سؤال التعايش وامكانيات المصالحة

سعد سلوم
Saadsalloum@yahoo.com

2007 / 5 / 11

فكرة طرح موضوع المصالحة لحل النزاع القائم في العراق يأتي في ظل ظروف يندر مثيلها في المنطقة العربية، فأولا هناك نظام دكتاتوري قامت بأسقاطه دولة عظمى، تبعه ظروف انتقالية في ظل فراغ سياسي شهد تنافسا محموما على السلطة بين فرقاء تتجاذبهم استقطابات تضادية وتشرخهم خطوط انقسام عرقية و تمزقهم حدود تقسيم طائفية ومذهبية مختلفة وتحكم دينامية النزاع بينهم تجاذبات اقليمية ولعب توازنات في أكثر مناطق العالم سخونة.
لذا ينبغي في اطار طرح عملية المصالحة في العراق ان نتريث طالما النار لم تهدأ بعد، ولم تتم لحد الان تصفية الخلافات وتعبئة الصفقات وهندسة التوازنات بين المحاور الخارجية الثلاث : واشنطن، طهران، دمشق، قبل ان نتحدث عن صفقة المصالحة بين المحاور الداخلية الثلاث: السنة، الشيعة، الاكراد.
سيشكل لنا اذن تصور التعايش وامكانيات المصالحة في عراق ما بعد الصراع قفزة في الخيال، قفزة تدور حول الامل، هل أقول ان الامل اصبح عملة ثمينة ضاعت وسط ركام الحروب العبثية وذهبت مع الريح ثقة الانسان بالقدر الذي لم يعد يصنعه بنفسه. الادهى من ذلك ان قطعة الثقة المتماسكة قد تفتت الى قطع صغيرة من فقدان الثقة المتبادلة بين جيران لم يكونوا يسمحون بالتمييز بينهم على اساس عرقي او ديني او طائفي قبل عقد من الزمن.
هذه القفزة الخيالية تعبر نهرا من ميراث محزن، تحيطه على الدوام أدغال عنف ثأري متفجر، وهي خلفية نموذجية لاسوأ ما شهدته البشرية من صور الخراب خلال القرن العشرين: دولة منهارة تعيد بناء ذاتها على اشلاء متفرقة، سكان مهانون مقيمون على جمر التهديد والعنف، مشردون من المنازل يحتويهم عراء الصمت والاذلال، لاجئون يشكلون عبئا على مدن مخربة، مناطق سكنية تفتقر لادنى الخدمات الضرورية لمواصلة الحياة. عقول تهاجر وتتسكع على ارصفة عواصم العالم، الطبقات المنتجة تفر، رأس المال يهرب، غياب التنمية الاقتصادية، ارتفاع مستويات الفقر، انتشار ثقافة الفساد، غياب الشفافية والمحاسبة السياسية،ضعف الثقة في المؤسسات وفي العملية السياسية، مستويات قياسية للجريمة المنظمة، التدهور الحاد في تقديم الخدمات العامة، غياب الدولة او عدم اداءها وظائفها الجوهرية مثل حماية الناس، ،انتشار انتهاكات حقوق الإنسان، خوف وهستيريا تعم المجتمع، تدخل دول أخرى أو فاعلين سياسيين خارجيين........الخ
لدي قائمة طويلة من الاسئلة تحتاج الى اجوبة ومواقف، كما يمكن فتح قائمة لها بداية وليس لها نهاية عن مشاكل تحتاج الى حلول عاجلة. ما يسبب الاهانة القصوى للعقل انه ليس هناك اجوبة معيارية يمكن اطلاقها لتبدد الظلام عن مثل هذه الخلفية المزعجة، لكن قد يطل ظل خادع يتأرجح ليقدم لكل مجتمع، اجابه خاصة وفريدة تتضمن طرح اسلوب او نمط معين من ثقافة التعايش.
اشباح تمرق بسرعة جنونية ملحاحة داخل العقل تطلب التسكين والتلبية ويرتفع صوتها :
-كيف يمكن مواجهة فظاعات الماضي؟
-كيف نواجه تفكك البلد وتمزق نسيج المجتمع ؟
-كيف نهرب من وحشية الانسان لكي نحتمي خلف حصن انساني منيع من الايمان بالعدالة ؟
-كيف يمكن ان يصبح التعايش أطارا لدولة مستقرة ضمن نظام فدرالي؟
كما ان التحدي يتلبس اسئلة اخرى، تتطلب رسم افق اجابة عامة، يستجيب لها الخيال السياسي للنخب السياسية مع فتح المجال لمشاركة منظمات المجتمع المدني ونشطاء السلام والخبراء الدوليين. وهي تدور حول ضرورات عملية عاجلة تضع على عاتق نشطاء السلام مهام جسيمة مثل:
-كيف يمكن اعادة ادماج اللاجئين في المناطق التي اصبحوا غير مرغوبين فيها ؟
- كيف نضع حدا للنخب السياسية التي تعتاش على المخاوف المتبادلة وتتلاعب بالكراهية وتقوم بتغذيتها ؟
- كيف يمكن تضمين التقاليد والقيم المحلية ( العشائرية والدينية) في عملية إنجاح التعايش كنظام اجتماعي يمكَن السكان المنقسمين وفقا لخطوط التقسيم العرقية والدينية والطائفية من العيش معا دون الاستسلام لثنائية الكراهية الاستقطابية:اكرهه لانه يكرهني.
-كيف نستطيع ان ندمج افراد الميليشيات والجماعات المسلحة ونخرجهم من محيط العنف والكراهية ونعيدهم مجددا الى دائرة المجتمع المدني؟
مثل هذه الصعوبات واجهت نشطاء السلام واستجابوا لها من خلال الاجابة على التحدي بقوة الايمان والارادة، على سبيل المثال ظلت "ساداكو أوغاتا" كرئيسة لوكالة الامم المتحدة للاجئين تصارع اسباب النزاعات وعواقبها كل يوم، وقد ادركت ان العديد من النشاطات التي حاول المفوض الاعلى للامم المتحدة لشؤون اللاجئين أن يقوم بها تحت عنوان المصالحة، كانت صعبة التحقيق في الظروف التي أعقبت فورا انتهاء النزاع. فقد كانت فكرة المصالحة تشكل مسألة حساسة جدا بالنسبة لهولاء الذين قاتلوا بشراسة ضد بعضهم البعض.
لذا فأنها لمست بيديها صعوبة تطبيق فكرة المصالحة، وكيف ان أكثر ما يؤمل به هو التعايش.
ولكي نفهم لماذا يكون الامر على هذا النحو، علينا حسب رأيها ان نتفهم القوى المحركة التي تقف وراء النزاع. فأرضية النزاع تستمر عندما يفترض الاعضاء في مختلف الجماعات سوء النية في اعمال الجماعة الاخرى. وفي نفس الوقت لايملك اعضاء الجماعات أية ضمانات بأن الآخرين يسلمون حتى بمجرد حقهم في الوجود. وهذا العداء يحمل في طياته قابلية التحول الى عنف وحشي، يمكن ان يسمم الاجواء بشكل مؤقت وحتى بشكل نهائي.
كيف نفرق بين المصالحة والتعايش او كيف يتضح الخط الفاصل الذي نحقق فيه التعايش لكي نمضي قدما في انجاز عملية المصالحة؟ وكيف نفرق بين التسوية السياسية او الصفقة السياسية الضيقة وعملية المصالحة (هذا مع ان كل عملية مصالحة تتضمن بالضرورة نوعا من الصفقة تقوم على مبدأ ان المصالحة مربحة لكل اطراف النزاع وان الانغماس بالنزاع يسبب خسارة الجميع)
اعتقد اننا لانستطيع التحرك ضمن خرائط جاهزة، فارض المصالحة تتسع حسب خطوات الاقدام التي تسير عليها، ومن ثم يصبح الخلق اكتشافا وجائزة، لكن ذلك لا يعني تتبع حس المغامرة أو الركون لمنطق النية الحسنة وذكاء الفطرة، فقد شعر الامين العام السابق للامم المتحدة (كوفي عنان) على سبيل المثال، وهو يقف على رأس المنظمة الدولية صعوبة مهمة مساعدة المجتمعات التي مزقها الصراع على اقامة سيادة القانون وتسوية تجاوزات الماضي الواسعة النطاق، فمثل هذه المهمة وسط مؤسسات مدمرة وموارد مستنفدة وامن منقوص وسكان مصدومين ومنقسمين، هي مهمة مخيفة وغالبا ما تكون فوق الطاقة. اذ انها محاصرة بصنوف شتى من العجز: انعدام الارادة السياسية للاصلاح، انعدام ثقة الجمهور بالحكومة، انعدام الاحترام الرسمي لحقوق الانسان، انعدام الاستقلال الرسمي داخل قطاع العدالة، انعدام القدرة الفنية المحلية، واعم من ذلك انعدام السلام والامن.
كما اصبح واضحا ان بعض جهود المساعدة وإعادة الاصلاح قد تجعل الامور اكثر سوءا. فالمحاولات الخرقاء وغير الناضجة للمصالحة قد تسبب من الاذى أكثر مما تسبب من الخير. وهو الامر الذي سجله كتاب "تخيَِل التعايش معا" الذي حرره كل من : "انتونيا تشاريز" نائبة رئيس مجموعة ادارة النزاعات ومدير مشروع يتعلق بالتوافق الدولي وادارة النزاعات ضمن برنامج حول المفوضات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد و"مارثا ميناو" العضوة في المفوضية الدولية المستقلة لكوسوفو، وهو يتعلق بتطوير مشروع تعاوني عن تخيل التعايش ينطلق من نقاط رئيسية منها: ان فكرة التعايش يجب ان تغرس في كل جهد يبذل من اجل إعادة بناء المجتمع بعد انتهاء النزاع، سواء كان هذا البناء ماديا ام مؤسسيا. كما ان التعايش رغم انه يبدو ضئيلا في طموحاته في وجه النداءات الداعية الى المصالحة، ولكن هذا التواضع في طموحه يجعله قابلا للتحقيق بينما تبقى المصالحة فكرة تحمل معها المراوغة والإهانة بالنسبة لشعب ما زال يعاني من صدمة مقتل أحبائه أو تعذيبهم أو اغتصابهم.
قد يبدو لنا هذا الاحساس نقطة مضيئة ننطلق منها للادراك بأن التعايش هو الخطوة الاولى التي تسبق المصالحة والارضية التي يقوم عليها بناءها. وهو الخطوة الاكثر واقعية في ظل ظروف الكراهية والعنف، الخطوة المتواضعة والضرورية التي يمكن انطلاقا منها الانتقال الى مرحلة المصالحة عبر ممارسة نشاطات مشتركة بين اطراف النزاع، بعدها يمكن بناء ثقة متبادلة تدريجيا وتسهيل تقبلهم لبعضهم في سياق من روحية الاعتماد المتبادل.
وقبل ان نتحدث /عن ونراهن/ على ، لابد ان نتريث ونفكر ونقارن بالتجارب السابقة، وهل يمكن ان نعد تجربة العراق حاملة لقسمات عملية المصالحة؟ اذ بات مصطلح المصالحة يدور على الالسنه كثيرا" ولكنه غالبا" ما لا يعرف او يفهم بوضوح . فقد اتضح من دراسة قام يها مركز جوهانسبرج لدراسة العنف والمصالحة على ان هناك اراء شديدة التباين حول معنى المصالحة داخل المجتمعات المحلية لكن هناك محور مشترك بين الاراء كلها يدور حول "اقامة علاقة بين المجموعات او الافراد"ولكن تعريف تلك العلاقة اختلف باختلاف الثقافة والخبرات الخاصه لانتهاكات حقوق الانسان والموقع في البنية السياسية والظروف الشخصية . غير انه يبدو ان هناك اتفاق عام مشترك بين معظم الخبراء على ان المصالحة هي "عملية اكثر منها هدف يحقق".
وفي سياق عمل لجان الحقيقة والمصالحة قد يكون اهم تمييز يجب توضيحه هو التمييز بين المصالحة الفردية والمصالحة الوطنية او السياسية . ففي حين ان لجان المصالحة قد تشكل آليه مفيدة في الاقتراب من المصالحة الوطنية او السياسية بقدر ما تساعد على منع بعض الحقائق من الاستمرار في كونها مصدرا" للنزاع والحقد بين النخب السياسية ، تبقى المصالحة بين الافراد اكثر تعقيدا" وربما ابعد منالا" من خلال لجان المصالحة . اذ ان العفو ولام الجراح والمصالحة هي عمليات شخصية عميقة , كما يختلف ما يتطلبه كل فرد من عملية صنع السلام والمصالحة وما تثيره من ردود افعال
كان هناك ما لا يقل عن 25 لجنة للحقيقة تم تكوينها في مختلف أنحاء العالم منذ سنة 1974، وإن كانت تعرف بأسماء مختلفة. وكل واحدة منها كانت مختلفة عن الأخرى. فكانت هناك "لجان عن المختفين" في الأرجنتين وأوغندا وسري لانكا؛ و"لجان الحقيقة والعدالة" في هايتي والإكوادور، و"لجان الحقيقة والمصالحة" في تشيلي وجنوب إفريقيا وسيراليون وغانا وبيرو وصربيا والمونتي نغرو. و"لجنة التحقيق من أجل تقييم تاريخ الديكتاتورية وعواقبها في ألمانيا". ومؤخرا "لجنة التلقي والحقيقة والمصالحة" في تيمور الشرقية.
وتمثل هذه اللجان الآلية الأوسع انتشاراً أو الأكثر تطبيقاً التي تهدف إلى تقصي الحقائق وكشفها وتحقيق الإنصاف للمتضررين من المرحلة الأمنية السابقة وتحقيق العدالة والتعويض.فغالبا ما تطالب المجتمعات التي تعيش مرحلة انتقالية بتفسير لمدى وطبيعة العنف أو الانتهاكات التي وقعت أثناء حكم النظام السابق . وينادي الضحايا والمنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان، من بين أطراف أخرى عديدة، بكشف "الحقيقة" حول الماضي، وعادة هذا ما يكون رد فعل للنظام السابق الذي كان يعتمد على الأكاذيب والخداع. وانطلاقا من (فاتسلاف هافيل) من جمهورية التشيك ونيلسون مانديلا من جنوب إفريقيا إلى (أونع سان سوكي) من بورما، نادى نشطاء حقوق الإنسان والمدافعون عن الديمقراطية بوضع سجل دقيق عما وقع في الماضي ومن خلال ذلك يمكن التعبير عما عاناه أولئك الضحايا. وقد ظهرت ، عدة وسائل لاستجلاء الحقيقة حول الانتهاكات الماضية لحقوق الإنسان. وأشهر تلك الوسائل هي "لجنة الحقيقة".ورغم أن مفهوم لجنة الحقيقة مرتبط غالبا بمثالها الذي يمكن القول بأنه الأكثر شهرة لجنة جنوب إفريقيا للحقيقة والمصالحة – فذلك العمل كان نوعا غير معتاد من اللجان من حيث عدة أوجه. وعلى سبيل المثال، كانت هي لجنة الحقيقة الوحيدة إلى الآن التي كان لها سلطات منح العفو.
وعلى العموم، فإن مصطلح "لجنة الحقيقة" يشير إلى هيئات تتقاسم مميزات خاصة. ولجان الحقيقة هي هيئات مؤقتة، وتعمل غالبا لمدة سنة أو سنتين، وتتم الموافقة عليها رسميا أو الترخيص لها أو تخويل السلطات لها من طرف الدولة، وفي بعض الحالات، من طرف المعارضة المسلحة كذلك؛ وهي هيئات غير قضائية تتمتع بنوع من الاستقلال القانوني، ويتم تشكيلها غالبا في مرحلة من مراحل الانتقال السياسي، سواء من الحرب إلى السلم أو من الحكم الاستبدادي إلى الديمقراطية؛ وهي تركز على الماضي، وتحقق حول نماذج من الانتهاكات الخاصة المرتكبة خلال مدة من الزمن، وليس فقط حول حدث خاص بعينه، وهي تعطي الأولوية لحاجيات الضحايا والإصابات؛ وتنهي في معظم الأحيان عملها بتقديم تقرير نهائي يتضمن الاستنتاجات والتوصيات؛ وهي تركز على انتهاكات حقوق الإنسان وفي بعض الأحيان على انتهاكات المعايير الإنسانية كذلك.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن