العلم العراقي وهج الوطنية ، وجامع القلوب !

سهر العامري
aslam_326@hotmail.com

2007 / 4 / 9

منذ ما يزيد على ثلاث سنوات ، وبعد سقوط بغداد العزيزة ، ومن دون أن أدري ما السبب ، طلب ولدي ، الذي كان يدرس في مرحلة الماجستير في أحدى الجامعات السويدية ، أن أجلب له علم العراق من أجل أن يضعه فوق رأسه ، معلقا في جدار من جدر شقته الصغيرة في الحي الجامعي ، هذا مع أن ولدي ولد خارج العراق ، ولم ير وطنه قطا من قبل .
همّني طلبه كثيرا ، وطلبت من أخي ، الذي يعيش في العراق ، أن يبادر الى إرسال العلم العراقي ، وبالمواصفات التي حددها أبني ، وهي أن يكون العلم كبير الحجم ، ومن قماش فاخر ، وبتصميم صحيح ، وما كان من أخي إلا أن قام بشراء العلم ذاك ، وبمواصفات فاقت تصورنا ، وذلك لأن أخي يعرف جيد القماش من رديئه ، إذ كان هو تاجرا ، يبيع القماش على مختلف أصنافه .
ولهذا كان العلم العراقي المرسل لنا مصنوعا من قماش حريري ، خفيف ، ومتين ، يدعى في العراق بـ ( الجرجيس ) ، وهو نوع من أنواع الموزلين نسبة الى مدينة الموصل العراقية التي اشتهرت بصناعة هذا النوع من القماش منذ غابر العصور ، والذي كان يورد الى دولة السويد والدول الإسكندنافية الاخرى من العراق في زمن القراصنة ، ولا تزال كلمة الموزلين (Muslin ) هذه تعيش للان في اللغة السويدية .
رحل أخي من العراق الى سورية ، ومنها قام بإرساله لنا ، وذلك لأن البريد في العراق معطل في العهد الأمريكي الديمقراطي ! وحين رأيناه بمغلف رقيق وخفيف أخذنا العجب ، متسائلين : كيف لعلم يبلغ طوله مترين ، وبعرض يزيد على متر ، أن يحمله مثل هذا الظرف الخفيف ، والملقى في صندوق البريد المعلق في باب الدار ؟
ولكن حين فتحنا الرسالة زال عجبنا بعد أن وجدنا أن العلم مصنوع من قماش جيد المادة ، غالي السعر ، ومنذ تلك الساعة ، والعلم لا زال يرمي من زهوه فيضا من الوهج المستديم ، يشع في فضاء شقة ولدي الصغيرة في ذاك الحي الجامعي ، تلك الشقة التي يزوره فيها الكثير من زملائه الطلاب والطالبات ، ومن مختلف البلدان .
من هنا سأنتقل الى الغرض الذي كتبت من أجله هذه المقالة فأقول: لقد شاهدت أنا ، مثلما شاهد الملايين من العراقيين لحظة الانفعال والفرح الطاغي التي استولت على المتسابقة ، شذا حسون ، تلك الفتاة العراقية التي ما رأت العراق قطا ، ولكن في تلك اللحظة ، التي يفقد الإنسان فيها شيئا من عقله ، شخص العراق كله أمام ناظري شذا ، فهبت وهي في لحظة الانفعال تلك نحوه ، فلم تجد منه أمامها سوى العلم ، فضمته الى صدرها ، ثم ركعت عليه ، بعدها طوقت به جسدها الغض ، ثم طافت به محمولا على رأسها فوق خشبة المسرح .
لقد كان ذاك درسا بليغا في حب الوطن ، ودفقا جياشا من بحر وطنية طام ٍ ، وردا بليغا على أولئك المستعمرين الحالمين بامتلاك العراق ، وعلى كل من سار في ركابهم من خونة الوطن والشعب ، أولئك الذين قسموا العراق ، وفرقوا شعبه بسيوف الخيانة والطائفية والعنصرية ، فغرق الوطن في فوضى الأمريكان الخلاقة ، وصارت الدول الأجنبية تلعب كما تريد ، وتشتهي ببلد يفوق عمره عمر بلدان العالم أجمع ، وفي مؤامرة قذرة اشترك فيها الجار الغريب والقریب ، حاملين معاول الهدم والدمار ، فبعثوا الطائفية من قبور الماضي ، وشكلوا أحزابهم على أسس منها ، وراحوا ينادون هذه حصتك ، وتلك حصتي ، ثم ارتقى الكثير من الغرباء كراسي الحكم فيه ، وتحت ظلال المدفع الأمريكي ، هذا بعد أن تركوا فقراء العراق يقتل بعضهم بعضا في حرب قذرة ، فصار من يحمل اسم عمر لا يستطيع أن يصل الى مدرسته ، وصار من يحمل اسم حسين لا يجتاز تلك المحلة وذاك الحي .أ فهذا هو الإسلام ؟ أم أنها شهوة الحكم التي جعلت رجال الدين يرحبون بالكفار ، ويفتحون لهم البيوت ، يذلونهم وقت ما يشاؤون ، ويعفون عنهم بعد أن يعصبون عينوهم متى ما قرروا ، ألا تعسا لرجال باعوا العراق ! وخزيا أبديا لحاملي العمائم السوداء والبيضاء منها ، هؤلاء الذين باركوا قتل الوطن ، وتبجحوا بانتخابات طائفية مزيفة ، وببرلمان يحل الرشوة ، ويقدس الراشي ، هؤلاء الذين أشادوا حكومة يقف خلف كل وزير فيها مستشار أمريكي ، يسن لهم قانون نهب النفط العراقي فيوقعون ، ويمنيهم بلحم من ثورهم فيصفقون ، شأن الوزراء هؤلاء في ذلك شأن أعضاء البرلمان المباركين من السيد الحاضر والغائب ، والذي صار الواحد منهم يحل تهريب الناس من العراق بمبلغ اثني عشر ألف دولار ، له ثمانية منها ولسمسارة أربعة ، وللشخص الواحد الذي يريد الهروب من العراق ، وعن طريق استغلال عضو البرلمان هذا لجواز سفره الدبلوماسي الذي يرفقه بجوازات من يريد تهريبهم ، ومن ثم يقوم بتقديمها الى إحدى السفارات الأوربية للحصول على تأشيرة دخول منها ، وباعتبار أن الأشخاص ، الذين أرفق جوازاتهم مع جوازه هم من حماية سيادته ، فهو مندوب الشعب المبارك من السيد مد ظله العالي ، هو مندوب الشعب الذي دخل البرلمان الأمريكي في العراق بشهادة مزورة من الجامعة الإسلامية في لندن أو طهران ، ولكنها مصدقة من مدير سوق ( مريدي ) في مدينة الثورة من بغداد ، أو من زقاق ( كوجه مروي ) المتفرعة من شارع ناصر خسرو في طهران ، وكأني بالمتنبي يخرج من قبره صائحا بوجوه هؤلاء :
إذا كانتِ الأرزاقُ تجري على الحجا* ...... هلكن إذاً من جهلهن البهائمُ
نعم . هؤلاء هم البشر الذين يحكمون في العراق الساعة ، والذين لم يكن الواحد منهم يحلم أن يصبح مدير مدرسة فيه قبل اليوم ، فكيف به وقد أصبح يتحكم بمصير الناس في العراق ؟ كيف به وقد أصبح يشرع قانونا يرفع من راتبه الى رقم فلكي ؟ وهو في حقيقة الأمر عبارة عن رشوة قدمتها شركات النفط الأمريكية من أجل قرار قانون نهب النفط العراقي المنهوب الآن من إيران بالتهريب ، ومن أمريكا بالسرقة ، هذا القانون الذي اتضح أخيرا هو الهدف الذي كان وراء الحرب القذرة التي شنتها أمريكا على العراق ، والمتواصلة على مدى أربع سنوات للساعة ، والتي خلفت الموت والدمار للعراقيين كل العراقيين ، وما إسقاط حكم صدام إلا الذريعة التي أتت بآكلي لحوم البشر على مختلف ألوانهم وأشكالهم الى بلاد الرافدين ، والذين ما انفكوا ينهشون بالعراق وشعب العراق .
بعد أن فاق العراقيون الآن ، وبعد أن شاهدوا شذا ، تلك الفتاة التي خرجت من بين صفوفهم ، وفي لحظة انفعال رائعة ، تحمل العراق على رأسها علما ، هبوا هم الى رفع هذا الرمز على أسطح منازلهم ، وفي واجهات محلاتهم ، مثلما علقوه على امتداد شوارعهم ، وذلك لأنه لم يبق أمامهم غير هذا الرمز ، لم يبق أمامهم غير وطنهم العظيم ، العراق ، الذي باعه رجل الدين ، والوزير ، وعضو البرلمان ، وفي كارثة إنسانية قلما مرت على شعب ، أو حطت على قوم ، تلك الكارثة التي لا زال العراقي والعراقية يخوضان فيها للآن غمار بحر دمار هائل ، وعلى مدى أربع سنوات ثقال ، ولكنهما رغم كل ذلك ، مازالا يملكان لسانيهما ليهتفا في مثل هذا اليوم المشؤوم : عاش العراق ! وليسقط الاحتلال وخونة الوطن !
____________________________
*الحجا : العقل.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن