مشارق الأنوار... نقاط عن الحركة الإسماعيلية وجماعات إخوان الصفا ودورهم في تاريخ الحركة الثورية والتطور الإنساني

المنصور جعفر
almanssour@hotmail.com

2007 / 4 / 9

يحاول هذا المقال إيضاح بعض النقاط في تاريخ جماعات الحركة الإسماعيلية وإخوان الصفا، وذلك بتناوله بعض نقاط وضعها في التاريخ بين مرحلة العبودية وتناقض مشتبهاتها القومية في مناطق العراق وفارس وخراسان..إلخ مع القيم (الدينية) الحاكمة بإسمها، ومرحلة بروز الرأسمالية التجارية التي كانت توسعات أسواقها وحرية تجارتها تدفع بكثير من القرارات والمطالب والتغييرات الإقتصادية السياسية مما شمل زيادات في الضرائب والأسعار، وتضخم، ومشكلات العيش وتقدير الأثمان وحساب الدخول والأجور وتغاير توزيع العطايا والمنح بإختلاف في حجمها ووقتها وجهتها مما كان يثير كثيراً من التمردات، ويدفع بتكون تحالفات داخلية وخارجية، ويتصل بتغييرات في طبيعة الحكم وفي هيئة الدولة الحاكمة وفي إتجاهات وراثة الحكم في تلك الدول، مما يترافق وتغيرات عددا في المواقف الإجتماعية والمجتمعية تتواشج كلها بتغيرات لاحقة أشد في الأفكار والإعتقادات والمذاهب.

بعد نهاية الخطر الخارجي على منطقة الشرق الأوسط القديم بعد تفتت روما، ودمار دولة فارس الساسانية، وتضعضع وعزلة بيزنطة، وعودة أوربا من جديد إلى العصور المظلمة التي شهدت فناء وتفتت بقايا الممالك القديمة كانت طوائف البنائين والنجارين والنساج والصناع في الكيان الجديد للعراق (العربي الإسلامي) قد مثلت عند كثير من المؤرخين دور الخلية العصبية للحركات القومية والوطنية (الشعوبية) ودور المحور الإجتماعي للجماعات الثقافية التي كانت تلك الحركات القومية تستمد منها تناظيرها للحق والباطل في عمومهما وبعض تفاصيلهما بلسان عربي مبين أو بلسان صيني أو هندي أو فارسي أو يوناني كان حينها يبين بعض تلك العموميات والتفاصيل في نشاط القوى والحياة الإجتماعية والذهنية لأجل العدالة المجتمعية.

آنذاك الحال كانت جماعات الإسماعيلية وإخوان الصفا في أوجها (750-899- 1250) و بالمعنى الواسع لمفردة الثقافة كانت جماعات الإسماعيلية وإخوان الصفا كيانات بنية ثقافية متصلة بتناقضات قومية وطبقية ودينية بلورت ثورات عددا منها ثورات أهل بلاد وقرى فارس ضد أعدائهم القدامى ومحتلينهم العرب طيلة مئآت السنين694 - 714، 729، 736،745، 749، 755، 778، 779، 786، 806، 816-836، 840 ،864، 873 ، 900، 934 م إلخ ، وكذلك ثورات الزنج (الكبرى) بقيادة السوداني علي بن أحمد ضد مستعبدينهم العرب في السنوات 869 و883م مما تجمع بعضه وتفتق في ما عرف بإسم ثورة القرامطة ثم في تأسيس دولتهم الإشتراكية القديمة أوآخر القرن التاسع الميلادي سنة 894، وهي الدولة الثورية التي إئتلف فيها كثير من ثوار المجتمعات المستعمرة (المفتوحة) معضدين بعضهم سوداناً وعرباناً وفرساً وحرانيين ويهود وخرسان مؤتلمين، ومتناصرين ضد الظلم والطغيان، قبل أن يدمر جيش الخلافة تلك الدولة الثورة ويشرذم قواها. وإن بقيت من جماعات الإسماعيلية وثوراتهم حركة حرة طليقة ضد الجبروت حركة مقاومة وثابة وصاعقة هي حركة الفدائيين (المكرهة سمعاً بإسم الحشاشين) وكان أكثر أهلها في خراسان وفي ضواحي الشام ذوي نسيج وحرير وعطارة وصيدلة وكيمياء وطب وفلك، وغيرها من المهن الرفيعة والدقيقة المتطلبة للوعي والوضع والإنتباه، وقد كانت "حركة الفدائيين" تلك حركة إرهابية مضيئة ضد ظلمات الملك العضوض وخلافته الباطشة، وقيل إن الفظائع قد خالطت هجومات تلك الحركة وتدميراتها، وإن صح ذلك، فقد كان توالي عملياتها بقيادة الحسن الصباح مما وضع حداً لظلم كثير من الطغاة المسلمين والغزاة الفرنجة وبقيت فداءات الحركة ساطعة بذلك في التاريخ إلى أن أطفأتها جيوش المغول الرهيبة خلال عقود التدمير والخراب الممتدة من1250 في ضواحي إيران والعراق وإلى سنوات 1270 ومابعدها في الشام ثم تناول بعض المؤرخين سيرة الحركة الفدائية تشريحاً بالجرح والإخراج والتمثيل حتى فقدت ملامحها الأصيلة وتشوهت للناظر إليها من الزمن الحاضر.

ما هي الإسماعيلية؟

وسط الأثقال الطبقية-القومية التاريخية القديمة والأثقال الطبقية-القومية التاريخية الحديثة التي تلت الفتوح أو بالأصح الغزوات العربية وتراكمها طغيانأ قضى على الدول اليابسة القديمة، وزهق الأمويين لأرواح آل بيت النبوة، وتحول الأمور من فضائل سواء وتحرير إلى عصبيات وأسر مالكة، ومظالم لا أول لها ولا أخر كان نشوء "الإسماعيلية" حركة شمولية منظومة لتغيير الأوضاع الإجتماعية الإقتصادية والسياسية بأسسها وأشكالها الثقافية وتحويل هذه الأوضاع بالإفراد أو الجملة من حالة التراتب الإقطاعي وإصرها وأغلالها بالتعبير القرءآني للأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد إلى حال إشتراك في الخيرات وعيش الناس بأخوة وصفاء يتحقق بمحبة الحكمة.

وفي كل الرويات التاريخية والسير ينسب تثقيف الحركة الإسماعيلية وتثويرها بشكل ظاهر في السنوات 875-878 إلى شخص ميمون الأسود القداح خادم أو (سكرتير) الإمام جعفر الصادق (ع) وقد كان ميمون بحكم مهامه وبحكم ثقافته ذي صلات وطيدة بطوائف الحرفيين والمهنيين وبأجناس المستعبدين والموالي في بغداد وعموم العراق والديلم وفارس وخراسان، وقد نظم ميمون الأسود القداح ورفيقه أو رئيسه (الحقيقي) حمدان قرمط ومعهما حسين الأحوازي تلك الحركة بداية من بلدة عسكرمكرم في الأحواز قرب نهر قارون (دجيل) في منطقة خوزستان|عربستان في إيران الحاضرة ثم في بلدة سليمية 30 كم جنوب شرق حماة في سوريا، وكان فيها أول مركز إدارة خفي للنشاطات الإسماعيلية، ثم نشطت الدعوة والحركة في الظاهر والعلن بدايةً من العراق في خرائب بابل في قرى الحلة الحاضرة ذات التاريخ الثوري الطويل.

وقد كان تنظيم الحركة الإسماعيلية تنظيماً مشهوداً بأربع رباعيات عرضية في مثلث هرم يمثل في شكله العام تراتبية أخرى ولكنها ذات عناصر وشعارات ثورية كان (الرأس) أو (الغاية) فيها أو السنام هو "الإمام" الذي كان محمياً مخفياً في أغلب أوقات التأسيس، وكان أول أئمة الحركة حين تأسيسها هو الإمام محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق (ع) وتلو "الإمام" هناك "نائب الإمام" وحجته وبابه وعادة ما يكون إبنه، وقد كان أول نائب للحركة هو عبدالله الملقب بالكبير [إمازةً له عن عبدالله آخر سيرد ذكره هو عبدالله الأفريقي قائد الإسماعيلية في أفريقيا] الذي تولى العبء الأعظم من إمامه، وبعدهما مكانة ثنوية مزدوجة متوالية ومتنافرة هي مكانة "ناظم أو داعي الدعاة" وهو مدير الأنشطة في الأقاليم والمشرف أو المنسق العام لها، ومعه "النقيب" الداعية المطلق الذي كان بمثابة المراقب والمفتش العام على أنشطة الحركة في الأقاليم، و"نائبه"، و كذا داعية أو ناظم التبليغ" صاحب الإتصالات، ويليه ويتبعه خاصة "داع مأذون" هو نائبه ومستشاره ومدبر أموره، وبعدهما ناظم أو داعية الأقليم أو ما يعرف بلقب "الداعية المحصور" أي المحصورة نشاطاته لمناطق بعينها، وحسب كتاب آية الله محمد تقي المدرسي المصدر حديثاً في هذا الموضوع بصورة إثني عشرية، من قم المقدسة، فقد كان لهذا الداعية المحصور معاونان خفاقان "جناح أيمن" و "جناح أيسر" يختص كل منهما بنظم مجموعة شؤون، كذلك في الجانب الإقليمي والمحلي من الحركة كان هناك الناظم "المطالب" وهو رجل الإستخبارات والمعلومات والتقدير والتمكين، وهناك الكادر الجمهوري رجل الحركة "المكاسر" الذي كان عادة ما يأتي من سلك المطالبة والإستخبارات بعدما يتكثف علمه ونشاطه، بينما كان طرف الحركة هو "المستجيب" وهو العضو الحديث، فهم الإمام والنائب والناظم ونائبه والنقيب والمأذون ونائبه والإقليم وجناحيه والمكاسر والمجيب إثنى عشر كوكباً في أربعة مدارات، وبالطبع كانت لهم كويكيباتهم.

وفي تلك الدعوة والحركة الدقيقة التي شغرت جغرافية المنطقة ما بين الصين وغرب أفريقيا ومن اليمن وشرق أفريقيا إلى تخوم روسيا تباين تقدير الظروف العامة والظروف (القومية-الطبقية)، وإختلف تزامن الإمكانات والقدرات السياسية والثورية فيها فكان من ذلك أن إمتاز وظهر في منطقة جنوب العراق وإيران جانب من الحركة بقيادة حمدان قرمط وأبو سعيد الجنابي في ما عرف بحركة القرامطة ودولتهم سنة /4899 وقد كان لباب تلك الحركة والدولة الثورية التعاونية القديمة من السودان والعربان والإريان والحران والخرسان والتركستان والأوزبيكان واليهود المستضعفين، وكان كتابها المكنون في جبل أصفهان.

وقد تميز جانب أخر من الإسماعيلية في الدولة الفاطمية التي نشأت بزعامة عبدالله المهدي الفعلية ولكن بفضل جهد خليله وأمينه أو سكرتيره جعفر الأسود أو جعفر الحاجب، بدايةً من سلمية في سوريا قبل مداهمة العباسيين لهما وهروبهما منها عبر فلسطين ومصر إلى المغرب في سلجماسة عاصمة تجارة الصحراء الأفريقية جنوب شرق فاس حيث توطدت الإسماعيلية في ثوبها الفاطمي بنشاط وإقدام وبطولة عبدالله الآفريقي في الجزائر ثم القيروان التي قام فيها "الإمام" بإستعراض جيش النصر الأفريقي ضحى يوم عد أغراً تأريخه 27-08-909 م وقد خطب لهذا الإمام من منبر الجمعة بتاريخ 05-01-910م خطبة مشهورة في التاريخ والإيمان فبعد مئات السنين الطوال من إغتيال الإمام علي(ع) كان عبدالله الأفريقي هو أول من طلع المنبر بجهده وبذله يقدم ويدعو -باكياً- إلى أمام للمسلمين من آل البيت، قناعة منه بالإمامة القرشية ومفهوم العائلة المقدسة في الإسلام وقد أسس المهدي مدينة المهدية جوار القيروان ثم من هناك إنتقلت الدولة إلى (القاهرة) التي بنيت جوار الفسطاط ومصر القديمة جداً وقد كان سند حكم الفاطميين طوائف عددا من المستضعفين البربر والسودان (الزويلة) وعرب الجنوب القيسيين وربيعة اليمن، وبالطبع من العبيد الأوربيين المماليك السلاف منهم (و) الصقالبة وكذلك وجد الحكم المغربي المشرقي سنداً من اليهود الآفارقة واليهود الآسيويين.

الفوائد الإسماعيلية:
ومن بعض الأفكار الإسماعيلية المتعلقة بالتناسق والجمال الكامن في المماهاة بين النسق الأرضي والنسق الكوني لم يكن المعمار المادي هو الناتج الوحيد لها بالضبط النجومي لخرطه وزواياه بل تمثل جانب من الشمس الإسماعيلية بإشراقات أعمال"أخوة الصفا" وفلسفاتها وتناظيرها إذ سطعت في تواريخ العلوم والثقافة بعض أسماء العلماء الذين تواشجت أعمالهم بالصفا من ناحية مباشرة أو ناحية غير مباشرة متصلةً بخيوطها الفلسفية والفكرية ومبانيها العلمية ويمكن عدهم علماء المرحلة الإسماعيلية لتاريخ الثقافة الوسيط:
1- الأعصمي Al-Asmai ، 740 – 828، الفلكي رائد الدراسة المنظومة للحيوان والبيطرة
2- جابر بن حيان Haiyan (Geber) Jabir Ibn توفي 803 ، فيلسوف في الحساب، أبو الكيمياء في العصور الوسطى.
3- الخوارزمي840 -770 Al-Khwarizmi (Algorithm,, Calculus) مثبت الخوارزميات فلكي، جغرافي.
4- الجاحظ Al-Jahiz 776 – 868 مهتم بعلم الحيوان، وفلسفة طبيعة سلوك الإنسان، وبآلية المنطق في اللغة والتاريخ.
5- إبن إسحاق الكندي Al-Kindi (Alkindus) Ibn Ishaq، 800–873أستاذ الفلسفة والفيزياء والرياضيات والطب والبصريات والتعدين وهو كما يقال أول فيلسوف في العرب، رغم خطأ هذا القول حيث كانت لسلمان الفارسي إشراقات عددا
6- ثابت بن قرة Qurrah (Thebit) Thabit ben 836 – 901، فلكي وميكانيكي وهندسي، علم وظائف أعضاء الجسم.
7- عباس بن فرناس Firnas Abbas ben توفي 888 ، ميكانيكا الطيران، بناء الطائرات، الإستنبات وبصناعة البلور .
8- علي بن ربعان الطبري Al-Tabari 838 – 870 وهو غير الطبري المؤرخ، مجاله الرياضيات وتناسق الخط والأدب.
9- الباطني Al-Battani (Albategnius)، 858 – 929، فلكي ورياضي ومنجم.
10- الفرغانيAl-Farghani (Al-Fraganus)، عاش حول سنة 860 فلكي ومهندس.
11- أبوبكر الرازي Al-Razi (Rhazes) ، 864 – 930 ناقد القرءآن، وهو طبيب، وكيميائي، وفلكي.
12- أبو النصر الفارابي Al-Farabi (Al-Pharabius)870- 950 أستاذ منطق مجتمع، فلسفة، سياسة و..موسيقى.
13- المسعودي Al-Masu di، توفي 957 أستاذ في الجغرافيا والتاريخ .
14- الصوفي Al-Sufi (Azophi)، 903 – 986 أستاذ في الفلك.
15- أبو القاسم الزهراوي Al-Zahravi (Albucasis), 3936 – 101، طبيب وجراح وهو أبو الجراحة الحديثة.
16- البوزجاني Al-Buzjani 940 – 997، فلكي وهندسي ومنجم.
17- إبن الهيثم Al-Haitham (Alhazen)، 965 – 1040، أستاذ في الرياضيات والبصريات.
18- أبو ريحان البيروني Al-Biruni، 973-1048، فلكي ورياضي ناجح في حساب المسافات بل وحسب حجم الأرض.
19- الشيخ الرئيس إبن سينا Ibn Sina (Avicenna)، 981 – 1037، أستاذ أساتذة زمانه في الفلك والرياضيات والطب والفلسفة
20- الزرقيليAl-Zarqali (Arzachel)، 1028-1087 ، متفرد في الإصطرلاب، إستاذ في الفلك.
21- عمر الخيام Omar Al-Khayyam،1044 – 1123، فلكي ورياضي وموسيقي وشاعر وذوق.
22- إين زهيرIbn Zuhr (Avenzoar)، 1091 - 1161، طبيب وجراح.
23- الإدريسيAl-Idrisi (Dreses)، 1099 – 1166، فيلسوف، وضع خريطة العالم بما فيها الأراضي المجهولة (أمريكا)
24- ابوبكر إبن طفيل Ibn Tufayl(ثلاثة بهذا الإسم) 1110 – 1185 ، جمع الشعر والأدب إلى الطب والفلسفة.
25- إبن رشد Ibn Rushd (Averroes)، 1128 – 1198، الفلك والطب والقانون والفلسفة والفقه .
26- البطرجي Al-Bitruji (Alpetragius)، توفي سنة 1024 ، وهو استاذ في الفلك.
27- إبن البيطار Ibn Al-Baitar، توفي في سنة 1248 ، عَلم في الصيدلة والباطنية .
28- نصر الدين الطوسي، Al-Tusi Nasir Al-Din ، 1201 – 1274، فلكي ومعلم، حافظ على دار الحكمة والمدرسة النظامية في الغزو المغولي ومؤسس مراصد، وقد أدخل زعماء المغول إلى الإسلام مفيداً من فرصة تعليمه أبناء أمراء المغول.
29- جلال الدين الرومي Jalal Al-Din Al-Rumi 1207 - 1273كسلفه عمر الخيام أشرقت به الرياضات العقلية والوجدانية.
30- إبن النفيس Ibn Al-Nafis، 1213 - 1288، حريري، وأستاذ في علم الاعضاء الباطنية.
31- يمكن بتقدير خاص وضع أعمال موسى بن ميمون وأعمال إبن خلدون ضمن النطاق المعنوي للأعمال الصفوية

ورغم همة هؤلاء الأعلام في العلم وطلب الحكمة فقد وصف الشيخ إبن تيمية المعروف بلقب(شيخ الإسلام) جميع هؤلاء العلماء والحكماء بالمروق والكفر والزندقة الأخطر! كما لم يتردد الغزالي في إهانتهم إهانة مأجورة من سلطان وضيع، بل وتبجح ضد "الفلسفة" في نفس الوقت الذي أقام وشيد فيه كتابه "تهافت الفلاسفة" على "السفسطة" أو بالضبط على فلسفة التهافت وفق رد إبن رشد عليه! ولا شك في إن الناظرين إلى أعمال الإسماعيلية الماثلة أو المتصلة بهؤلاء العلماء المعلمين يمكنهم أن يقدروا فخرها بهم كرواد وتلاميذ ومريدين أو أطياف لها، خاصة وهم في الزمان الحاضر يدلون بأعمالهم على الإتساع الفكري لتلك الحركة وعلى فنون عمليتها التي تمثلت بعمران سياسي ومادي (ناجح) نسبيةً: فرغم ترعرع هذه الحركة الثورية الفلسفية والعلمية والسياسية والمجتمعية وسط المستضعفين طبقةً أو قوميةً أو ديناً أو ثقافةً في الدولة العباسية العظمى إلإ إن الإسماعيلية إنتشرت في كل نواحي تلك الدولة حتى حصرتها، وبنت في ما فازت به منها روائع الروائع..ولكن مع مر السنين وتوزع الجهود العلمية الثقافية وتعدد أنساق الظروف المجتمعية والعلوم والأيديولوجيات في الدول الإسماعيلية الثلاث في البحرين وسواد العراق وفي أفريقيا وفي اليمن فإن الحركة الإسماعيلية لم تقدم رغم كل همها بالتناسق سوى عمرانين متناسقين في مضمونهما ولكنهما كانا متباينين زماناً ومكاناً لأسباب تتعلق بطبيعة الحالة الإقتصادية-الثقافية الإجتماعية لشؤون العيش والحياة والعلوم آنذاك الزمان، وهما عمران الأذهان وعمران البناء:
عمران الأذهان: وهو عمران شيدته الإسماعيلية بالذوق والفلسفة والعلوم والرياضيات والتاريخ والأدب والفن مما إتصل بجهد جماعة "إخوان الصفا" التي كانت تمثل المحور الثقافي في الحركة الإسماعيلية.

عمران البناء: وكان العمران الذي شيده الإسماعليون بإختلاف مسمياتهم ماثلا في الجانب الأفريقي-الأوربي من الدول الإسماعيلية (الفاطمية) في أعمال إعمار صقلية وتشييد مدن المهدية ثم المنصورية ثم القـاهـرة وجوانب من دمشق وسوريا بما في ذلك من أعمال مسح وهندسة وتسوية وبناء وإدارة عامة شملت بناء حمامات، ومسابل ومساق، وطرق، ومساكن، ومساجد، ومشاف وصيدليات، ومحلات، ومآوي ومنازل وخانات، وبيوت حكمة، وجامعات، ومعسكرات، ونقاط شرطة، وحدائق عامة، وأسواق، وأساطيل وإتفاقات داخلية وتعاهدات دولية، وضبط لأمور التجارة والضرائب والحركة والبناء والتجارة والصيرفة وتراخيصهم، وفي قارة آسيا تمثل عمران الإسماعيلية بتحديث جانب من اليمن في عهد الملكة صليحة، كما شمخ القرامطة في التاريخ بتأسيسهم نظام الإدارة العامة الشعبية المحلية الأول في تاريخ الحضر بتطويرهم القيم البدوية الموجبة، إذ كانوا أول من أسس النشاط الإقتصادي العام دون وكالات وتصاديق وتراخيص وإقطاعات، إذ وفروا سفناً وشباكاً عمومية لصيد الأسماك وأراض للزراعة وبنوا "مشاغل عمومية" ومدارس كما نظموا للناس بناء"مساكن عامة"، وفصلوا أمور البناء والصيرفة وتراخيصهم، وإن كانت دولة القرامطة قليلة عدد وعدة، فقد كانت دولة خفيفة حسناء وداهية.


المزية الإجتماعية للحركة الإسماعيلية:
بيد ان أميز ما أماز قيامة الدول الإسماعيلية، ليس فقط هذه المظاهر التي كثيراً ما قامت في كثير من الدول قبلها وبعدها، بل إن أكثر ما أماز الإسماعيلية ودولهم الثلاثة هو تفتيتها الإقطاع العربي القديم وتوطين آلاف آلاف المستضعفين في تحول إجتماعي كبير ضخم نقلت به تلك الحركة ذات التركيبة الحرفية- الثقافية الكامنة في الإسماعيلية ودولها جموع كبرى من الناس من شراسة البداوة وشظفها إلى المدينية والبغددة، ومن عنف الغزو إلى العقلانية والتدبير، ومن الفتاوى والحشاوى إلى التاريخ، والفلك، والرياضيات، والموسيقى، والطب والصناعة مثلما إنتقلت بها الأذهان والحيوات من صفوية علوم الآخرة وعلوم الدنيا إلى رحاب العرفانية والصوفية ومعاني جمهورية الجمال ذا الفن الطلق للإنسان عاكفه بنفوس المريدين علي معان الوجد والوجود والعمل الصالح.

ولكن مع هذا الميز غير المتزامن وغير المتناسق، بين عناصر التركيبة الحرفية- الثقافية وبين تشكلها السياسي والمجتمعي، بحكم غلبة الظروف التاريخية الأعم بنظام الثقافة التراتبية وما فيها من تقديس للسلطانات والأسر حاكمة وتقديس (مجدد) لنظام الإقطاع والتمويل المباشر لحاجات الحكم بالجباية وضرب العملات وإنتشار الإنتاج غير المنظم، فإن المجتمعات والدول الإسماعيلية رهقت مثل كل المجتمعات الدول بصنوف الخلافات الداخلية والغزوات.

وبأعمالها الحاضرة وأعمالها النظرية الموثقة فإن الحركة الإسماعيلية وأنوارها المتمثلة في أعمال جماعات إخوان الصفا يمكن أن تعد جزءاً مائزاً من الحركة الإنتاجية- الثقافية الصاعدة في التاريخ منذ ما قبل الحضارات القديمة وحتى الآن، وهي بنظمها الدراسية والإجتماعية والإقتصادية السياسة والنواهج الشمولية لعلومها قد مثلت أساساً لبناء وبعث الحركات المثيلة لها في أوربا في ما بعد كحركة فرسان المعبد، وحركة البنائين أو بالأصح الحركة العمرانية (الماسونية) .


























مشارق الأنوار
إخوان الصفـا وخلان الوفا وأهل العدل

إضافة وإلحاقاً للمقال السابق الذي حاولت الإشارة به إلى حال الجسر الذي مثلته الحركة الإسماعيلية بين ضفتي مرحلتين متواشجتين في تاريخ التقدم الإجتماعي للبشر من حال نقص الضرورات والتكالب عليها إلى حال عادلة للكفاية من هذه الضرورات، وهما مرحلة العبودية في أحد حالاتها المتأخرة الكبرى المتصلة بظاهرة الموالي والأقنان شبه العبودية، ومرحلة الإقطاع المنتقل في أقصى حالاته إلى حالة الرأسمالية التجارية، حيث جسرت الحركة الإسماعيلية بين هاتين المرحلتين في حركة التقدم الإجتماعي بمواصلتها وتكثيفها السياسي مهام النفع الإجتماعية التي رادتها الحركة العمرانية والعرفية شبه النقابية في التاريخ القديم لتكون الحضارات والدول الأولى وشيدتها بأشكال متنوعة في مجالات الأعمال المادية والعمران، وفي المجالات الثقافية المتصلة ببلورة وصقل إرداة الإنسان وجوهرة كرامته.

وقد لعبت الحركة الثقافية المحورية للإسماعيلية وهي حركة وتناظيم وجماعات "إخوة الصفا" الدور الحيوي في عملية المواشجة الجديدة التي تمت بين الطبيعة السياسية والثورية لتلك الحركة العملية- العلمية القديمة التي شكلت الحضارة الحديثة كثورة على البداوة وما إتصل بتكون الحضارة وتجليها شبه العبودي والإقطاعي في ذاك العراق العباسي العربي الإسلامي من طبقات وقوميات وأديان ومذاهب مضطهدة (إنطوت) بكل إرثها الحضاري وتوقها للحرية والعدل والنور في إمامتـ(ها) الإسماعيلية التي أشرقت على الناس كإمامة شعبية لمن لا إمام لهم، فبـعد الهزائم المتبادلة بين عناصر المذاهب العقلية والمذاهب النصوصية لفهم الدين واشجت الإسماعيلية في سياق حركي ثوري شملها وشملته بين الطبيعية العملية السياسية للمذاهب الحضارية القديمة وبين الطبيعة العلمية-الثقافية لنشاطها الحي المتصل بمسألة التركيز على أمور العيش وما ينفع الناس من وسائل مادية ومعارف تساعدهم في فهم أمور الحياة بشكل موافق لسنن الطبيعة ومنطق عقل الأمور وفق هذه السنن، ومسألة الحقوق الطبيعية للإنسان في الحرية والمعرفة والعيش بكرامة.

وقد كانت مناطق الشرق الأوسط والأدنى مناطق ثرية الحضارة متنوعة المدنيات برزت فيها النوبة وسومر ومتوالياتها ومصر بأشكالها ومدن فينيقيا ثم مدن اليونان، حتى برز فيها العرب بأصلهم الافريقي- الآسيوي العبساني أو الحبشاني- الحميري المذكور في كتب التاريخ أو الذي تعبر عنه القصص الدينية (هاجر النوبية + إبراهيم ع الأرامي أو الأرمني) ثم جاءت إليها جحافل الفرس والإغريق والروم البيزنطيين حيث حصروا العرب في صحرائهم وإضطهدوا اليهود والمسيحيين وجعلوا أعزة أهل البلاد المستعمرة أذلة قبل أن يقوم العرب بقيادتهم القريشية وجنودهم الخفية من يهود ونصارى الشام وفارس واليمن بهزيمة القوتين الأعظم حينذاك على التوالي و(تحرير) المناطق التي كانت خاضعة أو مخضعة للروم والفرس. وبتلك الهزيمة وهذا التحرير في الجانب العراقي الفارسي التركي من هذه المنطقة المتشاكلة منذ القديم ذات النزاعات والحروب والعداء الواسع والمتراكم بين قومياتها وبين عشائرها بل وبين كثير من أحياءها وأسرها، حكم العرب المسلمين تلك المناطق بعد (تحريرها) من حكم الدولة الساسانية وهي الدولة الفارسية التي كانت أصولها ذات عداء قديم مع العرب ومع أصولهم منذ ماقبل حادثة ذي قار ورجوعاً إلى أيام قورش وقمبيز وغزواتهم ضد بابل وضد مدن الفينيق وضد مصر والسودان القديم وحتى ضد الحبشة واليمن وكذلك حروب الفرس والحيثيين الترك القديمة.



ولكن ماسمي بـ"حكم العرب والإسلام" رغم الأبهة والقداسة الدينية التي أحيطت به لم يحدث في الواقع أي تغيرات كبرى في الوتيرة العنفية الحضارية لتلك المنطقة: فبعدما إقتسم الغزاة الفاتحين العرب "غنائم فارس" صفى الأمويين آل البيت (ع) وأقطع حكامهم الآراض والبلدان وما عليها ومن عليها لـ آل أمية وأهلها حاكمين البلاد بالحديد والسموم والذهب مستفيضين رغدهم من شقاء عمل أهلها وكدحهم وبخسهم حقوقهم وسومهم بالسياط والعذاب وتضاعيف الخراج والجزى والأتاوات، مما كان سلوكاً مألوفاً في آنذيكالدول وزمانتيك الحكومات، ولكن ضد ذلك الضيم، نجحت جموع المستغلين والمهمشين عنصرياً وطبقياً وسياسياً في إزالة هالات القداسة وتنظيم وتأجيج الثورة التي سميت بإسم (الثورة العباسية) عاصفة على الأمويين وحكمهم، حيث تم إفناءهم إلا من هرب منهم ناجياً إلى أقاصي الصين وكوريا أو أعماق الهند وأفريقيا وجنوب السودان البعيد أو طار عبر البحار إلى حصون الأندلس.

ورغم بقاء النظام الإقتصادي السياسي الإستغلالي على حاله العام مع بعض الإصلاحات فقد نجحت تلك الثورة في تغيير السمة الخاصة للحكم في تلك المنطقة من الحالة العنصرية العربية إلى حالة عربية- مختلطة، فقد كانت القيادة الفعلية بل والحقيقية لتلك الثورة للقائد النضير أبو مسلم الخراساني وعموم أهل خراسان وشعبها الكادح على مختلف مذاهبه وأديانه، وضمن قوى تلك الثورة كانت القوى اليهودية متهمة بالحق أو بالباطل من عموم الحكام والمؤرخين العرب بضفر عناصر الثورة وتدبيرها مختبئة مستترة خلف قيادة أبو مسلم ودعوة (حقوق) العباسيين في الحكم، كما إن الزنج المسخرين والمستعبدين شاركوا أيضاً بالثورة على مسترقيهم وجلاديهم الأمويين ، ومثلما كان للخراسان والزنج واليهود دور عظيم في الثورة العباسية جرى طمس معظمه فكذلك أيضاً كان حال عرب اليمن، والفرس، والإتراك وحالة طمس ذكرهم في تاريخ تلك الثورة وفقاً للأسلوب الشائع آنذاك لكتابة التاريخ والإحتفاء فيه بأحوال الملوك والقادة العظام دون إحتفاء مقابل بأحوال ناس والعيش والقادة الشعبيين ونسق المعارك اليومية لهم، وقد أعدم الحكم العباسي القائد أبومسلم ومثل به، بحجة إنه كان يدبر للإطاحة بالعباسيين وإعلان دولة خاصة به وبأهله، كذلك كان مصير يحي البرمكي والبرامكة المخلطين بين يمن وفرس وترك بعدما قاموا بتوطيد وتنظيم تلك الدولة العباسية، وذلك لسبب ظاهر من تحول زواج نظري بين يحي البرمكي والعباسة أخت هارون الرشيد إلى زواج حقيقي: حيث كان العقد الموقوف تنفيذه بينهما لتلافي أي إختلاء غير شرعي بينهما ينتج من دخول الوزير الأول، وقيل كان تعشيماً له، فبتحول ذاك الزواج النظري إلى حقيقة عد العباسيون ذاك التحويل مؤآمرة بيولوجية من البرامكة لإنتزاع رئاسة الحكم وسدة الخلافة بعدما ملكوا أمره وأمرها برئاساتهم المتعددة لأعمال الدولة، وقيل أيضاً إن هي إلا مؤمراة دبرتها زبيدة زوج هارون الرشيد ضد نسيبتها خوفاً على مصالح أولادها في وراثة الحكم، وقيل ايضاً إنه مؤامرة وفتنة عجمية دبرت ضد الخونة وضد المحتلين معاً.

المهم إن تصفية وجود (الموالي) وإزاحتهم كانت قد تبلورت كنهج لإستبداد العباسيين وتوالت مع هذه التصفيات للخراسانيين والبرامكة سحق ثورات الزنج مرات ومرات، كما إستمر رهق الفرس بنظام الدهاقين، وكذلك رهق الترك بنظام الخاقانين (= خدم الإقطاع) الذين في إدارتهم لذاك الإقطاع العربي الرأس ساموا أهلهم العذاب ضعفين حتى جرت الدموع والدماء أنهاراً مما تترى حكاياته التي تفيد كلها بمدى التوتر القومي الطبقي في تلك المنطقة. ولا شك في إنه أمام هيمنة الإستعلاء العربي في الحكم بمفعول الوراثة عبر الأب وتنوع قوميات أمهات أولياء عهد هارون الرشيد وخلفاءه كان نشوء التنازع القومي الشهير بين الإخوة الأعداء الأمين والمأمون والمعتصم، متصلاً بالنزاعات القومية الطبقية والوطنية السائدة في تلك المنطقة منذ قديم الزمان. وهو التنازع الذي لم يزل حاله باقياً فيها وماثلاً بالتبلور الكثيف للأفكار القومية كبنية مسيطرة على كافة البنى الذهنية والفكرية الأخرى مثل بنى الفلسفة والدين والبنى الجمالية في أساليب الغناء والترتيل والخط والنقش والتلوين، وفي اللغة وفي تفسير الآيات وتأويلها، وفي تأصيل الكشوف العلمية وفي تفسير التاريخ ... نهاية إلى تأكيد الذات القومية والعظمة التاريخية بأسماء يسمونها.




وقد كان فهم الاوضاع الطبقية والوطنية وتباينها علواً وإنخفاضاً حينذاك الزمان فهماً وتنازعاً متصلاً في أذهان الناس بفهوم وفلسفات شتى عن الوجود والقدر وعن الدين الحق والصحيح، والتفضيل الإلهي به أو الإبتلاء، وكان لتلك الفهوم أصول قديمة في رؤى وفلسفات وأديان الحضارات السودانية الأقدم في النوبة وسومر وما بينهما، وهي الرؤى والفلسفات المتصلة في نشاطها وأبنيتها بـ"مواقع النجوم" وعلوم الفلك وفلسفة حركته العليا وحركة الطبيعة الدنيا وحركة الإنسان فيها حيث كانت العوالم الثالثة الكونية والأرضية والإجتماعية، مترابطة في طبيعتها العامة وفي أذهان المفكرين فيها والمتعاملين معها من البناة والراصدين والحاسبين والعلماء، ولما تغلب المعتصم بالله وعشيرته التركية على الحكم الفارسي- العربي لأخاه المأمون، وتوطد الأمر للمتوكل حيث كانت قيم الحرية والسواسية والفضل بالتقوى قد فقدت بريقها في مجتمعات تلك المناطق أمام سطوع منطق السلطان والسيف، وبلغت الازمة السياسية حدها الفكري-النظري الأقصى بإستناد العقلانيين في مدارس الرأي والنصوصيين في مدارس الحديث إلى قوة الحكم وعنصر البطش السياسي ووسائط الإعلام الجماهيري المتوافرة حينذاك وتخديمها لنصرة وتعزيز مقولاتهم وأرآئهم وتصويرها كأنها الحق مما نقده بالتفصيل الفيلسوف عالم الفيزياء والطب وناقد القرءآن أبوبكر الرازي .

ومع تبدد وإنحصار فكر المعتزلة العقلاني (اليوناني) الذي أستخدمه المأمون أصلاً لرد الأفكار الدينية الفارسية في جهة، ولضرب إحتكار تفسير الدين في العرب وفي آل البيت، لحساب الإنفراد العشائري العباسي -والفارسي الأم- بالحكم الديني والعلم (الشرعي) المرتبط بتأصيل ذلك الحكم (الديني). ومثل كل العلوم والأفكار الإجتماعية التي تركبها السلطة تحول العلم بأمور الدين بواسطة هذه الهيمنة السياسية إلى حالة مغلقة مصعبة وحالة منبهلة مبتذلة معاً، في آن وآحد فقدت بها المعرفة الدينية بريقها المجتمعي بسطوع السيف وإنتشار المظالم وأعمال القمع في أنحاء البلاد.

ولكن أمام ذخر التاريخ الثقافي لأهل المنطقة وغزارته وتعقد أنشطتهم ومصالحهم وخلافاتهم وإنتصاب السيف محل العقل نشأت بعد تبدد المعتزلة والمحدثين والزنادقة جماعات خفية شتى تهتم لأسباب وأغراض شتى بأمور المعرفة والتفكير في المعارف والعلوم متعرفين ومحتارين ومتجادلين وقارئين وباحثين وكاتبين في طبيعة الحياة والكائنات وتكوينها الخاص وكيفية تعينها ووجودها وحساب هذا التعين وأبعاده، وكذا المسائل الدينية للخلق وطبيعة المخلوقات وطبيعة الخالق وتنزهه ولا تشبهه ولاتجسده ولا تعينه أو لاوجوده المادي وكيفية حسابه! ومثل سابقيهم القدامي كان منهم الفلاسفة والحكماء الملتزمون بحدود حضارتهم ومدينيتهم، وكان منهم الثوار الموصوفين بلقب(الزنادقة) مثل بن الأدهم وإبن المقفع وغيرهم من الذين تجاوزوا الفلسفة والحكمة السائدة للحضارة التي صاروا ناقدين لأسسها الظالمة ومناقضين لأنظمتها المدينية التي يعيشون فيها، منتقلين إلى حال الثورة على المفاهيم الأساسية لتلك التنظيمات.

وأمام الضغوط القومية والطبقية والثقافية تواشجت هذه الحركة الثقافية العلمية بالحركة الإسماعيلية التي نهضت لأزالة المظالم والتراتبات اللامنطقية واللاشرعية الناشئة من التعامل السلطاني الجزئي مع سنن الكون والطبيعة والمجتمع والإنسان ومع الحكم والفهوم والعلوم المختلفة التي كونتها الأمم السابقة.

وكانت من هذه الجماعات جماعات معينة موصوفة في كتب التاريخ المختلفة العربية والأجنبية على مختلف مدارسها وصفاً عاماً واحداً في أي ناحية من نواحي ما وصفته من أزمان أو تواريخ أوشخصيات أوبلدان أوأحداث أو وقائع أو عناوين أو كتب وأسماء كتابها، وتواريخها...إلخ حيث إتفقت جميعاً على وصفها وتسميتها بإسم جماعة "إخوان الصفا"، دقةً وخفةً وطلاوة إختصار من الإسم الطويل "إخوان الصفا وخلان الوفا وأهل العدل ... " ومن هذه المراجع ما جاء في بعض الكتب التاريخ العربية القديمة بأشكال متنوعة عن الحركة الإسماعيلية وجماعات إخوان الصفا ( بنسخ عددا في جامعة لايدن، النذرلاند، وبالتأكيد في كثير من مراكز الدراسات الشرقية) ومنها:



 كتاب الفصول والأخبار وكاتبه نور الدين بن أحمد (ت 849) ،
 سيرة إبن حوشب وكاتبها جابر بن منصور اليمن (970) وقد كان إبن حوشب هذا هو ناظم الإسماعيلية ودولتهم الفاطمية في اليمن بقيادة الملكة صليحة
 كتاب الأصول والأحكام وكاتبه هو أبو المعالي حاتم بن عمران (ت1104)
 كتاب كنز الولاد وكاتبه إبراهيم بن الحسين الحميدي (ت1162)
 كتاب الأنوار اللطيفة وكاتبه محمد بن الطاهر (ت1188)
 كتاب تنبيه الغافلين وكاتبه حاتم بن إبراهيم (ت1199)
 كتاب دمغ الباطل وحفظ المنزول وكاتبه علي بن محمد بن الوليد بن الأأنف (ت1215)
 كتاب تاريخ بن الفقطي وكاتبه إبن القفطي (ت1248) وهو تسجيل لبعض الحوادث الكبرى بين القرن السابع م والثالث عشر م
 كتاب الرسالة الواحدة وكاتبه حسين بن علي الأأنف (ت 1268)
 كتاب عيون الأخبار وكاتبه عماد الدين بن إدريس (1468)

وتواصلاً مع هذا الجهد العربي الذي لخصت بعض منتجاته في مجال العمران وفلسفته بعض أعمال بن خلدون، وعناية بأهله نشأت في "الغرب" في منظومات الإستشراق مساقات ومدارس معينة مختصة بها دون سواها برزت فيها أسماء عددا أضحت هي الأوثق غربيةً في معرفة شؤون الشرق والإلمام بتضاريسه وكشف مناجمه الروحية والفكرية، وطبيعة المواد والثروات الموجودة فيها، وانسب الطرق لإستغلالها أو إهدارها. وبالإفادة الحكومية الرأسمالية من أعمالهم والتخديم المتوالي لعناصرها ونتائجها في الأعمال السياسية والحركة الرأسمالية الإستعمارية تمكنت دوائر الإستعمار الأوربي -مع عوامل أخرى- من السيطرة على منابع الثروات المادية والروحية في المنطقة والعالم، بينما كان الجهل بقوانين وعلوم التحرر الطبقي والوطني بل وتكريس ذلك الجهل بسياسات الرقابة والعسف على مواد التعليم والصحافة، بقيت الأحوال العامة في بلادنا مأزومة متدهورة، وكان من هؤلاء من القدامى الأستاذة المحققين جيبH.R. Gibb و نيكلسون R.A. Nicholson والمحفل الماسوني مونتجمري واط Montgomery Watt وهو الذي يستند إليه غلاة العروبة والإسلام في الفخر بمنجزات تاريخهم الفلسفية والعملية، وجرونباوم Grunebaum، وبروكلمان C. Brokelmann ، وفلوغ G. Flugel وميرغوث Margoth ، وصاحب وسام أمير المؤمنين الحسن السادس، برنارد لويسBernard Lewis ، وقد إبتدر جل هؤلاء وغيرهم مرحلة لم تنتهي من البحث العيني والنظري في أعمال جماعة إخوان الصفا والحركة الإسماعيلية الباطنة لهم وقد تجد هذه الدراسة إن بعض الأعمال الفكرية والعملية للإسماعيلية و إخوان الصفا كانت أعمال متصلة في دقتها وإحسان جمالياتها بحساب العناصر والعلاقات والتناسبات والمفارقات بين طبيعة الكون الكبير والمجموعة الشمسية، والأرض والطبيعة الخام، والطبيعة الإجتماعية والإنسان، بينما إتجه سيد أمير علي في كتابه روح الإسلام المصدر من كيمبردج عام 1955 إلى ما معناه إعتبار عملية المعرفة والوصول إلى الحكمة هي روح الإسلام، وإن إخوان الصفا قد مثلوا حين ذاك الزمان الرهيب تلك الروح بإيقادهم نار المعرفة وعكوفهم على تأجيجها...

في التكوين المهني لإخوان الصفا وأثره على فلسفة أعمالهم وإنتشارها:
كان التكوين المهني لجماعات إخوان الصفا تكويناً فريداً جمع ظاهراً في أطره الثقافية ونشاطاته بين مختلف الطبقات والفئات وإن كان ذلك الجمع لا يلغي الأثر الموضوعي الفعلي للأهمية الموضوعية والأهمية الواقعية-الإجتماعية لكل مهنة في داخل الجماعة وتشابك وإختلاف العلاقات الداخلية والمجتمعية والإجتماعية داخلها وفي المجتمعات التي تعيش فيها. وقد ساعدني في التوصل إلى هذا النظر النتيجة التي توصلت إليها من محاولة قرآءة الطبيعة المجتمعية لجماعات إخوان الصفا والجانب الطبقي والمهني لتكوينهم وتركيبهم العضوي حين قمت بترجمة نسخة إنجليزية اللغة عن هذا الموضوع بينت بعض ما فيه حيث جاء بالرسالة الواحدة والعشرون (ص 166) عن التكوين المهني لإخوان الصفا بالآتي:

(( أعلم إنه بيننا ملوك وأمراء وخلفاء وسلاطين ورؤوساء وجباة، وأمناء، وموظفين، ومدونين، ونبلاء، وحشم، و وزراء بعسكرييهم، وبيننا أيضاً تجار وصناع، وزراع، و رعاة، و بناة، وملاك اراضي، والنافعون من السادة وأتباعهم من كل شاكلة، وفينا من أهل الثقافة والعلوم والجمال والإحسان، ولنا السواطع والمقحقحين في الأدباء والشعراء، والفقهاء وعلماء اللغة، وأهل الحكاية والقص، ومؤرخي السير، والقراء، والعلماء، والقضاة، والمحصحصين والعقلاء والفضلاء، وبيننا أيضاً الفلاسفة والحكماء، وأهل الهندسة، والفلك، والطبيعة، والطب، والفراسة، ومستكنهي الطالع أهل الفيوض وتفسير الأحلام، والكيمياويين، وحساب النجوم وغيرهم من الصنوف الكثيرة التي يصعب ذكرها))

ومن فحص عام لهذا النص وأحوال قسطه وحالات مبالغاته، والظروف الواقعية التاريخية لكل (مهنة) ذكرت فيه، ندرك إنه عدا مهنتي نسخ الكتب والطب فإن كثير من الأعمال العلمية والثقافية المذكورة آنذاك لم تكن مهناً مستقلة قائمة بذاتها، بل أكثر أهلها حرفيون من النجارين والصناع والباعة والتجار الصغار. ومن قراءة الطبيعة الإجتماعية والمجتمعية لتلك المهن نجد الصناع والبناة والتجار الصغار وعموم أهل الحرف وسواد المدن كانوا -بمقتضى إنتشارهم وخفتهم- هم الأكثر تأهيلاً ليعتبروا حين النظر إلى بنية الحركة الإسماعيلية من "أهل الحركة" أو في التعبير الشائع "قلبها النابض" وكذا جماعات إخوان الصفا الباطنة فيها.

وكانت لأعمال إخوان الصفا مزية كبرى وفضيلة عظمى في التاريخ العام للمعارف فبعد عقود من الإنكباب الثقافي آيام الأمين والمأمون على دراسة جوانب محددة من الدين الإسلامي بصورة أكبر من دراسة أمور الحساب والتفكير في الشؤون والعناصر والمعاملات التي يظهر الدين بالعناية بها أشرقت أعمال إخوان الصفا العملية والنظرية في الرسائل الشهيرة التي قدمت فيها أعمالهم التي تتركز حسب التصانيف الحديثة في 14 رسالة في الحساب والرياضيات العقلية، و17 رسالة في العلوم الطبيعية، و10 رسائل في علوم النفس والعقليات، و11 رسالة في الإلهيات والعلوم الدينية: وتأتي حصيلة الجمع الأولي لهذه الرسائل وتصنيفها بهذه الصورة مختلفة عن أصلها فبهذا التصنيف فهنا 32 رسالة في العلوم الطبيعية و21 رسالة في العلوم الإنسانية والإلهيات بما يختلف في الواقع عن العدد الأصلي المشهور للرسائل وهو 52 رسالة ولو حسبنا ضمن هذه الرسائل أو أخرجنا "الرسالة الجامعة" من هذا الحساب ففي تقديري إن هذا الإختلاف يأتي من إختلاف فلسفي حول طريقة الحساب المعاصر لموضوعات الرسائل القديمة وكيفية تصنيف هذا الحساب لها بإختلاف عن التصنيف الأصيل فيها أي التفاوت في إعتبار هذا الجانب أو ذاك ضمن هذا السياق العلمي أو ذاك.

والعلامة الأبرز على هذا التفارق مسألة الإختلاف في تقدير وضع "الفنون" و"الأخلاقيات" و"المنطق" ضمن رسائل العلوم عند إخوان الصفا التي تشمل الحساب الذي يأتي ضمنه نظرية الأعداد، الهندسة، الفلك، الجغرافيا، الموسيقى، حيث نجد الفنون النظرية والتطبيقية والأخلاقيات والقيم، والمنطق داخل موضوعات "الحساب"! أما موضوع "الطبيعة" أو الفيزياء فيشمل كل من "العناصر"، و"الهيئة"، و"الحركة"، و"الزمن"، و"المساحة"، و"السماء والكواكب"، "التوالد"، و"الأملاح"، و"الحيوان"، وأيضاً "جسم الإنسان" و"الأمراض" أو في نسق (ديني) "مسآئل الموت والحياة"، وكذلك "الجسيمات" أو الذرات أو (العوالم الصغري) في علم الوجود، وكذلك نجد الأمر نفسه في علوم "السعادة والألم"، وعلوم "اللغة" والتأويل حيث تضع التصنيفات المحدثات المتأثرة بالفصل بين النظرة الدينية والنظرة العلمية موضوعات العلمين الأخيرين ضمن العلوم الإنسانية. بينما في مجال "الطبيعيات العليا" نجد إخوان الصفا قد شيدوا في أرضه علوم النفس وعقلياتها ودينياتها معاً مما يؤدي إلى حساب مختلف لتلك العلوم ورسائلها مرتين مرةً ضمن العلوم الطبيعية ومرةً أخرى ضمن العلوم الإنسانية! فقد وضع إخوان الصفا موضوعات وعلوم "منطق العقليات، و"الوجود"، و"الأجسام" و"العقل" و"الشعور"، وموضوعات أو مقولات "الخلق" و"العدم" و"البعث" ضمن الفيزياء والطبيعة يمحصونها ضمن قوانينها، كذلك جاءت علوم الشريعة ومسآئل الإعتقاد والإيمان عندهم في مجال وقسم "الطبيعيات العليا" ضمن إختصاص العلوم الطبيعية، في ما يشبه في جانب منه بعض تقسيمات أرسطو وتصنيفاته.


ولكن بمعمعة هذا الإختلاف القديم الجديد حول صنوف وتصانيف الأفكار والمعارف والعلوم والفلسفات يمكن القول إن الطبيعة الثقافية العلمية لأعمال إخوان الصفا كانت طبيعة شمولية موسوعية جمالية تتصل فيها العلوم الطبيعية والعلوم الإجتماعية والفنون والآداب ضمن كل مساق سارت فيه أو جاءت ضمنه رسائل إخوان الصفا بشكل متكامل متناسق تتواشج فيه العناصر والكليات مشرقة بشمس المعرفة في الأذهان. وقد أشرقت إتجاهات المعرفة التاريخية والفلكية التي سطع بها الإسماعيليون وجماعاتهم الفكرية المعروفة بإسم إخوان الصفا بفهوم الدين القديمة حيث كان الدين يعد في كينونته النظرية حالة خيمياء أو ترسيب لعناصر الخصب وحالة إستخلاص أيديولوجي لموجهات ومعايير عمومية من نظرات (علمية) لتواصلات الطبيعة الأرضية وخلق السماوات وجريان الأفلاك ومواقع النجوم، مثلما كان الدين يعد في حالته النفسية الإجتماعية في ذاك الزمان البعيد كينونة وجدانية خيرية قبل أن يتحور بمرور القرون وتصاريف الحياة وتطور وتعقد أعمال البشر إلى مؤسسة دولة عسكرية. ففوق ذلك الأثر المعرفي التاريخي الحي الكامن في الأديان وتبجيلها للعلم أضاف الإسماعيليون وإخوان الصفا إلى تلك الفهوم القديمة للدين من علوم النفس والطبيعة التي بلوغها أموراً كثيرة.

ورغم المجهولية النسبية للفترة (الأقدم) في تاريخ الحضارات المعروفة مع إتصال أول تلك الحضارات القديمة بشخصية التعريف والتوضيح والنبوة والتعليم المسماة "إدريس" أو Enoch وهي الشخصية التي تتفق كيانات النظر التاريخي المختلفة على وجودها في منطقة النوبة وأن البنية الفكرية لهذه الشخصية كانت تجمع الأمورالفلكية والطبيعية ومعارفها في الهندسة والتعدين والكيمياء والطب إلخ، وأن شيئاً من الحضارة النوبية -في طورها وشكلها المصري- قد إمتد في جغرافيا الثقافة البابلية في مناطق لبنان الحالية حيث أسهمت في تأسيس المدن الممالك الفينيقية الحديثة في النبطية وصيدا وبيروت وبعلبك، وأن هذه المدن-الدول أسهمت بدورها بشكل معنوي ومادي في تحضير البدو (العبرانيين) وتأسيس الملك الداؤودي السليماني وبناء هيكل العدل والسلام فيه، كما أسهمت مدن الفينيق بجمع اليونان وقرهم أربعة مدن أثينا وإسبرطة وطروادة وكورثينيا، كما أثرت بابل عفواً مع الهند في تشكل وجود فارس وعباداتها وأنه بجدل الأفكار العرفية القديمة وتمظهراتها المتنوعة في أبواب الحكمة السبعة النوبية والمصرية والفينيقية والبابلية والهندية والفارسية واليونانية بدأت الأفكار الصوفية والأفكار الدينية (الحديثة) في الظهور بإرتكاز في الحيرة وحران.

وقد يكون للثراء العلمي والفلسفي في الفترة الإسماعيلية من التاريخ الثقافي لأمم تلك المنطقة أثر في جعل الحركة الصوفية المتولدة من تلك الفهوم المتصلة بوحدة الوجود ومعارفها تأخذ أبعاداً أكثر عمقاً وعرفانية كان روادها في أرض العراق ذا النون النوبي المعروف بذي النون المصري (ت859) وأبايزيد البسطامي (ت874) والجنيد (ت910) وغيرهم مما نجد بعض ذكرهم في كتب تاريخ الصوفية والمنشورات المتصلة به، ومن تلك التصوفات تطورت حركة المريدين في الأندلس التي من لدن شيخها أبوالقاسم بن قسي تعلم الذوق محي الدين بن عربي. .

وإذ كان التناقض الثقافي القومي الطبقي المثلث قد ولد جماعات صوفية وجماعات معرفية وجماعات سياسية ذات تصوف وإسلام متجذر في أشكاله الدينية والطبقية والثقافية بصلات متنوعة بالتراث الوجداني والقومي وبآفاق العدل والحرية التي فشل الملك العضوض في توفيرها لأهل تلك البلاد ذات الحرف والصنع والبدائع والنفائس، فقد كانت الصوفية نفسها في القديم بتأويلاتها المتنوعة لفهم "وحدة الوجود" وإصطلاحاته مولدة لكثير من تبلورات المعرفة المنظمة، سواء كانت تلك التأويلات في تشكلها البغداد المفرد أو في أفقها الأندلسي الجماعي ومنه حركة "المريدين" الثورية في الأندلس بقيادة أبوالقاسم بن قسي أو في كينونتها العلمية الثقافية العلمية (السياسية) في جماعة إخوان الصفا وكينونتها الثورية الإجتماعية الإسماعيلية، ففي كل هذه التجليات كانت "الصوفية" عامل تخلص من الصنمية في فهم الدين وكشف وإنارة "وحدة الوجود" حيث مثلت الحركات والمفاهيم الصوفية روافد تطوير للقيم الإدريسية القديمة، وبداية تشكيل علمي وفلسفي مضبوط لتناولات "الفلسفة العربية الإسلامية". وإكسابها كثير من أعمالها وسماتها، كذلك فبتبلور المفاهيم السودانية الفلكية الكونية والأرضية والأخلاقية في صورها النوبية الأفريقية والبابلية الآسيوية وسطوعها في أو بــ أعمال فليون اليهودي الإسكندري وكذا في أعمال القديس الأفريقي أُغسطين ثم في أعمال موسى بن ميمون فأعمال اتوما الأكويني

فبكل هذه الطيوب تبلورت من التصوف وتشكلاته الحسابية والتاريخية الإجتماعية العربية الإسلامية وتشكلت أجزاء هامة من أسس الثقافة الفلسفية والعلمية الحديثة (الأوربية) التي قادها الفيلسوف (العربي) العالم اليهودي المتصوف موسى بن ميمون الأندلسي رفيق جابر بن حيان في النظرية الذرية ، وقد كان إبن ميمون من أعظم فلاسفة الإسلام (الممنوع حاضراً من النشر) وكان مستشار صلاح الدين الأيوبي الذي صنع له النجاحات ضد حملات الصليبيين، وموجز ذلك إنه من تلاقحات الفلسفة الإدريسية السودانية القديمة وتدافعاتها بين الإسكندريين الأوائل والأواخر والميمونيين المحدثين وإتصالها مع الحركات العمرانية (الماسونية) تأسست قواعد واسعة للمعرفة والحكمة والنهضة الأوربية التي شكلت أس البنية الحضارة الرأسمالية السائدة في العالم. وبالطبع لاتهم في هذا السياق مسألة الأولية والسبق التاريخي، بل الأهم معرفة هذه الطبيعة العامة لتلك الفلسفة الإدريسية وفحص التطورات التي لحقتها ومعرفة الظروف الإجتماعية التي دفعت بهذه المجموعة من التطورات أو تلك، وتحديد أهم آثارها فمن خلال تحقيق هذه المعرفة يمكن الإفادة بعوامل فكرية عددا في تطوير الأوضاع الفلسفية الموات في هذه المنطقة العبقرية.

وإن كانت الحالة الجماهيرية والجمالية للدين في الصوفية قد لعبت دوراً هاماً في تعزيز أفكار السمو النفسي عن المغانم وعن العاديات وعن العصبية الدينية والإتجاه إلى الإخاء الإنساني، فقد لعبت الصوفية في نهايات العصور الإسماعيلية دوراً مختلفاً عن أولها وعن فكرة الصوفية نفسها كتفكير دقيق في الإنسجام مع الكون وإنفصل فيه جسدها عن روحها، وقد كان ذلك الإنفصام بفعل التخديم السلطاني المتصل لها وبفعل تضاعف الضغوط الإقتصادية المعيشية وإختلافها بالزيادة والتعقد عن الحال العيشي البسيط للناس زمن إنتقالهم الخيميائي أو السوداني الأول من البداوة إلى الحضارة حيث تأسس مفهوم الدين حينها كطريق إلى الخيرات وخلاصة للأفكار الخيرة، لذا يمكن القول إن التصوف النشط في غير وقته الأصيل قد لعب دوراً سالباً ضد أصله العقلاني ذاك وسقت التنوعات الصوفية المتفرعة والرافدة حالة مستحدثة من الهيمان الفردي والغيبوبة الطبقية والسياسية في مجتمعاتها إنتهت بدورها إلى مزيد من الطغيان والتضعضع الداخلي والغزو الخارجي وإمتهان التدين وإنتشار عبادة المال والإستغراق في طلب الدنيا، بل وتحول بعض مشائخ الصوفية المعاصرين إلى أصحاب أموال وإستثمارات رأسمالية تكرس مزيداً من الإفقار والإملاق والمظالم الإجتماعية الطبقية والعنصرية وغيرها.

ومع إستهلاك قوى السوق وآثاره لقيم التنظيم وقيم العدالة وتسبيبه تغاير الأمور وتضارب القوى والموجهات تبددت الحركة الإسماعيلية وتخالفت وتكسرت دولها، وبفعل جدل القوانين المجتمعية للقرابة والإرث والقوانين الإجتماعية المتعلقة بمسائل السلطة والإقتصاد وطبقاتهم وصراعاتهم تفرقت جماعاتها إلى نزارية ومستعلية وبهرة وداودية واشكال أخرى في الهند والهند الصينية ولها حضور خفي في بيوت الدين والسياسة السودانية، بل وتحول بعضها إلى طرق صوفية منغلقة على تواشيح وأحوال ومقامات علم الباطن وفيوضه بأكثر مما كانت ساعية لمعرفة الظواهر وكشف بواطنها، وجملة يمكن القول إن الحركة الإسماعيلية تحولت إلى مجرد أسماء مفردة منها ما إتصل بالسادة الأدارسة والسادة الإسماعيلية في السودان وبالطريقة الختمية حيث نشأ في ظلال هؤلاء سكرتير الحزب الشيوعي السوداني الشهيد المفكر الثاقب عبدالخالق محجوب ببداية دراسته الدين في خلوة السيد المكي في مدينة أم درمان، ومن شذرات الإسماعيلية ما إتصل أو يوصل بأسماء شعراء محدثين مثل سميح القاسم ومحمود درويش وأدونيس، ومنها ما إتصل بمؤسسات تجارية وخيرية عملاقة كمؤسسات المير أغا خان ومنها مؤسسات البهرة والداودية وغيرهم من فروع الإسماعيلية في الهند وكينيا وتنزانيا وجنوب أفريقيا وبقع مضئية في بريطانيا وكندا واليمن وبعض نواحي سوريا والعراق وإيران وافغانستان، وفي عسير.

وفي ختام هذا المقال يمكن الخلوص إلى نقطة تاريخية وهي إنه من رفد الإسماعيلية وإخوان الصفا لأمور المدنية والمعرفة المنظومة فلسفة وعملاً ثورياً وتكريسهم مقومات عملية التغيير الإجتماعي الأيديولوجيا والتنظيم الثوري والتركيبة الطبقية السياسية للعناصر والمصالح الإجتماعية تبلورت في الحياة بنية الجسر التاريخي الواصل بين المدينيات القديمة التي إنتهت بتناقضاتها إلى حال العروبة والإسلام والمدينيات الحديثة التي تبلورت لاسباب تاريخية بشكل يهودي مسيحي في أطر علمانية زائفة لعبادة المال.
لشيء من تاريخ بعض الحركات الثورية الإسماعيلية ضد الممارسات والفهوم التقليدية للحكومات والدعوات العربية الإسلامية راجع:
 Vladimir Ivanof, Guide to Ismaili Literature. London,1933 ,Bombay1946

 فلادمير إيفانوف مجلة الأدآب الجامعة المصرية، القاهرة 1936، 4، الجزء 2، الصفحات: 107- 133

 Bernard Lewis, the Origins of Ismailism, London, 1940, p. 44

 A.L Tibawi. ( Ikhwan as-Safa and Their Rasa il: A Critical Review of a Century and a Half of Research , Islamic Quarterly 2 (1): 28-46. 1955

 Sayed Amir Ali, The Spirit of Islam, London, 1955, p. 432

 إخوان الصفا، رسائل إخوان الصفا، 4 أجزاء، دار صادر، بيروت، 1957

 L.E Goodman, The Case of the Animals versus Man Before the King of the Jinn, Boston, MA,
Twayne Publishers, 1978

 Yves Marquet in; the Encyclopaedia of Islam, 1960, p. 1071

 Seyyed Hossein Nasr; An Introduction to Islamic Cosmological,Doctrines..,Harvard, HUP, 1964
, London, Thames & Hudson. 1978

 Ed; A.J. Arberry, Religion in the Middle East, Cambridge, 1969, 2nd vol., p. 324

 Joel Carmichael, The Shaping of the Arabs, London, 1969, p. 386

 Bernard Lewis, the Assassins, in E. Franzius, History of the Order of Assassins, 1969

 Wellhausen, the Religion-Political Factions in Early Islam. English tr. R. C. Ostle and S. Walzer Amsterdam, 1975. English translation of a major portion of the second section of al-Rasa il,with
far-reaching introduction and notes.

 Sayyed Hossein Nasr, An Introduction to…………1964>>(1978).see above

 E. L. Daniel, The Political and Social History of Khurasan Under Abbasid Rule,Chicago1979
Publications of Institute of Ismaili Studies, London

 محمود إسماعيل، تاريخ الحركات السرية في الإسلام، رؤية عصرية،، دار القلم، بيروت،1983

 Netton, I.R. Muslim Neoplatonists: An Introduction to the Thought of the Brethren of Purity (Ikhwan al-Safa ), London: Allen & Unwin, 1982, Edinburgh: Edinburgh University Press, 1991.

 Eds; S.H. Nasr and O. Leaman, History of Islamic Philosophy see I Netton, The Brethren of Purity ’’, London, Routledge, Ch. 15, pp222-30. 1996

 Eds; Kathryn Babayan; Charles Melville, Sufis, Darvishes, and Mullas: The Controversy over Spiritual and Temporal Dominion in 17th Centruy Safavi Iran," Safavid Persia, I.B. Tauris, 1996.
 Farhad Daftary, Medieval Ismaili History and Thought, Cambridge, CUP, 1996 ) translated to:
فرهاد دفتري، الإسماعيليون...في العصر الوسيط، ترجمة سيف الدين القصير، دار المدى، دمشق، 1998

 فرهاد دفتري، الحسن الصباح ، ترجمة سيف الدين القصير، النهج، 52، 1998، الصفحات: 174-193

 Farhad Daftary, A Short History of the Ismailis: Traditions of a Muslim Community, Islamic Surveys Series. Edinburgh: Edinburgh University Press, 1998

 هاينز هالم، الدعوة الإسماعيلية والخلافة الفاطمية، ترجمة سيف الدين القصير النهج،53، 1999 ، الصفحات:46-54

 Eds; Gavin R. G. Hambl, Women in the Medieval Islamic World: Power, Patronage and Piety; in The New Middle Ages No;6, New York: St .Martin’s Press, 1999, pp. 117 130

 Eds; M. S. Asimov and C. E. Bosworth; in Farhad Daftary, Sectarian and National Movements in Iran, Khurasan and Transoxania During Umayyad and Early Abbasid Times” In History of Civilizations of Central Asia, vol. IV, part 1, Paris: UNESCO Publishing, 2000

 James W Morris, The Master and the Disciple: An Early Islamic Spiritual Dialogue, Arabic Edition and Translation of Ja‘far b. Mansur al-Yaman’s Kitab al-‘Alim wa’-l-Ghulam, Ismaili Texts and Translations Series 3, London: I. B. Tauris & Institute of Ismaili Studies, 2001

 Paul M. Cobb. White Banners: Contention in ‘Abbasid Syria, 750–880. , SUNY Series in Medieval Middle East History, Albany: State University of New York Press. 2001.

 Ayman F. Sayyid, Paul E. Walker and P. Maurice, The Fatimids and their Successors in Yaman: The History of an Islamic Community, (Arabic Edition & English summary of vol. 7 of the Imad al-Din’s Idris’s Uyun Al-Akhbar) London, I. B. Tauris & Institute of Ismaili Studies, 2002

 Paul Walker, Exploring an Islamic Empire: Fatimid History and its Sources, Ismaili Heritage Series No7, London: I.B. Tauris & Institute of Ismaili Studies, 2002.

 Farhad Daftary, Ismailis in Medieval Muslim Societies, Ismaili Heritage Series, 12. London: I. B. Tauris & Institute of Ismaili Studies, December 2005

 See “KARMATHIANS” in p 8614 and "CARMATHIANS" in p 25514 of Columbia Encyclopeadia. Edition 6, Columbia University Press, 2004, then see http://Brethren of Purity .

 محمد ابراهيم نقد، في حوار حول [كتاب] "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" تقديم محمود امين العالم، الفارابي، بيروت ،1992 ، ص79-82


في موضوع خلاف وتدهور تكوينات البنية الإقطاعية القديمة في الشرق راجع:
 فيليب حتي، العرب ..تاريخ موجز، نشر أولاً بالإنجليزية من جامعة برنيستون في الولايات المتحدة،، ومن ماكميلان بلندن، 1968 ط 14 كذا مصدر باللغة العربية من دار العلم للملايين بيروت: ط 6 1991 الصفحات:201-210 ،252-266

 أحمد صادق سعد (تحرير وترجمة)، ملاحظات في "النمط الآسيوي للإنتاج"، دار الطليعة، بيروت، 1979

 ماركس، بمقدمة أريك هوبزباوم، حول أشكال الإنتاج ماقبل الرأسمالية، ابن خلدون، بيروت، الصفحات: 84-125

 مكسيم رودنسون، التاريخ الإقتصادي، وتاريخ الطبقات الإجتماعية في العالم الإسلامي، ت: شبيب بيضون، تدقيق حاتم سلمان،
دار الفكر الجديد،1981، الصفحات 32-37

 الهادي العلوي، فصول من تاريخ الإسلام السياسي، م الأبحاث والدراسات الإشتراكية في العالم العربي، دمشق، 1995،ص385-415

 الحبيب الجنحاني، التحول الإقتصادي والإجتماعي في مجتمع صدر الإسلام، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1987 ص38-68

 Norman Cantor, The Sacred Chain...A History of the Jews, Harbor Collins, 1995, pp152-153

 عبدالهادي عبدالرحمن ، سلطة الـنص، سينا + الإنتشار العربي، لندن بيروت القاهرة، 1998 الصفحات 377-404





في أثر الحضارة النوبية القديمة في تكوين الحضارات الحميرية والمصرية والبابلية والفينيقية واليونانية راجع:
 John G. Jackson, Introduction to African Civilisation, Carol Publishing,NY, 1990, pp 10-14,37-58,70-74,80,95-98,103-105,117 139,146-149

 تاريخ الحضارة الكنعانية، جان مازيل، ترجمة ريا الخش، ت عبالله الحلو، دار الحوار، دمشق،1998(م النهج 54، 1999)

طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، بغداد، 1955 كذلك 1973 و1985 بتعديلات

 Chritover Knight &Robert Lomas, The Book of Hiram, Century/Random Hause,2003 p88-98,
103-134, 217-231

 George Sarton, Introduction to the History of Science vol 1-4, Carnegi Institute, Washington,
Baltimor 1927-1933 then Williams and Wilkins, Baltimore 1950-1953.

 أحمد صادق سعد (تحرير وترجمة)، ملاحظات في "النمط الآسيوي للإنتاج"، دار الطليعة، بيروت، 1979

 Karen Armstrong, A History of God, Vintage, London, 1999,

 بعض أعمال المفكر المصري إسماعيل المهدوي .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن