الغزال 3

سهر العامري
aslam_326@hotmail.com

2007 / 4 / 19


ومثلما رحل يحيى بن حكم الغزال الى بغداد ، وأقطار المشرق الأخرى ، فقد رحل الى عاصمة الدولة البيزنطينية ، القسطنطينية ، كذلك ، ولكن رحيله هذا كان بدافع سياسي محض ، تمثل بشغله لمنصب سفير في تلك الدولة هذه المرة ، وقد حدثت هذه السفارة سنة 225هـ=840م ، وبعيد معركة عمورية ، التي وقعت سنة 223هـ ، بسنتين ، وكانت بيزنطة بعد هزيمتها في تلك المعركة أمام الجيش العربي بقيادة الخليفة المعتصم* قد أرادت التقرب من الدولة الأموية في الأندلس على عهد أميرها ، عبد الرحمن الثاني ، وذلك نتيجة للضغوط القوية التي كانت تمارس بحقها من قبل بغداد ، عاصمة الخلافة زمن الدولة العباسية .
لقد حل شاعرنا يحيى بن حكم الغزال برحلته تلك سفيرا لبلاده في بلاط القيصر ، تَوْفِلِس ( Theophilus) ، تلك الرحلة التي وصلنا من أخبارها خبر ليلة الأنس التي أمضاها هو مع القصير وزوجته التي حملت له معها زقا من الخمر ، طالبة منه أن يشربه مع ابنها الوسيم ، ولكن الشاعر رفض عرض الملكة هذا بقوله : إن ذلك لا يجوز له في دينه ، مع أنه ندم على ذلك فيما بعد ، وقد سطر الشاعر حديث هذه الليلة في قصيدة منها الأبيات التالية :
وأغيد لين الأعطاف رخص ...... كحيل العين ذي عنق طويل ِ
ترى ماء الشباب بوجنتيه ......... يلوح كرونق السيف الصقيل ِ
أتى يوما إليّ بزق خمر ............ شمول الريح كالمسك الفتيل ِ
ليشربها معي ويبيت عندي ................ فيثبت بيننا ود الخليل ِ
وجاءت أمه معه فكانا .............. كأم الخشف والرشأ الكحيل ِ
توصيني به وتقول : أخشى ....... عليه البرد في الليل الطويل ِ
فقلت حماقة مني ونوكا**........ فديتك لستً من أهل الشمول ِ
فأية غرة سبحان ربي ......... لو اني كنت من أهل العقول ِ ؟!
لقد اختلط أمر هذه الرحلة برحلة سفارة أخرى للشاعر كانت الى بلاد الدنمارك ، فقد ذكر جامع ديوان الشاعر ، وهو يتحدث عن شأن هذه الرحلة ، ناقلا عن ابن دحية ، قوله : ( وقد ذكر تمام بن علقمة فيما رواه عن الغزال ما يدل على أنه كان يتصرف مع الملكة بما تقتضيه الكياسة الدبلوماسية ، كما أنه نظم الشعر الذي كان يترجم لها ويسرها سرورا عظيما ) (1)
والحقيقة أن ابن دحية قد كتب في مطربه نقلا عن تمام بن علقمة ما كان يتعلق برحلة الشاعر الى بلاد الدنمارك ، لم يتعرض أبدا الى سفارة الشاعر الى الإمبراطورية البزنطينية ، وكان حديثه منصبا على العلاقة التي نشأت بين الغزال ، وبين ملكة الدنمارك . وما نقلته أنا من كلام عن جامع الديوان قبل قليل لا يخص علاقة الشاعر الغزال بملكة بيزنطة ، وإنما يخص علاقته بملكة الدنمارك ، تلك العلاقة التي كان حديث ابن دحية يدور حولها ، وفي سفارة أخرى للشاعر .(2)
وهناك من يرى أن يحيى بن حكم الغزال لم يقم في حياته كلها إلا برحلة واحدة ، هي رحلته الى بلاد بيزنطة ، تلك الرحلة التي يجري عنها هذا الحديث ، ويرفض هذا البعض ، ومن دون دليل مقنع ، حدوث رحلتي الشاعر الأخريين ، خاصة رحلته الى بلاد الدنمارك ، تلك الرحلة التي اهتم بأمرها الكثير من الباحثين العرب والأوربيون على حد سواء ، ومن هؤلاء الرافضين المستشرق الفرنسي لفي بروفنسال (Lévi-Provençal ) ، الذي رأى أن الغزال ما قام إلا برحلة واحدة هي تلك الرحلة التي أخذته الى القسطنطينية ( استنبول ) الحالية كسفير للدولة الأموية في الأندلس مثلما أسلفت من قبل ، وقد استند بروفيسال في رفضه لحدوث رحلة الغزال الى بلاد الدنمارك على مخطوطة عربية عثر عليها هو - كما يقول - في تونس ، ولكنه لم يذكر اسمها ، ولم يتعرف عليها غيره من الباحثين ، وهذا ما جعل الباحث السويدي ستيك ويكاندر ( Stig Wikander) ، رغم أنه تابع بروفنسان في إنكاره ذاك ، يقول : ( لقد دعم المؤرخ الفرنسي ليفي بروفيسال الزعم ذاك بسرد أكثر تفصيلا عن تلك السفارة البزنطينية ، والذي وجده في مخطوط عربي بتونس .. والآن فإن المخطوطة التي اقتبس منها ليفي بروفنسال لم يعثر عليها ثانية*** ، ولا توجد منها نسخة أخرى ، ولا حتى ترجمة لها فيما خلفه من أوراق وراءه . ) (3)
ولكن استيك ويكاندر يعود ثانية ليؤكد على أن معلومات كثيرة في حكاية العلقمي عن الشاعر الغزال ، والتي نقلها ابن دحية في كتابه : المطرب من أشعار أهل المغرب ، هي معلومات حقيقة مثل تلك المعلومة التي ترى أن العديد من سكان دول الشمال الإسكندنافية كانوا مسيحيين ، لكن لا زالت الوثنية تعيش في الجزر المحيطة بهم ، وهذا يتطابق جدا مع ما هو معروف عن الوضع في الدنمارك والنروج في حوالي سنة 845م=230هـ (4) ، وهي السنة التي رحل فيها الشاعر يحيى بن حكم الغزال الى الدنمارك في سفارة الى ملك القراصنة من قبل الأمير عبد الرحمن الثاني ، وبناء على طلب الملك ذاك ، وغب الهجوم الفاشل الذي شنه اسطول تابع للقراصنة على بعض المدن الأندلسية ، وخاصة مدينة اشبيلية ، وكان هذا الهجوم قد وقع قبل سنة من تاريخ رحلة السفارة تلك.
والشائع بين المؤرخين العرب وبين بعض المستشرقين هو أن الغزال قام بسفارتين : واحدة الى القسطنطينية ، والثانية الى جُلاند (Juland) التي هي أكبر الجزر التي تتكون منها دولة الدنمارك الحالية ، هذا رغم انكار بروفنسيال الفرنسي الذي قام على وجود مخطوط في تونس لم يتعرف عليها أحد سواه ، ورغم متابعة الباحث السويدي ستيك ويكاندر له في ذلك الانكار ، والذي أقام متابعة إنكاره تلك على تهكم واضح يصل حد السخرية من الشاعر أحيانا ، وهو في كل ذلك لم يستند على دليل مادي مقنع ، وإنما اعتمد على تكهنان وافتراضات فارغة المضمون يمكن لأي إنسان أن يتكهنها ويفترضها ، ولهذا السبب حرصت أنا على ترجمة كل ما كتبه ستيك ويكاندر عن سفارة الشاعر الغزال الى الدنمارك من اللغة السويدية ، والى اللغة العربية ، ومن أجل أن يطلع القاريء العربي على ذلك ، وقد قمت في الوقت نفسه بالتعليق على تلك التكهنات والافتراضات في ذيل ترجمتي تلك ، والذي قد يشفع لستيك ويكاندر في إنكاره ذاك هو أنه لم يدرس موضوع سفارة الغزال دراسة معمقة كتلك الدراسة المتمكنة التي كتبها الدكتور عبد الرحمن علي الحجي باللغة الإنجليزية عن الموضوع نفسه برسالته :( Andalusian Diplomatic Relations with Western Europe) التي حاز بها درجة الدكتوراه من جامعة كامبريدج ، وهو من بين الذين اثبتوا صحة قيام الشاعر يحيى بن حكم الغزال بسفارته الى الدنمارك حیث ملك القراصنة هوريك ( (Horicأو ( (Hårik مثلما يكتب باللغة السويدية ، تلك السفارة التي كتب فيما كتب عنها تحت عنوان : التاريخ والمكان ، ما يلي : ( انتهى هجوم القراصنة الأول ، وقد تواروا عن ساحل الأندلس حوالي منتصف ربيع الأول سنة 230هـ / نوفمبر- ديسمبر سنة 844م ، وعندما وصلوا الى وطنهم أخبروا ملكهم " ومستشاريهم " سير الوقيعة ، ولذا صمم هو بعد ذلك على قيام علاقات حميمة ووطيدة مع الأندلس ، وكل هذا قد استغرق بعض شهور ، معتبرين أن السفرات الطوال للقراصنة تكون مع بداية فصل الربيع ، وعليه تكون سفارة القراصنة قد حطت في قرطبة خلال ذاك الفصل وفي شهر شعبان سنة 230هـ/ مارس 845م ، بينما غادرت السفارة الأندلسية بحرا في صحبة مبعوثي القراصنة في حوالي رمضان سنة 230هـ/ أبريل سنة845م.
لقد ذكر ابن دحية أن السفارة الأندلسية ، ومنذ اللحظة التي تركت بها الأندلس وحتى عودتها الى قرطبة استغرق عشرين شهرا ، وفي طريق العودة تأخرت شهرين في Santiago de Compostela ، وعليه تكون قد أمضت حوالي سنة واحدة مع القراصنة ، وقد استطاعت الوصول الى قرطبة في حوالي صفر 232هـ/سبتمبر 846م.)(5) ( يتبع )
====================
*خلد الشاعر أبو تمام ، حبيب بن أوس الطائي ، هذه المعركة في قصيدة شهيرة في الأدب العربي مطلعها :
السيف أصدق أنباءً من الكتب ِ ...... في حده الحد بين الجد واللعب ِ.
** النوك : الحمق .
1- الديوان ص14.
2- يراجع كتاب المطرب من أشعار أهل المغرب ص146.
*** ومع هذا يصر ستيك ويكاندر على نكران سفارة الغزال الى الدنمارك .
3- عرب ، قراصنة ، فرنجة ص15. باللغة السويدية
4- يراجع المصدر نفسه وصفحه نفسها .
5- العلاقات السياسية الأندلسية مع أوربا الغربية خلال الحقبة الأموية ص 182 باللغة الإنجليزية.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن