطاب الديني والسياسي, ولم نترب على ثقافة الصورة مثل الأوروبيين.

ونظراً الى هذه العوامل تكون قراءة الأوروبي أو الغربي في شكل عام للفن التشكيلي أكثر دقة وتحليلاً. صحيح أن المشاهد العربي يحاول أن يجتهد لكي يصل إلى اللوحة, لكن المؤسسة الثقافية أو العائلة التي يتربى في كنفها, لا تحاول أن تطور هذا الجهد الذي يبذله المتلقي العربي. وكلامي هذا لا ينفي أن لدينا جمهوراً عربياً ممتازاً للفن التشكيلي".



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن